بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
فمن المعلوم لدى من شم أدنى رائحة للفقه أن المتفقه لا يمكنه أن يرتقي لمصاف الفقهاء المحققين , ولا أن ينال منزلة أولي الأفهام الذين يُحكِمون التعامل مع المسائل والنوازل إلا إذا عاش دهراً مع إنتاجهم , وأبحر في لجج مصنفاتهم , وتأمل درر كلامهم , وغذى عقله بمتين تقريراتهم وتعليلاتهم, وهو في ذلك مفتقر للصبر والمثابرة , ولن يرى الأثر إلا بعد المكابدة , لاسيما وأن اختلاف العصر والمصر قد يجعل في القول غرابة ووحشة بالنسبة للقارئ الذي لم يعتَد عليه , وما أكثر ما يمر بمن تقَحَّم هذا الشأن نصٌ فقهي في مدونات السالفين, مشكلٌ فهمه , وغامض مقصوده , فيحار المتفقه في إدراك معناه , ويتمنى لو وقف على سرِّه ومغزاه , وربما مرت عليه الأوقات , وتصرَّمت الساعات , وكدَّ ذهنه وأتعب فكره ولمَّا يَنَل بُغيته . ولقد غاب عن عقل فئام من الطلبة أن المؤلفات والمصنفات لها مفاتيح تفك أقفالها , وآلات تفتح مغاليقها , وأدوات تستخرج كنوزها , فهي تحتاج إلى منهج علمي في التعامل معها , حتى يعقلها المرء , ويتشرَّبها القلب , وفي هذه الورقة المختصرة أذكر أموراً تعين على التعامل مع النص الفقهي الذي يستغلق فهمه , ولا يتضح للقارئ قصده , وهي محل اجتهاد , وقابلة للأخذ والرد , والزيادة والحذف:
1) إعادة القراءة وتكرارها , في جو هادئ بعيد عن المزعِجات والمشوِّشات , وفي أوقات متباعدة , ففي كثير من الأحيان يستغلق عليك فهم نص , ثم إذا قرأته بعد يوم أو ساعات وجدَته أبين من الشمس.
2) تفسير اللفظة الغريبة , فإذا كان في النص المستغلِق لفظٌ غريب , فلابد من تفسيره , بالرجوع لكتب لغة الفقهاء (كالمطلع للبعلي) , أو كتب اللغة والغريب عموماً .
3) محاولة معرفة عود الضمير, ففي كثير من الأحيان يكون سبب غموض النص = عدم وضوح عود الضمير , بمعنى : أنك تحتاج أن تسأل نفسك: على أي شيء يعود الضمير المذكور في النص؟ فهذا سيُعين على تجلية المقصود بالنص.
4) الرجوع للكتاب الأصل إذا كانت العبارة في متن مختصر من كتاب, فمثلاً : إذا أشكلت عليك جملة في الزاد فرجوعك لأصله –المقنع- يساعد على توضيحها . ومثل ذلك رجوعك لمستصفى الغزالي إذا أشكلت عليك عبارة في روضة الناظر.
5) الرجوع للكتب الأخرى التي استقى منها المؤلف أو اعتمد عليها ,فالعبارات التي تشكل عليك في حاشية ابن قاسم على الروض يمكن الرجوع في حلها إلى الكتب التي اعتمد عليه الشيخ ابن قاسم ونقل منها كالمنتهى والكشاف ..الخ. ومثل ذلك الاستعانة بالفروع لابن مفلح لحل بعض الإشكالات التي تقع لك عند قراءة الإنصاف للمرداوي , فقد ذكر المرداوي في مقدمته أنه اعتمد على كتاب الفروع.
6) الرجوع لكتب المذهب الأخرى,فإذا أشكلت عليك جملة في الروض المربع فارجع لكشاف القناع وشرح المنتهى وغيرهما , فسينجلي الإشكال بإذن الله, لأن من عادة الفقهاء أن ينقل بعضهم عن بعض , ويأخذ المتأخر عمن تقدمه.
7) الاستعانة بأقوال الشراح والمحشِّين , فمثلاً : تمر بك عبارة مستغلقة في المنتهى , فما الحل ؟ ارجع لشرح المؤلف نفسه (معونة أولي النهى) , وشرح البهوتي (دقائق أولي النهى) , وحاشية الخلوتي , وحاشية عثمان النجدي , وغيرها .
8) محاولة تطبيق النص على الواقع , والتمثيل له بمثال , واستعمال هذا ينفع كثيراً في العبارات الفقهية المشكلة في باب المعاملات , فإذا مرَّ بك نص يتضمن صورةً من صور الحيل المحرمة , واستغلق عليك فهمه , فتخيل نفسك في موضع البائع , وأخاك في موضع المشتري , والنقود التي معك هي العوض..الخ.
9) النظر في سابق الكلام ولاحقه , فالجملة قد يشكل عليك فهمها , فإذا قرأت الأسطر التي قبلها والأسطر التي بعدها = اتضح لك مقصودها.
10) تجزئة النص (تقسيمه, تفقيره) , ومن ثم ترقيمه , فهذا يعين كثيراً على فهمه واستيعابه.
11) قد يحوي النص على جمل معترضة , وهذه الجمل المعترضة قد تشوش عليك فهم النص , فإذا خلصته منها سهل عليك فهمه واستيعابه , ثم ترجع بعد ذلك للجمل المعترضة لتقرأها وتفهمها بمفردها.
12) المدارسة مع الأقران , فإذا مر بك نص مشكل أو مسألة مشكلة فما أنفع أن تطرح ذلك على أقرانك وأصحابك في مجلس مذاكرة فقهية , فإن المذاكرة تحرث العقول , وتلقح الفهوم , وتستخرج الروائع والبدائع من بحار العلوم .
13) أن تستعين بشيخٍ فقيه له دربة على هذه المصنفات , قد كابدها وارتاض على فك مغاليقها,فتسأله عما أشكل عليك , ولست أحبِّذ أن يلجأ الطالب لهذا إلا بعد أن يستنفد ما سبق من الوسائل , لأني أحب من نفسي وغيري من الطلبة التعودَّ على المثابرة في إعمال العقول في مشكل النصوص والعلوم , إذ هو عظيم النفع , كبير الفائدة , وهو رياضة الفكر والعقل .
وقبل وبعد ما ذُكر أعظمُ الأسباب وأصلها الاستعانة برب العالمين –سبحانه- وسؤاله الهداية والتوفيق والتسهيل , فمن استعان بالله أعانه الله ووفقه وسدده , فكلما آنست من عقلك ضعفاً ومن فهمك إدباراً , وشعرت أن الحيرة تحيط بك , وأن الإشكالات تأكل فكرك وتتوارد على قلبك= فارفع يديك لرب العالمين مفتقراً متذللاً , مردداً (لا حول ولا قوة إلا بالله) , وأكثر من الاستغفار والتوبة والإنابة وأقلع عن الذنوب , وأبشر بالخير والإعانة والأنوار .