ثمار الأوراق



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ثمار الأوراق

ثمار الأوراق

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ثمار الأوراق

منتدى تعليمي يهتم باللغة العربية علومها وآدابها.


    الاستعارة

    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    الاستعارة Empty الاستعارة

    مُساهمة من طرف أحمد الأربعاء أبريل 10, 2013 12:03 pm

    الاستعارة
    أولاً : تعريف الاستعارة

    الاسْتِعارَةُ مِنَ المجاز اللّغَويَّ، وهيَ تَشْبيهٌ حُذِفَ أحَدُ طَرفَيْهِ، فَعلاقتها المشابهةُ دائماً.

    ثانيا: أقسام الاستعارة من حيث التصريح بالمشبه به

    تنقسم الاستعارة إلى قسمينِ:

    (أ) تَصْريحيّةٌ، وهي ما صُرَّحَ فيها بلَفظِ المشبَّه بهِ.

    نحو قوله تعالى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم :1).

    إذا تأملت هذه الآية لوجدت أنها تضمنت تشبيهين هما :

    الأول : تشبيه الضلال بالظلمات.
    الثاني : تشبيه الهدى بالنور.

    وقد حذف أحد طرفي التشبيه , وهذا ما يسمى بـ(الاستعارة ) .

    ونلاحظ هنا أنه قد حذف المشبه وهو( الضلال) و ( الهدى) , وصرح بالمشبه به وهو ( الظلمات ) و ( النور) , وهذا ما يسمى بـ(الاستعارة التصريحية).


    (ب) مَكنِيَّةٌ، وهي ما حُذِفَ فيها المشَبَّهُ بهِ ورُمِزَ لهُ بشيء مِنْ لوازمه.

    نحو قول الحجَّاجُ في إحْدى خُطَبه:

    إني لأرَى رُؤُوساً قد أينَعَتْ وحانَ قِطافُها وإِنّي لَصَاحِبُهَا .


    الذي يُفهَم من قول الحجاج أَنه يشبِّه الرؤوس بالثمرات، فأَصلُ الكلام :

    (إِني لأرى رؤوساً كالثمراتِ قد أينعت)، ثم حذف المشبّه به فصار( إني لأرى رؤوساً قد أينعتْ)، على تخيُّل أنَّ الرؤوس قد تمثلت في صورة ثمارٍ، ورُمزَ للمشبَّه به المحذوف بشيء من لوازمه وهو( أينعتْ)، ولما كان المشبَّه به في هذه الاستعارةُ محْتجَباً سميتِ ( استعارة ًمكنيةً).

    فمن خلال الأمثلة السابقة نفهم أن الاستعارة عبارة عن تشبيه حذف أحد طرفيه :

    فإن كان المحذوف هو المشبه , وصرح بالمشبه به كانت الاستعارة تصريحية.

    وإن كان المحذوف هو المشبه به , وذكر شيء من لوازمه كانت الاستعارة مكنية.

    ===============


    ثالثا : أقسام الاستعارة من حيث ألفاظها

    تنقسم الاستعارة من حيث ألفاظها إلى أصلية و تبعية:

    (أ ) تَكُونُ الاستعارةُ أَصْلِيّةً إِذا كان اللفظُ الذي جَرَتْ فيه اسماً جامدًا.

    نحو قول المتنبي يَصِف قَلماً:

    يَمُجُّ ظَلاماً في نَهارٍ لِسانُهُ وَيُفْهِمُ عمّنْ قالَ ما ليسَ يُسمَعُ


    ففي هذا البيت شُبِّهَ القلمُ (وهو مَرْجعُ الضمير في لسانه) بإنسانٍ ثم حذفَ المشبَّه به ورُمزَ إِليه بشيءٍ من لوازمه وهو اللسانُ، فالاستعارة مكنيةٌ.

    وشُبِّهَ المدادُ بالظلام بجامعِ السواد واستعيرَ اللفظ الدالُّ على المشبَّه به للمشبَّه على سبيل الاستعارة التصريحية، وشبِّهَ الورقُ بالنهار بجامعِ البياض ثم استعيرَ اللفظُ الدالُّ على المشبَّه به للمشبَّه على سبيل الاستعارة التصريحية.

    وإذا تأملتَ ألفاظ الاستعارة السابقة وهي ( ظلام , نهار, لسان) رأيتها جامدةً غيرَ مشتقةٍ. ويسمَّى هذا النوع من الاستعارةِ بالاستعارةِ الأَصليةِ.

    (ب) تكون الاستعارةُ تَبَعِيّةً إِذا كانَ اللفظُ الذي جَرَتْ فيه مُشْتَقًّا أَوْ فِعْلا.

    نحو قوله تعالى :{وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (الأعراف :154) .

    تجدْ في هذه الآية القرآنية استعارةً تصريحيةً، وفي إجرائها نقول: شبِّهَ انتهاءُ الغضبِ بالسكوتِ بجامع الهدوءِ في كلًّ، ثم استعيرَ اللفظُ الدالُّ على المشبَّه به وهو السكوتُ للمشبَّه وهو انتهاءُ الغضبِ, ثم اشتقَّ من السكوتِ بمعنى انتهاءِ الغضب سكتَ بمعنى انتهى.

    وإذا تأملت الآية وجدت أنَّ ألفاظ الاستعارة هنا مشتقةٌ لا جامدةٌ وهي ( السكوت, الغضب)، ويسمَّى هذا النوعُ من الاستعارة بالاستعارةِ التبعيةِ، لأنَّ جريانِها في المشتقِّ كان تابعاً لجريانها في المصدر.

    ويتضح من تحليل الأمثلة السابقة :

    أن الاستعارة إذا كانت ألفاظها جامدة كانت الاستعارة أصلية.

    و أن الاستعارة إذا كانت ألفاظها مشتقة كانت الاستعارة تبعية.
    =============


    رابعاً : الاستعارة المرشحة و المجردة و المطلقة.

    ( أ) الاستعارة المُرَشَّحَةُ: ما ذُكِرَ معها مُلائم المشبَّهِ بهِ.

    نحو قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ...} (البقرة :16).

    ففي الآية استعارة تصريحية في "اشتروا " بمعنى اختاروا.

    وقد استوفت الاستعارة قرينتَها وهي "الضلالة".

    وإِذا تأملتَ الاستعارة رأيت أنها قد ذكِر معها شيءٌ يلائم المشبَّه به، وهذا الشيءُ هو "فما ربحت تجارتهم" , لذلك تسمى (استعارة مرشحة).


    ( ب ) الاستعارةُ المجرَّدَةُ: ما ذكِرَ معها مُلائمُ المشبَّهِ.

    نحو : (كانَ فُلانٌ أكْتَبَ الناس إِذا شَربَ قلمُهُ منْ دَوَاتِه أوْ غَنَّى فوْقَ قِرْطاسهِ).

    إذا تأملت هذا المثال وجدته يشتمل على استعارة مكنيةٍ هي:

    "القلم" الذي شُبِّه بالإنسان أيضاً .

    وقد تمَّتْ للاستعاة قرينتُها:

    وهي إثباتُ الشرب والغناء للقلم.

    وإذا تأملت هذه الاستعارة وجدتها اشتملت على ما يلائم المشبَّه وهو "دواتُه قرطاسه"، لذلك تسمى (استعارة مجردة).

    ( ت) الاستعارُة الْمُطْلَقة: ما خَلَتْ منْ مُلائماتِ المشبَّهِ به أو المشبَّه.

    نحو قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ }( الحاقة :11).

    ففي الآية استعارة تصريحية في "طغى" بمعنى زاد.

    وقد استوفت الاستعارة قرينتَها وهي "الماءُ".

    وإِذا تأملت هذه الاستعارةَ رأيتها خاليةً مما يلائمُ المشبَّه به أو المشبَّه, لذلك تسمى ( استعارة مطلقة).

    =============


    خامساً : الاستعارة التمثيلية

    الاستعارةُ التمثيلية: تركيبٌ استُعْمِلَ في غير ما وُضِعَ له لِعلاَقَةِ المشابَهةِ مَعَ قَرينَةٍ مَانِعةٍ مِنْ إِرادةِ مَعْناهُ الأَصْليِّ.

