مشكلة تدريس تاريخ الفلسفة
"إن نسق كل معرفة فلسفية هو الفلسفة. ويجب أن نأخذها موضوعيا إذا كنا نفهم بها صورة الأصل لمحاكمة كل محاولات التفلسف، محاكمة يجب أن تصلح لإصدار على أي فلسفة ذاتية يكون بنيانها كثير التنوع والتغير".
كنط، نقد العقل المحض
"تستمد الفلسفة أصولها من تاريخ الفلسفة. والعكس بالعكس. الفلسفة وتاريخ الفلسفة كل منهما مرآة للآخر. ودراسة هذا التاريخ هي دراسة الفلسفة ذاتها، وللمنطق على الخصوص". هيغل، دروس في فلسفة التاريخ
تقديم – استعارة:
يبدو تلميذ الباكلوريا، في نهاية المطاف، وبعد سنتين من دراسة الفلسفة، كمن دخل الغابة وخرج منها، دون أن يعرف ماهية الغابة وحقيقتها؛ فهو يجهل أسماء الأشجار التي رآها ولا يعلم أسرار الدروب التي مر منها، وحتى تلك الإضاءات الخاطفة التي تنبلج حوله من حين لآخر، بين صفوف الأشجار، لا تثير انتباهه واهتمامه.
لقد رأى ذلكم المتعلم العابر، أشجارا كثيرة ولمس جذوع بعضها، وربما جذب فرعا صغيرا أو ورقة قريبة من رأسه، لكنه لا يفهم لماذا رتبت الأشجار بتلك الطريقة، ولماذا زرعت بالضبط في تلك الأماكن، وربما تساءل، ذات يوم، بينه وبين نفسه عن الفائدة من تلك الأشجار، وعن حياتها، وهل هي خالدة أم فانية، وربما فكر حتى في مشروع مستقبلي، عندما يكبر، لإحراقها واستعمال أوصالها للتدفئة أثناء شتاء قارس.
من المعلوم أن الشجرة التي كان ديكارت يتحدث عنها بوصفها "شجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزيقا والفروع التي تخرج من هذا الجذع هي العلوم الأخرى التي تنتهي إلى ثلاثة علوم رئيسية هي الطب والميكانيكا والأخلاق..".
[1] هذه الشجرة المشهورة أصبحت اليوم غابة [2].
وبما أن المرء لا يجني الثمرات من جذور الأشجار ولا من جذوعها، بل من أطراف فروعها، فإن هيغل سيكتب في مقدمة "علم ظهور العقل" [3] مستعيرا نفس الصورة، وفي عرض جدلي للحقيقة، في ظهورها المتكثر، كاشفا عن المشكل الجوهري في تاريخ الفلسفة وتدريس الفلسفة "هنا" و"الآن"، وهو مشكل استيعاب المجموع الحي في حركته: "إن البراعم تختفي إذا تفتح الزهر وإنه ليحق لنا القول بأن الزهرة تدحض البرعوم. كذلك الثمرة إذا ظهرت كأنها صورة زائفة من صور وجود النبات تحل هي محلها كأنها حقيقته. فكل شكل من هذه الأشكال لا يتميز فقط من الأخرى بل يصدها صدا لأنها على تنافر فيها بينها. ومع هذا فطبيعتها السائلة تجعل منها أيضا لحظات من وحدة عضوية يزول فيها التنافر، ولا يزول وحسب بل إن كلا منها لتصبح لها ضرورة كضرورة الأخرى، وهذه الضرورة المتساوية هي حياة المجموع" [4].
إن طبيعة الحيوية لتاريخ الفلسفة كتاريخ يسوده التناقض، لكن مع وحدة عضوية بين جميع لحظاته، وبمقتضى الضرورة التي تحكم الظهور والاختفاء، وتنظم الارتباطات، هذه الطبيعة التي يسميها هيغل "حياة المجموع"، هي التي تفرض طرح السؤال بصدد تدريس "تاريخ الفلسفة"، وهي مسألة حياة أو موت درس الفلسفة، على الأقل وبصفة خاصة في الثانوين حيث يلتقي التلميذ لأول مرة بهذه المادة التي كانت إلى وقت قريب تعتبر مادة تتويج.
