الإمام مالك والمسح على الخفين
*للشيخ عبد العزيز محي الدين الجزائري
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ المسح على الخفين من المسائل المجمع عليها بين علماء الأمة ، فلا تفتح كتاباً من الكتب التي اعتنت بمسائل الإجماع إلا وتجده ينص عليها([1]) ؛ إذ بلغت الأحاديث التي نصت على المسح على الخفين مبلغ التواتر ، فلذلك تجد معظم كتب السنة لا تخلوا أبواب كتبها من باب " المسح على الخفين " ، وما ذلك إلا لكثرة الرواة الذين رووا هذا الخبر الذي هو كالغرة في جبين الفرس فقد ُذكر عن الحسن البصري أنه قال : (( حدثني سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين )) ([2]) ، ولم يقتصر الأمر على كتب الحديث بل حتى كتب العقيدة تجدها تنص عليه في جملة المسائل العقدية ؛ إذ أصبح شعاراً لأهل السنة به يتمايزون عن أهل الطوائف الضالة .
والإمام مالك رحمه الله ، من جملة المحدثين الذين رووا أحاديث المسح على الخفين ، وموطؤُه أكبر شاهدٍ على ذلك إلا أن هناك بعض الروايات نقلها الأصحاب عن الإمام مالك تفيد أنه كان لا يرى المسح على الخفين ، فهل هذا من الإمام مالك - رحمه الله - إنكار للمسح على الخفين ؟ هذا ما أريد أن أجيب عنه من خلال هذا البحث .
وقد قسمته إلى مطلبين أحدهما تكلمت فيه عن موقف الإمام مالك من المسح في السفر والحضر ، والآخر تكلمت فيه عن موقف الإمام مالك من المسح في الحضر ، وختمت البحث بخاتمة بينت فيها ما استقر عليه الإمام مالك في هذه المسألة .
الإمام مالك وموقفه من المسح على الخفين في الحضر والسفر :
روي عن الإمام مالك أنه قال : (( لا يمسح المقيم ولا المسافر )) ([3]) ، ظاهر هذه الرواية يدل على أن الإمام مالكاً يمنع المسح على الخفين ، ومعنى المنع أن الخبر الوارد في المسح على الخفين لم يثبت عند الإمام مالك أو ثبت عنده إلا أن ثمت معارض عارض به هذا الخبر ، وقد جنح الشيخ أبو بكر الأبهري إلى هذا الأخير عندما حاول أن يجد تأويلاً لهذه الرواية ، وهذا المعارض من وجهة نظره هو النسخ ، فأحاديث المسح على الخفين منسوخة بآية الوضوء([4]) ، وهذا التوجيه والتأويل من الشيخ أبي بكر الأبهري يصطدم بحديث جرير الذي قال فيه : (( .... رأيت رسول الله r بال ثم توضأ ، ومسح على خفيه )) ([5]) ، وإسلام جرير t كان بعد نزول سورة المائدة ، وهذا يعني أن احتمال النسخ غير وارد البتة .
ويبدو أن هذه الرواية قد شكك في صحتها كثير من محققي المذهب وجهابذته وفي مقدمتهم الشيخ أبو بكر الأبهري الذي قال - عند تأويله لهذه الرواية - : (( .... فإن صحت هذه الرواية .... )) ([6]) ، ولعل الحافظ ابن عبد البركان يعنيها عندما قال : (( .... رواية أنكرها أكثر القائلين بقوله .... )) ([7]) ، ووصفها بأنها شديدة النكارة([8]) ، وذهب الحافظ أبو العباس القرطبي إلى أنها غير صحيحة (ورواية ابن وهب التي صحت تدفعها) وتخالفها مخالفة ظاهرة([9]) .
ورواية ابن وهب التي أشار لها الحافظ أبو العباس هي ما رواه ابن وهب عن الإمام مالك أنه قال : (( لا أمسح في حضر ولا في سفر )) ([10]) ، فهذه الرواية صححها غير واحد من نقاد المذهب ومحققيه ، ومن بينهم الحافظ أبو العباس القرطبي([11]) .
وظاهر الرواية - كما هو ملاحظ - أن الإمام مالكاً ترك المسح على الخفين في خاصة نفسه ، ولم يفت بمنعه على الغير ، (( وقد يترك العالم ما يفتي بجوازه )) ([12]) ، ولهذا نجد الإمام المازري عند تأويله لهذه الرواية يجنح إلى أن الإمام مالكاً اختار لنفسه الغسل على المسح ، وإن كان يرى جواز المسح على الخفين([13]) ، وهذا مثل ما أثر عن بعض الصحابة أنهم كانوا يفضلون الغسل([14]) .