    التوضيح:

    * عادَ السَّيْفُ إلى قِرَابهِ، وَحلَّ اللَّيْثُ منيعَ غابه.
    (المجاهدُ عاد إِلى وطنه بعد سفر)

    حينما عاد الرجلُ العامل إِلى وطنه لم يَعُدْ سيفٌ حقيقيٌّ إِلى قرابه، ولم يَنزِل أَسَدٌ حقيقيٌّ إِلى عرِينه، وإِذًا كلُّ تركيب من هذين لم يستعمل في حقيقته، فيكون استعماله في عوْدة الرجل العامل إِلى بلده مجازًا والقرينةُ حالِيَّةُ.

    فما العلاقة بين الحالين يا ترى، حالِ رجوع الغريبِ إلى وطنه، وحال رجوع السيف إِلى قِرَابه؟

    العلاقةُ المشابهةُ؛ فإِنَّ حال الرجل الذي نزل عن الأَوطان عاملا مجِدًّا ماضياً في الأُمور ثم رجوعَه إِلى وطنه بعد طول الكدِّ، تشْبهُ حال السيف الذي استُلَّ للحرب والجِلاد حتَّى إِذا ظفِر بالنصر عاد إِلى غِمْده.

    ومثل ذلك يقال في: "وحلَّ الليثُ مَنِيع غابهِ".

    فمن المثال السابق رأينا أن الاستعارة التمثيلية عبارة عن تركيب استعمل في غير معناه الأصلي لعلاقة هي المشابهة , وقرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي .

    أمثلة مع التحليل:

    المثال الأول:

    قال المتنبي:

    وَمَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ يَجِدْ مُرًّا بهِ الْمَاءَ الزُّلالا


    (لمن لم يرزقِ الذَّوْق لفِهْم الشعر الرائعِ)

    بيتُ المتنبي يدلُّ وضْعه الحقيقيُّ على أَنَّ المريض الذي يصاب بمرارة في فمه إذا شربَ الماءَ العذبَ وجده مُرًّا، ولكنه لم يستعمله في هذا المعنى بل استعمله فيمنْ يَعيبون شِعْرَه لعيْب في ذوقهم الشعريِّ. وضعْف في إدراكهم الأدبيِّ، فهذا التركيبُ مجازٌ قرينتُه حالِيَّةٌ، وعلاقتُه المشابهة، والمشبَّه هنا حال المُولَعين بذمِّه والمشبَّه به حالُ المريض الذي يجد الماءَ الزلال مرًّا.


    المثال الثاني:

    قَطَعَتْ جَهيزَةُ قَوْلَ كلِّ خَطيبِ.

    (لمن يأْتي بالقول الفَصْلِ)

    هذا المثال مَثلٌ عربيٌ، أَصلُهُ أنَّ قوماً اجتمعوا للتشاور والخطابة في الصلح بين حييْن قَتلَ رجلٌ من أَحدهما رجلاً من الحيِّ الآخر، وإنهم لكذلك إذا بجاريةٍ تُدْعَى جَهيزةَ أَقبلت فأَنبأَتهم أَنَّ أَولياءَ المقتولِ ظَفِرُوا بالقاتل فقتلوهُ، فقال قائل منهم: "قَطَعَتْ جَهيزَةُ قَوْلَ كلِّ خَطِيب"، وهو تركيب يُتَمَثلُ به في كل موطن يؤتَى فيه بالقول الفصل.

    فأَنتَ ترى في كل مثال من الأمثلة السابقة أنَّ تركيباً استعمل في غير معناه الحقيقي، وأنَّ العلاقة بين معناه المجازيِّ ومعناه الحقيقيِّ هي المشابهةُ. وكلُّ تركيب من هذا النوع يُسمَّى استعارةً تمثيليةً .

    ===========


    سادساً : بلاغة الاستعارة

    عندما تحدثنا عن بلاغة التشبيه قلنا : إنَّ بلاغة التشبيه آتيةٌ من ناحيتين:

    الأُولى : تأْليف أَلفاظه.

    والثانية : ابتكار مشبَّه به بعيد عن الأَذهان، لا يجول إِلا في نفس أديب وهب الله له استعدادًا سليماً في تعرُّف وجوه الشَّبه الدقيقة بين الأَشياء، وأودعه قدْرةً على ربط المعاني وتوليدِ بعضها من بعض إلى مدًى بعيدٍ لا يكاد ينتهي.

    وسرُّ بلاغة الاستعارة لا يتعدَّى هاتين الناحيتين، فبلاغتها من ناحية اللفظ، أنَّ تركيبها يدل على تناسي التشبيه، ويحمْلك عمدًا على تخيُّل صورة جديدة تُنْسيك رَوْعَتُها ما تضمَّنه الكلام من تشبيه خفي مستور.

    انظر إِلى قول البحتريِّ في الفتح بن خاقان:

    يَسمُو بكَفٍّ، على العافينَ، حانيَةٍ تَهمي، وَطَرْفٍ إلى العَلياءِ طَمّاحِ


    ألست ترى كفَّه وقد تمثَّلتْ في صورة سحابةٍ هتَّانة تصُبُّ وبلها على العافين السائلين، وأنَّ هذه الصورة قد تملكت عليك مشاعرك فأذْهلتْكَ عما اختبأَ في الكلام من تشبيه؟

    وإذا سمعتَ قوله في رثاء المتوكل وقد قُتلَ غيلةً :

    صَرِيعٌ تَقَاضَاهُ السّيُوفُ حُشَاشَةً يَجُودُ بها، والمَوْتُ حُمْرٌ أظافرُهْ


    فهل تستطيع أن تُبعِد عن خيالك هذه الصورة المخيفة للموت، وهي صورةُ حيوان مفترس ضرِّجتْ أظافره بدماءِ قتلاه؟

    لهذا كانت الاستعارةُ أبلغَ من التشبيه البليغ؛ لأنه وإِن بني على ادعاءِ أنَّ المشبَّه والمشبَّه به سواءٌ لا يزال فيه التشبيه ملحوظاً بخلاف الاستعارة فالتشبيهُ فيها مَنْسيٌّ مجحُودٌ؛ ومن ذلك يظهر لك أنَّ الاستعارة المرشحةَ أبلغُ من المطْلَقَةِ، وأنَّ المطلقة أبلغُ منَ المجردة.

    أمَّا بلاغةُ الاستعارة من حيثُ الابتكارُ ورَوْعَة الخيال، وما تحدثه من أثرٍ في نفوس سامعيها، فمجالٌ فسيحٌ للإبداع، وميدانٌ لتسابق المجيدين من فُرسان الكلام.

    انظر إلى قوله عزَّ شأْنه في وصف النار: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} ( الملك :8) ، ترتسم أمامك النار في صورة مخلوقِ ضَخْمٍ بطَّاشٍ مكفهرِّ الوجه عابسٍ يغلي صدرُه حقدًا وغيظاً.

    ثم انظر إلى قول أبى العتاهية في تهنئة المهدي بالخلافة:

    أتتْهُ الخِلاَفَةُ مُنْقادَةً إلَيْهِ تُجَرِّرُ أذْيالَها


    تجد أنَّ الخِلافة غادةٌ هيفاءُ مُدَلَّلَة ملولٌ فُتن الناس بها جميعاً، وهي تأْبى عليهم وتصدُّ إِعراضاً، ولكنها تأْتي للمهدي طائعة في دلال وجمال تجرُّ أَذيالها تيهاً وخفرًا.

    هذه صورة لا شك رائعة أَبْدع أَبو العتاهية تصويرها، وستبقى حُلوة في الأسماع حبيبةً إِلى النفوس ما بقي الزمان.

