مناسبة النص:
قالها يمدح مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ويمدح قبيلة قيسعيلان، وهي قبيلة من مُضر، أشار فيها إلى بعض وقائع مروان مع خصومه، وانتصارهعليهم، وقد بدأها بمطلعه المشهور الذي اشتهر لما فيه من حكمة عظيمة يقول فيمطلعها:
جفا ودُّه فازورَّ أو ملَّ صاحبه وأزرى بـه ألاَّ يـــزاليعاتــبــــــه
- شرح الأبيات:
- الفكرة الأولى من الأبيات : ( 1: 3).
- الرفيق الحقيقي وكيفية التعامل معه.
في سلاسة مترابطة ينتقل الشاعر منالحديث عن الحبيبة التي جفاها إلى الحديث عن الصديق، وذلك في بيتين يضع فيهمامنهجًا للتعامل مع الإنسان المتقلب المتلون ويستوي في ذلك الحبيبة والصديق كالإنسانالذي من هذا الصنف الذواق، الذي ينبغي فراقه، حيث يقول:
إذا كان ذواقًا أخوك منالهوى موجهـة في كلِّ أربٍ ركــائـبـه
فخـلي له وجه الفراق ولا تكــن مـطـيّـَةرحّــالٍ كـثـير مذاهـبه
أي إذا كان رفيقك من ذلك النوع المتقلب الذي لا يدومعلى وده فصوَّر عواطف هذا الرفيق ركائب ( أي الدواب التي توجه في كل طريق فتنطلقفيه )، فعليك بفراقه ولا تكن مطية مذللة لهذا المتقلب الذي لا يثبت على حال.
ثميرسم الشاعر ملامح الرفيق الحقيقي الصادق الذي يلين عند العتاب وإن رأى منك مايريبه لم يفضحك ولم يقطعك وإن تدعه إلى الملمات يحبك ويعينك مثل هذا الرفيق يستحقخصوصية في المعاملة، إذا كنت في كل الأمور إي إذا كنت في كل الأمور فعليك لا تكثرعتابه على كل أمر، لأنه بشر وله أخطاء ولذا أنت أمام خيارين: إما أن تعيش وحيدًابلا صديق، وإما أن تتحمل ما قد يصدر من رفيقك من زلات يقع فيها حينًا ويتجنبهاحينًا آخر، ويصور ذلك:
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ظمئت وأي الناس تصفومشاربه
ويصور ذلك بالماء الذي منه للحياة ولكن القذى الذي على الماء يجب ألايمنعك من الشرب، وإلا ظمئت فشرب الماء على القذى خير من الظمأ، وما أنذر اللذينتصفو مشاربهم.
- الفكرة الثانية: ( 4 ):
- منهجية التعامل مع العدو،والملك الغاشم ( 4 ):
يبدأ الشاعر بيته ذاكرًا بداية المعركة وواصفًا العدوالظالم، فهو وقومه لا يعاتبون الملك الغاشم المتجبر بالكلام، لأن العتاب معه لايجدي نفعًا، ولا يؤدي لنتائج إيجابية، وإنما يكون ذلك بحدِّ السيوف وبالحرب، وهوهنا يعلن وبكلِّ اعتزاز أنهم أباة على الضيم يردون بكل قوة من يحاول الانتقاص منهمولو كان من الملوك فمن تجبر منهم كان عقابه السيف دون سواه.
- الفكرةالثالثة: ( 5 : 12 ):
- ( الحرب )، وتشتمل على الأفكار التالية:
1- وصف حالالجيش عند خروجه للمعركة ( 5 : 6 ):
يصف الشاعر هنا الجيش الذي خرج للقاء العدوويشبهه بظلام الليل في سواده وشموله، وهو يزحف بعدده الكثير الجرار وسلاحه القويورماحه الحمر الثعالب، هذا الجيش المخيف بعدده وعدته، خرج للقاء العدو منذ الغداةالباكرة، وهنا يرسمُ الشاعر لوحة كاملة لمشهد الطبيعة، فالشمس مازالت في ابتداءالشروق، وقطرات الندى لم تسقط بعد على أوراق الأشجار، وهذا دليل واضح على استعدادهمالكامل للحرب ورغبتهم الشديدة في قتال العدو.