ما يزال السؤال المحرج في درس الفلسفة هو "ما هي الفلسفة؟". ونحن نعرف حكاية جول لاشوليي، المدرس الشاب الذي تم تعيينه في أكتوبر من عام 1860 أستاذا للفلسفة بإحدى ثانويات تولوز، فقد بدأ لاشوليي درسه بطرح السؤال "ما هي الفلسفة؟" وأجاب توا، أمام اندهاش تلامذته "أنا لا أعرف". فكان هذا الجواب مدعاة لسخرية ساكنة تولوز من هذا الفيلسوف اليافع، القادم من باريس، ليدرس الفلسفة لأبنائهم، وهو لا يعرف حتى ما هي المادة التي تكلف بتدريسها.
والحال أن ملاحظة لاشوليي غنية بالدلالات، فهي تشير إلى أزمة الوعي الفلسفي الذي ما فتئ، طيلة قرن بكامله، يتضخم إلى يومنا هذا. وقد انعكست هذه الأزمة مبكرا على مستوى التعليم الفلسفي ووضعية درس الفلسفة، من حيث أهدافه وبرامجه، وبصفة خاصة مضامينه. إن المشكل البيداغوجي في درس الفلسفة يتمثل في خيبة الأمل التي تصيب تلميذ الباكلوريا الذي يحس بالحرج لعدم امتلاكه معرفة صارمة يتباهى بها ويعتمد عليها بكل ثقة واطمئنان في حالة المساءلة، وخاصة عند الامتحان.
قديما كتب أرسطو، في الميتافيزيقا، أن "الفيلسوف هو من يملك، بقدر الإمكان، المعرفة في كليتها" [5] وكرر هيغل في العصر الحديث القول "إن الحق هو الكل" [6]. لكن المعرفة اليوم صارت إما معرفة علم une connaissance أو معرفة عرفان (أو وجدان) un savoir، حتى أن نيتشه تساءل: "هل الفلسفة فن أم علم؟"، وأجاب: "إنها في غاياتها وفي منتوجاتها فن، أما من حيث وسيلة التعبير فهي تشترك مع العلم" [7]. فهل ما تزال للفلسفة اليوم معرفة خاصة بها؟ وهل هي معرفة علم أم معرفة وجدان؟ وبعبارة أخرى، هل الفلسفة معرفة؟ وهل هناك حقائق فلسفية؟ وبالتالي هل يمكن البرهنة فلسفيا؟
يحيل سؤال المعرفة، في درس الفلسفة، إلى السؤال الجوهري عن تاريخ الفلسفة: هل يمكن الحديث في الفلسفة عن الشكل والمضمون كزوج قابل للانفصال؟ وهل للمنهج الفلسفي كيان مستقل عن تجربة الفيلسوف وحياته الفكرية ومذهبه العام؟ باختصار هل توجد معرفة فلسفة خارج تاريخ الفلسفة؟ وهل يمكن التفكير بمعزل عن الأفكار والتصورات؟
ينطوي مشكل تدريس تاريخ الفلسفة، في الثانوي، على مشكلتين أساسيتين الأولى فلسفية تتصل بالخوف من التاريخ والتصورات المغلوطة عن تاريخ الفلسفة واستعمالاته المغرضة، أما المشكل الثاني فهو بيداغوجي ويتصل باختيارات التدريس ووضوح أو غموض تلك الاختيارات، سواء في وضع البرامج أو في منهجية التدريس أو صيغ التقويم.
معرفة تاريخ الفلسفة:
تواجهنا في البداية قضية معقدة: ما قيمة تاريخ الفلسفة؟ وما معنى التقليد الفلسفي؟ ولأي شيء يصلح تاريخ الفلسفة؟ وما الفائدة من الحوار مع الفلاسفة الذين عاشوا خلال خمسة وعشرين قرنا من الزمان؟ [8].
يمكن القول إن تاريخ الفلسفة موجه بالدرجة الأولى إلى الطلبة الذي يريدون أن يتهيئوا للبحث أو التعليم، ويجب إذن أن يمدهم بما يسمح بفهم النظريات لا أن يكتفي باختصارها، وأن يسهل عليهم قراءة مؤلفات الفلاسفة بتحليله لموضوعاتها وبيان غاياتها وسياقها [9].