    ثم اسمع قول البارودي:

    إِذَا اسْتَلَّ مِنْهُمْ سَيِّدٌ غَرْبَ سَيْفِهِ تفزَّعتِ الأفلاكُ ، والتفَتَ الدَهرُ


    وخبرني عما تحسُّ وعما ينتابك من هول مما تسمع، وقل لنا :كيف خطرت في نفسك صورة الأَجرام السماوية العظيمة حيَّةً حساسة تَرتعِد فَزَعاً وَوَهَلا، وكيف تصورتَ الدهر وهو يلتفتُ دهشاً وذهولاً؟

    ثم اسمع قوله في منفاه وهو نهْبُ اليأْس والأمل:

    أَسْمَعُ فِي قَلْبِي دَبِيبَ الْمُنَى وألمحُ الشُّبهة َ فى خاطِرِى


    تجد أَنه رسم لك صورة للأمل يتمَشى في النفس تمشيًّا مُحَسًّا يسمعه بأْذنه. وأنَّ الظنون والهواجس صار لها جسم يراه بعينه؛ هل رأَيت إِبداعاً فوق هذا في تصويره الشك والأمل يتجاذبان؟ وهل رأيت ما كان للاستعارة البارعة من الأَثر في هذا الإِبداع؟

    ثم انظر قول الشريف الرضي في الودَاع :

    نَسرِقُ الدّمعَ في الجُيوبِ حَياءً وَبِنَا مَا بِنَا مِنَ الإشفَاقِ


    هو يسرق الدمع حتى لا يُوصمَ بالضعف والخَور ساعةَ الوداع، وقد كان يستطيع أن يقول: "نَستُر الدمع في الجيوب حياءً"؛ ولكنه يريد أن يسمو إِلى نهاية المُرْتقَى في سحر البيان، فإنَّ الكلمة "نسْرِقُ" ترسُم في خيالك صورةً لشدة خوفه أَنْ يظهر فيه أثرٌ للضعف، ولمهارته وسرعته في إِخفاء الدمع عن عيون الرقباء.

    ===========
    كتاب البلاغة الواضحة : علي الجارم و مصطفى أمين.
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    الاستعارة Empty رد: الاستعارة

    مُساهمة من طرف أحمد السبت مايو 09, 2015 8:09 am

    المجاز اللغوي

    2- المجاز اللغوي:
    وهو الذي يكون فيه المرجع للغة بمعنى أن هناك نقلاً للكلمة من معناها الأصلي إلى معنى جديد، فإذا كانت العلاقة بين الكلمة والمعنى الجديد هي المشابهة ، فنسمي ذلك استعارة وإن كان غير المشابهة فنسميه مجازا مرسلا.
    أ- الاستعارة:
    هي نقل اللفظ من معناه الأصلي إلى معنى جديد لعلاقة المشابهة مع وجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي .
    أركان الاستعارة هي:
    (1) المستعار. (2) المستعار له. (3) المستعار منه.
    وإيضاح ذلك يتجلى في قوله تعالى ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ...) فكلمة (الظلمات) وكلمة (النور) كلاهم استعارة فأما الظلمات فالمقصود بها هنا الكفر أو عدم الهدى والجامع بينهما الضياع في كل منهما وعدم الوضوح فالمستعار هنا كلمة الظلمات والمستعار له الكفر والمستعار منه معنى الظلمة ومثلها في النور فالمقصود به الإيمان وبهذا ندرك أن المستعار له هو المشبه .
    قرينة الاستعارة:
    لا بد في الاستعارة من قرينة تمنع إرادة المعنى الأصلي وهي قد تكون لفظية أو معنوية فإذا قلت (رأيت أسداً يضيء القرآن قلبه ) فلا شك أنك تدرك أن كلمة (أسد) هنا استعارة والقرينة الدالة على ذلك والمانعة من إرادة المعنى الأصلي هي (يضيء القرآن قلبه ) وهي لفظية.
    الجامع: الجامع في الاستعارة هو كوجه الشبه في التشبيه.
    أقسام الاستعارة باعتبار ذكر المشبه والمشبه به:
    1ـ الاستعارة التصريحية والمكنية:
    أ‌- ( التصريحية ) وهي التي صرح فيها بالمشبه به كما في قوله تعالى ( اهدنا الصراط المستقيم) فقد شبه الإسلام هنا بالصراط المستقيم الذي لا عوج فيه بجامع التوصيل إلى الهدف في كل منهما، ثم حذف المشبه وهو الإسلام، وبقي المشبه به مصرحاً به في الكلام، ومثله الآية السابقة في الظلمات والنور .
    قال الشاعر :
    ولم أر مثلي من مشى البدر نحوه ولا رجلاً قامت تعانقه الأسد
    ففي كلمة (البدر) و( الأسد ) استعارة تصريحية لأن مراد الشاعر الافتخار بأن أصحاب الرتب يمشون إليه وليس (البدر) كما ذكر، ومراده أن الشجعان يقومون لمعانقته وليس (الأسد)، لكنه عدل عن الحقيقة فشبه مستقبليه والماشين إليه بالبدور والأسْد بجامع العلو والرفعة والشجاعة والقوة والقرينة المانعة المشي والمعانقة فهو هنا صرح بالمشبه به فالاستعارة تصريحية .
    ب‌- المكنية : وهي التي حذف فيها المشبه به و ذكر المشبه قال تعالى ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) ففي كلمة الأيمان استعارة مكنية وذلك أنه شبه الأيمان بالحبال ثم حذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو النقض على سبيل الاستعارة المكنية والقرينة المانعة هنا هي (تنقضوا) وهناك قاعدة عامة تقول :-
    قرينة الاستعارة المكنية استعارة تخيلية فإسناد النقض إلى الأيمان شيء متخيل لا يلمس ولا يحس والجامع في هذه الاستعارة هو الربط والتوثيق .
    وقال تعالى ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) فالنقض هو الفسخ وفك التركيب فإذا قال قائل من أين ساغ استعمال النقض في إبطال العهد قلنا من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة فقد شبه العهد بالحبل بجامع التوثيق والربط في كل منهما ثم حذف ورمز إليه بشيء من لوازمه وهذا من أسرار البلاغة ولطائف اللغة حيث إنهم يسكتون عن ذكر المشبه به ثم يرمزون له بشيء من لوازمه فنتبين بذلك على مكانه ووجوده ومن هذا قوله تعالى ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) فالمقصود هنا التواضع للوالدين والذل لهما وقد شبه الذل هنا بالطائر ثم حذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو الجناح على سبيل الاستعارة المكنية .
    وقال الشاعر:
    وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
    شبه المنية بالحيوان المفترس ثم حذف المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو ( الأظفار ) على سبيل الاستعارة المكنية والجامع في هذه الاستعارة هو الإهلاك في كل والقرينة المانعة (أنشبت أظفارها) استعارة تخيلية لو أجريت فيها .
    أقسام الاستعارة باعتبار الملائم:
    1- المرشحة هي ما يذكر فيها بعد أركان الاستعارة ما يلائم المشبه به مثل قوله تعالى ( اهدنا الصراط المستقيم) فهنا شبه الإسلام بالصراط أي الطريق بجامع الإيصال إلى الهدف في كل منهما وهذا من قبيل الاستعارة التصريحية ثم ذكر ما يناسب المشبه به وهو المستقيم وفي هذا ترشيح للاستعارة وتقوية للكلمة المستعارة.
    وقوله تعالى( وهو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها ) شبه الأرض بالحيوان ثم ذكر ما يلائم الحيوان وهو(مناكبها) على سبيل الاستعارة التصريحية المرشحة.
    2- المجردة : وهي عكس المرشحة يذكر فيها ما يلائم المشبه كما قال تعالى( وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ) شبه الريح التي لا مطر بها بالمرأة التي لا تلد(العقيم)، ثم ذكر ما يناسب المشبه ( ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ) وهذا يناسب المشبه وهو الريح على سبيل الاستعارة المجردة .
    3- المطلقة : وهي التي لا يذكر معها شيء يلائم أحد الطرفين أو يذكر ما يلائمهما معاً قال تعالى ( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) فشبه الكفر بالظلمات والإسلام بالنور ولم يذكر بعدهما شيء .
    من بلاغة الاستعارة في القرآن الكريم:
    قال تعالى (ولأصلبنكم في جذوع النخل) فهنا استعمل حرف الجر وهو للظرفية مكان الحرف (على) وهو للاستعلاء لأنه من المقرر أن فرعون صلبهم على الجذوع لا فيها لكن لما أريد بيان كثرة المصلوبين وكثرة الجذوع التي صلبوا عليها فهي بعمومها تحيط بهم وهم في وسطها جاء التعبير بالظرفية ( في ) وأيضاً ففيها دلالة على شدة العذاب حيث إنه ـ كما يصور الحرف المذكور ـ قد صلبهم مقطوعي في الأطراف على الجذوع حتى كأنه الناظر إليهم لا يميزهم من الجذوع وبهذا يكون الجذع كأنه قد أحاط بهم فكأنهم فيه لا عليه.
    قال تعالى ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ) فكلمة ( يموج ) استعارة لأن الذي يموج هو الماء لا الإنسان لكن اختير هذا اللفظ بدلا من أن يقال: يدخل بعضهم في بعض لما لهذه الكلمة من دلالة في تصوير العدد الهائل من البشر في موقف الزحام فلا ترى العين إلا ما تراه في البحر الزاخر من حركة وتموج واضطراب.
    قال تعالى ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ) فكلمة نسلخ استعارة والمقصود (نزيل) وهي تصور للعين انحسار الضوء عن الكون قليلا قليلا وتصور دبيب الظلام إليه في بطء حتى إذا تراجع الضوء ظهر ما كان مختفياً من ظلمة الليل والكون كما يقرر علماء الفلك يغرق في ظلام هائل.
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    الاستعارة Empty رد: الاستعارة