1. اللحظات الأولى للحرب واحتدام المعركة ( 7 : 8 ):
يبدأ تلاحم الجيشان، فالطعن والضرب الذي يورد ذائقهمورد الموت، أما الفار فتدركه مذلة الهزيمة وعار الفرار، ويقف بشار في حومة الوغى ( كأن مثار النقع فوق رؤوسنا )، وقد ارتفع الغبار فوق رؤوسهم لعنف الحركة والسيوفتتهاوى من هنا وهناك، وهذا التشبيه من أبدع التشبيهات (تشبيه تمثيلي)، بفخره بشدةبلاء قيس عيلان.
2. الهزيمة النكراء ( 9 : 10 ):
يزداد فخر الشاعر فيالبيت التاسع بقبيلة قيس عيلان، فيقول: إننا بنو الموت بنو الملك تخفق عليناراياته، هذا المجد وهذه البطولة كانت نتيجتهما نصرًا مؤزَّرًا على الأعداء حيث جاءبتقسيمه الرائع لما انتهى إليه أمر الأعداء، فهم إما أسرى، أو قتلى، أو هارب لائذبالبحر.
3. الزهوُّ بالنصر ( 11 : 12 ):
ويأخذ النصر مأخذه لدى الشاعرفيعود ذاكرًا وواصفًا هذا الجيش المنتصر فما معه من سلاح وحديد وعدة يغطي الشمسلكثرته، ويلمع في أشعة تختلس أبصار الشجعان وتسلبها، ولكثرة عدده الذي ملأ الآفاقضاقت به الأرض عن استيعابه فراح يزاحم الجبال بجوانبه ونواحيه. وقفات فنية:
يقوم شعر بشار على الموازنة الدقيقة بين العناصر التقليديةوالعناصر التجديدية، ولذا يعدو زعيم المجددين، وقصيدته هذه مثال واضح على ذلك، فهويفتتحها بالنسيب ووصف سُرى الليل في الفيافي، ثم يصف **** الوحش، ثم يمدح، ويفخربالقيسية وبحسن بلائها في الحرب، وهو في كلِّ ذلك ينزع منزع القدماء، حين كانوايمدحون سادة عشائرهم، ورغم كل هذا الاحتداء للقديم، فقد أدخل الشاعر في نسيج قصيدتهخيوطًا جديدة نلمسها في النواحي التالية:
أولا: في أفكاره:
- بشار ربيببيئة المتكلمين كان يجالس واصل بن عطاء رئيس المعتزلة، فأخذ عنهم قدرتهم في بسطالأدلة، وتفصيل الأفكار وتفريعها، فنجد في النص الأفكار المنطقية والمحاججةوالاقتناع وهي تخاطب عقلكِ ووجدانكِ، ويبدو ذلك خاصة في جزئية الصديق الذي إنعاتبته في كل الأمور لم تلق صديقًا لا يستحق العتاب، وحينها فأنت مضطرٌ إلى أحدالأمرين: إما أن ترضى بالوحدة، وإما أن تصل أخاك وهو قد يقارف الذنب مرة، ويجانبهأخرى، وليزيد المعنى رسوخًا ولكي يزيل ما ظلَّ عالقًا ما في أنفسنا من عدم الاقتناعيقدمُ دليلاً منطقيًا من الحياة في قوله:
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ظمئتوأي الناس تصفو مشاربه
وقد فصل بشار في المعنى واستقصى جميع أطرافه وتعمق فيمعانيه، فجاءت أبياته عن الصديق فلا تجدي مناصًا من التسليم برأيه والاقتناعبحجته.
ولا يخفى على أحد ما في هذا البيت من إطناب التذييل ويقصد بالتذييل: ( تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها لإفادة التوكيد )، فقول: ( وأي الناستصفو مشاربه)، تذييل أتى به لتأكيد الجملة قبله، وهو جارٍ مجرى المثل بمعنى أنالجملة الثانية مستقلة بمعناها عن الجملة الأولى، وجارية على الألسنة كما تجريالأمثال التي كثُر استعمالها وفشا، فهي لا تحتاج في إفادة معناها إلى الجملةالسابقة.
