الاستعارة
أولاً : تعريف الاستعارة
الاسْتِعارَةُ مِنَ المجاز اللّغَويَّ، وهيَ تَشْبيهٌ حُذِفَ أحَدُ طَرفَيْهِ، فَعلاقتها المشابهةُ دائماً.
ثانيا: أقسام الاستعارة من حيث التصريح بالمشبه به
تنقسم الاستعارة إلى قسمينِ:
(أ) تَصْريحيّةٌ، وهي ما صُرَّحَ فيها بلَفظِ المشبَّه بهِ.
نحو قوله تعالى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم :1).
إذا تأملت هذه الآية لوجدت أنها تضمنت تشبيهين هما :
الأول : تشبيه الضلال بالظلمات.
الثاني : تشبيه الهدى بالنور.
وقد حذف أحد طرفي التشبيه , وهذا ما يسمى بـ(الاستعارة ) .
ونلاحظ هنا أنه قد حذف المشبه وهو( الضلال) و ( الهدى) , وصرح بالمشبه به وهو ( الظلمات ) و ( النور) , وهذا ما يسمى بـ(الاستعارة التصريحية).
(ب) مَكنِيَّةٌ، وهي ما حُذِفَ فيها المشَبَّهُ بهِ ورُمِزَ لهُ بشيء مِنْ لوازمه.
نحو قول الحجَّاجُ في إحْدى خُطَبه:
إني لأرَى رُؤُوساً قد أينَعَتْ وحانَ قِطافُها وإِنّي لَصَاحِبُهَا .
الذي يُفهَم من قول الحجاج أَنه يشبِّه الرؤوس بالثمرات، فأَصلُ الكلام :
(إِني لأرى رؤوساً كالثمراتِ قد أينعت)، ثم حذف المشبّه به فصار( إني لأرى رؤوساً قد أينعتْ)، على تخيُّل أنَّ الرؤوس قد تمثلت في صورة ثمارٍ، ورُمزَ للمشبَّه به المحذوف بشيء من لوازمه وهو( أينعتْ)، ولما كان المشبَّه به في هذه الاستعارةُ محْتجَباً سميتِ ( استعارة ًمكنيةً).
فمن خلال الأمثلة السابقة نفهم أن الاستعارة عبارة عن تشبيه حذف أحد طرفيه :
فإن كان المحذوف هو المشبه , وصرح بالمشبه به كانت الاستعارة تصريحية.
وإن كان المحذوف هو المشبه به , وذكر شيء من لوازمه كانت الاستعارة مكنية.
===============
ثالثا : أقسام الاستعارة من حيث ألفاظها
تنقسم الاستعارة من حيث ألفاظها إلى أصلية و تبعية:
(أ ) تَكُونُ الاستعارةُ أَصْلِيّةً إِذا كان اللفظُ الذي جَرَتْ فيه اسماً جامدًا.
نحو قول المتنبي يَصِف قَلماً:
يَمُجُّ ظَلاماً في نَهارٍ لِسانُهُ وَيُفْهِمُ عمّنْ قالَ ما ليسَ يُسمَعُ
ففي هذا البيت شُبِّهَ القلمُ (وهو مَرْجعُ الضمير في لسانه) بإنسانٍ ثم حذفَ المشبَّه به ورُمزَ إِليه بشيءٍ من لوازمه وهو اللسانُ، فالاستعارة مكنيةٌ.
وشُبِّهَ المدادُ بالظلام بجامعِ السواد واستعيرَ اللفظ الدالُّ على المشبَّه به للمشبَّه على سبيل الاستعارة التصريحية، وشبِّهَ الورقُ بالنهار بجامعِ البياض ثم استعيرَ اللفظُ الدالُّ على المشبَّه به للمشبَّه على سبيل الاستعارة التصريحية.
وإذا تأملتَ ألفاظ الاستعارة السابقة وهي ( ظلام , نهار, لسان) رأيتها جامدةً غيرَ مشتقةٍ. ويسمَّى هذا النوع من الاستعارةِ بالاستعارةِ الأَصليةِ.
(ب) تكون الاستعارةُ تَبَعِيّةً إِذا كانَ اللفظُ الذي جَرَتْ فيه مُشْتَقًّا أَوْ فِعْلا.
نحو قوله تعالى :{وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (الأعراف :154) .
