التشبيه
أولا (تعريف التشبيه)
التشْبيه : بَيان أَن شَيْئا أَو أشْياء شاركَت غيرها في صفة أو أَكثر، بأَداة هي الكاف أَو نحوها ملفوظةً أَو ملحوظةً.
نحو قول المَعَرِّيُّ في الْمَديح:
أَنْتَ كالشَّمْس في الضِّياءِ وإِن جا وَزْتَ كيوانَ فِى عُلُوّ المكان.
عَرفَ الشاعِرُ أَن مَمْدُوحَه وَ ضِيءٌ الوجهِ مُتَلألئُ الطلعة، فأَراد أن يأْتي له بمَثِيل تَقْوَى فيه الصفةُ، وهي الضياء والإشراقُ فلم يجد أقوى من الشمس، فضاهاه بها، ولبيان المضاهاة أتي بالكاف.
وقال آخرُ:
أَنْتَ كاللَّيْثِ في الشَّجَاعةِ والإقْدام وَالسَّيْفِ في قِراعِ الخُطوب .
رأى الشاعر ممدوحه متصفاً بوصفَيْن، هما الشجاعة ومصارعة الشدائد، فَبحَث له عن نَظيرَيْن في كلٍّ منهما إِحدى هاتين الصفتين قويةً، فضاهاه بالأسدِ في الأولى، وبالسيف في الثانية، وبيَّن هذه المضاهاة بأَداة هي الكاف.
وقال آخرُ:
كأَنَّ أَخْلاقَكَ فِي لُطْفِها ورقَّةٍ فِيها نَسِيمُ الصَّباحْ
وجَدَ الشاعرُ أخلاق صَدِيقِه دمِثَةً لَطِيفَةً تَرتاحُ لها النفسُ، فَعملَ على أنْ يأْتي لها بنظير تَتَجَلَّى فيه هذه الصَّفة وتَقْوَى، فرأَى أنَّ نسيمَ الصباح كذلك فَعَقَدَ المماثلة بينهما، وبيَّن هذه المماثلة بالحرف "كأن".
وقال آخرُ :
كأَنَّما الْماءُ فِي صفاءٍ وَقَدْ جَرَى ذَائِبُ اللُّجَيْن
عَمِل الشاعِرُ على أَنْ يَجدَ مثيلاً للماء الصافي تَقْوَى فيه صِفَةُ الصفاء، فرأَى أَنَّ الفضة الذائبةَ تَتجلَّى فيها هذه الصفةُ فماثل بينهما، وبيَّن هذه المماثلة بالحرف "كأنَّ".
فأَنتَ ترى في كل بيت من الأبيات الأَربعة أَنَّ شيئاً جُعِلَ مَثِيلَ شيء في صفةٍ مشتركة بينهما، وأَنَّ الذي دلّ على هذه المماثلة أَداةٌ هي الكاف أَو كأَن، وهذا ما يُسَمَّى بالتشبيه.
ثانيًا(أركان التشبيه)
انظر إلى هذا المثال:
( محمد مثل الأسد في الشجاعة)
فنجد كلمة ( محمد) هي ما نريد تشبيهه لذلك تسمى( المشبه).
وكلمة( الأسد) هي ما نريد التشبيه به لذلك تسمى (المشبه به).
وكلمة(مثل) هي أداة التشبيه.
وكلمة(الشجاعة) وهي الصفة التي اشتركت بين المشبه و المشبه به لذلك تسمى(وجه الشبه).
إذن فلا بدَّ للتشبيه من أَركان أَربعة:
1. الشيء الذي يراد تشبيهه ويسمَّى المشبَّه.
2. والشيءَ الذي يُشَبَّه به ويُسمَّى المشبَّه به.
(وهذان يسميان طرفي التشبيه).
3. والصفةُ المشتركة بين الطرفين وتسمَّى وجه الشَّبَه، ويجب أَنْ تكون هذه الصفةُ في المشَبَّه به أَقوى وأَشهَرَ منها في المشبَّه كما رأَيت في الأمثلة.
4. ثم أداةُ التشبيه وهي الكاف وكأَن ونحوهما .
ثالثاً : أقسام التشبيه: من حيث ذكر الأداة ووجه الشبه أو حذفهما
للتشبيه من حيث ذكر الأداة ووجه الشبه أو حذفهما أقسام خمسة:
1. التشبيهُ الْمُرْسَلُ ما ذُكِرَتْ فِيه الأداةُ.
نحو قول الشاعر:
أنا كالماءَ إِنْ رَضيتُ صفاءً وإذَا مَا سَخطتُ كُنتُ لهيبا.
يُشبه الشاعر نفسه في البيت الأَول في حال رضاه بالماء الصافي الهادئ، وفي حال غضبه بالنار الملتهبة، فهو محبوبٌ مخوف .
وانظر إلى هذا المثال تجد أداة التشبيه مذكورة وهي ( الكاف) , والتشبيه الذي تذكر فيه الأداة يسمى ( تشبيه مرسلا)
2. التشبيهُ الْمُؤَكَّد ما حُذِفتْ منهُ الأَداة.
مثال: (الجَوَادُ في السرعة بَرْقٌ خاطِفٌ).
نجده في هذا المثال شُبِّه الجوادُ بالبرق في السرعة، من غير أَن تذكر أداةُ التشبيه ، وذلك لتأكيدِ الادعاء بأَنَّ المشبَّه عينُ المشبَّه به، وهذا النوعُ يسمَّى ( تشبيهاً مؤكدًا).
3. التشبيهُ الْمُجْمل ما حُذِف منه وجهُ الشبهِ.
نحو قول ابنُ المعتزّ:
وكأَنَّ الشمْسَ الْمُنِيرَةَ دِيـ ـنارٌ جَلَتْهُ حَدَائِدُ الضَّرَّابِ.
يشبِّه ابنُ المعتز الشمس عند الشروق بدينار مجلوّ قريب عهده بدار الضرب، ولم يذكر وجه الشبه وهو (الاصفرارُ والبريق)، ويسمَّى هذا النوع من التشبيه، وهو الذي لم يذكرْ فيه وجهُ الشبه ( تشبيهاً مجملاً).
4. التشبيهُ الْمُفَصَّلُ ما ذُكِرَ فيه وجهُ الشبهِ.
نحو : ( الجندي كالأسد في الشجاعة)
نلاحظ في هذا المثال أنه شبه الجندي بالأسد , وقد ذكر وجه الشبه و هو ( الشجاعة) و التشبيه الذي يذكر فيه وجه الشبه يسمى( التشبيه المفصل).
5. التشبيه البليغُ ما حُذِفت منهُ الأَداةُ ووَجهُ الشبه .
نحو قول وقدِ اعْتَزَمَ سيفُ الدولةِ سَفَرًا :
أيْنَ أزْمَعْتَ أيُّهذا الهُمامُ؟ نَحْنُ نَبْتُ الرُّبَى وأنتَ الغَمامُ .
يسأَلُ المتنبي ممدوحه في تظاهر بالذعر والهلَع قائلا: أين تقصد؟ وكيف ترحل عنا؟ ونحن لا نعيشُ إلا بك، لأَنك كالغمام الذي يحيي الأَرض بعد موتها، ونحن كالنَّبتِ الذي لا حياة له بغير الغمامِ.
وإذا تأَملت هذ التشبيه رأيت أنه من نوع التشبيه المؤكَّد، ولكنه جمع إلى حذف الأداة حذفَ وجه الشَّبه.
وذلك لأَنَّ المتكلم عمد إِلى المبالغة والإِغراق في ادِّعاء أنَّ المشبَّه هو المشبَّه به نفْسُه؛ لذلك أَهملَ الأَداة التي تدلُّ على أَنَّ المشبَّه أَضعفُ في وجه الشبه من المشبَّه به، وأَهملَ ذكرَ وجه الشبه الذي ينمُ عن اشتراك الطرفين في صفة أو صفاتٍ دون غيرها.