- وانظري إلى التقسيم في قوله:
فعش واحدً أو صل أخاك فإنه مقـــارفذنب مـــرة ومـــجــانبــه
فهو يضع أمامه كلَّ الاحتمالات والفروض ويناقشهابمنطق ومحاججة، وهذا نتاجٌ طبيعي لثقافته العصرية، ونرى ذلك التقسيم الرائع فيالبيت السابع:
بضربٍ يذوقُ الموت من ذاق طعمه وتدرك من نجى الفرارمثـــــالبــه
فإما حياة الذل والعار ولاثالث لهما، ويبلغ التقسيم روعتهواستيفائه لكل عناصره في البيت العاشر:
فراحوا: فريقًا في الإسار ومثلُه قتيلٌومثل لاذ بالبــحر هـــاربـــه
فقد صار الأعداء ثلاثة أقسام: أسيرًا، وقتيلاً،وهاربًا، قال ابن رشيق صاحب العمدة: ( فاستقصى جميع الأقسام ولا يوجد في ذكرالهزيمة على ما ذكر).
والتقسيم ليس باللون الجديد في الأدب، كقول زهير:
فإنالحق مقطعه ثلاث يمين أو نفار أو جلاء
وفي القرآن الكريم : ( وهو الذي يريكمالبرق خوفًا وطمعًا..)
وأيضًا: ( اللذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم )
ولكن الجديد هو إكثاره منه، فقد ورد في عدة مواضع من نصٍ واحد، وهذه سمة منسمات شعر العصر، وهو ما يمكن أن نسميه بروز العنصر العقلي في الشعر.
وكان كذلكمتأثرًا بأمثال الفرس وحكمهم، في حديثه عن الصديق وكأنه كان يستلهم ما ورد من الحكمعند ابن المقفع في (الأدب الكبير).
ومن لمحات التجديد الفكرية التي نراها فيالنص غير التقسيم:
- الميل أحيانًا إلى المبالغة ومجاوزة القصد بتأثير مزاجهالفارسي الذي يهوى المبالغة، وهذا يظهر في البيت الرابع، في قوله:
إذا الملكالجبار صعَّر خـدَّه مشينا إليه بالسيوف نـــقاتله
وهذا البيت مثال واضح علىالتقليد والتجديد، لأن هناك بيتًا للمتلمس (شاعر جاهلي)، يقول فيه:
وكنَّا إذاالجبار صعَّر خدَّه أقــــمنـــا له مــــيـــلة فــــتقوَّما
وهذا يردُّ التهمةالتي قيل بأن بشارًا سرق بيت المتلمس، فاحتداء بشار للمتلمس واضح في الشطر الأول،ولكن المزاج الفارسي الذي يميل للمبالغة دفعه إلى صريح القول بالتهديد حين قالبالسيوف، بينما جاء التهديد مبطنًا عند المتلمس محتملاً التقويم بالقول أوالفعل.
- ثانيًا: تجديده في الألفاظ:
ألفاظ بشار واضحة ليست بالغريبةالتي يُستعصى فهمها، ولا بالمبتذلة الشائعة، ففيها جزالة ورصانة تناسب الأغراض التييتناولها، بينما نلمس عند القدماء ميل إلى الغريب حين يمدحون، أما بشار فقد نجح فيالإتيان بالمدح الجزل دون حاجة إلى الغريب من الألفاظ.
ونجد أيضًا أن ألفاظالقصيدة مناسبة لغرض الفخر وجو المعركة مثل استخدامه ( صعر خده/ الجبار/ يزحف/ بالخطي/ نجَّ الفرار/ مثار النقع )، وهي ألفاظ موحية تناسب الصاخب، والحروب الطاحنةالتي لا تُبقى ولا تذر، فيعيش الناس خلال هذه الفترة في جوٍّ يسود الخوفوالذعر.