ومما يدعم هذا التوجيه لقول الإمام ويقويه ما رواه ابن نافع عن الإمام مالك انه قال (( المسح على الخفين في الحضر والسفر صحيح يقين لا شك فيه إلا أني كنت آخذ نفسي بالطهور فلا أرى من مسح مقصراً فيما يجب عليه ورأى المسح قوياً والصلاة تامة )) ([15]) .
وكذلك ما رواه ابن حبيب عن ابن الماجشون و مطرفاً أنهما قالا : (( لم يختلف فيه أهل السنة وما علمنا مالكاً ولا غيره من علمائنا أنكر ذلك في الحضر والسفر )) ([16]) .
هذا كله يؤكد بطلان الرواية الأولى وشذوذها ! فلهذا نجد المالكية لا يعرجون عليها ولا يذكرونها في كتبهم إلا نادراً .
موقف الإمام مالك من المسح على الخفين في الحضر :
وردت عن الإمام مالك في مسح الخفين للمقيم روايتان إحداهما المنع من المسح ، والثانية إجازة المسح .
فالرواية الأولى رواها ابن القاسم عن الإمام مالك ، جاء في المدونة : (( قال [أي ابن القاسم] : وقال مالك : لا يمسح المقيم على خفيه ... )) ([17]) .
ووجود هذه الرواية في المدونة ، وكونها من رواية ابن القاسم يجعلها في أعلى درجات القوة والقبول عند المالكية ! فلهذا نصوا عليها في كتبهم([18]) ، ونصروها بالأدلة العقلية .
ومن استدلالهم لهذا القول هو أن المسح أبيح لضرورة السفر الذي غالباً ما يكون مصحوباً بالمشقة ، وكذلك فإن السفر يفارق الحضر بكثرة الرخص التي خص بها ، فتجد الشارع قد خصه بالقصر ، والفطر بالنسبة للصائم ، والتنفل على الدابة وما شابه ذلك([19]) .
ولكن هذا الدليل العقلي يتهاوى أمام الأحاديث الصحيحة التي تثبت المسح في الحضر ؛ فلهذا نجد الحافظ ابن عبد البر يعلق على هذا الاستدلال بقوله : (( .... وهذا ليس بشيء ؛ لأن القياس والنظر لا يعرج عليه مع صحة الأثر )) ([20]) .
ولماذا كان لا يعتد بهذا القياس ؟ ؛ لأنه قياس في مقابلة النص ، ومن ثم فهو فاسد الاعتبار .
ومن جملة هذه الأحاديث حديث علي بن أبي طالب t الذي قال فيه : (( جعل رسول الله r ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم )) ([21]) ، وحديث حذيفة الذي قال فيه : (( كنت مع النبي r فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائماً فتنحيت ، فقال : ادنه ، فدنوت حتى قمت عند عقبيه ، فتوضأ ، فمسح على خفيه )) ([22]) ، وإضافة السباطة([23]) إلى قوم تدل على أن رسول الله r كان في الحضر ، ومما يؤكد هذا ما رواه ابن عبد البر بسنده إلى حذيفة أنه قال : (( كنت أمشي مع النبي r بالمدينة فانتهى إلى سابطة قوم .... )) ([24]) .
هذه الأحاديث وغيرها تقوي ما ذهب إليه الإمام مالك في الرواية الثانية من إباحة المسح في الحضر وأكبر شاهد على هذه الرواية موطؤه الذي عقد فيه باباً خاصاً للمسح على الخفين ، وأورد فيه عدة أحاديث تدل على المسح في الحضر منها : (( أن عبد الله بن عمر قدم الكوفة على سعد بن أبي وقاص ، وهو أميرها فرآه عبد الله ابن عمر يمسح على الخفين ، فأنكر ذلك عليه ، فقال له سعد : سل أباك إذا قدمت عليه .... فسأله عبد الله ، فقال عمر : إذا أدخلت رجليك في الخفين ، وهما طاهرتان ، فامسح عليهما )) ([25]) .
فإنكار ابن عمر على سعد يدل على أن المسح كان في الحضر ، وهذا ما توضحه رواية ابن جريج عن نافع الذي جاء فيها : (( .... وهو مقيم بالكوفة .... )) ([26]) .
فوجود هذا الحديث وغيره في الموطأ يزيد الرواية ثقلاً في ميزان الترجيح عند علماء المذهب ، ويصيرها راجحة ومقدَّمة على غيرها ، وهذا ما جعل القاضي أبو الوليد الباجي يجزم بأن هذا القول هو الذي رجع إليه الإمام مالك([27]) .