بهذا المعنى يعتبر تاريخ الفلسفة قاعدة لازمة للبحث الفلسفي، ويطرح بطبيعته مشكلا نوعيا يتعلق بالأنساق التي تتعايش فيما بينها وتحافظ على راهنيتها رغم مرور الزمن، والتناقضات التي تصنع تلك الأنساق في مواجهة بعضها البعض. وقد لاحظ مارسيال غيرو الفرق بين تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم، فالأنساق الفلسفية في نظره لا تحقق انتصارات نهائية على الأنساق المناوئة لها، ولا يتم تفنيد نسق منها بصفة تامة، بل إنها تتعايش على المستوى الأفقي للتاريخ. أما في تاريخ العلوم، فإن النظرية أو القانون الجديدين يلغيان النظرية أو القانون القديمين بلا رجعة. إن علما من العلوم الدقيقة يمكنه التخلي عن تاريخه الملموس. فالعلم يتشكل من جديد وبشكل كامل عندما يجتاز أزمة، ويعيد تنظيم ماضيه، كاشفا عما كان خصبا فيه وما كان مجرد عائق. فتاريخ العلوم لا ينظر إلى الماضي مثلما يفعل تاريخ الفلسفة. ففي الفلسفة، ينبغي دائما إعادة قراءة أفلاطون وديكارت وكنط، كما كان يفعل آلن Alain في تعليمه. ومع ذلك فالنسق الفلسفي ليس اعترافا شخصيا ولا حدسا يمتنع عن القول، ولا هو بالعمل الفني الذي يميل إلى الإيحاء بدل البرهنة [10].
وفي نفس الاتجاه ينحو ألكسندر كواريه في مقال له بعنوان "في مفهوم تاريخ الفلسفة"، حيث يؤكد أنه إذا "كان تاريخ العلوم ليس بالقطع تاريخا ميتا يشكل في جملته أشياء ميتة، فإن علم الفلك الكوبرنيكي أو النيوتني لم يعد يهم أحدا وليس له أية قيمة راهنة. وهو في ذلك يختلف اختلافا عميقا عن تاريخ الفلسفة. إذ أننا نعتبر، عن خطأ أو عن صواب، أن أفكار أرسطو أو أفلاطون لها قيمة راهنة" [11].
يشكل تاريخ الفلسفة إذن عنصرا أساسيا في التكوين الفلسفي للطالب والمتعلم، سواء من حيث تحصيل المعرفة الفلسفة أو التهيؤ لفعل التفلسف. إن تعلم الفلسفة عبر الإطلاع على مراحل تطورها وتعاقب مذاهبها يمكن أن يشكل أساسا لثقافة فلسفية تمكن صاحبها من تمثل النتاج الفلسفي ومن معرفة هذا النتاج في نسبيته وتاريخيته، كما قد تمكنه من القدرة على تبليغه إلى الغير.
وتبدو الحاجة ملحة إلى تاريخ الفلسفة، لأنه المصدر الأول لتكوين الثقافة الفلسفية وإثبات نسبية تلك المعرفة وتاريخيتها، وبالتالي فإنه "لا غنى لكل تكوين فلسفي عن تاريخ الفلسفة، فهذا التاريخ وحده يقود الفكر نحو إدراك الأفكار الفلسفية في تعاقبها" [12].
إن تاريخ الفلسفة كما يلخص ياسبرز مفهومه، في "المدخل إلى الفلسفة"، هو تاريخ لحظة الوعي بالذات والحوار والمناقشة وصراع الحقيقة والخطأ: "إن تاريخ الفلسفة في مجموعه، الممتد على ألفيتين ونصف، مثل اللحظة الفريدة والعظيمة، حيث حصل الإنسان على الوعي بذاته. وهذه اللحظة هي كذلك عبارة عن نقاش لا ينقطع، تتظاهر عبره القوى المتصارعة، والمشاكل التي تبدو غير قابلة للحل، وأسمى الإبداعات والضلالات، الحقيقة العميقة وزوبعة الأخطاء" [13].