- ثالثًا: صوره:
حرصًا من بشار على التميز والاتيان بالجديدجاء بيته الرائع:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسـيافنا لـيل تـهاوىكـواكبه
وهو من أولياته البديعة وهو أول من جاء بهذا المعنى ولم يسبق به أحد،وقد اقتفى الشعراء من بعده أثره، ولكن لم يبلغوا شأوه في هذا البيت، وقد قارن الشيخعبدالقاهر الجرجاني بين بيت بشار هذا وبيت المتنبي حيث قال:
يزور الأعادي فيســماء عـــجاجة أســـنته في جــانبيه الكـــواكب
وبيت كلثوم بن عمرو، حيثيقول:
تبني سنابكها من فوق أرؤسهم سقفًا كواكبه البيض المباتــيــرُ
فكلهمشبهوا لمعان السيوف بالغبار في الكواكب بالليل، ألا أنك تجد لبيت بشار من الفضل ومنكرم الموقع ما لايمكن إنكاره، وذلك لأنه راعى ما لم يراعه قبله وهو أن جعل جعلالكواكب ( تهاوى)، فأتم الشبه وعبر عن هيئة السيوف وقد سُلَّت من الأغماد، وهي تعلووترسبُ، وتجيء وتذهب، ولم يقتصر على أن يريك لمعانها في أثناء العجاجة فأتى بتفصيلبعد تفصيل فـالصورة لأجسام بيضاء لامعة مستطيلة تتحرَّك في كل الاتجاهات، فكلمةتتهاوى نقلت صورة لاستطالة الحركة والانتشار في كلِّ الاتجاهات، أما بيت المتنبيفليس فيه إشارة إلى حركة الكواكب ولا استطالتها وكذلك بيت كلثوم بن عمرو لا حركةولا استطالة.
وهذا التشبيه تشبيه تمثيلي حيث شبه الهيئة المركبة من الغبارالمثار والسيوف المتحركة حركات سريعة مضطربة وإلى جهات مختلفة بالهيئة المكونة منالظلام والكواكب تتهاوى وسطه وقد تداخلت واستطالت أشكالها، ووجه الشبه فيه هو : الهيئة الحاصلة من تهاوي أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار متحركة في جوانب شيءمظلم مركب حسي، وقد انتزع من طرفين مركبين حسيين.
ومن الصور في أبياتبشار:
البيت الخامس:
وجيش كجنح الليل يزحف بالحصى وبالشوك، والخطِّي حُمْرٌثعالبه
حيثُ شبه الجيش الضخم في عدته وعدده بظلام الليل الكثيف ليبالغ في كثرتهوقوته.
وهو كناية عن كثرة العدد، أما قوله: (ويزحف بالحصى ...)، كناية عن كثرةعتادهم وعدتهم، وقد وفق الشاعر في اختياره لدال : يزحف)، فالزحف لا يكون إلا بتباطؤلثقل فيهم، وهم يزحفون لكثرة ما يحملون من أسلحة ورماح.
والبيتالسادس:
غدونا له والشمس في خدر أمها تطــالعنا والطل لم يجرِ دائبه
نجده هنايشبه الشمس المختفية والتي لم يظهر منها إلا شيئٌ يسير، بالفتاة المستترة وراءالخدر.
وفيه كناية عن إبكارهم.
والبيت السابع:
بضربٍ يذوق الموت من ذاقطعمه وتـــدركُ من نجَّـــى الفرار مثالــبه
فالشاعر يجعل للموت طعمًا يذاق حيثصور المعنوي بصورة الحسي الذي يذاق وله طعم، كالشيء المأكول.
ونجد في البيتالأخير:
تغُصُّ به الأرضُ الفضاء إذا غدا تُزاحمُ أركان الجـبـالمـنـاكـبـه
كناية عن كثرة عدد الجيش، إضافة إلى ماتوحيه الصورة الاستعارية منجمال يوضح المعنى.
- رابعًا: العاطفة:
العاطفة قوية ثائرة تناسب وصفالمعارك، مشوبة بالفخر المُنساب من مقدرة شعرية فريدة، وقد تحوَّلت هذه العاطفةالثائرة في نهاية القصيدة إلى عاطفة فرح وهَزَج بانتصار الجيش علىعدوه.