    مُساهمة من طرف أحمد السبت مايو 09, 2015 8:10 am

    مفهوم الاستعارة لغة :
    إنَّ أول ما نتوقف عنده من الأوجه البيانية : الاستعارة , بِعدِّها الوجه البلاغي الأهم , و لعلاقتها الوطيدة بالصور الشعرية , وسنعرِض قبل كل شيء لحدِّها اللغوي:
    قال " الأزهري" : « و أما العارية , والإعارة , و الاستعارة , فإن قول العرب فيها : هم يتعاورون العَواري , و يتعوَّرونها بالواو , كأنهم أرادوا تفرقة ما بين ما يتردد من ذات نفسه , و بين ما يُردَّد . قال: و العارية منسوبة إلى العارة , وهو اسم من الإعارة. تقول : أعرته الشيء , أُعِيره إعارة و عارة , و يقال: استعرت منه عارية فأعارنيها ... و استعاره ثوبا , فأعاره إياه , ومنه قولهم : كير مستعار , قال " بشر بن أبي حازم " :
    كأن حفيفَ مِنخره إذَا مَا كتمن الرَّبوكيرٌ مستعار
    قيل في قوله ( مستعار ) قولان ، أحدهما : أنه استُعير فأسرع العمل به مبادرة لارتجاع صاحبـه إياه ؛ و الثاني أن تجعله من التعاور , يقال : استعرنا الشيء و اعتورناه و تعاورناه بمعنى واحـد , وقيل : مستعار بمعنى متعاور : أي متداول « (1).
    وlن خلال ما سقته في التعريف اللغوي أشير إلى العلاقـة التي ينبغي أن تتوافر بيـن المعيـر والمستعير , هذا لا يقع إلا بين طرفين متعارفين. و يوضح ابن الأثير هذه العلاقة في قوله : » المشاركة بين اللفظين في نقل المعنى - في الاستعارة - من أحدهما إلى الآخر , كالمعرفة بين الشخصين في نقل الشيء المستعار من أحدهما إلى الآخر « (2).
    2- مفهوم الاستعارة اصطلاحا :
    أُلفِت بادئ ذي بدء أن مفهوم الاستعارة , لم يكن واضح الحدود على مر العصور , فقد تنوَّع من ناقد إلى آخر , و من عصر إلى عصر , و لا يهمني إذًا استعراض كل التعريفات البلاغية للاستعارة عبر العصور , بقدر ما يهمني محاولة استخلاص , و تحديد بنيتها , وآليتهـا للوصول إلى إبـراز دورهـا في التصوير الفني , هذا من جهة , ومن جهة أخرى بيان حدود تمايزها عن الأوجه البيانية الباقية المؤلِّفة للصورة الفنية.
    ولمَّا كانت تعريفات الاستعارة كثيرة , متشعبة و معقَّدة عند بعض البلاغيين , فإنني أورد هذا التعريف لما ألمس فيه من دلالة شاملة لحدِّ الاستعارة عند كل من تعرَّض لتعريفها تقريبا.
    - الاستعارة ضرب من المجاز اللغوي علاقته المشابَهة , أي اُستعمل في غير ما وُضع له , لعلاقة المشابهة , و مـع قرينة مانعة مـن إرادة المعنـي الحقيقـي الذي وضع اللفظ له , كقول " المتنبي " وقد قابله ممدوحه و عانقه :
    فَلَمْ أَرَ قَـبْلِي مَنْ مَشَى البَحْرُ نَحْوَهُ وَ لاَ رَجُلاًقَامَتْ تُعَانِقُهُ الأُسْدُ
    إنَّ الاستعارة في لفظة ( البحر ) المستعملة استعمالا مجازيا, لما تحمِل من (مشابهة) للممدوح في معانٍ كثيرة : كالقوة و الاتساع و الجود الدائم و الكرم... , والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي هي نسبة ( المشي ) إلى البحر .
    3- تطور مفهوم الاستعارة:
    إنني لا أزعم أن التعريف الذي سقته سابقا شامل وجامع , فمفهوم الاستعارة عرف تطورا في الدلالة عبر العصور المختلفة ، و بخاصة عند النُّقَّاد العرب المحدثين و عند الغربيين , فإن كنا نجد عند نقادنا القدماء تركيزهم - في تعريف الاستعارة- على علاقة المشابهة بين طرفيها , فإننا نجد أن المحدثين وسَّعوا إطار هذه العلاقة , و أضافوا إليها علاقات جديدة , فقد تنوعت دلالتها - عندهم – من مرادف للصور الشعرية التي تدل
    على كل تعبير من خلال الصور إلى مرادف للمجاز , إلى التعبير كل تقارب بين حقيقتين يوجد بينها تشابه , إلى عملية النقل من دلالة إلى أخرى .
    4- آراء النُّقَّاد في الاستعارة:
    لست بحاجة إلى رصد حياة فن الاستعارة عند اللغويين و المفسرين و الأدباء و البلاغيين من التعريفات المتفرقة إلى أن صارت بناء متماسكا , و فنا مستقلا من أقسام علم البيان , غير أنني لا أقلِّل من قيمة ما قيل بصددها , ولا استهين بجهود السابقين في شأنها , فهُم من له الفضل في تأصيلها وتأسيسها ولا غنى لكل دارس عن آرائهم فيها , و إن كان في حاجة إلى جهد جهيد , لاستخلاص زبدتها و توضيح معالمها , لأنها ( الاستعارة ) لم تكن مبوَّبة و منظَّمة بل كانت متناثرة على صفحات مؤلَّفاتهم .
    ولمزيد من توضيح لمفهوم الصورة الاستعارية - التِي هي جانب من جوانب دراستي في شعر حسَّان ابن ثابت في مدح الرسول () - رأيت أنه من الضروري استعراض الآراء النقدية المختلفة – قديما وحديثا – في مفهوم الاستعارة.
    1.4- الاستعارة عند "الجاحظ" ( المتوفى عام 255 ه ) :
    تحدَّث "الجاحظ" عن الاستعارة في كتابه ( البيان و التبيين ) فعرَّفها بقوله : » الاستعارة تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه « (3).
    و من يتأمل تعريف "الجاحظ" للاستعارة يجده لا يبعد بها عن التعريف اللغوي , فهي عنده : نقل لفظ من معنى عُرف به في أصل اللغة إلى معنى آخر لم يُعرف به , و الجدير بالذكر أن " الجاحظ " لم يُقيِّد هذا النقل بقيد أو شرط , و لم يوضِّح الغرض من هذا النقل , و لم يبِّين علاقة الاستعارة بأصلها الذي هو التشبيه . كما أن "الجاحظ" لم يخصَّ الاستعارة بعلم البيان أو البديع لأن التخصيص العلمي لم يكن قد وُجد في عصره .
    2.4 - الاستعارة عند "ابن قتيبة" (المتوفى عام 276 ه ):
    تحدَّث "ابن قتيبة" عن الاستعارة في كتابه ( تأويل مشكل القرآن ) , عندما تعرَّض لما أُشكل على المفسرين من آيات القرآن و ألفاظه , و بخاصة الألفاظ التي اُستعملت في غير ما وُضعت له في أصـل اللغة , فقال : » فالعرب تستعير الكلمة , فتضعها مكان الكلمة إذا كان المُسمى بها , بسبب من الأخرى , أو مجاور لها , أو مشاكل , فيقولون للمطر سماء ؛ لأنه من السماء ينزل , قال " معاويـة ابن جعفر بن كلاب " مِعوذ الحكماء :
    إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ رَعَيْنَاهُ وَ إِنْ كَانُوا غِضَابًا
    يريد إذا نزل المطر بأرض قوم فأخصبت بلادهم , سرنا و رعينا نباتها , وقد عبَّر بكلمة السماء عن المطر فأجتاز بها وضعها الأصلي « (4).و الملاحظ أنَّ "ابن قتيبة" يفهم الاستعارة بأنها كلمة توضع مكان الأخرى لعلاقة بينهما ,هي إمَّا (علاقة السببية) أو ( المجاورة ) أو( المشاكلة ) , و البيت الذي أورده يوضِّح علاقة ( السببية ) في الاستعارة.
    3.4 - الاستعارة عند " المبرَّد" (المتوفى عام 285ه) :
    عرَّف "المبرَّد " الاستعارة بأنها : » نقل اللفظ من معنى إلى معنى « (5) , من غير أن يُقيِّد هذا النقل أو يشترط له شروطا , ويظهر هذا واضحا من تعليقه على قول "الرَّاعي" :
    يَا نُعْمَهَا لَيْلَةً حَتىَّ تَخُونَهَا دَاعٍ دَعَا فِي فُرُوعِ الصُّبْحِ شَحَاجِ
    يقول "المبرَّد" : » وشحاج إنما هو استعارة في شدة الصوت , و أصله للبغل , و العرب تستعير بعض الألفاظ للبعض « (6). و "المبرَّد" في ذكره للاستعارة , لم يقصد عدَّها من البيان , و إنما أراد أنَّ ألفاظا أو عبارات اجتازت موضعها الأصلي , و اُستعملت في معنى آخر , و نسمى هذا الاستعمال استعارة.