تجدْ في هذه الآية القرآنية استعارةً تصريحيةً، وفي إجرائها نقول: شبِّهَ انتهاءُ الغضبِ بالسكوتِ بجامع الهدوءِ في كلًّ، ثم استعيرَ اللفظُ الدالُّ على المشبَّه به وهو السكوتُ للمشبَّه وهو انتهاءُ الغضبِ, ثم اشتقَّ من السكوتِ بمعنى انتهاءِ الغضب سكتَ بمعنى انتهى.
وإذا تأملت الآية وجدت أنَّ ألفاظ الاستعارة هنا مشتقةٌ لا جامدةٌ وهي ( السكوت, الغضب)، ويسمَّى هذا النوعُ من الاستعارة بالاستعارةِ التبعيةِ، لأنَّ جريانِها في المشتقِّ كان تابعاً لجريانها في المصدر.
ويتضح من تحليل الأمثلة السابقة :
أن الاستعارة إذا كانت ألفاظها جامدة كانت الاستعارة أصلية.
و أن الاستعارة إذا كانت ألفاظها مشتقة كانت الاستعارة تبعية.
=============
رابعاً : الاستعارة المرشحة و المجردة و المطلقة.
( أ) الاستعارة المُرَشَّحَةُ: ما ذُكِرَ معها مُلائم المشبَّهِ بهِ.
نحو قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ...} (البقرة :16).
ففي الآية استعارة تصريحية في "اشتروا " بمعنى اختاروا.
وقد استوفت الاستعارة قرينتَها وهي "الضلالة".
وإِذا تأملتَ الاستعارة رأيت أنها قد ذكِر معها شيءٌ يلائم المشبَّه به، وهذا الشيءُ هو "فما ربحت تجارتهم" , لذلك تسمى (استعارة مرشحة).
( ب ) الاستعارةُ المجرَّدَةُ: ما ذكِرَ معها مُلائمُ المشبَّهِ.
نحو : (كانَ فُلانٌ أكْتَبَ الناس إِذا شَربَ قلمُهُ منْ دَوَاتِه أوْ غَنَّى فوْقَ قِرْطاسهِ).
إذا تأملت هذا المثال وجدته يشتمل على استعارة مكنيةٍ هي:
"القلم" الذي شُبِّه بالإنسان أيضاً .
وقد تمَّتْ للاستعاة قرينتُها:
وهي إثباتُ الشرب والغناء للقلم.
وإذا تأملت هذه الاستعارة وجدتها اشتملت على ما يلائم المشبَّه وهو "دواتُه قرطاسه"، لذلك تسمى (استعارة مجردة).
( ت) الاستعارُة الْمُطْلَقة: ما خَلَتْ منْ مُلائماتِ المشبَّهِ به أو المشبَّه.
نحو قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ }( الحاقة :11).
ففي الآية استعارة تصريحية في "طغى" بمعنى زاد.
وقد استوفت الاستعارة قرينتَها وهي "الماءُ".
وإِذا تأملت هذه الاستعارةَ رأيتها خاليةً مما يلائمُ المشبَّه به أو المشبَّه, لذلك تسمى ( استعارة مطلقة).
=============
خامساً : الاستعارة التمثيلية
الاستعارةُ التمثيلية: تركيبٌ استُعْمِلَ في غير ما وُضِعَ له لِعلاَقَةِ المشابَهةِ مَعَ قَرينَةٍ مَانِعةٍ مِنْ إِرادةِ مَعْناهُ الأَصْليِّ.
التوضيح:
* عادَ السَّيْفُ إلى قِرَابهِ، وَحلَّ اللَّيْثُ منيعَ غابه.
(المجاهدُ عاد إِلى وطنه بعد سفر)
حينما عاد الرجلُ العامل إِلى وطنه لم يَعُدْ سيفٌ حقيقيٌّ إِلى قرابه، ولم يَنزِل أَسَدٌ حقيقيٌّ إِلى عرِينه، وإِذًا كلُّ تركيب من هذين لم يستعمل في حقيقته، فيكون استعماله في عوْدة الرجل العامل إِلى بلده مجازًا والقرينةُ حالِيَّةُ.
فما العلاقة بين الحالين يا ترى، حالِ رجوع الغريبِ إلى وطنه، وحال رجوع السيف إِلى قِرَابه؟
العلاقةُ المشابهةُ؛ فإِنَّ حال الرجل الذي نزل عن الأَوطان عاملا مجِدًّا ماضياً في الأُمور ثم رجوعَه إِلى وطنه بعد طول الكدِّ، تشْبهُ حال السيف الذي استُلَّ للحرب والجِلاد حتَّى إِذا ظفِر بالنصر عاد إِلى غِمْده.