ويسمَّى هذا النوع بـ (التشبيه البليغِ)، وهو مظهرٌ من مظاهر البلاغة وميدان فسيحٌ لتسابق المجيدين من الشعراء والكتاب.
رابعا: أقسام التشبيه من حيث نوع وجه الشبه:
ينقسم التشبيه من حيث وجه الشبه إلى قسمين :
تشبيه التمثيل , تشبيه غير التمثيل.
ويُسمَّى التشبيهُ تمثيلاً إِذا كان وجهُ الشَّبه فيهِ صورةً مُنْتَزَعَةً منْ متعددٍ، وغيْرَ تَمْثِيل إِذَا لم يَكُنْ وجْهُ الشَّبَهِ كذلك.
(أ ) تشبيه التمثيل:
نحو قول البُحْتُريُّ:
هُوَ بَحْرُ السّماحِ، والجُودِ، فازْدَدْ مِنْهُ قُرْباً، تَزْدَدْ من الفَقْرِ بُعْدا
وقول امْرُؤُ الْقَيْس :
وَلَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُولَهُ عليَّ بأنواع الهُمومِ ليبتَلي
انظر إلى المثالين السابقين تجد البحتري يشبه ممدوحَه بالبحر في الجود والسماح، وينصح للناس أن يقتربوا منه ليبتعدوا من الفقر.
ويشبه امرؤ القيس الليل في ظلامه وهوْله بموج البحر، وأنَّ هذا الليل أرخَى حُجُبَهُ عليه مصحوبةً بالهموم والأحزان ليختبر صبْرَهُ وقوة احتماله.
وإِذا تأملت وجْه الشبه في كل واحد من هذين التشبيهين رأيتَ أنه صفةٌ أو صفاتٌ اشتركتْ بين شيئين ليس غيرُ، هي هنا :
اشتراك الممدوح والبحر في صفة الجودِ، واشتراكُ الليل وموجِ البحرِ في صفتين هما الظلمةُ والروعةُ.
ويسمَّى وجه الشبه إذا كان كذلك مفردًا، وكونه مفردًا لا يمنع من تعدد الصفات المشتركة، ويسمَّى التشبيهُ الذي يكون وجه الشَّبه فيه كذلك تشبيهاً غير تمثيل.
(ب) تشبيه غير التمثيل:
نحو قول أبو فراس الحمداني:
والماءُ يفصلُ بينَ زهـ رِ الروضِ ، في الشَّطَّينِ، فَصْلا
كَبِسَاطِ وَشْيٍ، جَرّدَتْ أيْدِي القُيُونِ عَلَيْهِ نَصْلاَ
يشبِّهُ أَبو فِراس حال ماء الجدول، وهو يجري بين روضتين على شاطئيه حلَّاهما الزَّهْر ببدائع ألوانه مُنْبثًّا بين الخُضرة الناضرة، بحال سيفٍ لماعٍ لا يزال في بريقِ جدَّته، وقد جرّدَه القُيُونُ على بساطٍ من حريرٍ مُطَرَّزٍ.
أَينَ وجهُ الشبهِ؟ أتظنُّ أَنَّ الشاعر يريد أنْ يَعْقِدَ تشبيهين: الأَولُ تشبيهُ الجدول بالسيفِ، والثاني تشبيهُ الروضة بالبِساط الْمُوَشّى؟ لا، إِنّه لم يرد ذلك، إِنما يريد أَنْ يشبّه صورةً رآها بصورة تخيلها، يريدُ أنْ يشبِّه حال الجدول وهو بين الرياض بحالِ السيف فوق البساط الموشَّى، فوجهُ الشبه هنا صورةٌ لا مفردٌ، وهذه الصورةُ مأخوذةٌ أَو مُنْتَزَعَةٌ من أَشياء عدَّة، والصورة المشتركةُ بين الطرفين هي وجود بياضٍ مستطيلٍ حوله اخضرار فيه أَلوان مختلفةٌ.
ففي هذا التشبيه رأيتَ أنَّ وجهَ الشَّبهِ فيها صورةٌ مكوَّنةٌ من أشياءَ عِدَّةٍ يسمَّى كلُّ تشبيهٍ فيها تمثيلاً.
خامسا: التشبيه الضمني.
التشبيهُ الضِّمنيُّ: تشبيهٌ لا يُوضعُ فيه الْمُشَبَّهُ والمشبَّهُ بهِ في صورةٍ من صُورِ التشبيهِ المعروفةِ ،بَلْ يُلْمَحان فِي الترْكِيبِ.
أي أننا نفهم من الكلام ضمنا وجود تشبيه.
وهذا النوع يُؤْتَى به لِيُفيدَ أن َّالحُكم الذي أُسْنِدَ إلَى المشَبَّهِ مُمكنٌ.
قد يتخذ الكاتبُ أو الشاعر طريقة منَ البلاغة يوحي فيها بالتشبيه منْ غير أنْ يُصرِّحَ بها في صورةٍ من صورهِ المعروفة ، يفعلُ ذلك نُزوعاً إلى الابتكار، وإِقامةِ للدليل على الحكم الذي أَسندهُ إلى المشبَّه، ورغبةً في إخفاءِ التشبيه، لأَنَّ التشبيه كلما دقَّ وخَفيَ كان أبلغَ وأفعل في النفس.
أمثلة مع التحليل:
1- قال أَبو تمّام :
لاَ تُنْكِرِي عَطَلَ الْكَريم مِنَ الْغِنَى فالسَّيْلُ حرْبٌ لِلْمكانِ الْعالِي
في هذا البيت يقول أبو تمام لمنْ يخاطبها: لا تستنكري خلوَّ الرجل الكريم منَ الغنى فإنَّ ذلك ليس عجيباً، لأَن قِمَمَ الجبال وهي أشرفُ الأَماكن وأعلاها لا يستقرُّ فيها ماءُ السيلِ.
ألم تلمح هنا تشبيهاً؟ ألم تر أنه يشبِّهُ ضِمْناً الرجلَ الكريمَ المحرومَ الغِنى بِقمّة الجبل وقد خلت منْ ماء السيل؟ ولكنه لم يضَعْ ذلك صريحاً بل أتى بجملة مستقلةٍ وضمَّنها هذا المعنى في صورة برهانٍ.
2- قال ابن الرومي :
قَدْ يَشِيبُ الْفَتَى وَلَيْسَ عجيباً … أَنْ يُرَى النَّورُ في الْقَضِيبِ الرَّطيبِ
يقول ابن الروميِّ: إنَّ الشابَّ قد يشيبُ ولم تتقدمْ به السنُّ، وإنَّ ذلك ليس بعجيبٍ، فإنَّ الغصنَ الغضَّ الرطب قد يظهرُ فيه الزهر الأَبيضُ.
فابنُ الرومي هنا لم يأْت بتشبيهٍ صريح فإنه لم يقل: إِنَّ الفتى وقد وَخَطَهُ الشيبُ كالغصنِ الرطيب حين إزهاره، ولكنه أتى بذلك ضمنًا.
3- قال أَبو الطيبِ :
مَنْ يَهُنْ يَسهُلِ الهَوانُ عليهِ ما لجرْحٍ بميتٍ إيلامُ
يقول أبو الطيب: إنَّ الذي اعتادَ الهوانَ يسهلُ عليه تحمُّلهُ ولا يتأَلم له، وليس هذا الادعاءُ باطلاً؛ لأَنَّ الميتَ إذا جُرحَ لا يتأَلمُ، وفي ذلك تلميحٌ بالتشبيه في غير صراحةٍ.
