المجاز في القرآن والسنة النبوية بين الإجازة والمنع
الباحث : عمر خطاب عمر الرشيدي
ماجستير قسم البلاغة والنقد كلية اللغة العربية بالقاهرة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد
القرآن كلام الله المتعبد بتلاوته المنزَّل على سيدنا محمد قال ]وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُبِينٍ[ [الشعراء192: 195]، فهو معجزة رسول الله ، وكما نعلم أن الله يؤيد رسله بمعجزة نبغ فيها قومه، فمثلا قوم سيدنا موسى عليه السلام نبغوا فى السحر لذلك أيده الله بمعجزة العصا التى صارت حيَّة واكتشف السحرة أنفسهم أن ما جاء به موسى ليس سحرا فآمنوا معه، وكذلك حال عيسى عليه السلام، لأن زمانه كان زمن الطب، فكانت معجزته وهى إحياء الموتى، فلما كان زمن النبى زمن الفصاحة والبيان، جعل الله معجزته من جنس ما كان يُولعون به وبأشرفه، فتحدّاهم بالقرآن كلاما منثورا، لا شعرا منظوما، فأيد الله خاتم الأنبياء والمرسلين بمعجزة نبغ فيها قومه فقد أُوتى العرب البلاغة والفصاحة والبيان وبرعوا فى قرض الشعر حتى إنهم كانوا يعقدون فى سوق عكاظ مباريات أدبية يلقى فيها كل شاعر إنتاجه الأدبى من الشعر، ويقوم النقاد باختيار القصائد الجيدة، ويتم تعليقها على الكعبة، ولما بُعث رسول الله وأُنزل عليه القرآن تحدّى العرب أن يأتوا بمثله فعجزوا أو أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا أو أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا.
فالقرآن نزل بلغة العرب، وجاء على طرائقهم فى البيان والكلام فلم يحتج السلف ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبى أن يسألوه عن معانيه، وعمَّا فيه مما فى كلام العرب مثله من الوجوه والتلخيص، وفى القرآن مثل ما فى الكلام العربى، من وجوه الإعراب، ومن الغريب، والمعانى، فلم تستغلق عليهم عباراته وأثّرت فيهم تأثيرا بالغا فهذا سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه قبل إسلامه حينما قصد أن يقتل سيدنا محمدًا وقابله بعض الصحابة فأخبره أن أخته وزوجها قد أسلما فذهب سيدنا عمر مسرعا إلى بيت أخته فلما شعرت به أخفت الصحيفة فأخذها منها بقوّة وقرأ ما فيها فتأثر تأثرا شديدا وكان داعيا قويا إلى إسلامه.
وقد كانوا يجدون له وقعا فى القلوب وقرعا فى النفوس يرهبهم ويحيرهم فلم يتمالكوا إلا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف.
«عن ابن عباس رضى الله عنهما أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله فلما قرأ عليه القرآن كأنه رقّ له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه، فقال: له يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله - بكسر القاف وفتح الباء، قال: الوليد لقد علمت قريش أنى من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره، قال: وماذا أقول فوالله ما فيكم من رجل أعلم منى بالشعر لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذى يقوله شيئا من هذا ووالله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمنير أعلاه مشرق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته، قال أبو جهل للوليد: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، فقال: الوليد دعنى أفكر فلما فكر، قال: هذا سحر يأثره عن غيره» ([1]).
ومن هذه الظواهر المجاز وهو: «إسناد اللفظ إلى غير ما هو له فى الحقيقة» فنجد أن من العلماء من أنكر هذه الظاهرة فى القرآن الكريم وفى الحديث الشريف، وحتى فى اللغة بوجه عام. ومنهم من أكثر منها وبالغ فيها ليترك لنفسه العنان فى تأويله كيف يشاء. فوقع الأمر بين الإفراط والتفريط .
وفى هذا البحث نتناول هذه القضية إن شاء الله ، وما هى الأسباب التى دعت المنكرين إلى إنكاره؟ وما هى الردود التى رُدَّ بها عليهم؟ وقبل كل شىء ذكرت نبذة مختصرة عن المجاز وما يشتمل عليه، فإن أصبت فلله الفضل والمنة، وإن كانت الأخرى فمن نفسى، وأسأل الله التوفيق والسداد.
منهج البحث
1) الفصل الأول قمت بتعريف المجاز، وما يشتمل عليه.
2) الفصل الثانى بدأت بذكر آراء المجوزين للمجاز، ولم أتوسع فيه كثيرا لكثرة عدد من قالوا بالجواز وعدم القدرة على حصرهم، وإنما ذكرت بعض العلماء ممن لهم قدم راسخ فى كل فن من الفنون، وآثرت أن أذكر رأى الأستاذ مصطفى صادق الرافعى لمكانته ودوره فى الدفاع عن القرآن الكريم.
3) ثم ذكرت أراء المنكرين لورود المجاز فى القرآن، وقسَّمتهم إلى ثلاثة مراحل، المرحلة الأولى قبل الإمام ابن تيمية، ومرحلة الإمام ابن تيمية، ومرحلة ما بعد الإمام ابن تيمية.
4) الفصل الثالث ذكرت الردود التى رُدّ بها على المنكرين، وناقشت هذه الردود، وهل وافقهم الصواب فى إنكارهم هذا أم لا؟
5) قمت بتعريف الأعلام التى وردت داخل النصوص، وعرفت العلم حتى لو بلغ شهرة كبيرة، مع تخريج الآيات، والشواهد الشعرية.
6) ذكرت فى الخاتمة الرأى الصواب - من وجهة نظرى القاصرة.
الفصل الأول
تعريف المجاز وما يشتمل عليه
تعريف المجاز:
كلمة مَجَاز بوزن «مَفْعَلٌ من جازَ الشىءَ يَجُوزه، إذا تعدَّاه، وإذا عُدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة، وُصف بأنه مجاز، على معنى أنهم جازوا به موضعَه الأصلىّ، أو جاز هو مكانه الذى وُضع فيه أوَّلاً»([2]).
لذلك نعلم أن لكل مجاز حقيقة «لأنه لم يصح أن يطلق عليه اسم المجاز إلا لنقله عن حقيقة موضوعة له إذ المجاز هو اسم للموضع الذى ينتقل فيه من مكان إلى مكان فجعل ذلك لنقل الألفاظ من الحقيقة إلى غيرها وإذا كان كل مجاز لا بد له من حقيقة نقل عنها إلى حالته المجازية فكذلك ليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز فإن من الأسماء ما لا مجاز له كأسماء الأعلام لأنها وضعت للفرق بين الذوات لا للفرق بين الصفات»([3]).
فيم يستعمل؟
«المجاز أولى بالاستعمال من الحقيقة فى باب الفصاحة والبلاغة لأنه لو لم يكن كذلك لكانت الحقيقة التى هى الأصل أولى منه حيث هو فرع عليها»([4]).
فائدته:
إن لم يكن فى المجاز زيادة فائدة على الحقيقة لا يُعدل إليه ولكن فائدته هى: «إثبات الغرض المقصود فى نفس السامع بالتخييل والتصوير حتى يكاد ينظر إليه عيانا ألا ترى أن حقيقة قولنا: زيد أسد، هى قولنا: زيد شجاع، لكن فرق بين القولين فى التصوير والتخييل وإثبات الغرض المقصود فى نفس السامع؛ لأن قولنا: زيد شجاع لا يتخيل منه السامع سوى أنه رجل جرىء مِقْدام، فإذا قلنا: زيد أسد يخيل عند ذلك صورة الأسد وهيئته وما عنده من البطش والقوة ودق الفرائس وهذا لا نزاع فيه. وأعجب ما فى العبارة المجازية أنها تنقل السامع عن خلقه الطبيعى فى بعض الأحوال حتى إنها ليسمح بها البخيل ويشجع بها الجبان ويحكم بها الطائش المتسرع ويجد المخاطب بها عند سماعها نشوة كنشوة الخمر حتى إذا قطع عنه ذلك الكلام أفاق وندم على ما كان منه من بذل مال أو ترك عقوبة أو إقدام على أمر مهول وهذا هو فحوى السحر الحلال المستغنى عن إلقاء العصا والحبال».([5]) وقال ابن رشيق (ت 463 هـ)([6]) فى العمدة: «المجاز فى كثير من الكلام أبلغ من الحقيقة، وأحسن موقعاً فى القلوب والأسماع، وما عدا الحقائق من جميع الألفاظ»([7]) .
منزلة المجاز وقيمته فى لغة العرب
قال ابن رشيق فى العمدة متحدثا عن منزلة المجاز وقيمته فى لغة العرب بقوله: «العرب كثيراً ما تستعمل المجاز، وتعده من مفاخر كلامها؛ فإنه دليل الفصاحة، ورأس البلاغة، وبه بانت لغتها عن سائر اللغات»([8]).
أقسام المجاز
ينقسم المجاز إلى مجاز عقلى، ومجاز لغوى.
أولا المجاز العقلى:
«هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأويل إفادة للخلاف لا بواسطة وضع»([9]).
وبعبارة أخرى: هو إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له، أى غير الملابس الذى ذلك الفعل أو معناه له، يعنى غير الفاعل فيما بنى للفاعل، وغير المفعول فيما بنى للمفعول، بتأول متعلق بإسناده. مثل: (أنبت الربيع البقل).
وحاصله أن تنصب قرينة صارفة للإسناد عن أن يكون إلى ما هو له، كقولنا: فى عيشة راضية، فيما بنى للفاعل وأسند إلى المفعول به، إذ العيشة مرضية، وسيل مفعم، فى عكسه، اسم مفعول من: أفعمت الإناء: ملأته، وأسند إلى الفاعل([10]).
ثانيا : المجاز اللغوى:
هو الكلمة المستعملة فى غير ما وضعت له بالتحقيق فى اصطلاح به التخاطب، مع قرينة مانعة عن إرادته، أى إرادة معناها فى ذلك الاصطلاح([11]).
وينقسم المجاز اللغوى إلى مفرد ومركب:
أما المفرد فهو: «كلُّ كلمة أريد بها غيرُ ما وقعت له فى وَضْع واضعها، لملاحظةٍ بين الثانى والأوّل، فهى مجاز. وإن شئت قلت: كلُّ كلمة جُزْتَ بها ما وقعتْ به فى وَضْع الواضع إلى ما لم توضع له، من غير أن تستأنف فيها وضعاً، لملاحظةٍ بين ما تُجُوّز بها إليه، وبين أصلها الذى وُضعتْ له فى وضع واضعها»([12]).
وينقسم المجاز المفرد إلى مرسل واستعارة:
«والمجاز ضربان: مُرْسَلٌ، واستعارة؛ لأن العلاقة المصحَّحة إن كانت تشبيه معناه بما هو موضوع له فهو استعاره، وإلا فهو مرسل، وكثيرا ما تطلق الاستعارة على استعمال اسم المشبه به فى المشبه، فيسمى المشبه به مستعارا منه، والمشبهمستعارا له، واللفظ مستعارا»([13]).
والمجاز المرسل له علاقات كثيرة نذكر منها:
1) السببية والمجاورة: مثل استعمال اليد فى النعمة فى قولهم: (كثرت أياديه لدىّ)، (له علىّ يد)، وقوله «أَسْرَعكنّ لُحوقا بى أَطْوَلُكُنَّ يَدًا»([14]).
2) الجزئية: ومنها تسمية الشىء باسم جزئه، مثل قوله ]قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا[ [المزمل: 2]
3) الكلية: مثل قوله ]يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِى آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ[ [البقرة: 16].
4) السببية: ومنها تسمية المسبب باسم السبب كقوله : ]فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ[ [البقرة: 194]
5) المسببية: ومنها تسمية السبب باسم المسبب كقولهم: (أمطرت السماء نباتا)
6) اعتبار ما كان: ومنها تسمية الشىء باسم ما كان عليه مثل قوله : ]وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ[ [النساء: 2]
7) اعتبار ما يكون: ومنها تسمية الشىء باسم ما يؤول إليه مثل قوله : ]إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا[ [يوسف: 36]
8) المحلية: ومنها تسمية الشىء الحالّ باسم محله مثل قوله : ]فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ[ [العلق: 17] ،أى أهل ناديه.
9) الحالية: ومنها تسمية المحل باسم حالّه مثل قوله : ]وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ[ [آل عمران: 107]
10) الآلية: ومنها تسمية الشىء باسم آلته، كقوله ]وَاجْعَلْ لِى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الْآخِرِينَ[ [الشعراء: 84]
وأما المركب فهو: «اللفظ المركب المستعمل فيما شُبِّه بمعناه الأصلى تشبيه التمثيل للمبالغة فى التشبيه، أى تشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور بالأخرى، ثم تدخل المشبهة فى جنس المشبه بها مبالغة فى التشبيه، فتذكر بلفظها من غير تغيير بوجه من الوجوه» ([15]). كما يقال للمتردد فى أمر: إنى أراك تقدم رجلاً وتأخر أخرى([16]).
وهو نوع من أنواع الاستعارة لأن التجوز فيه وقع فى المثبت دون الإثبات للمبالغة فى التشبيه، مثل قولهم (فلان طويل اليد) أى: عظيم القدرة([17]).
الاستعارة: وهى ادعاء معنى الحقيقة فى الشيء للمبالغة فى التشبيه، مع طرح ذكر المشبه من البين، كقولك: لقيت أسداً، وأنت تعنى به الرجل الشجاع، ثم إذا ذكر المشبه به مع ذكر القرينة يسمى: استعارة تصريحية وتحقيقية، والاستعارة فى الفعل لا تكون إلا تبعية، كنطقت الحال([18]).