وأخيرًا:
تعدُّ هذه القصيدة من أروع ما قيل في الوصف، لما تمتازبه من وضوح المعاني، وروعة التصوير، وسلاسة العبارات، ولذا فهي غُرر الشعر في العصرالعباسي
قالها يمدح مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ويمدح قبيلة قيسعيلان، وهي قبيلة من مُضر، أشار فيها إلى بعض وقائع مروان مع خصومه، وانتصارهعليهم، وقد بدأها بمطلعه المشهور الذي اشتهر لما فيه من حكمة عظيمة يقول فيمطلعها:
جفا ودُّه فازورَّ أو ملَّ صاحبه وأزرى بـه ألاَّ يـــزاليعاتــبــــــه
- شرح الأبيات:
- الفكرة الأولى من الأبيات : ( 1: 3).
- الرفيق الحقيقي وكيفية التعامل معه.
في سلاسة مترابطة ينتقل الشاعر منالحديث عن الحبيبة التي جفاها إلى الحديث عن الصديق، وذلك في بيتين يضع فيهمامنهجًا للتعامل مع الإنسان المتقلب المتلون ويستوي في ذلك الحبيبة والصديق كالإنسانالذي من هذا الصنف الذواق، الذي ينبغي فراقه، حيث يقول:
إذا كان ذواقًا أخوك منالهوى موجهـة في كلِّ أربٍ ركــائـبـه
فخـلي له وجه الفراق ولا تكــن مـطـيّـَةرحّــالٍ كـثـير مذاهـبه
أي إذا كان رفيقك من ذلك النوع المتقلب الذي لا يدومعلى وده فصوَّر عواطف هذا الرفيق ركائب ( أي الدواب التي توجه في كل طريق فتنطلقفيه )، فعليك بفراقه ولا تكن مطية مذللة لهذا المتقلب الذي لا يثبت على حال.
ثميرسم الشاعر ملامح الرفيق الحقيقي الصادق الذي يلين عند العتاب وإن رأى منك مايريبه لم يفضحك ولم يقطعك وإن تدعه إلى الملمات يحبك ويعينك مثل هذا الرفيق يستحقخصوصية في المعاملة، إذا كنت في كل الأمور إي إذا كنت في كل الأمور فعليك لا تكثرعتابه على كل أمر، لأنه بشر وله أخطاء ولذا أنت أمام خيارين: إما أن تعيش وحيدًابلا صديق، وإما أن تتحمل ما قد يصدر من رفيقك من زلات يقع فيها حينًا ويتجنبهاحينًا آخر، ويصور ذلك:
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ظمئت وأي الناس تصفومشاربه
ويصور ذلك بالماء الذي منه للحياة ولكن القذى الذي على الماء يجب ألايمنعك من الشرب، وإلا ظمئت فشرب الماء على القذى خير من الظمأ، وما أنذر اللذينتصفو مشاربهم.
- الفكرة الثانية: ( 4 ):
- منهجية التعامل مع العدو،والملك الغاشم ( 4 ):
يبدأ الشاعر بيته ذاكرًا بداية المعركة وواصفًا العدوالظالم، فهو وقومه لا يعاتبون الملك الغاشم المتجبر بالكلام، لأن العتاب معه لايجدي نفعًا، ولا يؤدي لنتائج إيجابية، وإنما يكون ذلك بحدِّ السيوف وبالحرب، وهوهنا يعلن وبكلِّ اعتزاز أنهم أباة على الضيم يردون بكل قوة من يحاول الانتقاص منهمولو كان من الملوك فمن تجبر منهم كان عقابه السيف دون سواه.
- الفكرةالثالثة: ( 5 : 12 ):
- ( الحرب )، وتشتمل على الأفكار التالية:
1- وصف حالالجيش عند خروجه للمعركة ( 5 : 6 ):
يصف الشاعر هنا الجيش الذي خرج للقاء العدوويشبهه بظلام الليل في سواده وشموله، وهو يزحف بعدده الكثير الجرار وسلاحه القويورماحه الحمر الثعالب، هذا الجيش المخيف بعدده وعدته، خرج للقاء العدو منذ الغداةالباكرة، وهنا يرسمُ الشاعر لوحة كاملة لمشهد الطبيعة، فالشمس مازالت في ابتداءالشروق، وقطرات الندى لم تسقط بعد على أوراق الأشجار، وهذا دليل واضح على استعدادهمالكامل للحرب ورغبتهم الشديدة في قتال العدو.