ففي الأبياتِ الثلاثة تجِدُ أركانَ التشبيهِ وتَلْمحُهُ ،ولكنك لا تجدُه في صورةٍ من صوره التي عرفتها، وهذا يسمَّى بالتشبيهِ الضمنيِّ.
سادسا: التشبيه المقلوب.
التشبيهُ المقلوبُ : هو جعل المشبَّهِ مشبَّهاً به بادِّعاءِ أَنَّ وجه الشبه فيه أَقوَى وأَظهرُ.
الأمثلة مع التحليل:
قال محمد بن وُهيْب الحمْيَريُّ :
وبَدا الصباحُ كأن غُرَّتهُ وَجهُ الخليفة حينَ يُمْتَدحُ
يقول الحِمْيَرِي: إِنَّ تباشير الصباح تشبه في التلألؤ وجه الخليفة عند سماعه المديح، فأنت ترى هنا أنَّ هذا التشبيه خرج عما كان مستقرًّا في نفسك منْ أنَّ الشيءَ يُشَبَّه دائماً بما هو أَقوَى منه في وجه الشبهِ، إذِ المألوفُ أَنْ يقال إِنَّ الخليفة يشبه الصباحَ، ولكنه عكس وقلب للمبالغة والإغراق بادعاءِ أَنَّ وجهَ الشبه أَقوَى في المشبَّه، وهذا التشبيهُ مظهرٌ من مظاهر الافتنان والإبداع.
وقال البحتريُّ :
كأن سَنَاها بالعَشِيِّ لصبُحها تبَسُّمُ عيسى حين يلفظُ بالوعْدِ
يشبه البحترى برق السحابة الذي استمر لماعاً طوال الليل يتبسم ممدوحه حينما يَعِدُّ بالعطاء، ولا شك أَن لمعان البرق أَقوى من بريق الابتسام، فكان المعهود أن يشبه الابتسام بالبرق كما هي عادة الشعراء، ولكن البحتري قلب التشبيه .
وقال حافظ إبراهيم :
أحِنُّ لهم ودُونَهُمُ فَلاة ٌ كأنَّ فَسِيحَها صَدرُ الحَليمِ
وهنا يشبه حافظ إبراهيم الفلاة بصدر الحليم في الاتساع، وهذا أَيضاً تشبيه مقلوب.
سابعا: أغراض التشبيه :
أَغْرَاضُ التشبيهِ كثيرةٌ منها ما يأْتي:
(أ) بيانُ إِمْكانٍ المشبَّه: وذلك حِينَ يُسْنَدُ إِليْهِ أمْر مُسْتغْرَبٌ لا تزول غرابتُه إلا بذكر شبيهٍ له.
نحو قول البحتريُّ :
دانٍ على أيْدي العُفَاةِ، وَشَاسعٌ عَنْ كُلّ نِدٍّ في العلا، وَضَرِيبِ
كالبَدْرِ أفرَطَ في العُلُوّ، وَضَوْءُهُ للعُصْبَةِ السّارِينَ جِدُّ قَرِيبِ.
وصف البحتريُّ ممدوحَه في البيت الأول بأَنه قريبٌ للمحتاجين، بعيدُ المنزلة، بينه وبين نُظَرَائهِ في الكرم بَوْنٌ شاسعٌ.
ولكنَّ البحتري حينما أَحسَّ أَنه وصف ممدوحَه بوصفين متضادينِ، هما القُربُ والبُعدُ، أَرادَ أَنْ يبينَ لك أَنَّ ذلك ممكنٌ، وأنْ ليس في الأمر تناقضٌ؛ فشبَّه ممدوحَه بالبدرِ الذي هو بعيدٌ في السماء ولكنَّ ضوءَه قريبٌ جدًّا للسائرين بالليل، وهذا أَحدُ أَغراض التشبيه وهو بيان إِمكانِ المشبَّه.
(ب) بيانُ حالِهِ: وذلك حينما يكونُ المشبَّهُ غيرَ معروف الصفةِ قَبْلَ التشبيه فَيُفيدُهُ التشبيهُ الوصفَ.
نحو قول النَّابغة الذُّبْيانيُّ يمدح النعمان بن المنذر:
فإِنَّكَ شَمْسٌ والمُلُوكُ كَواكِبٌ إِذا طَلَعَتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهنَّ كَوْكَبُ
فالنَّابغة يُشبِّهُ ممدوحَه بالشمس ويشبِّه غيره من الملوك بالكواكبِ، لأَنَّ سطوةَ الممدوح تَغُضُّ من سطوةِ كل ملكٍ كما تخفِي الشمسُ الكواكبَ، فهو يريد أَنْ يبين حالَ المدوح وحالَ غيره من الملوك، وبيانُ الحال منْ أَغراض التشبيه أَيضاً.
(جـ) بيانُ مقدار حالِهِ: وذلك إذا كان المشبَّهُ معروفَ الصفةِ قَبْلَ التشبيهِ مَعْرفَةً إِجْماليَّةً وكان التشبيه يُبَيِّنُ مقدارَ هذه الصفةِ.
نحو قول المتنبي في وصف أسد :
ما قُوبِلَتْ عَيْناهُ إلاّ ظُنّتَا تَحْتَ الدُّجَى نارَ الفَريقِ حُلُولا
المتنبي هنا يصفُ عيْني الأَسدِ في الظلام بشدةِ الاحمرار والتوقدِ، حتى إِنَّ من يراهما من بُعْدٍ يظنهما ناراً لقومٍ حُلول مقيمين، فلو لم يعْمدِ المتنبي إِلى التشبيه لقال: إِنَّ عَيْنَي الأَسدِ محمرتانِ ولكنه اضْطْرَّ إِلى التشبيه لِيُبَيِّنَ مقدارَ هذا الاحمرار وعِظَمه، وهذا منْ أغراض التشبيه أيضاً.
(د) تَقْريرُ حالِهِ: كما إذا كانَ ما أُسْنِدَ إِلى المشبَّه يحتاج إِلى التثبيت والإِيضاح بالمثال.
نحو قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ}(الرعد:14).
أمَّا الآيةُ الكريمة فإنها تتحدث في شأن مَنْ يعْبدونَ الأوثان، وأنهم إذا دعوا آلهتَهم لا يستجيبون لهم، ولا يرجعُ إليهم هذا الدعاءُ بفائدةٍ، وقدْ أرادَ الله جل شأْنه أنْ يُقرِّر هذه الحال ويُثَبتَها في الأَذهانِ، فشبَّهَ هؤلاءِ الوثنيينِ بمن يبسُط كفيهِ إلى الماء ليشربَ فلا يصلُ الماءُ إلى فمه بالبداهة؛ لأنه يَخْرُجُ من خلالِ أصابعه ما دامت كفاهُ مبسوطتينِ.
فالغرضُ منْ هذا التشبيه تقريرُ حال المشبَّهِ، ويأْتي هذا الغرضُ حينما يكون المشبَّهُ أمرًا معنويًّا؛ لأَنَّ النفسَ لا تجزم بالمعنوياتِ جزمَها بالحسيَّات، فهي في حاجةٍ إلى الإقناعِ.
(هـ) تَزْيينُ الْمُشَبَّهِ أو تَقْبيحُهُ.
نحو قول أَبو الحسن الأَنباريِّ في مصلوبٍ :
مَدَدْتَ يَدَيْكَ نَحْوَهُمُ احتِفاءً كَمَدّهِماَ إِلَيْهِمْ بالهباتِ
بيتُ أبي الحسن الأنباري من قصيدةٍ نالتْ شهرةً في الأدب العربي لا لشيءٍ إلا أنها حسّنتْ ما أجمعَ الناسُ على قُبحه والاشمئزازَ منه "وهو الصَّلْبُ" فهو يشبّهُ مدَّ ذراعي المصلوبِ على الخشبة والناسُ حولَه بمدِّ ذراعيهِ بالعطاءِ للسائلينَ أيام حياتهِ.