الفصل الثاني
المجاز فى القرآن الكريم والحديث الشريف بين المجوزين والمنكرين
الحقيقة والمجاز فى القرآن الكريم :
«لا خلاف أن كتاب الله يشتمل على الحقائق، وهي: كل كلام بقى على موضوعه كالآيات التى لم يتجوز فيها والآيات الناطقة ظواهرها بوجود الله وتوحيده وتنزيهه والداعية إلى أسمائه وصفاته كقوله ]هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[[الحشر: 22] ] أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا [[النمل: 61] ]أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ[ [النمل: 62] ]أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ[ [النمل: 63] ]أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ[ [النمل: 64] ]قَالَ مَنْ يُحْيِى الْعِظَامَ وَهِى رَمِيمٌ[ [يس: 78] ]أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ[ [الواقعة: 58]] أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ[ [الواقعة: 63] ]أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ[ [الواقعة:68] ([19]).
أما المجاز فاختلف فى وقوعه فى القرآن
قد قال بالمجاز خلق كثير لا يجوز حصرهم، ولم يقل بنفيه وإنكاره إلا عدد قليل من العلماء، وسأعرض -بعون الله- أراء بعض العلماء المجوزين له -بدليل وروده فى كتبهم-، ثم أعرض أراء المنكرين له، والشبه التى جعلتهم ينكرونه، والرد على تلك الشبه.
المجوزون
قد قال بالمجاز كثير من الأئمة، وعددهم لا يحصى، ولكنى آثرت أن أذكر من أصحاب كل فن بعض البارزين فيه فقط:
أولا: اللغويون والنحاة:
سيبويه (ت 180هـ) ([20])
وضع سيبويه كتابه الذائع الصيت (الكتاب) فى القرن الثانى الهجرى، فجاء كتابه – على سبقه الزمنى- نسيج وحده فى موضوعه، حالا بكل ما يفيد من الدراسات اللغوية نحوا وتصريفا وعروضا وأصوات وقراءات، وبلاغة، لم يعرف قبله مثله، ولم يلحق به نظير واحتل مكانا رفيع الدرجات عند العلماء والدارسين. وكان المبرد يقول فيه لمن جاء يقرأه عليه: هل ركبت البحر، تعظيما واستصعابا لما فيه ([21]).
وصار كتاب سيبويه دستورا لمن جاء بعده، ومرجعا للمؤلفين من القدماء، وله عند الباحثين المحدثين أهمية لا تضارع. لم تقتصر الإفادة على النحويين والصرفيين واللغويين، والقراء، بل أفاد منها الأدباء والنقاد والبلاغيين. فمثلا الإمام عبد القاهر الجرجانى فقد وضع تعريفه لنظرية النظم على إدراك المعانى النحوية وحسن إيرادها بين الكلم، فقال: «واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذى يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التى نهجت، فلا تزيغ عنها»([22]).
لم يصرح سيبويه باسم المجاز، ولكنه يوجهها توجيها مجازيا، ولكن المتأخرين من علماء البلاغة من بعده وإلى اليوم نقلوا التراكيب التى لفت سيبويه الأنظار إليها، ورددوا توجيهه إياها، قال: «ومما جاء على اتساع الكلام والاختصار قوله ]وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا[ [يوسف: 82]، إنما يريد أهل القرية فاختصر، وعمل الفعل فى القرية كم كان عاملاً فى الأهل لو كان هاهنا. ومثله: « بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ»، وإنما المعنى: بل مكر كم فى الليل والنهار. وقال : « ولكن البر من آمن بالله »، وإنما هو: ولكن البر بر من آمن بالله واليوم الآخر.
ومثله فى الاتساع « قوله »: « ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً »، وإنما شبهوا بالمنعوق به. وإنما المعنى: مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذى لا يسمع. ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى» [23] .
الفراء ( ت 207هـ) ([24])
الفراء مِثْل سيبويه لم يضع كتابه للبحث البلاغى فى اللغة أو فى القرآن الكريم، وإنما وضعه لتوجيه النص القرآنى من حيث القراءات الواردة فيه، والوجوه الإعرابية الجائزة فى التنزيل، وبيان المعنى المختلف باختلاف باختلاف القراءة والإعراب. فمنهجه بعيد عن المنهج البلاغى المتخصص، لكن له تخريجات فى كتابه من صميم مسائل المجاز كما عرف عند المتأخرين، وهو أحيانا ينسب إلى ما يصرح به إلى أعلام السلف: صحابة وتابعين، وبخاصة ابن عباس ومجاهد وقتادة، رضى الله عنهم أجمعين([25]).
وهذا فيه من الأدلة القاطعة بأن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أدركوا مسألة التأويل المجازى.
أبو عبيدة (ت 209هـ) ([26])
أبو عبيدة صاحب كتاب (مجاز القرآن)، ولم يرد من كلمة (المجاز) التى جعلها عنوانا لكتابه المعنى الاصطلاحى للمجاز ومع هذا فإن فيه تخريجات مجازية عديدة([27]).
قال أبو عبيدة: «فى القرآن ما فى الكلام العربى من الغريب والمعانى، ومن المحتمل من مجاز ما اختصر، ومجاز ما حذف، ومجاز ما كف عن خبره، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الجمع، ووقع على الجميع، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الجميع، ووقع معناه على الاثنين، ومجاز ما جاء لفظه خبر الجميع على لفظ خبر الواحد، ومجاز ما جاء الجميع فى موضع الواحد إذا أشرك بينه وبين آخر مفرد، ومجاز ما خبر عن اثنين، أو عن أكثر من ذلك، فجعل الخبر للواحد، أو للجميع، وكف عن خبر الآخر، ومجاز ما خبر عن اثنين، أو أكثر من ذلك، فجعل الخبر للأول منهما، ومجاز ما خبر عن اثنين أو عن أكثر من ذلك، فجعل الخبر للآخر منهما، ومجاز ما جاء من لفظ خبر الحيوان والموات على لفظ خبر الناس؛ والحيوان كل ما أكل من غير الناس، وهى الدواب كلها، ومجاز ما جاء ت مخاطبته مخاطبة الغائب، ومعناه مخاطبة الشاهد، ومجاز ما جاء ت مخاطبته مخاطبة الشاهد، ثم تركت وحولت مخاطبة هذه إلى مخاطبة الغائب، ومجاز ما يزاد من حروف الزائد، ويقع مجاز الكلام على إلقائهن، ومجاز المضمر استغناء عن إظهاره، ومجاز المكرر للتوكيد، ومجاز المجمل استغناء عن كثرة التكرير، ومجاز المقدم والمؤخر، ومجاز ما يحول من خبره إلى خبر غيره بعد أن يكون من سببه، فيجعل خبره للذى من سببه، ويترك هو. وكل هذا جائز قد تكلموا به» ([28]).
أبو عبيدة وهو من اللغويين الأوائل أبدى فى كتابه كثيرا من الإشارات إلى ما هداه إليه فكره من التخريج الذى مهد للقول بالمجاز عند تقدم الدراسات اللغوية والبيانية بصفة عامة والدراسات القرآنية بصفة خاصة، ونجد أن أبا عبيدة قد ذكر ظواهر مجازية لم ترد عند الفراء مثل المشاكلة([29]).
أبو الفتح عثمان ابن جنى (ت 392هـ) ([30])
عقد ابن جنى فى كتابه (الخصائص) بابا سمّاه: باب فى الفرق بين الحقيقة والمجاز([31])، وذكر فيه تعريفا لكل منهما، وهذه خطوة جديدة فى البحث البلاغى لم تعرف عند سابقيه. فمثلا ابن قتيبة قد صرح باسم المجاز والاستعارة لكنه لم يعرّف المجاز تعريف ابن جنى.
قال ابن جنى فى تعريف الحقيقة بأنها: «ما أقر فى الاستعمال على أصل وضعه فى اللغة»، وقال فى تعريف المجاز«ما كان بضد ذلك»([32]).
وهذا الكلام يفيد عدة أمور:
الأول: تقسيم الكلام- بعد الاستعمال- إلى حقائق ومجازات.
الثانى: التصريح بالوضع الأول والدلالة المباشرة للكلام.
الثالث: أن الاستعمال الحقيقى أصل سابق على الاستعمال المجازى، والمجاز فرع عن الحقيقة.
وبيّن ابن جنى قيمة المجاز بقوله: «وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة، وهي: الاتساع، والتوكيد، والتشبيه. فإن عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة»، ثم ساق مثلا يوضح فيه هذه القيم الثلاثة وهو قوله فى الفرس: «هو بحر»، فالمعانى الثلاثة موجودة فيه. أما الاتساع فلأنه زاد فى أسماء الفرس التى هى فرس وطرف وجواد ونحوها البحر، حتى إنه إن احتيج إليه فى شعر أو سجع أو اتساع استعمل استعمال بقية تلك الأسماء ... وأما التشبيه فلأن جريه يجرى فى الكثرة مجرى مائه (أى ماء البحر المشبه به الفرس). أما التوكيد فأنه شبه العرض (أى المعنوى المنقول) بالجوهر (أى الحسى المادى)، وهو أثبت فى النفوس منه، أى أن المحسوس أقوى أثرا فى النفس من المعقول، لإدراكه بالحواس([33]).
نقد كلام ابن جنى
لم يذكر ابن جنى فى تعريفه للمجاز سوى النقل من الحقيقة الموضوعة لها الكلمة إلى المجاز. وهذا ركن من أركان المجاز، إلا أن النقل وحده غير كاف فى تحقيق التجوز فى الكلام إذ لا بد فيه من علاقة مصححة للتجوز، وقرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلى، وقد خلا منهما تعريفه للمجاز.
نراه قد خلط التشبيه البليغ بالاستعارة فى تمثيله بقوله للفرس بقوله: «هو بحر»، فهو تشبيه بليغ، لأن الاستعارة لا يجمع فيها بين طرفى التتشبيه المشبه والمشبه به. وقد جعل التشبيه لازما لكل مجاز. وهذا غير مسلّم، فالمجاز العقلى والمجاز المرسل لا تشبيه فيهما البتة([34]).
توسع ابن جنى فى أمر المجاز، وزعم أنه أكثر من الحقيقة، وأفرط فى هذا الموضوع إفراطا غير محمود. فتراه يقول: «اعلم أن أكثر اللغة –مع تأمله- مجاز لا حقيقة» ثم يأخذ للتثميل والتدليل على زعمه صورا من التراكيب الحقيقية ويعمل فيها فكره حتى يضفى عليها ثوبا فضفاضا ليدخلها فى حيز المجاز([35]).
وما ذكرناه من النقد لكلام ابن جنى لا يقلل من قيمته، فابن جنى أحد أعلام القرن الرابع من اللغويين الذين أقروا المجاز فى اللغة وفى القرآن وحددوا بعض ملامحه وسماته.
ثانيا: الأدباء والنقاد:
ابن المعتز(ت 296هـ ) ([36])
أبو العباس عبد الله بن المعتز هو أول من وضع كتابا منهجيا فى علوم البلاغة، وتحدث فيه عن سبع عشرة صورة من صورها، أو فنا من فنونها([37]).
والمجاز فى بديع ابن المعتز محصور فى لون واحد فى تصوره، وهو (الاستعارة) فقد صرح باسمها وكرر ذكرها مرات عديدة وأظهر اعتناء بها حيث قدمها على جميع الفنون السبعة عشر التى ذكرها فى بديعه. عقد بابا سماه (الباب الأول من البديع وهو الاستعارة)، أورد أمثلة مختلفة من القرآن الكريم مثل: ]وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ[ [الإسراء: 23]، المشهور أن فى الآية استعارة مكنية، ومن الأحاديث مثل قوله : «ضُمُّوا مَاشِيَتَكم تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ»([38])، فكلمة (فحمة) مستعارة للإظلام بجامع شدة السواد فى كل منها. ومن مأثور كلام العرب شعرا ونثرا حِكَما وأمثالا. فقال: ومن الاستعارة قول امرء القيس من الطويل:
وليل كموج البحر مرخ سدوله على بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لمـا تمـطى بصـلـبــــــه وأردف أعجازاً وناء بكلكل
هذا كله من الاستعارة لأن الليل لا صلب له ولا عجز وقال من الطويل([39])
وقد اشترط ابن المعتز على تجنب الاستشهاد بكلام المحدثين بالنسبة لعصره فاقتصر على القرآن والحديث وكلام الأقدمين من جاهليين وإسلاميين([40]).
على بن عبد العزيز الجرجانى (ت 366 هـ أو 392هـ) ([41])
ولد القاضى على بن عبد العزيز الجرجانى فى القرن الرابع الهجرى وهو قرن حافل بازدهار العلم والحضارة الإسلامية لمعت فى سمائه نجوم زاهرة فى شتى العلوم والفنون، وكان الجرجانى من أزهرها وأضوئها، وله كتاب من أهم كتب النقد وهو (الوساطة بين المتنبى وخصومه)، وهو كتاب نقدى بلاغى، نجده قد تحدث فيه عن مباحث المجاز وغيرها من الوجوه البلاغية. ومن أبرز المباحث عنده بحث الاستعارة فقد أفاض فى ذكرها وتحليلها وتحديدها، والفرق بينها وبين وبين ما يشبه بها من فنون بلاغية. والتفرقة بين حسنها ورديئها. والإشارة إلى مقومات الحسن والإجادة فيها. وتكلم عن الإفراط فى استخدامها([42]).
على أن القاضى الجرجانى له وقفات أخرى مع التوجيه المجازى للألفاظ والتراكيب. وهو باعتباره أديبا ناقدا، فقد جمع بين ذوق الأديب وذكاء الناقد واتخذ من أسلوب المجاز، والاستعارة بوجه خاص، وسيلة من وسائل النقد والدفاع عما رضيه من القول، وكتاباته تنم عن اشتهار أمر المجاز فى عصره. وأن المجاز كان معترفا به عند علماء الأمة سواء عند من ناصروا أبا الطيب على كثرة طرقه له، والغوص وراء معانيه، وعند الذين خاصموا أبا الطيب فهم لم ينكروا على أنصاره تذرعهم بالمجاز فى الدفاع عنه، وإنما قبحوا ما تناوله من بعض صور الاستعارة والتشبيه، وفى نفس الوقت التمسوا وجوه التصحيح من الأقوال التى احتج بها الذين دافعوا عن أبى الطيب، ومنهم القاضى نفسه([43]).