يشبه ياسبرز تاريخ الفلسفة بالسلطة التي يتمتع بها التراث الديني، مع التأكيد أنه لا يوجد في الفلسفة كتب مقدسة أو قوانين عليا، كما هو الحال في الأديان، مثلما لا توجد سلطة لاتباعها وحسب، ولا توجد حقيقة نهائية. لكن مجموع التراث الفلسفي قد ترك لنا، كما يقول يابرز، بقايا ثمينة من الحقائق لا تنفذ، وأظهر لنا الطرق التي ستمكننا من التفلسف في الحاضر. غير أن الجدية وحدها، في البحث الفلسفي الراهن، تسمح بالاتصال مع الفلسفة الخالدة من خلال ملامحها التاريخية.
يتضمن البحث التاريخي درجات معينة من القرب والابتعاد. والفيلسوف اليقظ هو من يعرف دائما مع من يتعامل، عندما يقوم بدراسة النصوص. فالمعطيات الخارجية ينبغي أن تكون معروفة بوضوح ودقة وتبصر. غير أن ما يمنح الإدراك التاريخي معناه وكماله إنما هو لحظات الاتصال والاتحاد مع الأصل، "إذ يشع عندئذ النور الذي يعطي القيمة والوحدة لكل تلك الأبحاث السطحية. وبدون مكان اللقاء هذا، الذي هو أصل الفلسفة، فإن تاريخها بأكمله يرتد في النهاية إلى مجرد تقرير تتسلسل فيه الأخطاء والغرائب" [14].
إن التاريخ كما يفهمه يابرز، هو التاريخ-المرآة، حيث يرى كل واحد فيه انعكاسا لما نحن عليه بالذات. وبذلك يكون تاريخ الفلسفة بدوره بمثابة الفضاء الذي ينفس داخله الفكر، ويمنح للبحث النماذج المثلى للدراسة.
لكننا عندما ندرس تاريخ الفلسفة، فإننا نفعل ذلك لكي نتمكن من وضع المفاهيم المتنوعة في مكانها التاريخي. ولهذا ينبغي أن تكون هذه الدراسة شمولية إذا أرادت أن تكشف عن الكيفية التي ظهرت بها الفلسفة في التاريخ، داخل شروط اجتماعية وسياسية وفي وضعيات شخصية تتسم بالتنوع.
هكذا نجد أن تاريخ الفلسفة سيوفر للمتعلم-الباحث إمكانية طرح مجموعة من المشكلات الفلسفية الأساسية [15]. أولها مشكلة وحدة تاريخ الفلسفة، هل توجد وحدة في تاريخ الفلسفة؟ فهذه الوحدة ليست معطى في الواقع، بل هي مجرد فكرة. ثانيا، مشكلة الأصل ودلالته، فنقطة الانطلاق هي اللحظة التي بدأ فيها التفكير، والأصل هو الحقيقة التي تؤسس وتدعم في كل لحظة عملية البحث. ثالثا مشكلة التطور والتقدم في الفلسفة، إذ يمكن، في تاريخ الفلسفة ملاحظة بعض التسلسل أحيانا، كما هو الحال مثلا بين سقراط وأفلاطون وأرسطو، وبين كنط وهيغل أولوك وهيوم، لكن مثل تلك السلاسل تصبح خادعة عندما ندرك أن آخر مفكر قد احتفظ وتجاوز الحقيقة التي عثر عليها سلفه. رابعا، مشكلة التراتب، فأثناء التفلسف يتم الوعي بنوع من التراتبية السائدة عند المفكر المنعزل وبين التصورات العامة التي تميز حقبة من الحقب. وتاريخ الفلسفة، بهذا المعنى، ليس حقلا مستويا رصفت فيه، وفق حقوق متساوية، مؤلفات ومفكرون لا حصر لهم [16].