    و نستطيع أن نجمل هذه الملاحظات حول الاستعارة في هذه الحقبة من الزمن من "الجاحظ" إلى "المبرَّد" فيما يلي :
    - التطور اللفظي في التعريف , " فالجاحظ " اكتفى في تعريفها أنها نقل للفظ من معناه الأصلي إلى معنى آخر لم يُعرف به , و لم يُشر إلى العلاقة بين المعنييْن : الأصلي و المنقول إليه.
    - إن َّ" ابن قتيبة " زاد على تعريف الجاحظ للاستعارة ، ذِكر العلاقة بين المعنيين بالإشارة إلى علاقتي السببية أو المشابهة.
    - البلاغيون في هذه الحقبة الزمنية كانوا يقصدون من وراء هذا النقل إيضاح الفكرة دون التَّعرض إلى الإغراق في الخيال , أو البعد باللفظ عن حقيقته , و ما لذلك من أثر فني في التعبير. وكأنَّ معيار الجمال عندهم هو التَّوضيح لا غير.
    إنَّ تعريف الاستعارة في هذه الحقبة يعتوِره قصور واضح ؛ لأنها لا تمنع دخـول غير الاستعارة فيها , كالتشبيه محذوف الأداة و المجاز الذي يُبني على غير المشابهة
    4.4 - الاستعارة عند "ابن المعتز" (المتوفى 296 ه) :
    عرَّف "ابن المعتز" الاستعارة بأنها : » استعارة الكلمة لشيء لم يُعرف بها من شيء قد عُرف بها , مثل: أم الكتاب , و مثل :جناح الذُّل , و مثل :قول القائل الفكرة مخ العمل , فلو كان قال: لب العمل لم يكن بديعا « (7).
    و الملاحظ أنَّ "ابن المعتز" قـد تحدَّث عـن الاستعارة تحت اسم البديع , فتعـرَّض إلى الاستعـارة و التَّجنيس , والمطابقة , ورد أَعجاز الكلام على ما تقدَّمها , و المذهب الكلامي ؛ رغم أن الاستعارة في عرف البلاغيين تُدرج ضمن علم البيان. و تعريف " ابن المعتز" أيضا , غير مانع , إذ لا يمنع دخول غير الاستعارة فيها : كالأعلام المنقولة و المجاز بأنواعه .
    5.4 - الاستعارة عند " قدامة بن جعفر" , (المتوفى عام 337 ه) :
    لم يتحدث " قدامة بن جعفر" عن الاستعارة في كتابه (نقد الشعر) حديثا مباشرا , و لم يورد لها بابا خاصا أو عنوانا مفصَّلا كغيرها من الألوان البلاغية , و إنما تحدث عنها في إثناء كلامه عن ( المعاضلة ) التي هي » مداخلة الشيء في الشيء « (8). أما في كتابه الثاني ( نقد النثر ) فقد عرَّف الاستعارة بقوله : » هي استعارة بعض الألفاظ في موضع بعض , على التوسُّع و المجاز « (9).
    وتبيَّن لنا مما سبق أن الاستعارة عند " قدامة بن جعفر " ضرب من المعاضلة , غير أنه يميِّز في هذه المعاضلة بين الفاحش و المقبول , فالمقبول عنده : هي التي لم يفرِّط فيها المتكلم بإبهام الفكرة , و البعد بها عن الوضوح, و غير المقبول ما كانت عكس ذلك , و يورد لذلك شاهدين للتمثيل لما ذهب إليه , فمثال المقبول قول "امرئ القيس":
    فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ وَ أَرْدَفَ أَعْجَازًا وَ نَاءَ بِكَلْكَلِ(10)
    فكأنه أراد : أن هذا الليل في تطاوله كالذي يتمطى بصلبه ؛ لأن له صلبا و هذا مخرج لفظه إذا تؤُمِّل
    و مثال غير المقبول قول " أَوس " :
    وَ ذَاتِ هِدْمٍ عَارٍ نَوَاشِرُهَا نَضَحَتْ بِالمَاءِ تَوْلَبًا جَدَعَا *
    فسمى الصبي تولبا و هو ولد الحمار , و هذا من باب فاحش الاستعارة , كما يسميه
    6.4 - الاستعارة عند "الرُّمَّاني" (المتوفى عام 384 ه) :
    عرَّف "الرُّمَّاني" الاستعارة في كتابه ( النَّكت في إعجاز القرآن ) بقوله : » الاستعارة تعليق العبارة على غير ما وُ ضعت له في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة « (11). و بهذا فهو يحذو حذو سابقيه في تعريف الاستعارة , غير أنَّه فرَّق بين الاستعارة و التشبيه ؛ بأنَََّ التشبيه بأداة التشبيه في الكلام , و هو على أصله لم يُغيَّر في الاستعمال , و ليس كذلك في الاستعارة لأن مخرج الاستعارة مخرج ما العبارة له في أصل اللغة .
    7.4 - الاستعارة عند "أبي هلال العسكري" (المتوفى عام 395 ه) :
    تحدَّث "أبو هلال العسكري" عن الاستعارة في كتابه ( الصناعتين ) تحت كلمة ( بديع ) وهو يقصد بهذه الكلمة ( الطريف و الجديد من الكلام ) , فعرَّفها بقوله:» الاستعارة نقل العبارة عن موضع استعمالها في أصل اللغة إلى غيره لغرض , و ذلك ( إمَّا ) أن يكـون شرح المعنى , وفضل الإبانة عنه ( أو ) تأكيده و المبالغة فيه ( أو ) الإشـادة إليه بالقليل من اللفظ , ( أو ) يحسن المعرض الذي يبرز فيه. و هذه الأوصاف موجودة في الاستعارة المصيبة «.(12)
    وإذا قارنَّا تعريف "العسكري" للاستعارة بتعاريف سابقيه , نجد أنَه كان أوضح و أبين , لأنه أبرز الأغراض التي من أجلها جاز هذا النقل , و هذه الأغراض هي: شرح المعنى و تقريبه من ذهن السامع , و توضيحه في نفسه و تأكيده , و كذا المبالغة في إدخال المشبه في جنس المشبه به أو نوعه , و تقديم المعنى صورة غير معهودة تتشوق النفس إلى معرفتها , والإشارة إلى المعنى الكثير باللفظ القليل (الإيجاز) , وتزيين العبارة و إبرازها في حلّة قشيبة تعشقها النفس و تنجذب إليها الحواس.
    ومن الأمثلة التي ساقها في هذا الموضوع في القرآن قوله ():سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ (13). وحقيقة الكلام في قوله (سنفرغ ) سنقصد , فاستُعير الفراغ للقصد , والاستعارة هنا أبلغ من الحقيقة , لأنَّ القصد لا يكون إلا مع الفراغ , و لكن في الفراغ في المعنى المجازي معنى ليس في القصد , وهو التهديد و الوعيد , و من أجل هذا كانت الاستعارة في الآية أبلغ من حقيقتها .
    ومن الشواهد الشعرية التي أوردها , قول "امرئ القيس" :
    وَقَـدْ أَغْتَدِي وَ الطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا بِمُنْجَـرِدٍ قَيْـدِ الأَوَابِـدِ هَيْكَلِ **
    وحقيقة ( قيد الأوابد ) مانع من الذهاب و الإفلات, و الاستعارة في البيت أبلغ من الحقيقة لأن الإنسان يشاهد ما في القيد من المنع فلا يشك فيه , و كذلك فإن القيد من أعلى مراتب المنع عن التصرف.
    8.4 - الاستعارة عند "ابن رشيق" (المتوفى سنة 463 ه) :
    يذكر "ابن رشيق" تعريف الاستعارة في كتابه : (العمدة ) ، فيقول: » الاستعارة أفضل الـمجاز , و أول أبواب البديع , وليس في حُلى الشعر أعجب منها , و هي من محاسن الكلام , إذا وقعت موقِعها ونزلت موضعها « (14).
    و المتأمِّل لما أورد ابن" رشيق" في تعريف الاستعارة يسجل ما يلي :
    - أنه يوجب عدم الإغراق في الاستعارة , و البعد بين المستعار منه , و المستعار له , حتى لا يؤدي ذلك إلى إيجاد تنافر بينها .
    - ألا تقرب الاستعارة كثيرا حتى لا تكاد تتميَّز عن الحقيقة. و بذلك يتوسط بين موقفين في الاستعارة :
    موقف من يرى في الغلو في الاستعارة و البعد بها جمالا و بلاغة .
    موقف من يرى الاستعارة القريبة أبلغ من البعيدة حتى لا توصف بالتَّعمية.
    9.4 - الاستعارة عند "عبد القاهر الجرجاني" (المتوفى عام 471 ه) :