مصطفى صادق الرافعى (ت 1356هـ = 1937م) ([44])
«ولسنا نقول إن القرآن جاء بالاستعارة لأنها استعارة أو بالمجاز لأنه مجاز أو بالكناية لأنها كناية أو ما يطّردُ مع هذه الأسماء والمصطلحات، إنما أُريد به وضعٌ معجزٌ فى نسق ألفاظه وارتياب معانيه على وجوه السياستين من البيان والمنطق فجرى على أصولهما فى أرقى ما تبلغه الفطرة اللغوية على إطلاقها فى هذه العربية، فهو يستعير حيث يستعير ويتجوّز حيث يتجوز ويُطنب ويُوجز ويُؤكِّد ويعترض ويكرر إلى آخر ما أُحصى فى البلاغة ومذاهبها لأنه لو خرج عن ذلك لخرج من أن يكون معجزا فى جهة من جهاته ولاستبان فيه ثمة نقصٌ يمكن أن يكون فى موضعه ما هو أكملُ منه وأبلغُ فى القصد والاستيفاء» ([45]).
ثالثا: الإعجازيون والبلاغيون
الإمام عبد القاهر (ت 471هـ) ([46])
يحتل الإمام عبد القاهر الجرجانى فى البحث البلاغى مركزا لم يصل إليه أحد ممن قبله، ولم يزاحمه فيه أحد ممن بعده، سواء نظرت إليه من حيث عمق الدراسة، أو من حيث ما فجر من كنوزها، وفتق من أكمامها، وجلى من مسائلها، وأضاف من فنونها. فهو واحد فذ فى هذا المجال، وحسبه أنه واضع صرحى علمى المعانى والبيان، وما أشار إليه من فنون البديع، ناهجا بالدرس البلاغى منهجا فرديا جمع بين العلم والفن والذوق، فكانت مباحثه البلاغية شهدا كشهد النحل، تمتص رحيق كل الأزهار، ثم تسكبه جنى طيب المذاق فيه شفاء للناس.
وإذا كانت البلاغة قبل الإمام عبد القاهر، قد اختلطت - أحيانا – بمسائل النقد واللغة، أو اختلط بها النقد، فإن مباحث الإمام عبد القاهر قد مزجت بين هذه الفنون مزجا حكيما. ([47])
حديثه عن حدّ الحقيقة والمجاز:
عرف الحقيقة بأنها: «كل كلمة أريد بها ما وقعت له فى وضع واضع- وإن شئت قلت فى مواضعة- وقوعا لا يستند فيه إلى غيره فهو حقيقة»([48]).
أما المجاز اللغوى فقد قال فى حده: «وأما المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له فى وضع واضعها لملاحظة بين الثانى والأول فهو مجاز، وإن شئت قلت: كل كلمة جزت بها ما وقعت له فى وضع الواضع إلى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوز بها إليه وبين أصلها الذى وضعت له فى وضع واضعها فهى مجاز»([49]).
والإمام عبد القاهر أول من فرق بين المجاز العقلى وبين المجاز اللغوى، فصور المجاز العقلى لفتت أنظار الرواد الأوائل من عهد سيبويه فأدركوا سرها، وحملوها على الاتساع فى الكلام، ومنهم من أدخله فى صور المجاز اللغوى, ولم يقولوا فيه الكلمة الأخيرة. فهو فى مباحثهم كان ما يزال جنينا فى رحم أمه، والذى أولده وسماه وربّاه وأحسن تربيته هو الإمام عبد القاهر ([50]).
السكاكى (ت 626هـ) ([51])
فى مجال البحث البلاغى الدقيق يلى الإمام عبد القاهر الجرجانى الإمام أبو يعقوب يوسف السكاكى، وهو يشغل مساحة زمنية هائلة فى أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع، وإذا كان الإمام عبد القاهر أستاذ المدرسة، وإماما خط بقلمه أروع منهج جمع بين العلم والفن، والقاعدة والتذوق، وأسفرت كتاباته عن نظريتى (البيان والمعانى) فإن السكاكى بدوره أستاذ بحق لمدرسة، وإمام خط بقلمه أدق منهج تفصيلى لكليات البلاغة وجزئياتها، وأصولها وفروعها وإذا جاز لنا أن نضع تشبيها يبين دور الرجلين، وما بينهما من اتفاق وافتراق. فإن الإمام عبد القاهر مهندس عبقى بنى مدينة فأحسنها وأجملها. والإمام السكاكى هو الذى وضع أسماء ميادينها وشوارعها ورقم قصورها ومنازلها فاكتمل للمدينة جمال الإنشاء وحسن التنسيق. فكلا الرجلين جاد بما عنده. وبذل قصارى جهده فى خدمة هذا الفن. ([52])
عرّف الإمام الساكى المجأز بقوله: «... الكلمة المستعملة فى غير ما هى موضوعة له بالتحقيق استعمالا فى الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة من إرادة معناها فى ذلك الموضوع»([53]) وفى شرحه لهذا التعريف نراه يضع فيه قيدا لدفع ما كان قد رآه الإمام عبد القاهر فى الاستعارة من أن النقل فيها نقل معنى اللفظ لا نقل اللفظ نفسه([54]). والإمام السكاكى يرى أن المنقول فى الاستعارة هو اللفظ بمعناه وليس المعنى وحده. ترى هذا جليا فى قول السكاكى:
«وقولى بالتحقيق احتراز أن لا تخرج الاستعارة التى هى من باب المجاز نظرا إلى دعوى استعمال الكلمة التى وقعت بها الاستعارة فيما وضعت له»([55]).
ويفرق السكاكى بين الحقيقة والمجاز بعبارة استوحى معناها من كلام الإمام عبد القاهر مع إضافات خلصت له. وهذا قوله: «ومن حق الكلمة فى الحقيقة التى ليست بكناية أن تستغننى فى الدلالة على المراد منها بنفسها عن الغير لتعينها له بجهة الوضع» ويقول: «ومن حق المجاز أن لا تستغنى عن الغير الدلالة على ما يراد منها ليعينها له ذلك القيد»، وهو يقصد بـ (الغير) القرينة؛ لأنها هى (الغير) الذى يعين الكلمة المجازية للمعنى المجازى المراد منها.
وعرف المجاز العقلى بقوله: «هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأويل إفادة للخلاف لا بواسطة وضع»([56]). مثل: (أنبت الربيع البقل) ونرى أن الإمام السكاكى لم يكن مقتنعا كل الاقتناع بفكرة المجاز العقلى حين أقبل نحوه بدرسه ويفلسف له، ويجهد نفسه فى استجلاء مسائله وقضاياه. وإنما فعل ما فعل مجارة لمن سبقه ممكن كتب حوله كالإمام عبد القاهر، وجار الله الزمخشرى والفخر الرازى الذين تأثر بهم فى كثير مما كتب. لذا تراه حين فرغ من بحث المجاز العقلى سرعان ما انقض عليه وأنكره ووضع عليه شارة غيرشارته، وألبسه ثوبا غير ثوبه، ونحله تسمية غير تسميته، وهو يجعله صورة من صورة الاستعارة المكنية. ورد المتأخرون مذهب السكاكى هذا فى إنكار المجاز العقلى ودرجه فى صور الاستعارة بالكناية، وكان الخطيب أول من لحظ هذا وناقشه فى وضوع وأبان عن قصور السكاكى فى هذا المبحث. والتحقيق أن إنكار السكاكى المجاز العقلى لا تساعده عليه بعض التراكيب. وأيا كان الأمر فإن الإمام السكاكى من أشهر علماء الأمة القائلين بورود المجاز لغويا وعقليا على مذهب الأصحاب، ولغويا على مذهبه. ومن أشره علماء الأمة القائلين بوروده فى اللغة بوجه عام وفى القرآن بوجه خاص([57]).
الخطيب القزوينى (ت 739هـ) ([58])
للخطيب القزوينى منزلة خاصة فى البحث البلاغى بوجه عام، لم يحظ بها أحد ممن تقدمه، ولا ممن لحق به. فكان قطب الدائر بحق إذ كان البحث البلاغى قبله آخذا فى النمو والتدرج جيلا بعد جيل، فجاء هو وقد استلهم أبرز مباحث سابقيه، وأخذ على عاتقه مهمة صوغ المباحث البلاغية فى عبارات جامعة محررة وأضاف إليها ما جادت به قريحته مع دقة النظر، وصواب الفكر، وسلامة المذهب. ([59])
ونراه يخالف منهج الإمام السكاكى فى موضع بحث المجاز العقلى فبحثه فى علم المعانى؛ لأنه صورة من صور الإسناد وحال من أحواله، ودرج على هذا الشراح من بعده، أما السكاكى فبحثه فى علم البيان. ([60])
ونرى الخطيب فى تحليلاته لصوره المجاز العقلى غواصا وراء دقيق المعانى. ([61])
وقد قسَّم المجاز اللغوى بحسب العلاقة المصححة قسمين فقال «والمجا ضربان: مرسل واستعارة؛ لأن العلاقة المصححة إن كانت تشبيه معناه بما هو موضوع له فهو استعارة. وإلا فهو مرسل»([62]).
ومما تجب الإشارة إليه أن جل أمثلة البلاغيين على المجاز، بل أكثرها ماء ورونقا، وأصدقها شاهدا كانت من نصوص القرآن الكريم. فلم يروا فى ذلك حرجا. وهذا يدفع بقوة مذهب يدفع بقوة مذهب الإمام ابن تيمية ومشايعيه قديما وحديثا فى نفى المجاز فى اللغة بوجه عام. وفى القرآن بوجه خاص. ([63])
رابعا: المفسرون
ابن جرير الطبرى (ت 310هـ) ([64])
تفسير ابن جرير له أهمية خاصة من بين كل التفاسير المعروفة لنا الآن: فهو أول تفسير جامع للقرآن العظيم كله، وقد فاق فى ضخامته الحد المعهود للتفاسير المبكرة، وبعض التفاسير المبكرة، وبعض التفاسير التى وضعت بعد عصره بكثير. وقد اعتمد على أقوال الصحابة والتابعين ومما نقلوه عن صاحب الدعوة . وهو من أبرز التفاسير التى جمعت إلى تفسير الرواية تفسير الدراية. حيث لم يقف ابن جرير عند الآراء المأثورة التى يرويها، يرويها بل اتبعها بالتوجيه والترجيح ما وسعه النظر والفهم، فهو تفسير نقلى عقلى فى آن واحد.
نجد أن ابن جرير يتحفظ كثيرا جدا من صرف العبارة على غير ظاهرها، ويحاول أن يقف بالعبارة القرآنية عند دلالتها الظاهرة، وحين ينقل من آراء السلف ما فيه صرف العبارة عن الظاهر فإنه عند الترجيح يقلل من قيمة الصرف ويميل إلى ما عداه. ومع التحفظ الشديد فإن لمجوزى المجاز فى تفسيره شواهد قوية تفوق طاقة المحصى المتعجل لكثرتها([65]).
«فنجده مثلا عند تعرضه لقوله ]أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ[ فقد قال فيه: يعنى ذكره بقوله أولئك: هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب فى شأن محمد بالخسيس من الرشوة يعطونها فيحرفون لذلك آيات الله ويغيرون معانيها ما يأكلون فى بطونهم بأكل ما أكلوا .. إلا النار. يعنى: إلا ما يوردهم النار ...» ([66])
فهذا القول منه صالح للعمل على المجاز المرسل وعلاقته اعتبار ما سيكون([67]).
جار الله الزمخشرى (ت 538) ([68])
عَلَم من أعلام الإسلام، وبحر من بحور العلم، وكنز من كنوز المعرفة وشمس من شموس البيان، ومفسر راسخ القدم وهبه الله ذكاء قيد به شوارد المعانى، وفهما تذوق به مرامى التنزيل، وفقها استشف به غوامض الأسرار، وأعانه على خبيئات المعانى فى مفردات التنزيل وفى جمله وتراكيبه فجاء تفسيره (الكشاف) كما قال هو :
إن التفاسير فى الدنيا بلا عدد وليس فيها –لعمرى- مثل كشافى
إن كنت تبغى الهدى فالزم قراءته فالجهل كالداء، والكشاف كالشافى
وقال فى الكشاف: إن من تعاطى التفسير فلا بد له من البراعة فيهما- المعانى والبيان- لأنهما علمان مختصان بالقرآن لا يغنى عنهما سواهما. ونجد فى كتابه ذكره لكثير من فنون البلاغة عند تفسيره لبعض الآيات مثل المجاز العقلى، المجاز المرسل، الاستعارة، ترشيح المجاز وتجريده([69]).
خامسا: المحدثون
ابن قتيبة (ت 376 هـ) ([70])
لابن قتيبة كتاب سماه (تأويل مشكل القرآن) وكتاب آخر سمّاه (تأويل مختلف الحديث)، وقد بين المؤلف فى مقدمة مستفيضة أهمية الموضوع الذى تعرض له، وكيف أن كل فرقة تمسكت بنصوص بنت عليها عقيدة، وكيف لغا اللاغون فى بعض الأحاديث التى يوهم ظاهرها اختلافا فيما بينها، أو يوهم ما يضاد أصول الاعتقاد فى الله. وبعد هذه المقدمة عمد إلى ما لغوا فيه، وحاول محاولات جادة فى التوفيق بين الأخبار المتعارضة والموهمة، وسار فى خطوات ثابتة من أول الكتاب إلى آخره، ولجأ فى بعض معالجاته لهذه المشكلة إلى التأويل المجازى، وهذا هو بيت القصيد الذى يهمنا فى هذا الغرض. ([71])
«ومن كلام عبد الله بن مسلم بن قتيبة فى المجاز قال: لو كان المجاز كذباً لكان أكثر كلامنا باطلاً؛ لأنا نقول: نبت البقل، وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة، وأقام الجبل، ورخص السعر، ونقول: كان هذا الفعل منك فى وقت كذا، والفعل لم يكن وإنما يُكوَّن، وتقول: كان الله، وكان بمعنى حدث، والله قبل كل شىء، وقال فى قول الله عزوجل: ]فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ[ [الكهف: 77] لو قلنا لمنكر هذا كيف تقول فى جدار رأيته على شفا انهيار؟ لم يجد بداً من أن يقول: يهم أن ينقض، أو يكاد، أو يقارب، فإن فعل فقد جعله فاعلاً، ولا أحسبه يصل إلى هذا المعنى فى شىء من ألسنة العجم إلا بمثل هذه الألفاظ»([72]) .