ومثل ذلك يقال في: "وحلَّ الليثُ مَنِيع غابهِ".
فمن المثال السابق رأينا أن الاستعارة التمثيلية عبارة عن تركيب استعمل في غير معناه الأصلي لعلاقة هي المشابهة , وقرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي .
أمثلة مع التحليل:
المثال الأول:
قال المتنبي:
وَمَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ يَجِدْ مُرًّا بهِ الْمَاءَ الزُّلالا
(لمن لم يرزقِ الذَّوْق لفِهْم الشعر الرائعِ)
بيتُ المتنبي يدلُّ وضْعه الحقيقيُّ على أَنَّ المريض الذي يصاب بمرارة في فمه إذا شربَ الماءَ العذبَ وجده مُرًّا، ولكنه لم يستعمله في هذا المعنى بل استعمله فيمنْ يَعيبون شِعْرَه لعيْب في ذوقهم الشعريِّ. وضعْف في إدراكهم الأدبيِّ، فهذا التركيبُ مجازٌ قرينتُه حالِيَّةٌ، وعلاقتُه المشابهة، والمشبَّه هنا حال المُولَعين بذمِّه والمشبَّه به حالُ المريض الذي يجد الماءَ الزلال مرًّا.
المثال الثاني:
قَطَعَتْ جَهيزَةُ قَوْلَ كلِّ خَطيبِ.
(لمن يأْتي بالقول الفَصْلِ)
هذا المثال مَثلٌ عربيٌ، أَصلُهُ أنَّ قوماً اجتمعوا للتشاور والخطابة في الصلح بين حييْن قَتلَ رجلٌ من أَحدهما رجلاً من الحيِّ الآخر، وإنهم لكذلك إذا بجاريةٍ تُدْعَى جَهيزةَ أَقبلت فأَنبأَتهم أَنَّ أَولياءَ المقتولِ ظَفِرُوا بالقاتل فقتلوهُ، فقال قائل منهم: "قَطَعَتْ جَهيزَةُ قَوْلَ كلِّ خَطِيب"، وهو تركيب يُتَمَثلُ به في كل موطن يؤتَى فيه بالقول الفصل.
فأَنتَ ترى في كل مثال من الأمثلة السابقة أنَّ تركيباً استعمل في غير معناه الحقيقي، وأنَّ العلاقة بين معناه المجازيِّ ومعناه الحقيقيِّ هي المشابهةُ. وكلُّ تركيب من هذا النوع يُسمَّى استعارةً تمثيليةً .
===========
سادساً : بلاغة الاستعارة
عندما تحدثنا عن بلاغة التشبيه قلنا : إنَّ بلاغة التشبيه آتيةٌ من ناحيتين:
الأُولى : تأْليف أَلفاظه.
والثانية : ابتكار مشبَّه به بعيد عن الأَذهان، لا يجول إِلا في نفس أديب وهب الله له استعدادًا سليماً في تعرُّف وجوه الشَّبه الدقيقة بين الأَشياء، وأودعه قدْرةً على ربط المعاني وتوليدِ بعضها من بعض إلى مدًى بعيدٍ لا يكاد ينتهي.
وسرُّ بلاغة الاستعارة لا يتعدَّى هاتين الناحيتين، فبلاغتها من ناحية اللفظ، أنَّ تركيبها يدل على تناسي التشبيه، ويحمْلك عمدًا على تخيُّل صورة جديدة تُنْسيك رَوْعَتُها ما تضمَّنه الكلام من تشبيه خفي مستور.