    يعرِّفها "عبد القاهر الجرجاني " بقوله : » و اعلم أن الاستعارة في الجملة أن تكون لفظ الأصل في الوضع اللغوي معروفا, تدل الشواهد على أنه اختص به حين وُضع, ثم يستعمل الشَّاعر أو غير الشَّاعر في غير ذلك الأصل, و ينقله إليه نقلا غير لازم فيكون هناك كالعارية « 15)).
    و هي كذلك » ادعاء معنى الاسم للشيء لا نقل الاسم من الشيء « (16).
    و هي عنده قسمان : مفيدة و غير مفيدة :
    - غير المفيدة : وهو نوع قصير الباع , قليل الاتساع , حيث تراهم قد وضعوا للعضو الواحد أسامي كثيرة بحسب أجناس الحيوان بقصد التوسع في اللغة , ومثَّل لها بأمثلة منها قول : "العجاج" : ( وَفَاحِمًا وَ مِرْسَنًا مُسَرَّجَا ). فالاستعارة عند "عبد القاهر" هي في لفظ ( المرسن ) الذي هو في الأصل للحيوان. فاستعاره الشَّاعر لمحبوبته.
    و يعقِّب "عبد القاهر الجرجاني" : أنّ الشَّاعر إذا استعمل شيئا في غير الجنس الذي وضع له فقد استعاره منه , و نقله عن أصله , و جاز به موضعه .
    و يعُدّ "عبد القاهر" هذا النوع من الاستعارة مبتذلة و عامِّية .
    - و أما المفيدة : فهو النوع الذي يُعتد به , فهي جامعة لصفات الحسن , والجمال , و الروعة الفنية ومبناها التشبيه. » وهي تعمل على بيان الفكرة و توضيحها , لأنَّها تبرز البيان في صورة مستجدة , تزيده قدرا و نبلا , حتى ترى بها اللفظة المفردة قد تكرّرت في مواضع , و لها في كـل موضع معنى مفرد , و هي تعطي الكثير من المعاني بالقليل من اللفظ حتى تخرج من الصّدفة الواحدة عدة من الدرر, وتَجني من الغصن الواحد أنواع الثمر « (17).
    و انطلاقا من هذا النص يكشف لنا "عبد القاهر" عن فائدة الاستعارة التي تتلخَّص عنده في إبراز الفكرة واضحة جلية , و إظهار الصورة في مظهر حسن تعشقه النفوس , و تميل إليه القلوب , و تهتز له العواطف , و تتغذى به الأسماع. » فإنك لترى بها الجماد حيًّا ناطقا و الأعجم فصيحا, والأجسام الخُرس مبينة , والمعاني الخفية بادية جليَّة ... إن شئت أَرَتْكَ المعاني اللطيفة - التي هي من خبايا العقل- كأنها قد جُسِّمت حتى رأتها العيون , و إن شئت لطَّفَت الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا تنالها إلا الظنون « (18).
    ثم قسّم الاستعارة المفيدة قسمين: استعارة تصريحية و استعارة مكنية, وإن لم يشر إلى التسمية لكنه أشار إلى الأولى بقوله : » أن تنقل الاسم عن مسماه الأصلي إلى شيء آخر ثابت معلوم فتجريه عليه متناولا له تناول الصفة مثلا للموصوف , و ذلك كقولك : ( رأيت أسدا ) , و أنت تعني رجلا شجاعا , ( ورنّت لي ظبية) و أنت تعني امرأة , (و أبديت نورا ) وتعني : هدى و بيانا و حجّة , وما شاكل ذلك , فالاسم في هذا كله كما تراه ,
    متناولا شيئا معلوما يمكن أن ينص عليه , فإنه يقال عُني بالاسم وكنَّى به عنه , و نقل عن مسماه الأصلي , فجعل اسما له على سبيل الاستعارة والمبالغة في الشبيه « (19).
    وأشار إلى الثانية بقوله : » أن يُؤخذ الاسم عن حقيقته , و يوضع موضعا لا يبين فيه شيء يُشار إليه , فيقال : هذا هو المراد بالاسم , و الذي اُستعير له , و جُعل خليفة لاسمه الأصلي و نائبا منابه , و مثاله قول "لبيد" :
    وَ غَـدَاةَ رِيحٍ قَـدْ گشَفَتْ وَقِـرَّةٍ إِذْ أَصْبَحَتْ بِيَـدِ الشَمَـالِ زِمَامُهَا*ّّ**
    و ذلك أنه جعل للشمال يدا, و معلوم أنه ليس هناك مُشار إليه , ويمكن أن تجري اليد عليه , كإجراء الأسد و السيف على الرّجُل في قولك : ( انبرى لي أسد يزأر) , و (سللت سيفا على العدو لا يفلّ) « (20)
    ثم فرّق بين النوعين بقوله: » و يفصِل بين القسمين إذا رجعت في القسم الأول إلى التشبيه الذي هو المغزى من كل استعارة تفيد , و جدته يأتيك عفوا ؛ كقولك ( رأيت أسدا ) أي رأيت رجلا كالأسد , ورأيت مثل الأسد , أو شبيها بالأسد , وإن رُمته في القسم الثاني لا يواتيك تلك المواتاة , إذ لا وجه لأن يقول : ( إذا أصبح شيء مثل اليد للشمال ) و إنما يتراءى التشبيه بعد أن تخرِق إليه سترا و تُعمل تأملا و فكرا « (21).
    واشترط " عبد القاهر " في الاستعارة أن يكون وجه الشبه , وهو الرابطة بين المستعار منه والمستعار له , أوضح في المستعار منه.
    كما أنه قسَّم الاستعارة : إلى استعارة محسوس لمعقول , و استعارة محسوس لمحسوس للشبه في أمر معقول , واستعارة معقول لمعقول. فقال: » إنّ ما يجب أن تعلم أن في معنى التقسيم لها , أنها على أصول :
    - أحدهما: أن يُؤخذ الشبه من الأشياء المشاهدة و المدركة بالحواس على الجملة للمعاني المعقولة.
    - ثانيها : أن يُؤخَذ الشبه من الأشياء المحسوسة لمثلها إلا أن الشبه مع ذلك عقلي.
    - ثالثها: أن يؤخذ الشبه من المعقول للمعقول « (22).
    ثم أتبع هذا التقسيم بالتَّمثيل لكل ضرب , فمثّل للضرب الأول ( باستعارة النور للبيان و الحجـة ) و للضرب الثاني بقوله () : » إيّاكم و خضراء الدمن « , و للضرب الثالث بتشبيه الوجود بالعدم والعدم بالوجود .
    ثم فضّل الاستعارة العقلية على غيرها , لما فيها من بعث للخيال و تحريك الذهن و إلطاف الروية , ثم بيّن مواضع حسن الاستعارة أو متى تكون , مستشهدا بالأمثلة مستخرجا لمواطن الجمال فيها بأسلوب أدبي رائع , كما أنه عقد فصلا للفرق بين الاستعارة و التمثيل , لأن التمثيل تشبيه في الحقيقة والاستعارة مبنية عليه , مع زيادة فائدة جديدة هي المبالغة و الإيجاز .
    كما فرّق بين الاستعارة و التشبيه البليغ أي المحذوف الأداة و إن سبقه "الجرجاني بن عبد العزيز" إلاَّ أنّ "عبد القاهر" أضاف الكثير من الأمثلة , و التوضيح في الفكرة .
    وخلاصة القول : أن " عبد القاهر " في دراسته للاستعارة , قد أبرزها في صورة جميلة وواضحة , كما أنه يعود له الفضل في التقسيمات التي عرفتها ( الاستعارة ) في عهده مما يدل على ذكائه و تعمّقه في التحليل. و مما لا شك فيه أن الاستعارة خاصة , والألوان البلاغية عامة قد خطت خطوات واسعة في التجدد و التطور. وما يؤخذ عليه - كبقية سابقيه - أنه لم يجمع الاستعارة في باب واحد حتى يسهل تناولها.
    10.4- الاستعارة عند "السَّكَّاكي" (المتوفى عام 626 ه) :
    لا بد أن أشير في البداية : أن الاستعارة عرفت في بداية القرن السابع الهجري تطورا ملحوظا عند نخبة من أعلام النقد والبلاغة , والمنطق و الفلسفة , منهم : " السَّكَّاكي " , و"ابن الأثير" و"ابن أبي الإصبع " غير أنني أجد نفسي مضطرا إلى الاقتصار على رأي "السَّكَّاكي" في الاستعارة , و هذا ليس من باب إهمال آراء العلماء الآخرين و الاستهانة بها ، بل من باب الإيجاز و الاختصار.
    وحدُّها عند " السَّكَّاكي " : » أن تذكر أحد طرفي التشبيه , و تريد به الطرف الآخر , مدّعيا دخول المشبه في جنس المشبه به , دالا على ذلك بإثبات للمشبه ما يخص المشبه به , كما تقول : في الحمام أسد و أنت تريد به الرجل الشجاع , مدعيا أنه من جنس الأسود لتثبت للرجل الشجاع ما يخص المشبه به , وهو اسم جنسه , مع سد طريق التشبيه بإفراده بالذكر , أو كما تقول : (إنَّ المنية أنشبت أظفارها بفلان ) وأنت تريد السّبُع بادعاء السبعية و إنكار أن يكون شيئا غير السبع , فثبَّتَّ لها ما يخص المشبه به و هو الأظفار « (23).