الشريف الرضى (ت 406هـ)([73])
وقد وضع كتابا أسماه(المجازات النبوية) ويختلف منهجه فيه عن منهج ابن قتيبة وابن فورك لأنهما اهتما –غالبا- بالأحاديث التى لها صلة وثيقة بالاعتقاد والتوحيد، أما الشريف فقد دعاه إلى وضع كتاب إظهار ما فى الحديث من الصور البلاغية والبيانية سواء مست أصول الاعتقاد أو لم تمس، ومن أمثلة ذلك قوله «يا أنجشة: رفقا بالقوارير» ثم علق عليه قائلا: وهذه استعارة عجيبة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام شبه النساء فى ضعف الطبائع ووهن الغرائز بالقوارير الرقيقة التى يوهنها الخفيف، ويصدعها اللطيف، فنهى عن أن يسمعهن الحادى ما يحرك مواضع الصبوة، وينقض معاقد العفة.([74])
الإمام السيوطى (ت 911هـ) ([75])
قال السيوطى: «لا خلاف فى وقوع الحقائق فى القرآن، وهى كل لفظ نقى على موضوعه ولا تقديم فيه ولا تأخير، وهذا أكثر الكلام. وأما المجاز فالجمهور أيضاً على وقوعه فيه، وأنكره جماعة منهم الظاهرية وابن القاص من الشافعية وابن خويز منداد من المالكية، وشبهتهم أن المجاز أخوالكذب والقرآن منزه عنه، وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير، وذلك محال على الله ، وهذه شبهة باطلة، ولو سقط المجاز من القرآن سقط منه شطر الحسن، فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، ولو وجب خلو القرآن من المجاز وجب خلوه من الحذف والتوكيد وتثنيه القصص وغيرها»([76]).
سادسا: الأصوليون والفقهاء
«الأصوليون والفقهاء طائفتان من علماء الأمة تتعلق مباحثهم بلب الشريعة ومقاصدها وأصولها. أو هما إذا حكمنا الممهدون للعل بشريعة الله فى الدنيا والدين، والمهيئون لإنفاذ التكاليف فى العقائد والعبادات والمعاملات والسلوك الخاص والعام. ووضع القواعد والأسس الكلية لاستنباط الأحكام الجزئية من قواعدها التفصيلية. ولولا جهود الأصوليين والفقهاء لاستغلق على الناس كتاب ربهم وسنة نبيهم، ولما جاءت أعمالهم منضبطة على هدى الله ورسوله.
فالقرآن والحديث هما مبادئ التشريع. وعمل الأصولى هو النظر فيهما وتحرير مقاصدهما، فالأصول واسطة بين الفقيه وبين مصادر التشريع.
وقد رأينا الأصوليين والفقهاء يهتمون اهتماما كبيرا بمدلولات اللغة العربية: لغة التنزيل الإلهى والحديث الشريف. ويولونها أكبر عناية لأنها المادة التى صيغت فيها كليات التشريع ويسيرون مع العرب النازل بلغتهم أينما ساروا فى طرق بيانهم، وشعب دلالتهم، ومنها الحقيقة والمجاز، لتكون قواعدهم التى صاغوها، وأحكامهم التى استنبطوها جارية على أسس صحيحة وفهم مستقيم. ولو لم تكن نظرتهم بانقسام اللغة إلى حقيقة ومجاز لخلت مصنفاتهم وجهودهم من هذا التقسيم»([77]).
ابن حزم الظاهرى (ت 456 هـ) ([78])
لابن حزم كتاب يسمى (الأحكام فى أصول الأحكام) تحدث فيه عن المجاز والتشبيه فى فصل خاص، وأنه لم يتناول مسألة وقوع المجاز فى اللغة، بل تخطاها إلى وقوعه فى القرآن والسنة أو عدم وقوعه فيهما.
وقد أشار إلى الخلاف بين علماء الأمة فى هذا المجال، فقال إن قوما منهم منعوه، وآخرين أجازوه، واختار هو مذهب الإجازة فى إطار الحدود التى وضعها هو لوقوع المجاز فى القرآن والسنة الشريفة. المؤلف لا يرى حرجا فى ورورد المجاز فى آيات التنزيل الحكيم، وفى حديث إمام المرسلين، وهذا مشروط عنده بشرط وهذا واضح فى قوله: «فكل كلمة نقلها الله عن موضوعها فى اللغة إلى معنى آخر فإن كان الله تعبدنا بها قولا وعملا كالصلاة والزكاة والحج والصيام والربا وغير ذلك فليس شئ من هذا مجازا، بل هى تسمية صحيحة واسم حقيقى لازم مرتب من حيث وضعه الله .
وأما ما نقله الله عن موضوعه فى اللغة إلى معنى تعبدنا بالعمل به دون أن يسميه بذلك الاسم، فهذا هو المجاز، كقوله : ]وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ[ [الإسراء: 24]، فإنما تعبدنا بأن نذل للابوين ونرحمهما، ولم يلزمنا قط أن ننطق، ولا بد فيما بيننا بأن للذل جناحا، وهذا لا خلاف فيه، وليس كذلك الصلاة والزكاة والصيام، لانه لا خلاف فى أن فرضا علينا أن ندعو إلى هذه الاعمال بهذه الاسماء بأعيانها ولا بد».
هذا هو شرط ابن حزم فى وقوع المجاز فى القرآن الحكيم، والسنة المطهرة فالنقل إذا صحبه تعبّد بالعمل والاسم فهو حقيقة([79]) لا مجاز. والنقل إذا لم يصحبه تعبّد بالتسمية فهو مجاز لا حقيقة.
ومما تجب الإشارة إليه أنه مقر بالوضع اللغوى، وجعل من علامات المجاز الخروج عن هذا الوضع. وهذان الأمران مع اشتهارهما فى مباحث العلماء قبل عصر الإمام ابن تيمية فإنه قد نفاهما بدليل أن سلف الأمة قبله لم يقل به([80]).
وقد بالغ ابن حزم فى وصف من ينكر المجاز بالكفر، والذين أنكره فى القرآن بخاصة أرادوا الحفاظ على كلام الله من شطط التأويل. فهى نظرة فى حيطة محمودة، وقد خرج جمهور العلماء عن هذه النظرة ونهجوا منهج التأويل المجازى فى كتاب الله. فكلا الفريقين لهما مقاصد حسنة فيما ذهبوا إليه وإن ترجحت إحدى النظرتين (نظرة القول بجواز المجاز) فليس معنى هذا الحكم على من منع المجاز فى القرآن بالكفر([81]).
هذا هو موقف ابن حزم من المجاز، وهو من الرواد الأوائل فى علم الأصول وحديثه عن المجاز كان قبل نضوج هذا الفن. ومهما كانت نظرته ضيقة بالنسبة لمستقل البحث فى المجاز فى عصره فهى لمحة لها دلالتها القوية بالإضافة إلى مبدأ الوضع الأول([82]).
الإمام الغزالى (ت 505هـ)
تصدى الإمام أبو حامد الغزالى للبحث فى الحقيقة والمجاز، وكانت مجالات فكره. وكتاباته تملى عليه التصدى لمثل هذه المباحث. وبخاصة فى مجالى الكلام وعلم أصول الفقه، اللذين أسهم فيهما بنصيب وافر من العطاء الفكرى العميق المستنير. وهو فيها إمام ضالع، وعَلَم يهتدى به. تكلم الغزالى عن المجاز فى كتابه (المستصفى فى علم الأصول)([83]).
عرّف الإمام الغزالى فى كتابه (المستصفى) المجاز بقوله: «والمجاز ما استعملته العرب فى غير موضوعه»([84])، معنى هذا أن الإمام الغزالى مقر بالوضع اللغوى الأول المتفرغ عنه النقل إلى المعنى المجازى، والنقل هو عمدة المجاز وإن لم يتحقق به وحده([85]).
وينتقل الإمام الغزالى إلى ذكر العلامات التى يُعرف بها المجاز على طريقة علماء الأصول وهى عندهم محصورة فى أربع قال فيها:
«وقد يُعْرَفُ المجازُ بإحدى علامات أربع الأولى: أن الحقيقة جارية على العموم فى نظائره، إذ قولنا عالم لما عُنِى به ذو عِلْمٍ صَدَقَ على كل ذى علم وَقَوْلُهُ: ]وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ[ يصح فى بعض الجمادات لإرادة صاحب القرية، ولا يقال: سَلْ البساط والكوزَ،وإن كان قد يقال سل الطلل والربع لقربه من المجاز المستعمل»([86]).
وهذا الفرق صحيح لأن الحقيقة موضوعة وضعا كليا عاما. أما المجاز فموضوع وضعا خاصا حين توجد المناسبة بين طرفيه([87]).
«الثانية: أن يُعرف بامتناع الاشتقاق عليه، إذ الأمر إذا استعمل فى حقيقته اشتق منه اسم الآمر وإذا استعمل فى الشأن مجازا لم يشتق منه آمر، والشأن هو المراد بقوله : ]وما أمر فرعون برشيد[ وبقوله : ]إذَا جَاءَ أَمْرُنَا[([88]).
الثالثة: أن تختلف صيغة الجمع على الاسم فيُعْلَم أنه مجاز فيأحدهما، إذ الأمر الحقيقى يُجمع على أَوَامِرَ، وإذا أُريد به الشأن يُجْمَعُ على أُمُورٍ([89]).
ويقول فى الرابعة:
الرابعة: أن الحقيقى إذا كان له تعلُّق بالغير، فإذا اسْتُعْمل فيما لا تعَلُّق له به لم يكن له متعلق كالقدرة إذا أُريد بها الصفة كان لها مقدور، وإن أُرِيد بها المقدور كالنبات الحسن العجيب، إذ يقال: انظر إلى قدرة الله أى إلى عجائب مقدوراته، لم يكن له متعلق، إذ النبات لا مقدور له([90])».
المنكرون
إنكار المجاز بعامة مر بثلاث مراحل :
المرحلة الأولى: ما قبل الإمام ابن تيمية
إنكار المجاز قبل عصر الإمام ابن تيمية معزو إلى جماعة، وهم لا يكادون يتعدون عدد أصابع اليد الواحدة، وإن كان من بينهم إمام مذهب فقهى معروف. فالأصوليون يعزون هذا القول إلى داود الظاهرى إمام مذهب الظاهرية وابنه أبى بكر محمد الظاهرى.
ومن غير الظاهرية ينسب هذا القول إلى: أبى الحسن الجزرى، وأبى عبد الله بن حامد، وأبى الفضل التميمى من الحنابلة، ومحمد بن خويز بن منداد من المالكية([91])، ومنذر بن سعيد البلوطى (ت 355هـ)([92]). ويعزى كذلك إلى أبى على الفارسى.
ومن الشافعية إلى أبى العباس الطبرى المعروف بابن القاص، ومن المعتزلة أبى مسلم الأصبهانى.
ويعزى هذا القول كذلك للرافضة كما عزى إلى للظاهرية هؤلاء هم كل ما يعزى إليهم إنكار المجاز فى القرآن، وفى الحديث النبوى كذلك([93]).
وفى هذه المرحلة لم يكثر المانعون فى تعداد أسباب المنع، ولم يطنبوا فى شرحها والتمثيل لها. بل لهم فى ذلك عبارات موجزة كل الإيجاز([94]).
ومانعو المجاز قبل الإمام ابن تيمية لم يتركوا لنا مصنفات فصلوا فيها القول فى أسباب منع المجاز وإنما نقلت عنهم إشارات تفيد مجرد المنع إلا فى القليل النادر، فإننا نجد عبارات قصيرة أومأوا فيها إلى أسباب المنع محكية عنهم فى مصنفات غيرهم من علماء الأمة. وهذا بخلاف الإمام ابن تيمية ومن بعده فلدينا أقوالهم فى منع المجاز منصوص عليها فى مصنفات خاصة بهم[95].
والعمدة فى منع المجاز فى القرآن الكريم بخاصة يرجع أول ما يرجع إلى داود الظاهرى وابنه محمد وإن عزى هذا القول إلى غيرهما من العلماء [96] .
والمتقدمون من الأصوليين حين ينسبون إلى داود الظاهرى نفى المجاز فى القرآن يذكرون له شبهتين:
إحداهما أن المجاز عند من يقول به لا يدل على معناه إلا بمعونة القرينة، وهذا تطويل بلا فائدة ومع عدم القرينة يكون فيه إلباس.
وثانيتهما: لو سلمنا أن فى القرآن مجازا- والقرآن كلام الله- لقيل لله (متجوز) وهذا الوصف لا يطلق على الله باتفاق علماء الأمة.