انظر إِلى قول البحتريِّ في الفتح بن خاقان:
يَسمُو بكَفٍّ، على العافينَ، حانيَةٍ تَهمي، وَطَرْفٍ إلى العَلياءِ طَمّاحِ
ألست ترى كفَّه وقد تمثَّلتْ في صورة سحابةٍ هتَّانة تصُبُّ وبلها على العافين السائلين، وأنَّ هذه الصورة قد تملكت عليك مشاعرك فأذْهلتْكَ عما اختبأَ في الكلام من تشبيه؟
وإذا سمعتَ قوله في رثاء المتوكل وقد قُتلَ غيلةً :
صَرِيعٌ تَقَاضَاهُ السّيُوفُ حُشَاشَةً يَجُودُ بها، والمَوْتُ حُمْرٌ أظافرُهْ
فهل تستطيع أن تُبعِد عن خيالك هذه الصورة المخيفة للموت، وهي صورةُ حيوان مفترس ضرِّجتْ أظافره بدماءِ قتلاه؟
لهذا كانت الاستعارةُ أبلغَ من التشبيه البليغ؛ لأنه وإِن بني على ادعاءِ أنَّ المشبَّه والمشبَّه به سواءٌ لا يزال فيه التشبيه ملحوظاً بخلاف الاستعارة فالتشبيهُ فيها مَنْسيٌّ مجحُودٌ؛ ومن ذلك يظهر لك أنَّ الاستعارة المرشحةَ أبلغُ من المطْلَقَةِ، وأنَّ المطلقة أبلغُ منَ المجردة.
أمَّا بلاغةُ الاستعارة من حيثُ الابتكارُ ورَوْعَة الخيال، وما تحدثه من أثرٍ في نفوس سامعيها، فمجالٌ فسيحٌ للإبداع، وميدانٌ لتسابق المجيدين من فُرسان الكلام.
انظر إلى قوله عزَّ شأْنه في وصف النار: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} ( الملك :8) ، ترتسم أمامك النار في صورة مخلوقِ ضَخْمٍ بطَّاشٍ مكفهرِّ الوجه عابسٍ يغلي صدرُه حقدًا وغيظاً.
ثم انظر إلى قول أبى العتاهية في تهنئة المهدي بالخلافة:
أتتْهُ الخِلاَفَةُ مُنْقادَةً إلَيْهِ تُجَرِّرُ أذْيالَها
تجد أنَّ الخِلافة غادةٌ هيفاءُ مُدَلَّلَة ملولٌ فُتن الناس بها جميعاً، وهي تأْبى عليهم وتصدُّ إِعراضاً، ولكنها تأْتي للمهدي طائعة في دلال وجمال تجرُّ أَذيالها تيهاً وخفرًا.
هذه صورة لا شك رائعة أَبْدع أَبو العتاهية تصويرها، وستبقى حُلوة في الأسماع حبيبةً إِلى النفوس ما بقي الزمان.
ثم اسمع قول البارودي:
إِذَا اسْتَلَّ مِنْهُمْ سَيِّدٌ غَرْبَ سَيْفِهِ تفزَّعتِ الأفلاكُ ، والتفَتَ الدَهرُ
وخبرني عما تحسُّ وعما ينتابك من هول مما تسمع، وقل لنا :كيف خطرت في نفسك صورة الأَجرام السماوية العظيمة حيَّةً حساسة تَرتعِد فَزَعاً وَوَهَلا، وكيف تصورتَ الدهر وهو يلتفتُ دهشاً وذهولاً؟
ثم اسمع قوله في منفاه وهو نهْبُ اليأْس والأمل:
أَسْمَعُ فِي قَلْبِي دَبِيبَ الْمُنَى وألمحُ الشُّبهة َ فى خاطِرِى
تجد أَنه رسم لك صورة للأمل يتمَشى في النفس تمشيًّا مُحَسًّا يسمعه بأْذنه. وأنَّ الظنون والهواجس صار لها جسم يراه بعينه؛ هل رأَيت إِبداعاً فوق هذا في تصويره الشك والأمل يتجاذبان؟ وهل رأيت ما كان للاستعارة البارعة من الأَثر في هذا الإِبداع؟
ثم انظر قول الشريف الرضي في الودَاع :
نَسرِقُ الدّمعَ في الجُيوبِ حَياءً وَبِنَا مَا بِنَا مِنَ الإشفَاقِ
هو يسرق الدمع حتى لا يُوصمَ بالضعف والخَور ساعةَ الوداع، وقد كان يستطيع أن يقول: "نَستُر الدمع في الجيوب حياءً"؛ ولكنه يريد أن يسمو إِلى نهاية المُرْتقَى في سحر البيان، فإنَّ الكلمة "نسْرِقُ" ترسُم في خيالك صورةً لشدة خوفه أَنْ يظهر فيه أثرٌ للضعف، ولمهارته وسرعته في إِخفاء الدمع عن عيون الرقباء.
===========
كتاب البلاغة الواضحة : علي الجارم و مصطفى أمين.