والغرضُ من هذا التشبيه التزيينُ، وأكثر ما يكون هذا النوع ُفي المديحِ والرثاء والفخر ووصفِ ما تميلُ إليه النفوسُ.
وقال أَعرابي في ذم امرأَته:
وتَفْتَحُ – لا كانتْ – فَماً لَو رَأَيْتَهُ توَهَّمْتَهُ باباً مِنَ النَّار يُفْتَحُ
والأعرابيُّ في البيت الأخيرِ يتحدَّثُ عن امرأته في سُخط وألمٍ، حتى إِنه ليدعو عليها بالحرمانِ منَ الوجود فيقول: "لا كانتْ"، ويشبِّهُ فمها حينما تفتحُه ببابٍ من أبوابِ جهنَّم.
والغرضُ من هذا التشبيه التقبيحُ، وأكثرُ ما يكونُ في الهجاءِ ووصفِ ما تنفِرُ منه النفسُ.
ثامنا: بلاغة التشبيه.
تنْشأُ بلاغةُ التشبيه منْ أنه ينتقل بكَ منَ الشيء نفسِه إلى شيءٍ طريفٍ يشبهه، أو صورةٍ بارعة تمثِّله.
وكلما كان هذا الانتقالُ بعيدًا قليلَ الخطورة بالبال، أو ممتزجاً بقليل أو كثيرٍ من الخيال، كان التشبيهُ أروعَ للنفس وأدعَى إلى إعجابها واهتزازها.
فإذا قلتَ: فلانٌُ يُشبه فلاناً في الطول.
أو إِنَّ الأرضَ تشبهُ الكره في الشكل.
أو أَنَّ الجزرَ البريطانية تشبهُ بلادَ اليابان.
لم يكنْ لهذه التشبيهاتِ أثرٌ للبلاغةِ؛ لظهورِ المشابهةِ وعدم احتياج العثور عليها إلى براعةٍ وجهْدٍ أدبيٍّ، ولخلوها منَ الخيال.
وهذا الضربُ منَ التشبيه يُقصَدُ به البيانُ والإيضاح وتقريبُ الشيء إلى الأفهام، وأكثر ما يستعمل في العلوم والفنون.
ولكنكَ تأخذكَ رَوْعةُ التشبيه حينما تسمعُ قول المعري يَصِف نجماً:
يُسرِعُ اللّمحَ في احمرارٍ كما تُسرِعُ في اللّمحِ مُقلةُ الغَضبانِ
فإنَّ تشبيهَ لمحات النجم وتأَلقِه مع احمرارِ ضوئه بسرعةِ لمحةِ الغضبان من التشبيهاتِ النادرة التي لا تنقادُ إلا لأَديب.
ومنْ ذلك قولُ الشاعر:
وكأنَ النُّجُومَ بينَ دُجاها سُننٌ لاحَ بينهُنَّ ابتداعُ
فإِنَّ جمال هذا التشبيه جاء من شعورك ببراعة الشاعر وحذقه في عقد المشابهة بين حالتين ما كان يخطر بالبال تشابههما، وهما حالةُ النجوم في رُقْعةِ الليل بحال السُّننِ الدينية الصحيحة متفرقةً بين البدعِ الباطلةٍ.
ولهذا التشبيه روْعةٌ أخرى جاءََت منْ أَنَّ الشاعر تخيّل أنَّ السنن مضيئةٌ لمَّاعةٌ، وأَنَّ البدعَ مظلمةٌ قاتمةٌ.
ومنِ أبدع التشبيهاتِ قولُ المتنبي :
بَليتُ بِلى الأطْلالِ إنْ لم أقِفْ بها وُقوفَ شَحيحٍ ضاعَ في التُّرْبِ خاتمُهْ
يدعو على نفسه بالبلى والفناءِ إِذا هو لم يقفْ بالأَطلال ليذكرَ عهد مَن كانوا بها، ثم أَراد أَنْ يصوِّرَ لك هيئةَ وقوفه فقال: كما يقفُ شحيِحٌ فقد خاتمهُ في التراب.
مَنْ كان يُوفَّقُ إلى تصوير حال الذاهلِ المتحير المحزون المطرقِ برأسه المنتقل منْ مكان إِلى مكان في اضطراب ودهشة بحال شحيحٍ فقد في التراب خاتمًا ثميناً؟ ولو أردنا أن نورد لك أمثلة منْ هذا النوع لطالَ الكلامُ.
هذه هي بلاغةُ التشبيه من حيث مبلَغ طرافته وبُعد مرماهُ ومقدار ما فيه من خيالٍ، أمَّا بلاغته من حيثُ الصورةُ الكلاميةُ التي يوضع فيها أيضًا:
فأقلُّ التشبيهات مرتبةً في البلاغة : ما ذكرتْ أركانُه جميعُها؛ لأنَّ بلاغةَ التشبيه مبنيَّةٌ على ادعاءِ أَنَّ المشبّه عين المشبَّه به، ووجودُ الأداة ووجهِ الشبه معاً يحولان دون هذا الادعاء، فإذا حذفتِ الأَداةُ وحدها، أو وجهُ الشبه وحده، ارتفعت درجةُ التشبيه في البلاغة قليلاً، لأَنَّ حذف أحد هذين يقوي ادعاءَ اتحاد المشبَّه والمشبَّه به بعض التقوية.
وأمَّا أبلغ أنواع التشبيهِ : فالتشبيهُ البليغُ، لأنه مبنيٌّ على ادِّعاء أنَّ المشبَّه والمشبَّه به شيءٌ واحدٌ.
هذا- وقد جرى العربُ والمُحدَثون على تشبيه الجوادِ بالبحر والمطر، والشجاعِ بالأَسد، والوجه الحسن بالشمس والقمر، والشَّهمِ الماضي في الأُمور بالسيف، والعالي المنزلة بالنَّجم، والحليم الرزين بالجبلِ، والأَمانيِّ الكاذبة بالأحلامِ، والوجه الصبيح بالدينار، والشعر الفاحم بالليل، والماء الصافي باللجَيْنِ، والليل بموج البحر، والجيش بالبحر الزاخر، والخيْل بالريح والبرْق، والنجوم بالدرر والأَزهار، والأَسنان بِالبَرْدِ واللؤلؤ، والسفُنِ بالجبال ،والجداولِ بالحيات الملتوية، والشّيْبِ بالنهار ولمْع السيوف، وغُرَّةِ الفرس بالهلال. ويشبهون الجبانَ بالنَّعامة والذُّبابةِ، واللئيم بالثعلب، والطائشَ بالفَراش، والذليلَ بالوتدِ. والقاسي بالحديد والصخر، والبليدَ بالحِمار، والبخِيل بالأرض المُجْدِيَة.
وقد اشتهر رجالٌ من العرب بِخلال محمودةٍ فصاروا فيها أعلاماً فجرَى التشبيهُ بهم:
فيشبه الكريم بحاتم.
والعادل بعُمر.
والحليم بالأحْنَف.
والفصيح بسحْبان.
والخطيب بقُسٍّ .
والشجاع بعْمرو بن مَعْديكرب.
والحكيمُ بلقمان.
والذكيُّ بإياس.
واشتهر آخرين بصفاتٍ ذميمة فجرَى التشبيهُ بهم أَيضاً:
فيشبه العِييُّ بباقِل .
والأحمقُ بهبَنَّقَةَ.
والنادمُ بالكُسعِيّ.
والبخيل بمارد.
والهجَّاءُ بالحُطيّئَة.
والقاسي بالحجاج.
===========
كتاب البلاغة الواضحة: على الجارم و مصطفى أمين.