المرحلة الثانية: مرحلة الإمام ابن تيمية
«حين يُذكر الإمام ابن تيمية بين منكرى المجاز مطلقا وفى القرآن الكريم فإنه يمثل فى هذا المقام قطب الدائرة. لأن من أنكر المجاز قبله لم يتحمسوا للإنكار حماسته، ولم يثوروا ثورته ولم ينزحوا نزحه، ولم يقلبوا وجوه القول تقليبه. ولم يكن بين أيديهم من أسباب
الباحث : عمر خطاب عمر الرشيدي
ماجستير قسم البلاغة والنقد كلية اللغة العربية بالقاهرة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد
القرآن كلام الله المتعبد بتلاوته المنزَّل على سيدنا محمد قال ]وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُبِينٍ[ [الشعراء192: 195]، فهو معجزة رسول الله ، وكما نعلم أن الله يؤيد رسله بمعجزة نبغ فيها قومه، فمثلا قوم سيدنا موسى عليه السلام نبغوا فى السحر لذلك أيده الله بمعجزة العصا التى صارت حيَّة واكتشف السحرة أنفسهم أن ما جاء به موسى ليس سحرا فآمنوا معه، وكذلك حال عيسى عليه السلام، لأن زمانه كان زمن الطب، فكانت معجزته وهى إحياء الموتى، فلما كان زمن النبى زمن الفصاحة والبيان، جعل الله معجزته من جنس ما كان يُولعون به وبأشرفه، فتحدّاهم بالقرآن كلاما منثورا، لا شعرا منظوما، فأيد الله خاتم الأنبياء والمرسلين بمعجزة نبغ فيها قومه فقد أُوتى العرب البلاغة والفصاحة والبيان وبرعوا فى قرض الشعر حتى إنهم كانوا يعقدون فى سوق عكاظ مباريات أدبية يلقى فيها كل شاعر إنتاجه الأدبى من الشعر، ويقوم النقاد باختيار القصائد الجيدة، ويتم تعليقها على الكعبة، ولما بُعث رسول الله وأُنزل عليه القرآن تحدّى العرب أن يأتوا بمثله فعجزوا أو أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا أو أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا.
فالقرآن نزل بلغة العرب، وجاء على طرائقهم فى البيان والكلام فلم يحتج السلف ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبى أن يسألوه عن معانيه، وعمَّا فيه مما فى كلام العرب مثله من الوجوه والتلخيص، وفى القرآن مثل ما فى الكلام العربى، من وجوه الإعراب، ومن الغريب، والمعانى، فلم تستغلق عليهم عباراته وأثّرت فيهم تأثيرا بالغا فهذا سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه قبل إسلامه حينما قصد أن يقتل سيدنا محمدًا وقابله بعض الصحابة فأخبره أن أخته وزوجها قد أسلما فذهب سيدنا عمر مسرعا إلى بيت أخته فلما شعرت به أخفت الصحيفة فأخذها منها بقوّة وقرأ ما فيها فتأثر تأثرا شديدا وكان داعيا قويا إلى إسلامه.
وقد كانوا يجدون له وقعا فى القلوب وقرعا فى النفوس يرهبهم ويحيرهم فلم يتمالكوا إلا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف.
«عن ابن عباس رضى الله عنهما أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله فلما قرأ عليه القرآن كأنه رقّ له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه، فقال: له يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله - بكسر القاف وفتح الباء، قال: الوليد لقد علمت قريش أنى من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره، قال: وماذا أقول فوالله ما فيكم من رجل أعلم منى بالشعر لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذى يقوله شيئا من هذا ووالله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمنير أعلاه مشرق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته، قال أبو جهل للوليد: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، فقال: الوليد دعنى أفكر فلما فكر، قال: هذا سحر يأثره عن غيره» ([1]).
ومن هذه الظواهر المجاز وهو: «إسناد اللفظ إلى غير ما هو له فى الحقيقة» فنجد أن من العلماء من أنكر هذه الظاهرة فى القرآن الكريم وفى الحديث الشريف، وحتى فى اللغة بوجه عام. ومنهم من أكثر منها وبالغ فيها ليترك لنفسه العنان فى تأويله كيف يشاء. فوقع الأمر بين الإفراط والتفريط .
وفى هذا البحث نتناول هذه القضية إن شاء الله ، وما هى الأسباب التى دعت المنكرين إلى إنكاره؟ وما هى الردود التى رُدَّ بها عليهم؟ وقبل كل شىء ذكرت نبذة مختصرة عن المجاز وما يشتمل عليه، فإن أصبت فلله الفضل والمنة، وإن كانت الأخرى فمن نفسى، وأسأل الله التوفيق والسداد.
منهج البحث
1) الفصل الأول قمت بتعريف المجاز، وما يشتمل عليه.
2) الفصل الثانى بدأت بذكر آراء المجوزين للمجاز، ولم أتوسع فيه كثيرا لكثرة عدد من قالوا بالجواز وعدم القدرة على حصرهم، وإنما ذكرت بعض العلماء ممن لهم قدم راسخ فى كل فن من الفنون، وآثرت أن أذكر رأى الأستاذ مصطفى صادق الرافعى لمكانته ودوره فى الدفاع عن القرآن الكريم.
3) ثم ذكرت أراء المنكرين لورود المجاز فى القرآن، وقسَّمتهم إلى ثلاثة مراحل، المرحلة الأولى قبل الإمام ابن تيمية، ومرحلة الإمام ابن تيمية، ومرحلة ما بعد الإمام ابن تيمية.
4) الفصل الثالث ذكرت الردود التى رُدّ بها على المنكرين، وناقشت هذه الردود، وهل وافقهم الصواب فى إنكارهم هذا أم لا؟
5) قمت بتعريف الأعلام التى وردت داخل النصوص، وعرفت العلم حتى لو بلغ شهرة كبيرة، مع تخريج الآيات، والشواهد الشعرية.
6) ذكرت فى الخاتمة الرأى الصواب - من وجهة نظرى القاصرة.
الفصل الأول
تعريف المجاز وما يشتمل عليه
تعريف المجاز:
كلمة مَجَاز بوزن «مَفْعَلٌ من جازَ الشىءَ يَجُوزه، إذا تعدَّاه، وإذا عُدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة، وُصف بأنه مجاز، على معنى أنهم جازوا به موضعَه الأصلىّ، أو جاز هو مكانه الذى وُضع فيه أوَّلاً»([2]).
لذلك نعلم أن لكل مجاز حقيقة «لأنه لم يصح أن يطلق عليه اسم المجاز إلا لنقله عن حقيقة موضوعة له إذ المجاز هو اسم للموضع الذى ينتقل فيه من مكان إلى مكان فجعل ذلك لنقل الألفاظ من الحقيقة إلى غيرها وإذا كان كل مجاز لا بد له من حقيقة نقل عنها إلى حالته المجازية فكذلك ليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز فإن من الأسماء ما لا مجاز له كأسماء الأعلام لأنها وضعت للفرق بين الذوات لا للفرق بين الصفات»([3]).
فيم يستعمل؟
«المجاز أولى بالاستعمال من الحقيقة فى باب الفصاحة والبلاغة لأنه لو لم يكن كذلك لكانت الحقيقة التى هى الأصل أولى منه حيث هو فرع عليها»([4]).
فائدته:
إن لم يكن فى المجاز زيادة فائدة على الحقيقة لا يُعدل إليه ولكن فائدته هى: «إثبات الغرض المقصود فى نفس السامع بالتخييل والتصوير حتى يكاد ينظر إليه عيانا ألا ترى أن حقيقة قولنا: زيد أسد، هى قولنا: زيد شجاع، لكن فرق بين القولين فى التصوير والتخييل وإثبات الغرض المقصود فى نفس السامع؛ لأن قولنا: زيد شجاع لا يتخيل منه السامع سوى أنه رجل جرىء مِقْدام، فإذا قلنا: زيد أسد يخيل عند ذلك صورة الأسد وهيئته وما عنده من البطش والقوة ودق الفرائس وهذا لا نزاع فيه. وأعجب ما فى العبارة المجازية أنها تنقل السامع عن خلقه الطبيعى فى بعض الأحوال حتى إنها ليسمح بها البخيل ويشجع بها الجبان ويحكم بها الطائش المتسرع ويجد المخاطب بها عند سماعها نشوة كنشوة الخمر حتى إذا قطع عنه ذلك الكلام أفاق وندم على ما كان منه من بذل مال أو ترك عقوبة أو إقدام على أمر مهول وهذا هو فحوى السحر الحلال المستغنى عن إلقاء العصا والحبال».([5]) وقال ابن رشيق (ت 463 هـ)([6]) فى العمدة: «المجاز فى كثير من الكلام أبلغ من الحقيقة، وأحسن موقعاً فى القلوب والأسماع، وما عدا الحقائق من جميع الألفاظ»([7]) .
منزلة المجاز وقيمته فى لغة العرب
قال ابن رشيق فى العمدة متحدثا عن منزلة المجاز وقيمته فى لغة العرب بقوله: «العرب كثيراً ما تستعمل المجاز، وتعده من مفاخر كلامها؛ فإنه دليل الفصاحة، ورأس البلاغة، وبه بانت لغتها عن سائر اللغات»([8]).
أقسام المجاز
ينقسم المجاز إلى مجاز عقلى، ومجاز لغوى.
أولا المجاز العقلى:
«هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأويل إفادة للخلاف لا بواسطة وضع»([9]).
وبعبارة أخرى: هو إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له، أى غير الملابس الذى ذلك الفعل أو معناه له، يعنى غير الفاعل فيما بنى للفاعل، وغير المفعول فيما بنى للمفعول، بتأول متعلق بإسناده. مثل: (أنبت الربيع البقل).
وحاصله أن تنصب قرينة صارفة للإسناد عن أن يكون إلى ما هو له، كقولنا: فى عيشة راضية، فيما بنى للفاعل وأسند إلى المفعول به، إذ العيشة مرضية، وسيل مفعم، فى عكسه، اسم مفعول من: أفعمت الإناء: ملأته، وأسند إلى الفاعل([10]).
ثانيا : المجاز اللغوى:
هو الكلمة المستعملة فى غير ما وضعت له بالتحقيق فى اصطلاح به التخاطب، مع قرينة مانعة عن إرادته، أى إرادة معناها فى ذلك الاصطلاح([11]).
وينقسم المجاز اللغوى إلى مفرد ومركب:
أما المفرد فهو: «كلُّ كلمة أريد بها غيرُ ما وقعت له فى وَضْع واضعها، لملاحظةٍ بين الثانى والأوّل، فهى مجاز. وإن شئت قلت: كلُّ كلمة جُزْتَ بها ما وقعتْ به فى وَضْع الواضع إلى ما لم توضع له، من غير أن تستأنف فيها وضعاً، لملاحظةٍ بين ما تُجُوّز بها إليه، وبين أصلها الذى وُضعتْ له فى وضع واضعها»([12]).
وينقسم المجاز المفرد إلى مرسل واستعارة:
«والمجاز ضربان: مُرْسَلٌ، واستعارة؛ لأن العلاقة المصحَّحة إن كانت تشبيه معناه بما هو موضوع له فهو استعاره، وإلا فهو مرسل، وكثيرا ما تطلق الاستعارة على استعمال اسم المشبه به فى المشبه، فيسمى المشبه به مستعارا منه، والمشبهمستعارا له، واللفظ مستعارا»([13]).
والمجاز المرسل له علاقات كثيرة نذكر منها:
1) السببية والمجاورة: مثل استعمال اليد فى النعمة فى قولهم: (كثرت أياديه لدىّ)، (له علىّ يد)، وقوله «أَسْرَعكنّ لُحوقا بى أَطْوَلُكُنَّ يَدًا»([14]).
2) الجزئية: ومنها تسمية الشىء باسم جزئه، مثل قوله ]قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا[ [المزمل: 2]
3) الكلية: مثل قوله ]يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِى آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ[ [البقرة: 16].
4) السببية: ومنها تسمية المسبب باسم السبب كقوله : ]فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ[ [البقرة: 194]
5) المسببية: ومنها تسمية السبب باسم المسبب كقولهم: (أمطرت السماء نباتا)
6) اعتبار ما كان: ومنها تسمية الشىء باسم ما كان عليه مثل قوله : ]وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ[ [النساء: 2]
7) اعتبار ما يكون: ومنها تسمية الشىء باسم ما يؤول إليه مثل قوله : ]إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا[ [يوسف: 36]
8) المحلية: ومنها تسمية الشىء الحالّ باسم محله مثل قوله : ]فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ[ [العلق: 17] ،أى أهل ناديه.
9) الحالية: ومنها تسمية المحل باسم حالّه مثل قوله : ]وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ[ [آل عمران: 107]
10) الآلية: ومنها تسمية الشىء باسم آلته، كقوله ]وَاجْعَلْ لِى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الْآخِرِينَ[ [الشعراء: 84]
وأما المركب فهو: «اللفظ المركب المستعمل فيما شُبِّه بمعناه الأصلى تشبيه التمثيل للمبالغة فى التشبيه، أى تشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور بالأخرى، ثم تدخل المشبهة فى جنس المشبه بها مبالغة فى التشبيه، فتذكر بلفظها من غير تغيير بوجه من الوجوه» ([15]). كما يقال للمتردد فى أمر: إنى أراك تقدم رجلاً وتأخر أخرى([16]).
وهو نوع من أنواع الاستعارة لأن التجوز فيه وقع فى المثبت دون الإثبات للمبالغة فى التشبيه، مثل قولهم (فلان طويل اليد) أى: عظيم القدرة([17]).
الاستعارة: وهى ادعاء معنى الحقيقة فى الشيء للمبالغة فى التشبيه، مع طرح ذكر المشبه من البين، كقولك: لقيت أسداً، وأنت تعنى به الرجل الشجاع، ثم إذا ذكر المشبه به مع ذكر القرينة يسمى: استعارة تصريحية وتحقيقية، والاستعارة فى الفعل لا تكون إلا تبعية، كنطقت الحال([18]).