أولاً : تعريف الاستعارة
الاسْتِعارَةُ مِنَ المجاز اللّغَويَّ، وهيَ تَشْبيهٌ حُذِفَ أحَدُ طَرفَيْهِ، فَعلاقتها المشابهةُ دائماً.
ثانيا: أقسام الاستعارة من حيث التصريح بالمشبه به
تنقسم الاستعارة إلى قسمينِ:
(أ) تَصْريحيّةٌ، وهي ما صُرَّحَ فيها بلَفظِ المشبَّه بهِ.
نحو قوله تعالى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم :1).
إذا تأملت هذه الآية لوجدت أنها تضمنت تشبيهين هما :
الأول : تشبيه الضلال بالظلمات.
الثاني : تشبيه الهدى بالنور.
وقد حذف أحد طرفي التشبيه , وهذا ما يسمى بـ(الاستعارة ) .
ونلاحظ هنا أنه قد حذف المشبه وهو( الضلال) و ( الهدى) , وصرح بالمشبه به وهو ( الظلمات ) و ( النور) , وهذا ما يسمى بـ(الاستعارة التصريحية).
(ب) مَكنِيَّةٌ، وهي ما حُذِفَ فيها المشَبَّهُ بهِ ورُمِزَ لهُ بشيء مِنْ لوازمه.
نحو قول الحجَّاجُ في إحْدى خُطَبه:
إني لأرَى رُؤُوساً قد أينَعَتْ وحانَ قِطافُها وإِنّي لَصَاحِبُهَا .
الذي يُفهَم من قول الحجاج أَنه يشبِّه الرؤوس بالثمرات، فأَصلُ الكلام :
(إِني لأرى رؤوساً كالثمراتِ قد أينعت)، ثم حذف المشبّه به فصار( إني لأرى رؤوساً قد أينعتْ)، على تخيُّل أنَّ الرؤوس قد تمثلت في صورة ثمارٍ، ورُمزَ للمشبَّه به المحذوف بشيء من لوازمه وهو( أينعتْ)، ولما كان المشبَّه به في هذه الاستعارةُ محْتجَباً سميتِ ( استعارة ًمكنيةً).
فمن خلال الأمثلة السابقة نفهم أن الاستعارة عبارة عن تشبيه حذف أحد طرفيه :
فإن كان المحذوف هو المشبه , وصرح بالمشبه به كانت الاستعارة تصريحية.
وإن كان المحذوف هو المشبه به , وذكر شيء من لوازمه كانت الاستعارة مكنية.
===============
ثالثا : أقسام الاستعارة من حيث ألفاظها
تنقسم الاستعارة من حيث ألفاظها إلى أصلية و تبعية:
(أ ) تَكُونُ الاستعارةُ أَصْلِيّةً إِذا كان اللفظُ الذي جَرَتْ فيه اسماً جامدًا.
نحو قول المتنبي يَصِف قَلماً:
يَمُجُّ ظَلاماً في نَهارٍ لِسانُهُ وَيُفْهِمُ عمّنْ قالَ ما ليسَ يُسمَعُ
ففي هذا البيت شُبِّهَ القلمُ (وهو مَرْجعُ الضمير في لسانه) بإنسانٍ ثم حذفَ المشبَّه به ورُمزَ إِليه بشيءٍ من لوازمه وهو اللسانُ، فالاستعارة مكنيةٌ.
وشُبِّهَ المدادُ بالظلام بجامعِ السواد واستعيرَ اللفظ الدالُّ على المشبَّه به للمشبَّه على سبيل الاستعارة التصريحية، وشبِّهَ الورقُ بالنهار بجامعِ البياض ثم استعيرَ اللفظُ الدالُّ على المشبَّه به للمشبَّه على سبيل الاستعارة التصريحية.
وإذا تأملتَ ألفاظ الاستعارة السابقة وهي ( ظلام , نهار, لسان) رأيتها جامدةً غيرَ مشتقةٍ. ويسمَّى هذا النوع من الاستعارةِ بالاستعارةِ الأَصليةِ.
(ب) تكون الاستعارةُ تَبَعِيّةً إِذا كانَ اللفظُ الذي جَرَتْ فيه مُشْتَقًّا أَوْ فِعْلا.
نحو قوله تعالى :{وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (الأعراف :154) .