1. اللحظات الأولى للحرب واحتدام المعركة ( 7 : 8 ):
يبدأ تلاحم الجيشان، فالطعن والضرب الذي يورد ذائقهمورد الموت، أما الفار فتدركه مذلة الهزيمة وعار الفرار، ويقف بشار في حومة الوغى ( كأن مثار النقع فوق رؤوسنا )، وقد ارتفع الغبار فوق رؤوسهم لعنف الحركة والسيوفتتهاوى من هنا وهناك، وهذا التشبيه من أبدع التشبيهات (تشبيه تمثيلي)، بفخره بشدةبلاء قيس عيلان.
2. الهزيمة النكراء ( 9 : 10 ):
يزداد فخر الشاعر فيالبيت التاسع بقبيلة قيس عيلان، فيقول: إننا بنو الموت بنو الملك تخفق عليناراياته، هذا المجد وهذه البطولة كانت نتيجتهما نصرًا مؤزَّرًا على الأعداء حيث جاءبتقسيمه الرائع لما انتهى إليه أمر الأعداء، فهم إما أسرى، أو قتلى، أو هارب لائذبالبحر.
3. الزهوُّ بالنصر ( 11 : 12 ):
ويأخذ النصر مأخذه لدى الشاعرفيعود ذاكرًا وواصفًا هذا الجيش المنتصر فما معه من سلاح وحديد وعدة يغطي الشمسلكثرته، ويلمع في أشعة تختلس أبصار الشجعان وتسلبها، ولكثرة عدده الذي ملأ الآفاقضاقت به الأرض عن استيعابه فراح يزاحم الجبال بجوانبه ونواحيه. وقفات فنية:
يقوم شعر بشار على الموازنة الدقيقة بين العناصر التقليديةوالعناصر التجديدية، ولذا يعدو زعيم المجددين، وقصيدته هذه مثال واضح على ذلك، فهويفتتحها بالنسيب ووصف سُرى الليل في الفيافي، ثم يصف **** الوحش، ثم يمدح، ويفخربالقيسية وبحسن بلائها في الحرب، وهو في كلِّ ذلك ينزع منزع القدماء، حين كانوايمدحون سادة عشائرهم، ورغم كل هذا الاحتداء للقديم، فقد أدخل الشاعر في نسيج قصيدتهخيوطًا جديدة نلمسها في النواحي التالية:
أولا: في أفكاره:
- بشار ربيببيئة المتكلمين كان يجالس واصل بن عطاء رئيس المعتزلة، فأخذ عنهم قدرتهم في بسطالأدلة، وتفصيل الأفكار وتفريعها، فنجد في النص الأفكار المنطقية والمحاججةوالاقتناع وهي تخاطب عقلكِ ووجدانكِ، ويبدو ذلك خاصة في جزئية الصديق الذي إنعاتبته في كل الأمور لم تلق صديقًا لا يستحق العتاب، وحينها فأنت مضطرٌ إلى أحدالأمرين: إما أن ترضى بالوحدة، وإما أن تصل أخاك وهو قد يقارف الذنب مرة، ويجانبهأخرى، وليزيد المعنى رسوخًا ولكي يزيل ما ظلَّ عالقًا ما في أنفسنا من عدم الاقتناعيقدمُ دليلاً منطقيًا من الحياة في قوله:
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ظمئتوأي الناس تصفو مشاربه
وقد فصل بشار في المعنى واستقصى جميع أطرافه وتعمق فيمعانيه، فجاءت أبياته عن الصديق فلا تجدي مناصًا من التسليم برأيه والاقتناعبحجته.
ولا يخفى على أحد ما في هذا البيت من إطناب التذييل ويقصد بالتذييل: ( تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها لإفادة التوكيد )، فقول: ( وأي الناستصفو مشاربه)، تذييل أتى به لتأكيد الجملة قبله، وهو جارٍ مجرى المثل بمعنى أنالجملة الثانية مستقلة بمعناها عن الجملة الأولى، وجارية على الألسنة كما تجريالأمثال التي كثُر استعمالها وفشا، فهي لا تحتاج في إفادة معناها إلى الجملةالسابقة.