أولا (تعريف التشبيه)
التشْبيه : بَيان أَن شَيْئا أَو أشْياء شاركَت غيرها في صفة أو أَكثر، بأَداة هي الكاف أَو نحوها ملفوظةً أَو ملحوظةً.
نحو قول المَعَرِّيُّ في الْمَديح:
أَنْتَ كالشَّمْس في الضِّياءِ وإِن جا وَزْتَ كيوانَ فِى عُلُوّ المكان.
عَرفَ الشاعِرُ أَن مَمْدُوحَه وَ ضِيءٌ الوجهِ مُتَلألئُ الطلعة، فأَراد أن يأْتي له بمَثِيل تَقْوَى فيه الصفةُ، وهي الضياء والإشراقُ فلم يجد أقوى من الشمس، فضاهاه بها، ولبيان المضاهاة أتي بالكاف.
وقال آخرُ:
أَنْتَ كاللَّيْثِ في الشَّجَاعةِ والإقْدام وَالسَّيْفِ في قِراعِ الخُطوب .
رأى الشاعر ممدوحه متصفاً بوصفَيْن، هما الشجاعة ومصارعة الشدائد، فَبحَث له عن نَظيرَيْن في كلٍّ منهما إِحدى هاتين الصفتين قويةً، فضاهاه بالأسدِ في الأولى، وبالسيف في الثانية، وبيَّن هذه المضاهاة بأَداة هي الكاف.
وقال آخرُ:
كأَنَّ أَخْلاقَكَ فِي لُطْفِها ورقَّةٍ فِيها نَسِيمُ الصَّباحْ
وجَدَ الشاعرُ أخلاق صَدِيقِه دمِثَةً لَطِيفَةً تَرتاحُ لها النفسُ، فَعملَ على أنْ يأْتي لها بنظير تَتَجَلَّى فيه هذه الصَّفة وتَقْوَى، فرأَى أنَّ نسيمَ الصباح كذلك فَعَقَدَ المماثلة بينهما، وبيَّن هذه المماثلة بالحرف "كأن".
وقال آخرُ :
كأَنَّما الْماءُ فِي صفاءٍ وَقَدْ جَرَى ذَائِبُ اللُّجَيْن
عَمِل الشاعِرُ على أَنْ يَجدَ مثيلاً للماء الصافي تَقْوَى فيه صِفَةُ الصفاء، فرأَى أَنَّ الفضة الذائبةَ تَتجلَّى فيها هذه الصفةُ فماثل بينهما، وبيَّن هذه المماثلة بالحرف "كأنَّ".
فأَنتَ ترى في كل بيت من الأبيات الأَربعة أَنَّ شيئاً جُعِلَ مَثِيلَ شيء في صفةٍ مشتركة بينهما، وأَنَّ الذي دلّ على هذه المماثلة أَداةٌ هي الكاف أَو كأَن، وهذا ما يُسَمَّى بالتشبيه.
ثانيًا(أركان التشبيه)
انظر إلى هذا المثال:
( محمد مثل الأسد في الشجاعة)
فنجد كلمة ( محمد) هي ما نريد تشبيهه لذلك تسمى( المشبه).
وكلمة( الأسد) هي ما نريد التشبيه به لذلك تسمى (المشبه به).
وكلمة(مثل) هي أداة التشبيه.
وكلمة(الشجاعة) وهي الصفة التي اشتركت بين المشبه و المشبه به لذلك تسمى(وجه الشبه).
إذن فلا بدَّ للتشبيه من أَركان أَربعة:
1. الشيء الذي يراد تشبيهه ويسمَّى المشبَّه.
2. والشيءَ الذي يُشَبَّه به ويُسمَّى المشبَّه به.
(وهذان يسميان طرفي التشبيه).
3. والصفةُ المشتركة بين الطرفين وتسمَّى وجه الشَّبَه، ويجب أَنْ تكون هذه الصفةُ في المشَبَّه به أَقوى وأَشهَرَ منها في المشبَّه كما رأَيت في الأمثلة.
4. ثم أداةُ التشبيه وهي الكاف وكأَن ونحوهما .
ثالثاً : أقسام التشبيه: من حيث ذكر الأداة ووجه الشبه أو حذفهما
للتشبيه من حيث ذكر الأداة ووجه الشبه أو حذفهما أقسام خمسة:
1. التشبيهُ الْمُرْسَلُ ما ذُكِرَتْ فِيه الأداةُ.
نحو قول الشاعر:
أنا كالماءَ إِنْ رَضيتُ صفاءً وإذَا مَا سَخطتُ كُنتُ لهيبا.
يُشبه الشاعر نفسه في البيت الأَول في حال رضاه بالماء الصافي الهادئ، وفي حال غضبه بالنار الملتهبة، فهو محبوبٌ مخوف .
وانظر إلى هذا المثال تجد أداة التشبيه مذكورة وهي ( الكاف) , والتشبيه الذي تذكر فيه الأداة يسمى ( تشبيه مرسلا)
2. التشبيهُ الْمُؤَكَّد ما حُذِفتْ منهُ الأَداة.
مثال: (الجَوَادُ في السرعة بَرْقٌ خاطِفٌ).
نجده في هذا المثال شُبِّه الجوادُ بالبرق في السرعة، من غير أَن تذكر أداةُ التشبيه ، وذلك لتأكيدِ الادعاء بأَنَّ المشبَّه عينُ المشبَّه به، وهذا النوعُ يسمَّى ( تشبيهاً مؤكدًا).
3. التشبيهُ الْمُجْمل ما حُذِف منه وجهُ الشبهِ.
نحو قول ابنُ المعتزّ:
وكأَنَّ الشمْسَ الْمُنِيرَةَ دِيـ ـنارٌ جَلَتْهُ حَدَائِدُ الضَّرَّابِ.
يشبِّه ابنُ المعتز الشمس عند الشروق بدينار مجلوّ قريب عهده بدار الضرب، ولم يذكر وجه الشبه وهو (الاصفرارُ والبريق)، ويسمَّى هذا النوع من التشبيه، وهو الذي لم يذكرْ فيه وجهُ الشبه ( تشبيهاً مجملاً).
4. التشبيهُ الْمُفَصَّلُ ما ذُكِرَ فيه وجهُ الشبهِ.
نحو : ( الجندي كالأسد في الشجاعة)
نلاحظ في هذا المثال أنه شبه الجندي بالأسد , وقد ذكر وجه الشبه و هو ( الشجاعة) و التشبيه الذي يذكر فيه وجه الشبه يسمى( التشبيه المفصل).
5. التشبيه البليغُ ما حُذِفت منهُ الأَداةُ ووَجهُ الشبه .
نحو قول وقدِ اعْتَزَمَ سيفُ الدولةِ سَفَرًا :
أيْنَ أزْمَعْتَ أيُّهذا الهُمامُ؟ نَحْنُ نَبْتُ الرُّبَى وأنتَ الغَمامُ .
يسأَلُ المتنبي ممدوحه في تظاهر بالذعر والهلَع قائلا: أين تقصد؟ وكيف ترحل عنا؟ ونحن لا نعيشُ إلا بك، لأَنك كالغمام الذي يحيي الأَرض بعد موتها، ونحن كالنَّبتِ الذي لا حياة له بغير الغمامِ.
وإذا تأَملت هذ التشبيه رأيت أنه من نوع التشبيه المؤكَّد، ولكنه جمع إلى حذف الأداة حذفَ وجه الشَّبه.
وذلك لأَنَّ المتكلم عمد إِلى المبالغة والإِغراق في ادِّعاء أنَّ المشبَّه هو المشبَّه به نفْسُه؛ لذلك أَهملَ الأَداة التي تدلُّ على أَنَّ المشبَّه أَضعفُ في وجه الشبه من المشبَّه به، وأَهملَ ذكرَ وجه الشبه الذي ينمُ عن اشتراك الطرفين في صفة أو صفاتٍ دون غيرها.