تجدْ في هذه الآية القرآنية استعارةً تصريحيةً، وفي إجرائها نقول: شبِّهَ انتهاءُ الغضبِ بالسكوتِ بجامع الهدوءِ في كلًّ، ثم استعيرَ اللفظُ الدالُّ على المشبَّه به وهو السكوتُ للمشبَّه وهو انتهاءُ الغضبِ, ثم اشتقَّ من السكوتِ بمعنى انتهاءِ الغضب سكتَ بمعنى انتهى.
وإذا تأملت الآية وجدت أنَّ ألفاظ الاستعارة هنا مشتقةٌ لا جامدةٌ وهي ( السكوت, الغضب)، ويسمَّى هذا النوعُ من الاستعارة بالاستعارةِ التبعيةِ، لأنَّ جريانِها في المشتقِّ كان تابعاً لجريانها في المصدر.
ويتضح من تحليل الأمثلة السابقة :
أن الاستعارة إذا كانت ألفاظها جامدة كانت الاستعارة أصلية.
و أن الاستعارة إذا كانت ألفاظها مشتقة كانت الاستعارة تبعية.
=============
رابعاً : الاستعارة المرشحة و المجردة و المطلقة.
( أ) الاستعارة المُرَشَّحَةُ: ما ذُكِرَ معها مُلائم المشبَّهِ بهِ.
نحو قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ...} (البقرة :16).
ففي الآية استعارة تصريحية في "اشتروا " بمعنى اختاروا.
وقد استوفت الاستعارة قرينتَها وهي "الضلالة".
وإِذا تأملتَ الاستعارة رأيت أنها قد ذكِر معها شيءٌ يلائم المشبَّه به، وهذا الشيءُ هو "فما ربحت تجارتهم" , لذلك تسمى (استعارة مرشحة).
( ب ) الاستعارةُ المجرَّدَةُ: ما ذكِرَ معها مُلائمُ المشبَّهِ.
نحو : (كانَ فُلانٌ أكْتَبَ الناس إِذا شَربَ قلمُهُ منْ دَوَاتِه أوْ غَنَّى فوْقَ قِرْطاسهِ).
إذا تأملت هذا المثال وجدته يشتمل على استعارة مكنيةٍ هي:
"القلم" الذي شُبِّه بالإنسان أيضاً .
وقد تمَّتْ للاستعاة قرينتُها:
وهي إثباتُ الشرب والغناء للقلم.
وإذا تأملت هذه الاستعارة وجدتها اشتملت على ما يلائم المشبَّه وهو "دواتُه قرطاسه"، لذلك تسمى (استعارة مجردة).
( ت) الاستعارُة الْمُطْلَقة: ما خَلَتْ منْ مُلائماتِ المشبَّهِ به أو المشبَّه.
نحو قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ }( الحاقة :11).
ففي الآية استعارة تصريحية في "طغى" بمعنى زاد.
وقد استوفت الاستعارة قرينتَها وهي "الماءُ".
وإِذا تأملت هذه الاستعارةَ رأيتها خاليةً مما يلائمُ المشبَّه به أو المشبَّه, لذلك تسمى ( استعارة مطلقة).
=============
خامساً : الاستعارة التمثيلية
الاستعارةُ التمثيلية: تركيبٌ استُعْمِلَ في غير ما وُضِعَ له لِعلاَقَةِ المشابَهةِ مَعَ قَرينَةٍ مَانِعةٍ مِنْ إِرادةِ مَعْناهُ الأَصْليِّ.
التوضيح:
* عادَ السَّيْفُ إلى قِرَابهِ، وَحلَّ اللَّيْثُ منيعَ غابه.
(المجاهدُ عاد إِلى وطنه بعد سفر)
حينما عاد الرجلُ العامل إِلى وطنه لم يَعُدْ سيفٌ حقيقيٌّ إِلى قرابه، ولم يَنزِل أَسَدٌ حقيقيٌّ إِلى عرِينه، وإِذًا كلُّ تركيب من هذين لم يستعمل في حقيقته، فيكون استعماله في عوْدة الرجل العامل إِلى بلده مجازًا والقرينةُ حالِيَّةُ.
فما العلاقة بين الحالين يا ترى، حالِ رجوع الغريبِ إلى وطنه، وحال رجوع السيف إِلى قِرَابه؟
العلاقةُ المشابهةُ؛ فإِنَّ حال الرجل الذي نزل عن الأَوطان عاملا مجِدًّا ماضياً في الأُمور ثم رجوعَه إِلى وطنه بعد طول الكدِّ، تشْبهُ حال السيف الذي استُلَّ للحرب والجِلاد حتَّى إِذا ظفِر بالنصر عاد إِلى غِمْده.