والحالة هذه، فإن مشكلة تاريخ الفلسفة، الأكثر إحراجا، سواء من الوجهة الفلسفية أو البيداغوجية، تبقى، فيما نعتقد، هي مشكلة المعرفة الفلسفة، هل توجد اليوم معرفة فلسفية خارج تاريخ الفلسفة وبدون تدريسه؟ هل يمكن التفلسف بمعزل عن الأفكار والتصورات؟ وهل نتعلم التفلسف حقا بدون الفلسفة كتاريخ تتخلله المذاهب المختلفة، وكثير من الفلاسفة، في حركة متوترة، من الماضي إلى الحاضر؟
مشكلة المعرفة الفلسفية:
لم يكن للسؤال عن المعرفة الفلسفية من معنى فلسفي، بل لم يكن لهذا السؤال من الناحية المنطقية أي اعتبار ضمن الأسئلة الأساسية للتفكير الفلسفي الكلاسيكي. ففي كتاب "مبادئ الفلسفة" لديكارت، نجد أن المعرفة واحدة والفلسفة هي كل معرفة عقلية بغض النظر عن موضوعها. لكن ابتداء من القرن الثامن عشر سيتسرت شيء من الشك "الفعلي" إلى "وحدة الفلسفة"، ومن ثمة إلى وحدة المعارف التي تضمها داخل النسق الكبير. هذا الشك سيترسخ بعد النقد الذي وجهه كنط للميتافيزيقا –بوصفها وحدة المعارف- بحيث يتشكل السؤال عن المعرفة الفلسفية، لا كسؤال عن طبيعة المعرفة وأصلها والطرق الموصلة إليها، ولكن كسؤال عما يمكن للمرء معرفته فلسفيا. والتعبير الفلسفي عن هذا السؤال لا نجده في فلسفة ديكارت، الذي جعل من الشك منهجا للمعرفة، وإنما في فلسفة كنط النقدية، حيث طرح السؤال بصيغة ترنسندنتالية: "ماذا يمكنني أن أعرف؟" فلسفيا [17].
قبل نهاية القرن التاسع عشر، سيطرح من جديد السؤال عن المعرفة الفلسفية مع نيتشه، لكن بكيفية أكثر جذرية مما حدث مع كنط. فرغم أن هذا الأخير أثار مسألة الذات داخل الفلسفة، إلا أن السؤال الذي طرحه بصدد المعرفة بقي مرتبطا بمفهوم الفلسفة كنسق محكوم بإشكالية الانفصال التدريجي للعلوم واستقلالها عن الفلسفة. أما السؤال الذي طرحه نيتشه فقد جاء نتيجة لشرخ جديد حدث لا في "النسق الفلسفي" فحسب، بل في "الذات العارفة" كذلك. فقد تبين أن "الأنا الفكر"، الأنا الذي يتحكم في موضوعه ويدركه بكل وعي وبحرية تامة، والحاضر باستمرار هو مجرد وهم. يقول نيتشه: "ليست الذات في الواقع سوى خيال، إن الأنا الذي نتحدث عنه لا وجود له مطلقا" [18].
جذرية السؤال الذي طرحه نيتشه تتمثل في تركيزه لا على المضمون المباشر للمعرفة الفلسفية، بل على شكل وأسلوب هذه المعرفة، من خلال مقارنتها بالفن من جهة وبالعلم من جهة ثانية. غير أن هناك صيغة ثالثة للسؤال عن المعرفة الفلسفية: ما هي العلاقة بين فلسفة ما والفلسفات السابقة عليها أو المعاصرة لها؟ وهذا السؤال سيطرحه برغسون في النصف الأول من القرن العشرين، مدفوعا بالتحول الحاصل في منهجية البحث بصفة عامة، والمنهج المطلوب تطبيقه في الفلسفة بصفة خاصة.
لاحظ برغسون أن نشأة فلسفة من الفلسفات هي أشبه بجسم حي منها بآلة مركبة، وبالتالي فالحديث عن التطور هو أنسب من التأليف. ومع ذلك فهو يؤكد أنه من الخطأ اعتبار مذهب فلسفي –خاصة إذا كان مذهب معلم كبير- مجرد تركيب لفلسفات سابقة أو أنه فقط "لحظة تطور". يقول برغسون: "إن هذا التصور فضلا عن كونه تصورا يضفي على تاريخ الفكر اتصالا أكبر من الاتصال الذي يتصف به تاريخ الفكر حقا، يعيبه أنه يبقي انتباهنا مشدودا إلى التعقيد الخارجي الذي نلاحظه في النسق وإلى ما قد يكون فيه من أمور يمكن التبؤ بها في صورته السطحية، بدلا من أن يجعلنا نلمس مباشرة ما في أعماقه من جدة وبساطة" [19].