الفصل الثاني
المجاز فى القرآن الكريم والحديث الشريف بين المجوزين والمنكرين
الحقيقة والمجاز فى القرآن الكريم :
«لا خلاف أن كتاب الله يشتمل على الحقائق، وهي: كل كلام بقى على موضوعه كالآيات التى لم يتجوز فيها والآيات الناطقة ظواهرها بوجود الله وتوحيده وتنزيهه والداعية إلى أسمائه وصفاته كقوله ]هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[[الحشر: 22] ] أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا [[النمل: 61] ]أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ[ [النمل: 62] ]أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ[ [النمل: 63] ]أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ[ [النمل: 64] ]قَالَ مَنْ يُحْيِى الْعِظَامَ وَهِى رَمِيمٌ[ [يس: 78] ]أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ[ [الواقعة: 58]] أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ[ [الواقعة: 63] ]أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ[ [الواقعة:68] ([19]).
أما المجاز فاختلف فى وقوعه فى القرآن
قد قال بالمجاز خلق كثير لا يجوز حصرهم، ولم يقل بنفيه وإنكاره إلا عدد قليل من العلماء، وسأعرض -بعون الله- أراء بعض العلماء المجوزين له -بدليل وروده فى كتبهم-، ثم أعرض أراء المنكرين له، والشبه التى جعلتهم ينكرونه، والرد على تلك الشبه.
المجوزون
قد قال بالمجاز كثير من الأئمة، وعددهم لا يحصى، ولكنى آثرت أن أذكر من أصحاب كل فن بعض البارزين فيه فقط:
أولا: اللغويون والنحاة:
سيبويه (ت 180هـ) ([20])
وضع سيبويه كتابه الذائع الصيت (الكتاب) فى القرن الثانى الهجرى، فجاء كتابه – على سبقه الزمنى- نسيج وحده فى موضوعه، حالا بكل ما يفيد من الدراسات اللغوية نحوا وتصريفا وعروضا وأصوات وقراءات، وبلاغة، لم يعرف قبله مثله، ولم يلحق به نظير واحتل مكانا رفيع الدرجات عند العلماء والدارسين. وكان المبرد يقول فيه لمن جاء يقرأه عليه: هل ركبت البحر، تعظيما واستصعابا لما فيه ([21]).
وصار كتاب سيبويه دستورا لمن جاء بعده، ومرجعا للمؤلفين من القدماء، وله عند الباحثين المحدثين أهمية لا تضارع. لم تقتصر الإفادة على النحويين والصرفيين واللغويين، والقراء، بل أفاد منها الأدباء والنقاد والبلاغيين. فمثلا الإمام عبد القاهر الجرجانى فقد وضع تعريفه لنظرية النظم على إدراك المعانى النحوية وحسن إيرادها بين الكلم، فقال: «واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذى يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التى نهجت، فلا تزيغ عنها»([22]).
لم يصرح سيبويه باسم المجاز، ولكنه يوجهها توجيها مجازيا، ولكن المتأخرين من علماء البلاغة من بعده وإلى اليوم نقلوا التراكيب التى لفت سيبويه الأنظار إليها، ورددوا توجيهه إياها، قال: «ومما جاء على اتساع الكلام والاختصار قوله ]وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا[ [يوسف: 82]، إنما يريد أهل القرية فاختصر، وعمل الفعل فى القرية كم كان عاملاً فى الأهل لو كان هاهنا. ومثله: « بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ»، وإنما المعنى: بل مكر كم فى الليل والنهار. وقال : « ولكن البر من آمن بالله »، وإنما هو: ولكن البر بر من آمن بالله واليوم الآخر.
ومثله فى الاتساع « قوله »: « ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً »، وإنما شبهوا بالمنعوق به. وإنما المعنى: مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذى لا يسمع. ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى» [23] .
الفراء ( ت 207هـ) ([24])
الفراء مِثْل سيبويه لم يضع كتابه للبحث البلاغى فى اللغة أو فى القرآن الكريم، وإنما وضعه لتوجيه النص القرآنى من حيث القراءات الواردة فيه، والوجوه الإعرابية الجائزة فى التنزيل، وبيان المعنى المختلف باختلاف باختلاف القراءة والإعراب. فمنهجه بعيد عن المنهج البلاغى المتخصص، لكن له تخريجات فى كتابه من صميم مسائل المجاز كما عرف عند المتأخرين، وهو أحيانا ينسب إلى ما يصرح به إلى أعلام السلف: صحابة وتابعين، وبخاصة ابن عباس ومجاهد وقتادة، رضى الله عنهم أجمعين([25]).
وهذا فيه من الأدلة القاطعة بأن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أدركوا مسألة التأويل المجازى.
أبو عبيدة (ت 209هـ) ([26])
أبو عبيدة صاحب كتاب (مجاز القرآن)، ولم يرد من كلمة (المجاز) التى جعلها عنوانا لكتابه المعنى الاصطلاحى للمجاز ومع هذا فإن فيه تخريجات مجازية عديدة([27]).
قال أبو عبيدة: «فى القرآن ما فى الكلام العربى من الغريب والمعانى، ومن المحتمل من مجاز ما اختصر، ومجاز ما حذف، ومجاز ما كف عن خبره، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الجمع، ووقع على الجميع، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الجميع، ووقع معناه على الاثنين، ومجاز ما جاء لفظه خبر الجميع على لفظ خبر الواحد، ومجاز ما جاء الجميع فى موضع الواحد إذا أشرك بينه وبين آخر مفرد، ومجاز ما خبر عن اثنين، أو عن أكثر من ذلك، فجعل الخبر للواحد، أو للجميع، وكف عن خبر الآخر، ومجاز ما خبر عن اثنين، أو أكثر من ذلك، فجعل الخبر للأول منهما، ومجاز ما خبر عن اثنين أو عن أكثر من ذلك، فجعل الخبر للآخر منهما، ومجاز ما جاء من لفظ خبر الحيوان والموات على لفظ خبر الناس؛ والحيوان كل ما أكل من غير الناس، وهى الدواب كلها، ومجاز ما جاء ت مخاطبته مخاطبة الغائب، ومعناه مخاطبة الشاهد، ومجاز ما جاء ت مخاطبته مخاطبة الشاهد، ثم تركت وحولت مخاطبة هذه إلى مخاطبة الغائب، ومجاز ما يزاد من حروف الزائد، ويقع مجاز الكلام على إلقائهن، ومجاز المضمر استغناء عن إظهاره، ومجاز المكرر للتوكيد، ومجاز المجمل استغناء عن كثرة التكرير، ومجاز المقدم والمؤخر، ومجاز ما يحول من خبره إلى خبر غيره بعد أن يكون من سببه، فيجعل خبره للذى من سببه، ويترك هو. وكل هذا جائز قد تكلموا به» ([28]).
أبو عبيدة وهو من اللغويين الأوائل أبدى فى كتابه كثيرا من الإشارات إلى ما هداه إليه فكره من التخريج الذى مهد للقول بالمجاز عند تقدم الدراسات اللغوية والبيانية بصفة عامة والدراسات القرآنية بصفة خاصة، ونجد أن أبا عبيدة قد ذكر ظواهر مجازية لم ترد عند الفراء مثل المشاكلة([29]).
أبو الفتح عثمان ابن جنى (ت 392هـ) ([30])
عقد ابن جنى فى كتابه (الخصائص) بابا سمّاه: باب فى الفرق بين الحقيقة والمجاز([31])، وذكر فيه تعريفا لكل منهما، وهذه خطوة جديدة فى البحث البلاغى لم تعرف عند سابقيه. فمثلا ابن قتيبة قد صرح باسم المجاز والاستعارة لكنه لم يعرّف المجاز تعريف ابن جنى.
قال ابن جنى فى تعريف الحقيقة بأنها: «ما أقر فى الاستعمال على أصل وضعه فى اللغة»، وقال فى تعريف المجاز«ما كان بضد ذلك»([32]).
وهذا الكلام يفيد عدة أمور:
الأول: تقسيم الكلام- بعد الاستعمال- إلى حقائق ومجازات.
الثانى: التصريح بالوضع الأول والدلالة المباشرة للكلام.
الثالث: أن الاستعمال الحقيقى أصل سابق على الاستعمال المجازى، والمجاز فرع عن الحقيقة.
وبيّن ابن جنى قيمة المجاز بقوله: «وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة، وهي: الاتساع، والتوكيد، والتشبيه. فإن عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة»، ثم ساق مثلا يوضح فيه هذه القيم الثلاثة وهو قوله فى الفرس: «هو بحر»، فالمعانى الثلاثة موجودة فيه. أما الاتساع فلأنه زاد فى أسماء الفرس التى هى فرس وطرف وجواد ونحوها البحر، حتى إنه إن احتيج إليه فى شعر أو سجع أو اتساع استعمل استعمال بقية تلك الأسماء ... وأما التشبيه فلأن جريه يجرى فى الكثرة مجرى مائه (أى ماء البحر المشبه به الفرس). أما التوكيد فأنه شبه العرض (أى المعنوى المنقول) بالجوهر (أى الحسى المادى)، وهو أثبت فى النفوس منه، أى أن المحسوس أقوى أثرا فى النفس من المعقول، لإدراكه بالحواس([33]).
نقد كلام ابن جنى
لم يذكر ابن جنى فى تعريفه للمجاز سوى النقل من الحقيقة الموضوعة لها الكلمة إلى المجاز. وهذا ركن من أركان المجاز، إلا أن النقل وحده غير كاف فى تحقيق التجوز فى الكلام إذ لا بد فيه من علاقة مصححة للتجوز، وقرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلى، وقد خلا منهما تعريفه للمجاز.
نراه قد خلط التشبيه البليغ بالاستعارة فى تمثيله بقوله للفرس بقوله: «هو بحر»، فهو تشبيه بليغ، لأن الاستعارة لا يجمع فيها بين طرفى التتشبيه المشبه والمشبه به. وقد جعل التشبيه لازما لكل مجاز. وهذا غير مسلّم، فالمجاز العقلى والمجاز المرسل لا تشبيه فيهما البتة([34]).
توسع ابن جنى فى أمر المجاز، وزعم أنه أكثر من الحقيقة، وأفرط فى هذا الموضوع إفراطا غير محمود. فتراه يقول: «اعلم أن أكثر اللغة –مع تأمله- مجاز لا حقيقة» ثم يأخذ للتثميل والتدليل على زعمه صورا من التراكيب الحقيقية ويعمل فيها فكره حتى يضفى عليها ثوبا فضفاضا ليدخلها فى حيز المجاز([35]).
وما ذكرناه من النقد لكلام ابن جنى لا يقلل من قيمته، فابن جنى أحد أعلام القرن الرابع من اللغويين الذين أقروا المجاز فى اللغة وفى القرآن وحددوا بعض ملامحه وسماته.
ثانيا: الأدباء والنقاد:
ابن المعتز(ت 296هـ ) ([36])
أبو العباس عبد الله بن المعتز هو أول من وضع كتابا منهجيا فى علوم البلاغة، وتحدث فيه عن سبع عشرة صورة من صورها، أو فنا من فنونها([37]).
والمجاز فى بديع ابن المعتز محصور فى لون واحد فى تصوره، وهو (الاستعارة) فقد صرح باسمها وكرر ذكرها مرات عديدة وأظهر اعتناء بها حيث قدمها على جميع الفنون السبعة عشر التى ذكرها فى بديعه. عقد بابا سماه (الباب الأول من البديع وهو الاستعارة)، أورد أمثلة مختلفة من القرآن الكريم مثل: ]وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ[ [الإسراء: 23]، المشهور أن فى الآية استعارة مكنية، ومن الأحاديث مثل قوله : «ضُمُّوا مَاشِيَتَكم تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ»([38])، فكلمة (فحمة) مستعارة للإظلام بجامع شدة السواد فى كل منها. ومن مأثور كلام العرب شعرا ونثرا حِكَما وأمثالا. فقال: ومن الاستعارة قول امرء القيس من الطويل:
وليل كموج البحر مرخ سدوله على بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لمـا تمـطى بصـلـبــــــه وأردف أعجازاً وناء بكلكل
هذا كله من الاستعارة لأن الليل لا صلب له ولا عجز وقال من الطويل([39])
وقد اشترط ابن المعتز على تجنب الاستشهاد بكلام المحدثين بالنسبة لعصره فاقتصر على القرآن والحديث وكلام الأقدمين من جاهليين وإسلاميين([40]).
على بن عبد العزيز الجرجانى (ت 366 هـ أو 392هـ) ([41])
ولد القاضى على بن عبد العزيز الجرجانى فى القرن الرابع الهجرى وهو قرن حافل بازدهار العلم والحضارة الإسلامية لمعت فى سمائه نجوم زاهرة فى شتى العلوم والفنون، وكان الجرجانى من أزهرها وأضوئها، وله كتاب من أهم كتب النقد وهو (الوساطة بين المتنبى وخصومه)، وهو كتاب نقدى بلاغى، نجده قد تحدث فيه عن مباحث المجاز وغيرها من الوجوه البلاغية. ومن أبرز المباحث عنده بحث الاستعارة فقد أفاض فى ذكرها وتحليلها وتحديدها، والفرق بينها وبين وبين ما يشبه بها من فنون بلاغية. والتفرقة بين حسنها ورديئها. والإشارة إلى مقومات الحسن والإجادة فيها. وتكلم عن الإفراط فى استخدامها([42]).
على أن القاضى الجرجانى له وقفات أخرى مع التوجيه المجازى للألفاظ والتراكيب. وهو باعتباره أديبا ناقدا، فقد جمع بين ذوق الأديب وذكاء الناقد واتخذ من أسلوب المجاز، والاستعارة بوجه خاص، وسيلة من وسائل النقد والدفاع عما رضيه من القول، وكتاباته تنم عن اشتهار أمر المجاز فى عصره. وأن المجاز كان معترفا به عند علماء الأمة سواء عند من ناصروا أبا الطيب على كثرة طرقه له، والغوص وراء معانيه، وعند الذين خاصموا أبا الطيب فهم لم ينكروا على أنصاره تذرعهم بالمجاز فى الدفاع عنه، وإنما قبحوا ما تناوله من بعض صور الاستعارة والتشبيه، وفى نفس الوقت التمسوا وجوه التصحيح من الأقوال التى احتج بها الذين دافعوا عن أبى الطيب، ومنهم القاضى نفسه([43]).