ومثل ذلك يقال في: "وحلَّ الليثُ مَنِيع غابهِ".
فمن المثال السابق رأينا أن الاستعارة التمثيلية عبارة عن تركيب استعمل في غير معناه الأصلي لعلاقة هي المشابهة , وقرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي .
أمثلة مع التحليل:
المثال الأول:
قال المتنبي:
وَمَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ يَجِدْ مُرًّا بهِ الْمَاءَ الزُّلالا
(لمن لم يرزقِ الذَّوْق لفِهْم الشعر الرائعِ)
بيتُ المتنبي يدلُّ وضْعه الحقيقيُّ على أَنَّ المريض الذي يصاب بمرارة في فمه إذا شربَ الماءَ العذبَ وجده مُرًّا، ولكنه لم يستعمله في هذا المعنى بل استعمله فيمنْ يَعيبون شِعْرَه لعيْب في ذوقهم الشعريِّ. وضعْف في إدراكهم الأدبيِّ، فهذا التركيبُ مجازٌ قرينتُه حالِيَّةٌ، وعلاقتُه المشابهة، والمشبَّه هنا حال المُولَعين بذمِّه والمشبَّه به حالُ المريض الذي يجد الماءَ الزلال مرًّا.
المثال الثاني:
قَطَعَتْ جَهيزَةُ قَوْلَ كلِّ خَطيبِ.
(لمن يأْتي بالقول الفَصْلِ)
هذا المثال مَثلٌ عربيٌ، أَصلُهُ أنَّ قوماً اجتمعوا للتشاور والخطابة في الصلح بين حييْن قَتلَ رجلٌ من أَحدهما رجلاً من الحيِّ الآخر، وإنهم لكذلك إذا بجاريةٍ تُدْعَى جَهيزةَ أَقبلت فأَنبأَتهم أَنَّ أَولياءَ المقتولِ ظَفِرُوا بالقاتل فقتلوهُ، فقال قائل منهم: "قَطَعَتْ جَهيزَةُ قَوْلَ كلِّ خَطِيب"، وهو تركيب يُتَمَثلُ به في كل موطن يؤتَى فيه بالقول الفصل.
فأَنتَ ترى في كل مثال من الأمثلة السابقة أنَّ تركيباً استعمل في غير معناه الحقيقي، وأنَّ العلاقة بين معناه المجازيِّ ومعناه الحقيقيِّ هي المشابهةُ. وكلُّ تركيب من هذا النوع يُسمَّى استعارةً تمثيليةً .
===========
سادساً : بلاغة الاستعارة
عندما تحدثنا عن بلاغة التشبيه قلنا : إنَّ بلاغة التشبيه آتيةٌ من ناحيتين:
الأُولى : تأْليف أَلفاظه.
والثانية : ابتكار مشبَّه به بعيد عن الأَذهان، لا يجول إِلا في نفس أديب وهب الله له استعدادًا سليماً في تعرُّف وجوه الشَّبه الدقيقة بين الأَشياء، وأودعه قدْرةً على ربط المعاني وتوليدِ بعضها من بعض إلى مدًى بعيدٍ لا يكاد ينتهي.
وسرُّ بلاغة الاستعارة لا يتعدَّى هاتين الناحيتين، فبلاغتها من ناحية اللفظ، أنَّ تركيبها يدل على تناسي التشبيه، ويحمْلك عمدًا على تخيُّل صورة جديدة تُنْسيك رَوْعَتُها ما تضمَّنه الكلام من تشبيه خفي مستور.