مما لا شك فيه أن الفيلسوف يشتغل على مضامين متنوعة، من أفكار ومفاهيم وأسئلة فلسفية، إلا أنه لا يتناول هذه المعارف ليصهرها في مركب أعلى أو ليمزجها بفكرة جديدة، لأن من يزعم مثل هذا الزعم يشبه إلى حد كبير من يظن أننا من أجل أن نتكلم نمضي باحثين عن كلمات نضم بعضها إلى بعض بواسطة فكرة.
ويمكن القول مع برغسون، إن الفيلسوف يصل بين الأفكار أو المعارف الموجودة في عصره داخل حركة جديدة، هي حركة فكره الخاص، حيث تأخذ معنى جديدا مثلما تأخذ الكلمات معناها من الجملة أو السياق. وهذا المضمون الفلسفي الذي تبلوره حركة الفكر هو حدس وحدس واحد. حدس تولد عن إعصار فلسفي بما يعنيه الإعصار من حركة قوية تراكم في شكل جديد كل ما يعترض طريقها. يقول برغسون: "إن فيلسوفا جديرا بهذا الاسم لم يقل في حياته إلا شيئا واحدا، بل إنه حاول أن يقول هذا الشيء أكثر مما قاله حقا. وهو لم يقل إلا شيئا واحدا، لأنه لم يعرف إلا نقطة واحدة. حتى لقد كانت هذه المعرفة لمسة أكثر مما كانت رؤية. وقد ولدت هذه اللمسة اندفاعه، وولدت هذه الاندفاعة حركة. وإذا كانت هذه الحركة التي هي أشبه، بإعصار ذي شكل خاص، لا تصبح مرئية لأعيننا إلا بما جمعته في طريقها، فهذا لا ينفي أن غبارا آخر كان يمكن أن يعلو، ويبقى الإعصار هو ذاته" [20].
إن مشكلة المعرفة الفلسفية هي مشكلة العلاقة بين الذاتي والموضوعي. وقد انتبه نيكولاي برديائف إلى هذا الازدواج، ولاحظ أننا نخطئ عندما نعتقد أن العاطفة لا يمكن إلا أن تكون ذاتية فحسب، بينما الفكر هو وحده الذي يتسم بالموضوعية، وأن الذات العارفة لا تستطيع أن تدرك الوجود إلا عن طريق العقل بينما تقتصر العاطفة على العالم الذاتي وحده. الواقع أن العكس من ذلك هو الصحيح، كما يؤكد برديائف، فالعاطفة الإنسانية ليست ذاتية إلا في جزء ضئيل، وهي في شطرها الأعظم قد أحالها المجتمع إلى شيء موضوعي، وعلى العكس من ذلك يمكن أن يكون العقل ذاتيا إلى حد كبير، بل هو في أغلب الأحيان أكثر فردية من العاطفة وأقل خضوعا للإحالة الموضوعية التي يقوم بها المجتمع، وإن يكن هذا القول صادقا صدقا جزئيا. يقول برديائف: "إن المعنى نفسه الذي يحمل على كلمتي "ذاتي" و"موضوعي" في حاجة إلى مراجعة بالغة الدقة، فإن مسألة تحديد هل إدراك الحقيقة ذاتي أو موضوعي على جانب كبير من الخطورة" [21].
ولتقديم حل ملائم لهذا المشكل ميز فرديناند ألكيي بين معرفة العلم connaissance، ومعرفة الوجدان savoir، استنادا إلى التمييز الذي وضعه كنط بين الإدراك connaître والتفكير penser واعتبر أن "هناك مجالات تتجاوز فيها المعرفة الوجدانية من حيث اليقين الحاصل عنها المعرفة العلمية ذاتها والتي تبقى كمعرفة لواقع ليس حقيقيا" [22].