ويسمَّى هذا النوع بـ (التشبيه البليغِ)، وهو مظهرٌ من مظاهر البلاغة وميدان فسيحٌ لتسابق المجيدين من الشعراء والكتاب.
رابعا: أقسام التشبيه من حيث نوع وجه الشبه:
ينقسم التشبيه من حيث وجه الشبه إلى قسمين :
تشبيه التمثيل , تشبيه غير التمثيل.
ويُسمَّى التشبيهُ تمثيلاً إِذا كان وجهُ الشَّبه فيهِ صورةً مُنْتَزَعَةً منْ متعددٍ، وغيْرَ تَمْثِيل إِذَا لم يَكُنْ وجْهُ الشَّبَهِ كذلك.
(أ ) تشبيه التمثيل:
نحو قول البُحْتُريُّ:
هُوَ بَحْرُ السّماحِ، والجُودِ، فازْدَدْ مِنْهُ قُرْباً، تَزْدَدْ من الفَقْرِ بُعْدا
وقول امْرُؤُ الْقَيْس :
وَلَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُولَهُ عليَّ بأنواع الهُمومِ ليبتَلي
انظر إلى المثالين السابقين تجد البحتري يشبه ممدوحَه بالبحر في الجود والسماح، وينصح للناس أن يقتربوا منه ليبتعدوا من الفقر.
ويشبه امرؤ القيس الليل في ظلامه وهوْله بموج البحر، وأنَّ هذا الليل أرخَى حُجُبَهُ عليه مصحوبةً بالهموم والأحزان ليختبر صبْرَهُ وقوة احتماله.
وإِذا تأملت وجْه الشبه في كل واحد من هذين التشبيهين رأيتَ أنه صفةٌ أو صفاتٌ اشتركتْ بين شيئين ليس غيرُ، هي هنا :
اشتراك الممدوح والبحر في صفة الجودِ، واشتراكُ الليل وموجِ البحرِ في صفتين هما الظلمةُ والروعةُ.
ويسمَّى وجه الشبه إذا كان كذلك مفردًا، وكونه مفردًا لا يمنع من تعدد الصفات المشتركة، ويسمَّى التشبيهُ الذي يكون وجه الشَّبه فيه كذلك تشبيهاً غير تمثيل.
(ب) تشبيه غير التمثيل:
نحو قول أبو فراس الحمداني:
والماءُ يفصلُ بينَ زهـ رِ الروضِ ، في الشَّطَّينِ، فَصْلا
كَبِسَاطِ وَشْيٍ، جَرّدَتْ أيْدِي القُيُونِ عَلَيْهِ نَصْلاَ
يشبِّهُ أَبو فِراس حال ماء الجدول، وهو يجري بين روضتين على شاطئيه حلَّاهما الزَّهْر ببدائع ألوانه مُنْبثًّا بين الخُضرة الناضرة، بحال سيفٍ لماعٍ لا يزال في بريقِ جدَّته، وقد جرّدَه القُيُونُ على بساطٍ من حريرٍ مُطَرَّزٍ.
أَينَ وجهُ الشبهِ؟ أتظنُّ أَنَّ الشاعر يريد أنْ يَعْقِدَ تشبيهين: الأَولُ تشبيهُ الجدول بالسيفِ، والثاني تشبيهُ الروضة بالبِساط الْمُوَشّى؟ لا، إِنّه لم يرد ذلك، إِنما يريد أَنْ يشبّه صورةً رآها بصورة تخيلها، يريدُ أنْ يشبِّه حال الجدول وهو بين الرياض بحالِ السيف فوق البساط الموشَّى، فوجهُ الشبه هنا صورةٌ لا مفردٌ، وهذه الصورةُ مأخوذةٌ أَو مُنْتَزَعَةٌ من أَشياء عدَّة، والصورة المشتركةُ بين الطرفين هي وجود بياضٍ مستطيلٍ حوله اخضرار فيه أَلوان مختلفةٌ.
ففي هذا التشبيه رأيتَ أنَّ وجهَ الشَّبهِ فيها صورةٌ مكوَّنةٌ من أشياءَ عِدَّةٍ يسمَّى كلُّ تشبيهٍ فيها تمثيلاً.
خامسا: التشبيه الضمني.
التشبيهُ الضِّمنيُّ: تشبيهٌ لا يُوضعُ فيه الْمُشَبَّهُ والمشبَّهُ بهِ في صورةٍ من صُورِ التشبيهِ المعروفةِ ،بَلْ يُلْمَحان فِي الترْكِيبِ.
أي أننا نفهم من الكلام ضمنا وجود تشبيه.
وهذا النوع يُؤْتَى به لِيُفيدَ أن َّالحُكم الذي أُسْنِدَ إلَى المشَبَّهِ مُمكنٌ.
قد يتخذ الكاتبُ أو الشاعر طريقة منَ البلاغة يوحي فيها بالتشبيه منْ غير أنْ يُصرِّحَ بها في صورةٍ من صورهِ المعروفة ، يفعلُ ذلك نُزوعاً إلى الابتكار، وإِقامةِ للدليل على الحكم الذي أَسندهُ إلى المشبَّه، ورغبةً في إخفاءِ التشبيه، لأَنَّ التشبيه كلما دقَّ وخَفيَ كان أبلغَ وأفعل في النفس.
أمثلة مع التحليل:
1- قال أَبو تمّام :
لاَ تُنْكِرِي عَطَلَ الْكَريم مِنَ الْغِنَى فالسَّيْلُ حرْبٌ لِلْمكانِ الْعالِي
في هذا البيت يقول أبو تمام لمنْ يخاطبها: لا تستنكري خلوَّ الرجل الكريم منَ الغنى فإنَّ ذلك ليس عجيباً، لأَن قِمَمَ الجبال وهي أشرفُ الأَماكن وأعلاها لا يستقرُّ فيها ماءُ السيلِ.
ألم تلمح هنا تشبيهاً؟ ألم تر أنه يشبِّهُ ضِمْناً الرجلَ الكريمَ المحرومَ الغِنى بِقمّة الجبل وقد خلت منْ ماء السيل؟ ولكنه لم يضَعْ ذلك صريحاً بل أتى بجملة مستقلةٍ وضمَّنها هذا المعنى في صورة برهانٍ.
2- قال ابن الرومي :
قَدْ يَشِيبُ الْفَتَى وَلَيْسَ عجيباً … أَنْ يُرَى النَّورُ في الْقَضِيبِ الرَّطيبِ
يقول ابن الروميِّ: إنَّ الشابَّ قد يشيبُ ولم تتقدمْ به السنُّ، وإنَّ ذلك ليس بعجيبٍ، فإنَّ الغصنَ الغضَّ الرطب قد يظهرُ فيه الزهر الأَبيضُ.
فابنُ الرومي هنا لم يأْت بتشبيهٍ صريح فإنه لم يقل: إِنَّ الفتى وقد وَخَطَهُ الشيبُ كالغصنِ الرطيب حين إزهاره، ولكنه أتى بذلك ضمنًا.
3- قال أَبو الطيبِ :
مَنْ يَهُنْ يَسهُلِ الهَوانُ عليهِ ما لجرْحٍ بميتٍ إيلامُ
يقول أبو الطيب: إنَّ الذي اعتادَ الهوانَ يسهلُ عليه تحمُّلهُ ولا يتأَلم له، وليس هذا الادعاءُ باطلاً؛ لأَنَّ الميتَ إذا جُرحَ لا يتأَلمُ، وفي ذلك تلميحٌ بالتشبيه في غير صراحةٍ.