    وبالنّظر إلى ما تقدّم من تعريف "السَّكَّاكي" للاستعارة , نجد أنه يتناولها بنوعيها : التصريحية وهي التي مثَّل لها بقوله ( في الحمام أسد ) , و المكنية , و هي التي مثّل لها بقوله ( إن المنية انشبت أظفارها بفلان ) , فعرّف الأولى (التصريحية) بقوله : هو أن يكون الطرف المذكور من طرفي التشبيه , هو المشبه به. وعرف الثانية ( المكنية ) بقوله : هو أن يكون الطرف المذكور هو المشبه.
    و في مجال تقسيم الاستعارة و ذكر أنواعها المتعددة , نجد البلاغيين وخاصة المتأخرين منهم "كالسَّكَّاكي" , يقسّمون الاستعارة باعتبارات مختلفة , فهو يقسمها باعتبار الطرفين , و باعتبار الجامع , و باعتبار الطرفين و الجامع , و باعتبار اللفظ , وباعتبار أمر خارج عن ذلك كله. وإذ أُوردُ هذه التفصيلات و التعريفات . فإني لا أريد أن أطمس جهدا بذله العلماء الأوائل في سعيهم إلى جعل البلاغة علمًا له فصول و أبواب. إلا أنني لا أريد - من جهة أخرى - الانسياق وراء هذا الاشتغـال بالتقسيم والتبويب دون النظر في جمال الكلام و محاسنه , فبلاغة الكلام هو بيت القصيد , ثم تأتي التقسيمـات و التعريفات في المرتبة الثانية . و تلك هي نظرة الإمام " عبد القاهر الجرجاني " الذي نظر إلى هذه المسائل بوصفها سبلا ووسائل يُستعان بها على تصوير المعاني و إبرازها , وأنَّ جمالها و روعتها إنما تكون بحسن تمثيلها لما يُراد منها تمثيله ، و إبرازها في أحسن معرض ليحدث في النفس التأثير المطلوب .
    و ما يلاحظ على "السَّكَّاكي" في دراسته للاستعارة خاصة و الألوان البلاغية عامة , غلبة الأسلوب المنطقي الكلامي في تأليفه , كما يتوجه ويميل في كثير من أحكامـه إلى التكلف والتعقيـد والتبويـب والتفريع , مما جعل الكثير من النُّقَّاد يحمِّلونه مسؤولية إفساد البلاغة لكثرة التعقيد والمنطق , كما أنه يكثر من الإحالة على قواعد العلوم الأخرى .
    وقد حاولت قدر المستطاع ، في اقتفاء أثر قصة الاستعارة ، تفادي ذكر التقسيمات الكثيرة التي ذكرها بلاغيونا القدماء و أفاضوا فيها , كما أنني اقتصرت على بعض التعريفات دون الأخرى رغم أهميتها تجنبا للإسهاب , و قد توقفت عند " السَّكَّاكي " , لأن - في اعتقادي - أنَّ مَن جاء بعده لم يكن إلاَّ شارحا ومحللا , واعتبرت أن الدراسات التي جاءت من بعده هي محاولات للشرح و التبسيط ليس إلاَّ .
    5 - الاستعارة عند المحدثين :
    لقد حاول علماء البلاغة المحدثون تخليص الاستعارة من الشوائب التي لازمتها ، وكانت السبب في طمس معالم جمالها : ككثرة التفريع و التقسيم مما أدى إلى غموضها و تعقيدها. فركَّزوا على إبراز فائدتها وتوضيح بلاغتها وحسن تصويرها , فأصبحت عندهم ( المحدثين ) » قمة الفن البياني , وجوهر الصورة الرائعة , و العنصر الأصيل في الإعجاز ، والوسيلة الأولى التي يُحلِّق بها الشعراء , و أولوا الذوق الرفيع إلى سماوات من الإبداع ما بعدها أروع , ولا أجمل و أحلى , فبالاستعارة ينقلب المعقول محسوسا تكاد تلمسه اليد , وتبصره العين و يشمه الأنف , و بالاستعارة تتكلم الجمادات , و تتنفس الأحجار , وتسري فيها آلاء الحياة »(24) على حد تعبير الدكتور " بكري شيخ أمين ".
    ولإدراك الاستعارة و قيمتها الجمالية في العمل الأدبي ، لابد من تذوق لغوي و معايشة للمجالات الدلالية ورموزها , وحتى يتحقق عنصر المفاجأة و المباغتة الذي يكسر الألفة ، و التتابع العادي لسلسلة الدلالات في السياق , ويتولد إحساس غريب ، أو جدة توقظ النفس ، وتحرك أعماقها لتتفاعل مع طبيعية التَّجربة الشعورية و الموقف. و ينبغي إدراك إضاءة الكلمة المستعارة و إشعاع دلالتها.
    ولتحليل الاستعارة وفهمها ينبغي تناولها من والوجهة الدلالية ذلك لأنَّها عند "فايز الداية": « تُلمح قي دلالة لفظة ضمن سياق غريب عنها , فيقع تصادم أو احتكاك بين المؤدى القديم لهـذه اللفظـة - أي ما كانت عليه قبل انتقالها - و الموقف الجديد الذي استدعاها»(25). وهي عنده أيضا « ضماد بين سياقين » (26) . وتتشكل حسبه من محورين هامين هما:
    أ- الأفق النفسي و حيوية التجربة الشعورية .
    ب- الحركة اللغوية الدلالية بتفاعل السياق و تركيب الجملة .
    والاستعارة عند المحدثين هي غادة البيان العربي وهي عند الأستاذ " ميشيل شيريم ": « ... المحسن اللفظي الأول , أو نواة البلاغة , أو قلبها , أو جوهرها , أو كل شيء فيها تقريبا » (27).
    هذا عند بعض البلاغين المحدثين العرب . و تكتسي الاستعارة أهمية كبرى عند علماء البلاغة الغربيين فهي أهم وجه بلاغي و « الركن الرئيسي في تكوين الشعر وفي خلق الصور»(28) .
    و بدونها يقول " جيرو " : « لا يوجد شعر, لأنه بِجوهره استعارة شاملة »(29) وهي عند " دومارسيه " « وجه بلاغي تنتقل به دلالة اللفظة الحقيقة إلى دلالة أخرى لا تتناسب مع الأولى إلاَّ من خلال تشبيه مضمر في الفكر»(30)
    وانطلاقا من هذا الازدواج في بنية الاستعارة , انقسم البلاغيون المحدثون في دراستهم للاستعارة إلى قسمين رئيسيين :
    - قسم ركَّز على المشابهة فنظر إلى الاستعارة على أنها تشبيه حذف أحد طرفيه.
    - و قسم آخر ركَّز على عملية الانتقال في المعنى .
    ونجد لهذا التقسيم الحديث عند علماء البلاغة للاستعارة مرجعية عند القدماء , و نكاد نقع على التقسيم نفسه عند "ابن رشيق" حيث يقول في كتابه (العمدة): الاستعارة أفضل المجاز , وأول أبواب البديع , وليس في حلى الشعر أعجب منها , وهي من محاسن الكلام إذا وقعت موقعها و نزلت موضعها والناس مختلفون فيها : فمنهم من يستعير للشيء ما ليس منه إليه كقول " لبيد ":
    وَ غَدَاةَ رِيحٍ قَدْ وَزَعَتْ وَ قِرَّةٍ إِذْ أَصْبحَتْ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمَامُهَا
    ومنهم من يخرجها مخرج التشبيه ، كما يقول " ذو الرمة " :
    أَقَامَتْ بِهِ حَتَّى ذَوَى الْعُودُ وَ النَّوَى وَ سَاقَ الثُّرِيَّا فِي مُلاَءَتِهِ الْفَجْرُ.(31)
    ومن خلال حديثنا السالف عن الحقيقة و المجاز تبن لنا أن الاستعارة جزء من عملية المجاز , وهي في جوهرها تقوم على عملية الانتقال من دلالة أولى , إلى دلالة ثانية , والعلاقة التي تربط بينهما هي علاقة ( مشابهة ) , و قد ورد في معظم الكتب البلاغية القديمة حين تعرضها لحدود الاستعارة وبيان تعريفها أنَّ الانتقال في الدلالة و المشابهة هما الركنان الأساسيان للاستعارة .
    » و لا شك أن هذا الازدواج في بنية الاستعارة هو الذي جعل النُّقَّاد ينقسمون في نظرتهم إليها قسمين « (32) كما رأينا سابقا .
    فمن البلاغيين الذين ركَّزوا على" المشابهة" نذكر "ابن الأثير" و منهم من ركَّز على عملية النقل في المعنى , و من هؤلاء نذكر : "ابن المعتز" و " أبى هلال العسكري" و "الرُّمَّاني " , وقد ذكرت بالتفصيل و نقلت آراءهم في حديث لي عن الاستعارة في الجانب النظري من دراستي .