- وانظري إلى التقسيم في قوله:
فعش واحدً أو صل أخاك فإنه مقـــارفذنب مـــرة ومـــجــانبــه
فهو يضع أمامه كلَّ الاحتمالات والفروض ويناقشهابمنطق ومحاججة، وهذا نتاجٌ طبيعي لثقافته العصرية، ونرى ذلك التقسيم الرائع فيالبيت السابع:
بضربٍ يذوقُ الموت من ذاق طعمه وتدرك من نجى الفرارمثـــــالبــه
فإما حياة الذل والعار ولاثالث لهما، ويبلغ التقسيم روعتهواستيفائه لكل عناصره في البيت العاشر:
فراحوا: فريقًا في الإسار ومثلُه قتيلٌومثل لاذ بالبــحر هـــاربـــه
فقد صار الأعداء ثلاثة أقسام: أسيرًا، وقتيلاً،وهاربًا، قال ابن رشيق صاحب العمدة: ( فاستقصى جميع الأقسام ولا يوجد في ذكرالهزيمة على ما ذكر).
والتقسيم ليس باللون الجديد في الأدب، كقول زهير:
فإنالحق مقطعه ثلاث يمين أو نفار أو جلاء
وفي القرآن الكريم : ( وهو الذي يريكمالبرق خوفًا وطمعًا..)
وأيضًا: ( اللذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم )
ولكن الجديد هو إكثاره منه، فقد ورد في عدة مواضع من نصٍ واحد، وهذه سمة منسمات شعر العصر، وهو ما يمكن أن نسميه بروز العنصر العقلي في الشعر.
وكان كذلكمتأثرًا بأمثال الفرس وحكمهم، في حديثه عن الصديق وكأنه كان يستلهم ما ورد من الحكمعند ابن المقفع في (الأدب الكبير).
ومن لمحات التجديد الفكرية التي نراها فيالنص غير التقسيم:
- الميل أحيانًا إلى المبالغة ومجاوزة القصد بتأثير مزاجهالفارسي الذي يهوى المبالغة، وهذا يظهر في البيت الرابع، في قوله:
إذا الملكالجبار صعَّر خـدَّه مشينا إليه بالسيوف نـــقاتله
وهذا البيت مثال واضح علىالتقليد والتجديد، لأن هناك بيتًا للمتلمس (شاعر جاهلي)، يقول فيه:
وكنَّا إذاالجبار صعَّر خدَّه أقــــمنـــا له مــــيـــلة فــــتقوَّما
وهذا يردُّ التهمةالتي قيل بأن بشارًا سرق بيت المتلمس، فاحتداء بشار للمتلمس واضح في الشطر الأول،ولكن المزاج الفارسي الذي يميل للمبالغة دفعه إلى صريح القول بالتهديد حين قالبالسيوف، بينما جاء التهديد مبطنًا عند المتلمس محتملاً التقويم بالقول أوالفعل.
- ثانيًا: تجديده في الألفاظ:
ألفاظ بشار واضحة ليست بالغريبةالتي يُستعصى فهمها، ولا بالمبتذلة الشائعة، ففيها جزالة ورصانة تناسب الأغراض التييتناولها، بينما نلمس عند القدماء ميل إلى الغريب حين يمدحون، أما بشار فقد نجح فيالإتيان بالمدح الجزل دون حاجة إلى الغريب من الألفاظ.
ونجد أيضًا أن ألفاظالقصيدة مناسبة لغرض الفخر وجو المعركة مثل استخدامه ( صعر خده/ الجبار/ يزحف/ بالخطي/ نجَّ الفرار/ مثار النقع )، وهي ألفاظ موحية تناسب الصاخب، والحروب الطاحنةالتي لا تُبقى ولا تذر، فيعيش الناس خلال هذه الفترة في جوٍّ يسود الخوفوالذعر.