ففي الأبياتِ الثلاثة تجِدُ أركانَ التشبيهِ وتَلْمحُهُ ،ولكنك لا تجدُه في صورةٍ من صوره التي عرفتها، وهذا يسمَّى بالتشبيهِ الضمنيِّ.
سادسا: التشبيه المقلوب.
التشبيهُ المقلوبُ : هو جعل المشبَّهِ مشبَّهاً به بادِّعاءِ أَنَّ وجه الشبه فيه أَقوَى وأَظهرُ.
الأمثلة مع التحليل:
قال محمد بن وُهيْب الحمْيَريُّ :
وبَدا الصباحُ كأن غُرَّتهُ وَجهُ الخليفة حينَ يُمْتَدحُ
يقول الحِمْيَرِي: إِنَّ تباشير الصباح تشبه في التلألؤ وجه الخليفة عند سماعه المديح، فأنت ترى هنا أنَّ هذا التشبيه خرج عما كان مستقرًّا في نفسك منْ أنَّ الشيءَ يُشَبَّه دائماً بما هو أَقوَى منه في وجه الشبهِ، إذِ المألوفُ أَنْ يقال إِنَّ الخليفة يشبه الصباحَ، ولكنه عكس وقلب للمبالغة والإغراق بادعاءِ أَنَّ وجهَ الشبه أَقوَى في المشبَّه، وهذا التشبيهُ مظهرٌ من مظاهر الافتنان والإبداع.
وقال البحتريُّ :
كأن سَنَاها بالعَشِيِّ لصبُحها تبَسُّمُ عيسى حين يلفظُ بالوعْدِ
يشبه البحترى برق السحابة الذي استمر لماعاً طوال الليل يتبسم ممدوحه حينما يَعِدُّ بالعطاء، ولا شك أَن لمعان البرق أَقوى من بريق الابتسام، فكان المعهود أن يشبه الابتسام بالبرق كما هي عادة الشعراء، ولكن البحتري قلب التشبيه .
وقال حافظ إبراهيم :
أحِنُّ لهم ودُونَهُمُ فَلاة ٌ كأنَّ فَسِيحَها صَدرُ الحَليمِ
وهنا يشبه حافظ إبراهيم الفلاة بصدر الحليم في الاتساع، وهذا أَيضاً تشبيه مقلوب.
سابعا: أغراض التشبيه :
أَغْرَاضُ التشبيهِ كثيرةٌ منها ما يأْتي:
(أ) بيانُ إِمْكانٍ المشبَّه: وذلك حِينَ يُسْنَدُ إِليْهِ أمْر مُسْتغْرَبٌ لا تزول غرابتُه إلا بذكر شبيهٍ له.
نحو قول البحتريُّ :
دانٍ على أيْدي العُفَاةِ، وَشَاسعٌ عَنْ كُلّ نِدٍّ في العلا، وَضَرِيبِ
كالبَدْرِ أفرَطَ في العُلُوّ، وَضَوْءُهُ للعُصْبَةِ السّارِينَ جِدُّ قَرِيبِ.
وصف البحتريُّ ممدوحَه في البيت الأول بأَنه قريبٌ للمحتاجين، بعيدُ المنزلة، بينه وبين نُظَرَائهِ في الكرم بَوْنٌ شاسعٌ.
ولكنَّ البحتري حينما أَحسَّ أَنه وصف ممدوحَه بوصفين متضادينِ، هما القُربُ والبُعدُ، أَرادَ أَنْ يبينَ لك أَنَّ ذلك ممكنٌ، وأنْ ليس في الأمر تناقضٌ؛ فشبَّه ممدوحَه بالبدرِ الذي هو بعيدٌ في السماء ولكنَّ ضوءَه قريبٌ جدًّا للسائرين بالليل، وهذا أَحدُ أَغراض التشبيه وهو بيان إِمكانِ المشبَّه.
(ب) بيانُ حالِهِ: وذلك حينما يكونُ المشبَّهُ غيرَ معروف الصفةِ قَبْلَ التشبيه فَيُفيدُهُ التشبيهُ الوصفَ.
نحو قول النَّابغة الذُّبْيانيُّ يمدح النعمان بن المنذر:
فإِنَّكَ شَمْسٌ والمُلُوكُ كَواكِبٌ إِذا طَلَعَتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهنَّ كَوْكَبُ
فالنَّابغة يُشبِّهُ ممدوحَه بالشمس ويشبِّه غيره من الملوك بالكواكبِ، لأَنَّ سطوةَ الممدوح تَغُضُّ من سطوةِ كل ملكٍ كما تخفِي الشمسُ الكواكبَ، فهو يريد أَنْ يبين حالَ المدوح وحالَ غيره من الملوك، وبيانُ الحال منْ أَغراض التشبيه أَيضاً.
(جـ) بيانُ مقدار حالِهِ: وذلك إذا كان المشبَّهُ معروفَ الصفةِ قَبْلَ التشبيهِ مَعْرفَةً إِجْماليَّةً وكان التشبيه يُبَيِّنُ مقدارَ هذه الصفةِ.
نحو قول المتنبي في وصف أسد :
ما قُوبِلَتْ عَيْناهُ إلاّ ظُنّتَا تَحْتَ الدُّجَى نارَ الفَريقِ حُلُولا
المتنبي هنا يصفُ عيْني الأَسدِ في الظلام بشدةِ الاحمرار والتوقدِ، حتى إِنَّ من يراهما من بُعْدٍ يظنهما ناراً لقومٍ حُلول مقيمين، فلو لم يعْمدِ المتنبي إِلى التشبيه لقال: إِنَّ عَيْنَي الأَسدِ محمرتانِ ولكنه اضْطْرَّ إِلى التشبيه لِيُبَيِّنَ مقدارَ هذا الاحمرار وعِظَمه، وهذا منْ أغراض التشبيه أيضاً.
(د) تَقْريرُ حالِهِ: كما إذا كانَ ما أُسْنِدَ إِلى المشبَّه يحتاج إِلى التثبيت والإِيضاح بالمثال.
نحو قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ}(الرعد:14).
أمَّا الآيةُ الكريمة فإنها تتحدث في شأن مَنْ يعْبدونَ الأوثان، وأنهم إذا دعوا آلهتَهم لا يستجيبون لهم، ولا يرجعُ إليهم هذا الدعاءُ بفائدةٍ، وقدْ أرادَ الله جل شأْنه أنْ يُقرِّر هذه الحال ويُثَبتَها في الأَذهانِ، فشبَّهَ هؤلاءِ الوثنيينِ بمن يبسُط كفيهِ إلى الماء ليشربَ فلا يصلُ الماءُ إلى فمه بالبداهة؛ لأنه يَخْرُجُ من خلالِ أصابعه ما دامت كفاهُ مبسوطتينِ.
فالغرضُ منْ هذا التشبيه تقريرُ حال المشبَّهِ، ويأْتي هذا الغرضُ حينما يكون المشبَّهُ أمرًا معنويًّا؛ لأَنَّ النفسَ لا تجزم بالمعنوياتِ جزمَها بالحسيَّات، فهي في حاجةٍ إلى الإقناعِ.
(هـ) تَزْيينُ الْمُشَبَّهِ أو تَقْبيحُهُ.
نحو قول أَبو الحسن الأَنباريِّ في مصلوبٍ :
مَدَدْتَ يَدَيْكَ نَحْوَهُمُ احتِفاءً كَمَدّهِماَ إِلَيْهِمْ بالهباتِ
بيتُ أبي الحسن الأنباري من قصيدةٍ نالتْ شهرةً في الأدب العربي لا لشيءٍ إلا أنها حسّنتْ ما أجمعَ الناسُ على قُبحه والاشمئزازَ منه "وهو الصَّلْبُ" فهو يشبّهُ مدَّ ذراعي المصلوبِ على الخشبة والناسُ حولَه بمدِّ ذراعيهِ بالعطاءِ للسائلينَ أيام حياتهِ.