انظر إِلى قول البحتريِّ في الفتح بن خاقان:
يَسمُو بكَفٍّ، على العافينَ، حانيَةٍ تَهمي، وَطَرْفٍ إلى العَلياءِ طَمّاحِ
ألست ترى كفَّه وقد تمثَّلتْ في صورة سحابةٍ هتَّانة تصُبُّ وبلها على العافين السائلين، وأنَّ هذه الصورة قد تملكت عليك مشاعرك فأذْهلتْكَ عما اختبأَ في الكلام من تشبيه؟
وإذا سمعتَ قوله في رثاء المتوكل وقد قُتلَ غيلةً :
صَرِيعٌ تَقَاضَاهُ السّيُوفُ حُشَاشَةً يَجُودُ بها، والمَوْتُ حُمْرٌ أظافرُهْ
فهل تستطيع أن تُبعِد عن خيالك هذه الصورة المخيفة للموت، وهي صورةُ حيوان مفترس ضرِّجتْ أظافره بدماءِ قتلاه؟
لهذا كانت الاستعارةُ أبلغَ من التشبيه البليغ؛ لأنه وإِن بني على ادعاءِ أنَّ المشبَّه والمشبَّه به سواءٌ لا يزال فيه التشبيه ملحوظاً بخلاف الاستعارة فالتشبيهُ فيها مَنْسيٌّ مجحُودٌ؛ ومن ذلك يظهر لك أنَّ الاستعارة المرشحةَ أبلغُ من المطْلَقَةِ، وأنَّ المطلقة أبلغُ منَ المجردة.
أمَّا بلاغةُ الاستعارة من حيثُ الابتكارُ ورَوْعَة الخيال، وما تحدثه من أثرٍ في نفوس سامعيها، فمجالٌ فسيحٌ للإبداع، وميدانٌ لتسابق المجيدين من فُرسان الكلام.
انظر إلى قوله عزَّ شأْنه في وصف النار: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} ( الملك :8) ، ترتسم أمامك النار في صورة مخلوقِ ضَخْمٍ بطَّاشٍ مكفهرِّ الوجه عابسٍ يغلي صدرُه حقدًا وغيظاً.
ثم انظر إلى قول أبى العتاهية في تهنئة المهدي بالخلافة:
أتتْهُ الخِلاَفَةُ مُنْقادَةً إلَيْهِ تُجَرِّرُ أذْيالَها
تجد أنَّ الخِلافة غادةٌ هيفاءُ مُدَلَّلَة ملولٌ فُتن الناس بها جميعاً، وهي تأْبى عليهم وتصدُّ إِعراضاً، ولكنها تأْتي للمهدي طائعة في دلال وجمال تجرُّ أَذيالها تيهاً وخفرًا.
هذه صورة لا شك رائعة أَبْدع أَبو العتاهية تصويرها، وستبقى حُلوة في الأسماع حبيبةً إِلى النفوس ما بقي الزمان.
ثم اسمع قول البارودي:
إِذَا اسْتَلَّ مِنْهُمْ سَيِّدٌ غَرْبَ سَيْفِهِ تفزَّعتِ الأفلاكُ ، والتفَتَ الدَهرُ
وخبرني عما تحسُّ وعما ينتابك من هول مما تسمع، وقل لنا :كيف خطرت في نفسك صورة الأَجرام السماوية العظيمة حيَّةً حساسة تَرتعِد فَزَعاً وَوَهَلا، وكيف تصورتَ الدهر وهو يلتفتُ دهشاً وذهولاً؟
ثم اسمع قوله في منفاه وهو نهْبُ اليأْس والأمل:
أَسْمَعُ فِي قَلْبِي دَبِيبَ الْمُنَى وألمحُ الشُّبهة َ فى خاطِرِى
تجد أَنه رسم لك صورة للأمل يتمَشى في النفس تمشيًّا مُحَسًّا يسمعه بأْذنه. وأنَّ الظنون والهواجس صار لها جسم يراه بعينه؛ هل رأَيت إِبداعاً فوق هذا في تصويره الشك والأمل يتجاذبان؟ وهل رأيت ما كان للاستعارة البارعة من الأَثر في هذا الإِبداع؟
ثم انظر قول الشريف الرضي في الودَاع :
نَسرِقُ الدّمعَ في الجُيوبِ حَياءً وَبِنَا مَا بِنَا مِنَ الإشفَاقِ
هو يسرق الدمع حتى لا يُوصمَ بالضعف والخَور ساعةَ الوداع، وقد كان يستطيع أن يقول: "نَستُر الدمع في الجيوب حياءً"؛ ولكنه يريد أن يسمو إِلى نهاية المُرْتقَى في سحر البيان، فإنَّ الكلمة "نسْرِقُ" ترسُم في خيالك صورةً لشدة خوفه أَنْ يظهر فيه أثرٌ للضعف، ولمهارته وسرعته في إِخفاء الدمع عن عيون الرقباء.
===========
كتاب البلاغة الواضحة : علي الجارم و مصطفى أمين.