مصطفى صادق الرافعى (ت 1356هـ = 1937م) ([44])
«ولسنا نقول إن القرآن جاء بالاستعارة لأنها استعارة أو بالمجاز لأنه مجاز أو بالكناية لأنها كناية أو ما يطّردُ مع هذه الأسماء والمصطلحات، إنما أُريد به وضعٌ معجزٌ فى نسق ألفاظه وارتياب معانيه على وجوه السياستين من البيان والمنطق فجرى على أصولهما فى أرقى ما تبلغه الفطرة اللغوية على إطلاقها فى هذه العربية، فهو يستعير حيث يستعير ويتجوّز حيث يتجوز ويُطنب ويُوجز ويُؤكِّد ويعترض ويكرر إلى آخر ما أُحصى فى البلاغة ومذاهبها لأنه لو خرج عن ذلك لخرج من أن يكون معجزا فى جهة من جهاته ولاستبان فيه ثمة نقصٌ يمكن أن يكون فى موضعه ما هو أكملُ منه وأبلغُ فى القصد والاستيفاء» ([45]).
ثالثا: الإعجازيون والبلاغيون
الإمام عبد القاهر (ت 471هـ) ([46])
يحتل الإمام عبد القاهر الجرجانى فى البحث البلاغى مركزا لم يصل إليه أحد ممن قبله، ولم يزاحمه فيه أحد ممن بعده، سواء نظرت إليه من حيث عمق الدراسة، أو من حيث ما فجر من كنوزها، وفتق من أكمامها، وجلى من مسائلها، وأضاف من فنونها. فهو واحد فذ فى هذا المجال، وحسبه أنه واضع صرحى علمى المعانى والبيان، وما أشار إليه من فنون البديع، ناهجا بالدرس البلاغى منهجا فرديا جمع بين العلم والفن والذوق، فكانت مباحثه البلاغية شهدا كشهد النحل، تمتص رحيق كل الأزهار، ثم تسكبه جنى طيب المذاق فيه شفاء للناس.
وإذا كانت البلاغة قبل الإمام عبد القاهر، قد اختلطت - أحيانا – بمسائل النقد واللغة، أو اختلط بها النقد، فإن مباحث الإمام عبد القاهر قد مزجت بين هذه الفنون مزجا حكيما. ([47])
حديثه عن حدّ الحقيقة والمجاز:
عرف الحقيقة بأنها: «كل كلمة أريد بها ما وقعت له فى وضع واضع- وإن شئت قلت فى مواضعة- وقوعا لا يستند فيه إلى غيره فهو حقيقة»([48]).
أما المجاز اللغوى فقد قال فى حده: «وأما المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له فى وضع واضعها لملاحظة بين الثانى والأول فهو مجاز، وإن شئت قلت: كل كلمة جزت بها ما وقعت له فى وضع الواضع إلى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوز بها إليه وبين أصلها الذى وضعت له فى وضع واضعها فهى مجاز»([49]).
والإمام عبد القاهر أول من فرق بين المجاز العقلى وبين المجاز اللغوى، فصور المجاز العقلى لفتت أنظار الرواد الأوائل من عهد سيبويه فأدركوا سرها، وحملوها على الاتساع فى الكلام، ومنهم من أدخله فى صور المجاز اللغوى, ولم يقولوا فيه الكلمة الأخيرة. فهو فى مباحثهم كان ما يزال جنينا فى رحم أمه، والذى أولده وسماه وربّاه وأحسن تربيته هو الإمام عبد القاهر ([50]).
السكاكى (ت 626هـ) ([51])
فى مجال البحث البلاغى الدقيق يلى الإمام عبد القاهر الجرجانى الإمام أبو يعقوب يوسف السكاكى، وهو يشغل مساحة زمنية هائلة فى أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع، وإذا كان الإمام عبد القاهر أستاذ المدرسة، وإماما خط بقلمه أروع منهج جمع بين العلم والفن، والقاعدة والتذوق، وأسفرت كتاباته عن نظريتى (البيان والمعانى) فإن السكاكى بدوره أستاذ بحق لمدرسة، وإمام خط بقلمه أدق منهج تفصيلى لكليات البلاغة وجزئياتها، وأصولها وفروعها وإذا جاز لنا أن نضع تشبيها يبين دور الرجلين، وما بينهما من اتفاق وافتراق. فإن الإمام عبد القاهر مهندس عبقى بنى مدينة فأحسنها وأجملها. والإمام السكاكى هو الذى وضع أسماء ميادينها وشوارعها ورقم قصورها ومنازلها فاكتمل للمدينة جمال الإنشاء وحسن التنسيق. فكلا الرجلين جاد بما عنده. وبذل قصارى جهده فى خدمة هذا الفن. ([52])
عرّف الإمام الساكى المجأز بقوله: «... الكلمة المستعملة فى غير ما هى موضوعة له بالتحقيق استعمالا فى الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة من إرادة معناها فى ذلك الموضوع»([53]) وفى شرحه لهذا التعريف نراه يضع فيه قيدا لدفع ما كان قد رآه الإمام عبد القاهر فى الاستعارة من أن النقل فيها نقل معنى اللفظ لا نقل اللفظ نفسه([54]). والإمام السكاكى يرى أن المنقول فى الاستعارة هو اللفظ بمعناه وليس المعنى وحده. ترى هذا جليا فى قول السكاكى:
«وقولى بالتحقيق احتراز أن لا تخرج الاستعارة التى هى من باب المجاز نظرا إلى دعوى استعمال الكلمة التى وقعت بها الاستعارة فيما وضعت له»([55]).
ويفرق السكاكى بين الحقيقة والمجاز بعبارة استوحى معناها من كلام الإمام عبد القاهر مع إضافات خلصت له. وهذا قوله: «ومن حق الكلمة فى الحقيقة التى ليست بكناية أن تستغننى فى الدلالة على المراد منها بنفسها عن الغير لتعينها له بجهة الوضع» ويقول: «ومن حق المجاز أن لا تستغنى عن الغير الدلالة على ما يراد منها ليعينها له ذلك القيد»، وهو يقصد بـ (الغير) القرينة؛ لأنها هى (الغير) الذى يعين الكلمة المجازية للمعنى المجازى المراد منها.
وعرف المجاز العقلى بقوله: «هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأويل إفادة للخلاف لا بواسطة وضع»([56]). مثل: (أنبت الربيع البقل) ونرى أن الإمام السكاكى لم يكن مقتنعا كل الاقتناع بفكرة المجاز العقلى حين أقبل نحوه بدرسه ويفلسف له، ويجهد نفسه فى استجلاء مسائله وقضاياه. وإنما فعل ما فعل مجارة لمن سبقه ممكن كتب حوله كالإمام عبد القاهر، وجار الله الزمخشرى والفخر الرازى الذين تأثر بهم فى كثير مما كتب. لذا تراه حين فرغ من بحث المجاز العقلى سرعان ما انقض عليه وأنكره ووضع عليه شارة غيرشارته، وألبسه ثوبا غير ثوبه، ونحله تسمية غير تسميته، وهو يجعله صورة من صورة الاستعارة المكنية. ورد المتأخرون مذهب السكاكى هذا فى إنكار المجاز العقلى ودرجه فى صور الاستعارة بالكناية، وكان الخطيب أول من لحظ هذا وناقشه فى وضوع وأبان عن قصور السكاكى فى هذا المبحث. والتحقيق أن إنكار السكاكى المجاز العقلى لا تساعده عليه بعض التراكيب. وأيا كان الأمر فإن الإمام السكاكى من أشهر علماء الأمة القائلين بورود المجاز لغويا وعقليا على مذهب الأصحاب، ولغويا على مذهبه. ومن أشره علماء الأمة القائلين بوروده فى اللغة بوجه عام وفى القرآن بوجه خاص([57]).
الخطيب القزوينى (ت 739هـ) ([58])
للخطيب القزوينى منزلة خاصة فى البحث البلاغى بوجه عام، لم يحظ بها أحد ممن تقدمه، ولا ممن لحق به. فكان قطب الدائر بحق إذ كان البحث البلاغى قبله آخذا فى النمو والتدرج جيلا بعد جيل، فجاء هو وقد استلهم أبرز مباحث سابقيه، وأخذ على عاتقه مهمة صوغ المباحث البلاغية فى عبارات جامعة محررة وأضاف إليها ما جادت به قريحته مع دقة النظر، وصواب الفكر، وسلامة المذهب. ([59])
ونراه يخالف منهج الإمام السكاكى فى موضع بحث المجاز العقلى فبحثه فى علم المعانى؛ لأنه صورة من صور الإسناد وحال من أحواله، ودرج على هذا الشراح من بعده، أما السكاكى فبحثه فى علم البيان. ([60])
ونرى الخطيب فى تحليلاته لصوره المجاز العقلى غواصا وراء دقيق المعانى. ([61])
وقد قسَّم المجاز اللغوى بحسب العلاقة المصححة قسمين فقال «والمجا ضربان: مرسل واستعارة؛ لأن العلاقة المصححة إن كانت تشبيه معناه بما هو موضوع له فهو استعارة. وإلا فهو مرسل»([62]).
ومما تجب الإشارة إليه أن جل أمثلة البلاغيين على المجاز، بل أكثرها ماء ورونقا، وأصدقها شاهدا كانت من نصوص القرآن الكريم. فلم يروا فى ذلك حرجا. وهذا يدفع بقوة مذهب يدفع بقوة مذهب الإمام ابن تيمية ومشايعيه قديما وحديثا فى نفى المجاز فى اللغة بوجه عام. وفى القرآن بوجه خاص. ([63])
رابعا: المفسرون
ابن جرير الطبرى (ت 310هـ) ([64])
تفسير ابن جرير له أهمية خاصة من بين كل التفاسير المعروفة لنا الآن: فهو أول تفسير جامع للقرآن العظيم كله، وقد فاق فى ضخامته الحد المعهود للتفاسير المبكرة، وبعض التفاسير المبكرة، وبعض التفاسير التى وضعت بعد عصره بكثير. وقد اعتمد على أقوال الصحابة والتابعين ومما نقلوه عن صاحب الدعوة . وهو من أبرز التفاسير التى جمعت إلى تفسير الرواية تفسير الدراية. حيث لم يقف ابن جرير عند الآراء المأثورة التى يرويها، يرويها بل اتبعها بالتوجيه والترجيح ما وسعه النظر والفهم، فهو تفسير نقلى عقلى فى آن واحد.
نجد أن ابن جرير يتحفظ كثيرا جدا من صرف العبارة على غير ظاهرها، ويحاول أن يقف بالعبارة القرآنية عند دلالتها الظاهرة، وحين ينقل من آراء السلف ما فيه صرف العبارة عن الظاهر فإنه عند الترجيح يقلل من قيمة الصرف ويميل إلى ما عداه. ومع التحفظ الشديد فإن لمجوزى المجاز فى تفسيره شواهد قوية تفوق طاقة المحصى المتعجل لكثرتها([65]).
«فنجده مثلا عند تعرضه لقوله ]أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ[ فقد قال فيه: يعنى ذكره بقوله أولئك: هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب فى شأن محمد بالخسيس من الرشوة يعطونها فيحرفون لذلك آيات الله ويغيرون معانيها ما يأكلون فى بطونهم بأكل ما أكلوا .. إلا النار. يعنى: إلا ما يوردهم النار ...» ([66])
فهذا القول منه صالح للعمل على المجاز المرسل وعلاقته اعتبار ما سيكون([67]).
جار الله الزمخشرى (ت 538) ([68])
عَلَم من أعلام الإسلام، وبحر من بحور العلم، وكنز من كنوز المعرفة وشمس من شموس البيان، ومفسر راسخ القدم وهبه الله ذكاء قيد به شوارد المعانى، وفهما تذوق به مرامى التنزيل، وفقها استشف به غوامض الأسرار، وأعانه على خبيئات المعانى فى مفردات التنزيل وفى جمله وتراكيبه فجاء تفسيره (الكشاف) كما قال هو :
إن التفاسير فى الدنيا بلا عدد وليس فيها –لعمرى- مثل كشافى
إن كنت تبغى الهدى فالزم قراءته فالجهل كالداء، والكشاف كالشافى
وقال فى الكشاف: إن من تعاطى التفسير فلا بد له من البراعة فيهما- المعانى والبيان- لأنهما علمان مختصان بالقرآن لا يغنى عنهما سواهما. ونجد فى كتابه ذكره لكثير من فنون البلاغة عند تفسيره لبعض الآيات مثل المجاز العقلى، المجاز المرسل، الاستعارة، ترشيح المجاز وتجريده([69]).
خامسا: المحدثون
ابن قتيبة (ت 376 هـ) ([70])
لابن قتيبة كتاب سماه (تأويل مشكل القرآن) وكتاب آخر سمّاه (تأويل مختلف الحديث)، وقد بين المؤلف فى مقدمة مستفيضة أهمية الموضوع الذى تعرض له، وكيف أن كل فرقة تمسكت بنصوص بنت عليها عقيدة، وكيف لغا اللاغون فى بعض الأحاديث التى يوهم ظاهرها اختلافا فيما بينها، أو يوهم ما يضاد أصول الاعتقاد فى الله. وبعد هذه المقدمة عمد إلى ما لغوا فيه، وحاول محاولات جادة فى التوفيق بين الأخبار المتعارضة والموهمة، وسار فى خطوات ثابتة من أول الكتاب إلى آخره، ولجأ فى بعض معالجاته لهذه المشكلة إلى التأويل المجازى، وهذا هو بيت القصيد الذى يهمنا فى هذا الغرض. ([71])
«ومن كلام عبد الله بن مسلم بن قتيبة فى المجاز قال: لو كان المجاز كذباً لكان أكثر كلامنا باطلاً؛ لأنا نقول: نبت البقل، وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة، وأقام الجبل، ورخص السعر، ونقول: كان هذا الفعل منك فى وقت كذا، والفعل لم يكن وإنما يُكوَّن، وتقول: كان الله، وكان بمعنى حدث، والله قبل كل شىء، وقال فى قول الله عزوجل: ]فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ[ [الكهف: 77] لو قلنا لمنكر هذا كيف تقول فى جدار رأيته على شفا انهيار؟ لم يجد بداً من أن يقول: يهم أن ينقض، أو يكاد، أو يقارب، فإن فعل فقد جعله فاعلاً، ولا أحسبه يصل إلى هذا المعنى فى شىء من ألسنة العجم إلا بمثل هذه الألفاظ»([72]) .