الخاتمة
مما سبق يتبين أن الإمام مالكاً استقر رأيه في مسألة المسح على الخفين على إجازة المسح في الحضر والسفر([28]) ، وأن الروايات التي وردت عن الإمام مالك تمنع المسح على الخفين مطلقاً أو تمنعه في الحضر أو ما ظاهرها إنكار المسح يردها موطؤه الذي نقله الجم الغفير من الرواة ، والذي عكف عليه ينقحه ويدرّسه إلى أن فارق هذه الحياة .
ويردها كذلك تلك الروايات التي نقلها عنه أصحابه الذين لازموه وشاهدوا أحواله ومات بين أظهرهم ، ورواية ابن نافع المدني الذي لازم الإمام مالكاً ردحاً من الزمن ترسخ هذه الحقيقة ، وخصوصاً عندما نعلم بأن الإمام مالكاً قال ذلك الكلام ، وهو يجود بروحه([29]) ، وهذا ما حدا بابن رشد أن يجزم بأن : (( الصحيح من مذهب مالك إجازة المسح في السفر والحضر ، فهو مذهبه في موطئه وعليه مات )) ([30]) .
هذا ما تيسر لي جمعه في هذا الموضوع ، وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين .
وكتبه عبد العزيز محي الدين
دمشق في 26/محرم/1426 ه
الموافق لِـ 7/مارس/2006 م
--------------------------------------------------------------------------------
[1]- انظر على سبيل المثال كتاب الإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان : 1/223 .
[2]- فتح الباري : 1/306 .
[3]- المنتقي للباجي : 1/77 .
[4]- انظر : المنتقي : 1/77 .
[5]- أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب الطهارة ، باب المسح على الخفين ، (إكمال المعلم بفوائد مسلم) .
[6]- المنتقى : 1/77 .
[7]- الاستذكار : 1/258 ، ويقصد الحافظ ابن عبد البر (( بقوله ... )) أي الإمام مالك رحمه الله .
[8]- انظر الاستذكار لابن عبد البر : 1/260 .
[9]- انظر : المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبي العباس القرطبي : 1/527 .
[10]- النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني : 1/93 .
[11]- انظر : المفهم : 1/527 .
[12]- الذخيرة : 1/313 .
[13]- انظر : إكمال المعلم للقاضي عياض : 2/80 .
[14]- انظر الاستذكار لابن عبد البر : 1/260 .
[15]- البيان والتحصيل لابن رشد : 1/84 .
[16]- النوادر والزيادات : 1/94 .
[17]- المدونة : 1/49 .
[18]- انظر : المعونة : 1/135 ، والإشراف : 1/131-132 .
[19]- انظر إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض ، والإشراف للقاضي عبد الوهاب : 1/131-132 .
وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر أن بعض المالكية استدلوا بحديث شريح ابن هانئ الذي قال فيه : (( أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين ، فقالت : عليك بابن أبي طالب ! فإنه كان يسافر مع رسول الله r فسألناه فقال : جعل رسول الله r ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ، ويوماً وليلة للمقيم )) ، انظر الاستذكار : 1/261-262 وفي هذا الذي ذكره الحافظ ابن عبد البر نظر ، وذلك أنني بحثت في المراجع التي هي مظانَّ الأدلة في الفقه المالكي فلم أجد من يستدل بهذا الحديث لنصرة المسألة ! بل كل ما وجدته هو اقتصارهم على الدليل العقلي فقط ، وكذلك فإن الحديث فيه الدليل على المسح في الحضر فكيف يستدلون بدليل يكون عليهم لا لهم ، والغريب أن ابن عبد البر وصف من استدل بهذا الحديث في هذه المسألة بأنه لم يمعن النظر ، وتساءل قائلاً : (( .... فكيف يسوغ لعاقل أن يحتج بحديث موضع الحجة منه عليه لا له )) ، التمهيد : 4/393 .
[20]- الاستذكار 1/262 .
[21]- أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ، كتاب الطهارة ، باب التوقيت في المسح على الخفين (إكمال المعلم) .
[22]- أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ، كتاب الطهارة ، باب المسح على الخفين (إكمال المعلم) .
[23]- السباطة : المزبلة .
[24]- التمهيد : 4/394 .
[25]- أخرجه الإمام مالك في موطئه ، كتاب الطهارة ، باب ما جاء في المسح على الخفين .
[26]- التمهيد : 4/392 .
[27]- انظر : المنتقي : 1/77 .
[28]- انظر : شرح البخاري لابن بطال : 1/304 .
[29]- انظر : البيان والتحصيل : 1/84 .
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=89723