والغرضُ من هذا التشبيه التزيينُ، وأكثر ما يكون هذا النوع ُفي المديحِ والرثاء والفخر ووصفِ ما تميلُ إليه النفوسُ.
وقال أَعرابي في ذم امرأَته:
وتَفْتَحُ – لا كانتْ – فَماً لَو رَأَيْتَهُ توَهَّمْتَهُ باباً مِنَ النَّار يُفْتَحُ
والأعرابيُّ في البيت الأخيرِ يتحدَّثُ عن امرأته في سُخط وألمٍ، حتى إِنه ليدعو عليها بالحرمانِ منَ الوجود فيقول: "لا كانتْ"، ويشبِّهُ فمها حينما تفتحُه ببابٍ من أبوابِ جهنَّم.
والغرضُ من هذا التشبيه التقبيحُ، وأكثرُ ما يكونُ في الهجاءِ ووصفِ ما تنفِرُ منه النفسُ.
ثامنا: بلاغة التشبيه.
تنْشأُ بلاغةُ التشبيه منْ أنه ينتقل بكَ منَ الشيء نفسِه إلى شيءٍ طريفٍ يشبهه، أو صورةٍ بارعة تمثِّله.
وكلما كان هذا الانتقالُ بعيدًا قليلَ الخطورة بالبال، أو ممتزجاً بقليل أو كثيرٍ من الخيال، كان التشبيهُ أروعَ للنفس وأدعَى إلى إعجابها واهتزازها.
فإذا قلتَ: فلانٌُ يُشبه فلاناً في الطول.
أو إِنَّ الأرضَ تشبهُ الكره في الشكل.
أو أَنَّ الجزرَ البريطانية تشبهُ بلادَ اليابان.
لم يكنْ لهذه التشبيهاتِ أثرٌ للبلاغةِ؛ لظهورِ المشابهةِ وعدم احتياج العثور عليها إلى براعةٍ وجهْدٍ أدبيٍّ، ولخلوها منَ الخيال.
وهذا الضربُ منَ التشبيه يُقصَدُ به البيانُ والإيضاح وتقريبُ الشيء إلى الأفهام، وأكثر ما يستعمل في العلوم والفنون.
ولكنكَ تأخذكَ رَوْعةُ التشبيه حينما تسمعُ قول المعري يَصِف نجماً:
يُسرِعُ اللّمحَ في احمرارٍ كما تُسرِعُ في اللّمحِ مُقلةُ الغَضبانِ
فإنَّ تشبيهَ لمحات النجم وتأَلقِه مع احمرارِ ضوئه بسرعةِ لمحةِ الغضبان من التشبيهاتِ النادرة التي لا تنقادُ إلا لأَديب.
ومنْ ذلك قولُ الشاعر:
وكأنَ النُّجُومَ بينَ دُجاها سُننٌ لاحَ بينهُنَّ ابتداعُ
فإِنَّ جمال هذا التشبيه جاء من شعورك ببراعة الشاعر وحذقه في عقد المشابهة بين حالتين ما كان يخطر بالبال تشابههما، وهما حالةُ النجوم في رُقْعةِ الليل بحال السُّننِ الدينية الصحيحة متفرقةً بين البدعِ الباطلةٍ.
ولهذا التشبيه روْعةٌ أخرى جاءََت منْ أَنَّ الشاعر تخيّل أنَّ السنن مضيئةٌ لمَّاعةٌ، وأَنَّ البدعَ مظلمةٌ قاتمةٌ.
ومنِ أبدع التشبيهاتِ قولُ المتنبي :
بَليتُ بِلى الأطْلالِ إنْ لم أقِفْ بها وُقوفَ شَحيحٍ ضاعَ في التُّرْبِ خاتمُهْ
يدعو على نفسه بالبلى والفناءِ إِذا هو لم يقفْ بالأَطلال ليذكرَ عهد مَن كانوا بها، ثم أَراد أَنْ يصوِّرَ لك هيئةَ وقوفه فقال: كما يقفُ شحيِحٌ فقد خاتمهُ في التراب.
مَنْ كان يُوفَّقُ إلى تصوير حال الذاهلِ المتحير المحزون المطرقِ برأسه المنتقل منْ مكان إِلى مكان في اضطراب ودهشة بحال شحيحٍ فقد في التراب خاتمًا ثميناً؟ ولو أردنا أن نورد لك أمثلة منْ هذا النوع لطالَ الكلامُ.
هذه هي بلاغةُ التشبيه من حيث مبلَغ طرافته وبُعد مرماهُ ومقدار ما فيه من خيالٍ، أمَّا بلاغته من حيثُ الصورةُ الكلاميةُ التي يوضع فيها أيضًا:
فأقلُّ التشبيهات مرتبةً في البلاغة : ما ذكرتْ أركانُه جميعُها؛ لأنَّ بلاغةَ التشبيه مبنيَّةٌ على ادعاءِ أَنَّ المشبّه عين المشبَّه به، ووجودُ الأداة ووجهِ الشبه معاً يحولان دون هذا الادعاء، فإذا حذفتِ الأَداةُ وحدها، أو وجهُ الشبه وحده، ارتفعت درجةُ التشبيه في البلاغة قليلاً، لأَنَّ حذف أحد هذين يقوي ادعاءَ اتحاد المشبَّه والمشبَّه به بعض التقوية.
وأمَّا أبلغ أنواع التشبيهِ : فالتشبيهُ البليغُ، لأنه مبنيٌّ على ادِّعاء أنَّ المشبَّه والمشبَّه به شيءٌ واحدٌ.
هذا- وقد جرى العربُ والمُحدَثون على تشبيه الجوادِ بالبحر والمطر، والشجاعِ بالأَسد، والوجه الحسن بالشمس والقمر، والشَّهمِ الماضي في الأُمور بالسيف، والعالي المنزلة بالنَّجم، والحليم الرزين بالجبلِ، والأَمانيِّ الكاذبة بالأحلامِ، والوجه الصبيح بالدينار، والشعر الفاحم بالليل، والماء الصافي باللجَيْنِ، والليل بموج البحر، والجيش بالبحر الزاخر، والخيْل بالريح والبرْق، والنجوم بالدرر والأَزهار، والأَسنان بِالبَرْدِ واللؤلؤ، والسفُنِ بالجبال ،والجداولِ بالحيات الملتوية، والشّيْبِ بالنهار ولمْع السيوف، وغُرَّةِ الفرس بالهلال. ويشبهون الجبانَ بالنَّعامة والذُّبابةِ، واللئيم بالثعلب، والطائشَ بالفَراش، والذليلَ بالوتدِ. والقاسي بالحديد والصخر، والبليدَ بالحِمار، والبخِيل بالأرض المُجْدِيَة.
وقد اشتهر رجالٌ من العرب بِخلال محمودةٍ فصاروا فيها أعلاماً فجرَى التشبيهُ بهم:
فيشبه الكريم بحاتم.
والعادل بعُمر.
والحليم بالأحْنَف.
والفصيح بسحْبان.
والخطيب بقُسٍّ .
والشجاع بعْمرو بن مَعْديكرب.
والحكيمُ بلقمان.
والذكيُّ بإياس.
واشتهر آخرين بصفاتٍ ذميمة فجرَى التشبيهُ بهم أَيضاً:
فيشبه العِييُّ بباقِل .
والأحمقُ بهبَنَّقَةَ.
والنادمُ بالكُسعِيّ.
والبخيل بمارد.
والهجَّاءُ بالحُطيّئَة.
والقاسي بالحجاج.
===========
كتاب البلاغة الواضحة: على الجارم و مصطفى أمين.