الشريف الرضى (ت 406هـ)([73])
وقد وضع كتابا أسماه(المجازات النبوية) ويختلف منهجه فيه عن منهج ابن قتيبة وابن فورك لأنهما اهتما –غالبا- بالأحاديث التى لها صلة وثيقة بالاعتقاد والتوحيد، أما الشريف فقد دعاه إلى وضع كتاب إظهار ما فى الحديث من الصور البلاغية والبيانية سواء مست أصول الاعتقاد أو لم تمس، ومن أمثلة ذلك قوله «يا أنجشة: رفقا بالقوارير» ثم علق عليه قائلا: وهذه استعارة عجيبة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام شبه النساء فى ضعف الطبائع ووهن الغرائز بالقوارير الرقيقة التى يوهنها الخفيف، ويصدعها اللطيف، فنهى عن أن يسمعهن الحادى ما يحرك مواضع الصبوة، وينقض معاقد العفة.([74])
الإمام السيوطى (ت 911هـ) ([75])
قال السيوطى: «لا خلاف فى وقوع الحقائق فى القرآن، وهى كل لفظ نقى على موضوعه ولا تقديم فيه ولا تأخير، وهذا أكثر الكلام. وأما المجاز فالجمهور أيضاً على وقوعه فيه، وأنكره جماعة منهم الظاهرية وابن القاص من الشافعية وابن خويز منداد من المالكية، وشبهتهم أن المجاز أخوالكذب والقرآن منزه عنه، وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير، وذلك محال على الله ، وهذه شبهة باطلة، ولو سقط المجاز من القرآن سقط منه شطر الحسن، فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، ولو وجب خلو القرآن من المجاز وجب خلوه من الحذف والتوكيد وتثنيه القصص وغيرها»([76]).
سادسا: الأصوليون والفقهاء
«الأصوليون والفقهاء طائفتان من علماء الأمة تتعلق مباحثهم بلب الشريعة ومقاصدها وأصولها. أو هما إذا حكمنا الممهدون للعل بشريعة الله فى الدنيا والدين، والمهيئون لإنفاذ التكاليف فى العقائد والعبادات والمعاملات والسلوك الخاص والعام. ووضع القواعد والأسس الكلية لاستنباط الأحكام الجزئية من قواعدها التفصيلية. ولولا جهود الأصوليين والفقهاء لاستغلق على الناس كتاب ربهم وسنة نبيهم، ولما جاءت أعمالهم منضبطة على هدى الله ورسوله.
فالقرآن والحديث هما مبادئ التشريع. وعمل الأصولى هو النظر فيهما وتحرير مقاصدهما، فالأصول واسطة بين الفقيه وبين مصادر التشريع.
وقد رأينا الأصوليين والفقهاء يهتمون اهتماما كبيرا بمدلولات اللغة العربية: لغة التنزيل الإلهى والحديث الشريف. ويولونها أكبر عناية لأنها المادة التى صيغت فيها كليات التشريع ويسيرون مع العرب النازل بلغتهم أينما ساروا فى طرق بيانهم، وشعب دلالتهم، ومنها الحقيقة والمجاز، لتكون قواعدهم التى صاغوها، وأحكامهم التى استنبطوها جارية على أسس صحيحة وفهم مستقيم. ولو لم تكن نظرتهم بانقسام اللغة إلى حقيقة ومجاز لخلت مصنفاتهم وجهودهم من هذا التقسيم»([77]).
ابن حزم الظاهرى (ت 456 هـ) ([78])
لابن حزم كتاب يسمى (الأحكام فى أصول الأحكام) تحدث فيه عن المجاز والتشبيه فى فصل خاص، وأنه لم يتناول مسألة وقوع المجاز فى اللغة، بل تخطاها إلى وقوعه فى القرآن والسنة أو عدم وقوعه فيهما.
وقد أشار إلى الخلاف بين علماء الأمة فى هذا المجال، فقال إن قوما منهم منعوه، وآخرين أجازوه، واختار هو مذهب الإجازة فى إطار الحدود التى وضعها هو لوقوع المجاز فى القرآن والسنة الشريفة. المؤلف لا يرى حرجا فى ورورد المجاز فى آيات التنزيل الحكيم، وفى حديث إمام المرسلين، وهذا مشروط عنده بشرط وهذا واضح فى قوله: «فكل كلمة نقلها الله عن موضوعها فى اللغة إلى معنى آخر فإن كان الله تعبدنا بها قولا وعملا كالصلاة والزكاة والحج والصيام والربا وغير ذلك فليس شئ من هذا مجازا، بل هى تسمية صحيحة واسم حقيقى لازم مرتب من حيث وضعه الله .
وأما ما نقله الله عن موضوعه فى اللغة إلى معنى تعبدنا بالعمل به دون أن يسميه بذلك الاسم، فهذا هو المجاز، كقوله : ]وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ[ [الإسراء: 24]، فإنما تعبدنا بأن نذل للابوين ونرحمهما، ولم يلزمنا قط أن ننطق، ولا بد فيما بيننا بأن للذل جناحا، وهذا لا خلاف فيه، وليس كذلك الصلاة والزكاة والصيام، لانه لا خلاف فى أن فرضا علينا أن ندعو إلى هذه الاعمال بهذه الاسماء بأعيانها ولا بد».
هذا هو شرط ابن حزم فى وقوع المجاز فى القرآن الحكيم، والسنة المطهرة فالنقل إذا صحبه تعبّد بالعمل والاسم فهو حقيقة([79]) لا مجاز. والنقل إذا لم يصحبه تعبّد بالتسمية فهو مجاز لا حقيقة.
ومما تجب الإشارة إليه أنه مقر بالوضع اللغوى، وجعل من علامات المجاز الخروج عن هذا الوضع. وهذان الأمران مع اشتهارهما فى مباحث العلماء قبل عصر الإمام ابن تيمية فإنه قد نفاهما بدليل أن سلف الأمة قبله لم يقل به([80]).
وقد بالغ ابن حزم فى وصف من ينكر المجاز بالكفر، والذين أنكره فى القرآن بخاصة أرادوا الحفاظ على كلام الله من شطط التأويل. فهى نظرة فى حيطة محمودة، وقد خرج جمهور العلماء عن هذه النظرة ونهجوا منهج التأويل المجازى فى كتاب الله. فكلا الفريقين لهما مقاصد حسنة فيما ذهبوا إليه وإن ترجحت إحدى النظرتين (نظرة القول بجواز المجاز) فليس معنى هذا الحكم على من منع المجاز فى القرآن بالكفر([81]).
هذا هو موقف ابن حزم من المجاز، وهو من الرواد الأوائل فى علم الأصول وحديثه عن المجاز كان قبل نضوج هذا الفن. ومهما كانت نظرته ضيقة بالنسبة لمستقل البحث فى المجاز فى عصره فهى لمحة لها دلالتها القوية بالإضافة إلى مبدأ الوضع الأول([82]).
الإمام الغزالى (ت 505هـ)
تصدى الإمام أبو حامد الغزالى للبحث فى الحقيقة والمجاز، وكانت مجالات فكره. وكتاباته تملى عليه التصدى لمثل هذه المباحث. وبخاصة فى مجالى الكلام وعلم أصول الفقه، اللذين أسهم فيهما بنصيب وافر من العطاء الفكرى العميق المستنير. وهو فيها إمام ضالع، وعَلَم يهتدى به. تكلم الغزالى عن المجاز فى كتابه (المستصفى فى علم الأصول)([83]).
عرّف الإمام الغزالى فى كتابه (المستصفى) المجاز بقوله: «والمجاز ما استعملته العرب فى غير موضوعه»([84])، معنى هذا أن الإمام الغزالى مقر بالوضع اللغوى الأول المتفرغ عنه النقل إلى المعنى المجازى، والنقل هو عمدة المجاز وإن لم يتحقق به وحده([85]).
وينتقل الإمام الغزالى إلى ذكر العلامات التى يُعرف بها المجاز على طريقة علماء الأصول وهى عندهم محصورة فى أربع قال فيها:
«وقد يُعْرَفُ المجازُ بإحدى علامات أربع الأولى: أن الحقيقة جارية على العموم فى نظائره، إذ قولنا عالم لما عُنِى به ذو عِلْمٍ صَدَقَ على كل ذى علم وَقَوْلُهُ: ]وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ[ يصح فى بعض الجمادات لإرادة صاحب القرية، ولا يقال: سَلْ البساط والكوزَ،وإن كان قد يقال سل الطلل والربع لقربه من المجاز المستعمل»([86]).
وهذا الفرق صحيح لأن الحقيقة موضوعة وضعا كليا عاما. أما المجاز فموضوع وضعا خاصا حين توجد المناسبة بين طرفيه([87]).
«الثانية: أن يُعرف بامتناع الاشتقاق عليه، إذ الأمر إذا استعمل فى حقيقته اشتق منه اسم الآمر وإذا استعمل فى الشأن مجازا لم يشتق منه آمر، والشأن هو المراد بقوله : ]وما أمر فرعون برشيد[ وبقوله : ]إذَا جَاءَ أَمْرُنَا[([88]).
الثالثة: أن تختلف صيغة الجمع على الاسم فيُعْلَم أنه مجاز فيأحدهما، إذ الأمر الحقيقى يُجمع على أَوَامِرَ، وإذا أُريد به الشأن يُجْمَعُ على أُمُورٍ([89]).
ويقول فى الرابعة:
الرابعة: أن الحقيقى إذا كان له تعلُّق بالغير، فإذا اسْتُعْمل فيما لا تعَلُّق له به لم يكن له متعلق كالقدرة إذا أُريد بها الصفة كان لها مقدور، وإن أُرِيد بها المقدور كالنبات الحسن العجيب، إذ يقال: انظر إلى قدرة الله أى إلى عجائب مقدوراته، لم يكن له متعلق، إذ النبات لا مقدور له([90])».
المنكرون
إنكار المجاز بعامة مر بثلاث مراحل :
المرحلة الأولى: ما قبل الإمام ابن تيمية
إنكار المجاز قبل عصر الإمام ابن تيمية معزو إلى جماعة، وهم لا يكادون يتعدون عدد أصابع اليد الواحدة، وإن كان من بينهم إمام مذهب فقهى معروف. فالأصوليون يعزون هذا القول إلى داود الظاهرى إمام مذهب الظاهرية وابنه أبى بكر محمد الظاهرى.
ومن غير الظاهرية ينسب هذا القول إلى: أبى الحسن الجزرى، وأبى عبد الله بن حامد، وأبى الفضل التميمى من الحنابلة، ومحمد بن خويز بن منداد من المالكية([91])، ومنذر بن سعيد البلوطى (ت 355هـ)([92]). ويعزى كذلك إلى أبى على الفارسى.
ومن الشافعية إلى أبى العباس الطبرى المعروف بابن القاص، ومن المعتزلة أبى مسلم الأصبهانى.
ويعزى هذا القول كذلك للرافضة كما عزى إلى للظاهرية هؤلاء هم كل ما يعزى إليهم إنكار المجاز فى القرآن، وفى الحديث النبوى كذلك([93]).
وفى هذه المرحلة لم يكثر المانعون فى تعداد أسباب المنع، ولم يطنبوا فى شرحها والتمثيل لها. بل لهم فى ذلك عبارات موجزة كل الإيجاز([94]).
ومانعو المجاز قبل الإمام ابن تيمية لم يتركوا لنا مصنفات فصلوا فيها القول فى أسباب منع المجاز وإنما نقلت عنهم إشارات تفيد مجرد المنع إلا فى القليل النادر، فإننا نجد عبارات قصيرة أومأوا فيها إلى أسباب المنع محكية عنهم فى مصنفات غيرهم من علماء الأمة. وهذا بخلاف الإمام ابن تيمية ومن بعده فلدينا أقوالهم فى منع المجاز منصوص عليها فى مصنفات خاصة بهم[95].
والعمدة فى منع المجاز فى القرآن الكريم بخاصة يرجع أول ما يرجع إلى داود الظاهرى وابنه محمد وإن عزى هذا القول إلى غيرهما من العلماء [96] .
والمتقدمون من الأصوليين حين ينسبون إلى داود الظاهرى نفى المجاز فى القرآن يذكرون له شبهتين:
إحداهما أن المجاز عند من يقول به لا يدل على معناه إلا بمعونة القرينة، وهذا تطويل بلا فائدة ومع عدم القرينة يكون فيه إلباس.
وثانيتهما: لو سلمنا أن فى القرآن مجازا- والقرآن كلام الله- لقيل لله (متجوز) وهذا الوصف لا يطلق على الله باتفاق علماء الأمة.
المرحلة الثانية: مرحلة الإمام ابن تيمية
«حين يُذكر الإمام ابن تيمية بين منكرى المجاز مطلقا وفى القرآن الكريم فإنه يمثل فى هذا المقام قطب الدائرة. لأن من أنكر المجاز قبله لم يتحمسوا للإنكار حماسته، ولم يثوروا ثورته ولم ينزحوا نزحه، ولم يقلبوا وجوه القول تقليبه. ولم يكن بين أيديهم من أسباب