- ثالثًا: صوره:
حرصًا من بشار على التميز والاتيان بالجديدجاء بيته الرائع:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسـيافنا لـيل تـهاوىكـواكبه
وهو من أولياته البديعة وهو أول من جاء بهذا المعنى ولم يسبق به أحد،وقد اقتفى الشعراء من بعده أثره، ولكن لم يبلغوا شأوه في هذا البيت، وقد قارن الشيخعبدالقاهر الجرجاني بين بيت بشار هذا وبيت المتنبي حيث قال:
يزور الأعادي فيســماء عـــجاجة أســـنته في جــانبيه الكـــواكب
وبيت كلثوم بن عمرو، حيثيقول:
تبني سنابكها من فوق أرؤسهم سقفًا كواكبه البيض المباتــيــرُ
فكلهمشبهوا لمعان السيوف بالغبار في الكواكب بالليل، ألا أنك تجد لبيت بشار من الفضل ومنكرم الموقع ما لايمكن إنكاره، وذلك لأنه راعى ما لم يراعه قبله وهو أن جعل جعلالكواكب ( تهاوى)، فأتم الشبه وعبر عن هيئة السيوف وقد سُلَّت من الأغماد، وهي تعلووترسبُ، وتجيء وتذهب، ولم يقتصر على أن يريك لمعانها في أثناء العجاجة فأتى بتفصيلبعد تفصيل فـالصورة لأجسام بيضاء لامعة مستطيلة تتحرَّك في كل الاتجاهات، فكلمةتتهاوى نقلت صورة لاستطالة الحركة والانتشار في كلِّ الاتجاهات، أما بيت المتنبيفليس فيه إشارة إلى حركة الكواكب ولا استطالتها وكذلك بيت كلثوم بن عمرو لا حركةولا استطالة.
وهذا التشبيه تشبيه تمثيلي حيث شبه الهيئة المركبة من الغبارالمثار والسيوف المتحركة حركات سريعة مضطربة وإلى جهات مختلفة بالهيئة المكونة منالظلام والكواكب تتهاوى وسطه وقد تداخلت واستطالت أشكالها، ووجه الشبه فيه هو : الهيئة الحاصلة من تهاوي أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار متحركة في جوانب شيءمظلم مركب حسي، وقد انتزع من طرفين مركبين حسيين.
ومن الصور في أبياتبشار:
البيت الخامس:
وجيش كجنح الليل يزحف بالحصى وبالشوك، والخطِّي حُمْرٌثعالبه
حيثُ شبه الجيش الضخم في عدته وعدده بظلام الليل الكثيف ليبالغ في كثرتهوقوته.
وهو كناية عن كثرة العدد، أما قوله: (ويزحف بالحصى ...)، كناية عن كثرةعتادهم وعدتهم، وقد وفق الشاعر في اختياره لدال : يزحف)، فالزحف لا يكون إلا بتباطؤلثقل فيهم، وهم يزحفون لكثرة ما يحملون من أسلحة ورماح.
والبيتالسادس:
غدونا له والشمس في خدر أمها تطــالعنا والطل لم يجرِ دائبه
نجده هنايشبه الشمس المختفية والتي لم يظهر منها إلا شيئٌ يسير، بالفتاة المستترة وراءالخدر.
وفيه كناية عن إبكارهم.
والبيت السابع:
بضربٍ يذوق الموت من ذاقطعمه وتـــدركُ من نجَّـــى الفرار مثالــبه
فالشاعر يجعل للموت طعمًا يذاق حيثصور المعنوي بصورة الحسي الذي يذاق وله طعم، كالشيء المأكول.
ونجد في البيتالأخير:
تغُصُّ به الأرضُ الفضاء إذا غدا تُزاحمُ أركان الجـبـالمـنـاكـبـه
كناية عن كثرة عدد الجيش، إضافة إلى ماتوحيه الصورة الاستعارية منجمال يوضح المعنى.
- رابعًا: العاطفة:
العاطفة قوية ثائرة تناسب وصفالمعارك، مشوبة بالفخر المُنساب من مقدرة شعرية فريدة، وقد تحوَّلت هذه العاطفةالثائرة في نهاية القصيدة إلى عاطفة فرح وهَزَج بانتصار الجيش علىعدوه.
وأخيرًا:
تعدُّ هذه القصيدة من أروع ما قيل في الوصف، لما تمتازبه من وضوح المعاني، وروعة التصوير، وسلاسة العبارات، ولذا فهي غُرر الشعر في العصرالعباسي