    مقال للأستاذ:حميد قبايلي،أستاذ الأدب العربي بجامعة منتوري قسنطينة
    .................................................. .................................................. ...........................

    الهوامش:
    (1) - ابن منظور: لسان العرب - 2/927.
    (2) - ابن الأثير :المثل السائر،في أدب الكاتب و الشَّاعر-تحقيق محيي الدين عبد الحميد- مطبعة مصطفى البابي الحلبي و أولاده- مصر- 1939- 1/360.
    3- الجاحظ: البيان و التبيين- 1/152-153
    4- محمد السيد شيخون : الاستعارة نشأتها و تطورها - دار الهداية للطباعة و النشر و التوزيع –ط2-1994- ص7
    5 - المرجع السابق نفسه - ص 7
    6 - المرجع نفسه - ص 9
    7- عبد اللـه بن المعتز: كتاب البديع -تعليق و تقديم اغناطيوس كراتشوفسكي -دار المسيرة- بيروت-ط3- 1982- ص2.
    8 - محمد السيد شيخون : الاستعارة نشأتها و تطورها-ص14.
    9- المرجع نفسه : ص 15
    10 - ديوان امرئ القيس- طبع دار صادر- بيروت- د.ت -ص48.
    * - الهدم بكسر الهاء : الكساء الذي ضوعفت رقاعه. النواشر : عصب الذراع من وخارج. التولب : ولد الحمار.
    (11) - الرُّمَّاني (علي بن عيسى) : النكت في إعجاز القرآن- تحقيق محمود خلف الله أحمد و محمد زغلول سلام- دار المعارف- القاهرة- 1968- ص 18.
    (12) - أبو هلال العسكري : الصناعتين ص 295.
    (13) - سورة : الرحمن , الآية : 31.
    * * - الوكنات : المواضع التي تأوي إليها الطير في رؤوس الجبال. و المنجرد : الفرس صغير الشعر. الهيكل : الفخم والمشرف. و الأوابد : الواحد آبدة : الوحش.

    الفكر اللبناني بيروت - ط1 - 1986 - ص 68 - 69
    (29) (30) – المرجع السابق نفسه – ص 68 – 69
    (31) - ابن رشيق – العمدة – 1/235
    (32) - صبحي البستاني – الصورة الشعرية في الكتابة الفنية – ص 69

      مواضيع مماثلة

      -

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 14, 2024 9:35 pm