قال شبيب بن شبة : إنا لوقوفٌ في عرصة المربد - وهو موقف الأشراف ومجتمع الناس وقد حضر أعيان المصر - إذ طلع ابن المقفع ، فما فينا أحد إلا هش له ، وارتاح إلى مساءلته ، وسررنا بطلعته ؛ فقال : ما يقفكم على متون دوابكم في هذا الموضع ؟ فوالله لو بعث الخليفة إلى أهل الأرض يبتغي مثلكم ما أصاب أحداً سواكم ، فهل لكم في دار ابن برثن في ظلٍ ممدود ، وواقيةٍ من الشمس ، واستقبال من الشمال ، وترويحٍ للدواب والغلمان ، ونتمهد الأرض فإنها خير بساط وأوطؤه ، ويسمع بعضنا من بعض فهو أمد للمجلس ، وأدر للحديث . فسارعنا إلى ذلك ، ونزلنا عن دوابنا في دار ابن برثن نتنسم الشمال ، إذ أقبل علينا ابن المقفع ، فقال : أي الأمم أعقل ؟ فظننا أنه يريد الفرس ، فقلنا : فارس أعقل الأمم ، نقصد مقاربته ، ونتوخى مصانعته . فقال : كلا ، ليس ذلك لها ولا فيها ، هم قوم علموا فتعلموا ، ومثل لهم فامتثلوا واقتدوا وبدئوا بأمر فصاروا إلى اتباعه ، ليس لهم استنباط ولا استخراج . فقلنا له : الروم . فقال : ليس ذلك عندها ، بل لهم أبدانٌ وثيقة وهم أصحاب بناء وهندسة ، لا يعرفون سواهما ، ولا يحسنون غيرهما . قلنا : فالصين . قال : أصحاب أثاثٍ وصنعة ، لا فكر لها ولا روية . قلنا : فالترك . قال : سباع للهراش . قلنا : فالهند . قال : أصحاب وهم ومخرقة وشعبذة وحيلة . قلنا : فالزنج : قال : بهائم هاملة . فرددنا الأمر إليه . قال : العرب . فتلاحظنا وهمس بعضنا إلى بعض ، فغاظه ذلك منا ، وامتقع لونه ، ثم قال : كأنكم تظنون في مقاربتكم ،فوالله لوددت أن الأمر ليس لكم ولا فيكم ولكن كرهت إن فاتني الأمر أن يفوتني الصواب ، ولكن لا أدعكم حتى أبين لكم لم قلت ذلك ، لأخرج من ظنة المداراة ، وتوهم المصانعة ؛ إن العرب ليس لها أولٌ تؤمه ولا كتابٌ يدلها ، أهل بلد قفر ، ووحشةٍ من الإنس ، احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله ؛ وعلموا أن معاشهم من نبات الأرض فوسموا كل شيء بسمته ، ونسبوه إلى جنسه وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه ، وأوقاته وأزمنته ، وما يصلح منه في الشاة والبعير ؛ ثم نظروا إلى الزمان واختلافه فجعلوه ربيعياً وصيفياً ، وقيظياً وشتوياً ؛ ثم علموا أن شربهم من السماء ، فوضعوا لذلك الأنواء ؛ وعرفوا تغير الزمان فجعلوا له منازله من السنة ؛ واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض ، فجعلوا نجوم السماء أدلةً على أطراف الأرض وأقطارها ، فسلكوا بها البلاد ؛ وجعلوا بينهم شيئاً ينتهون به عن المنكر ، ويرغبهم في الجميل ، ويتجنون به على الدناءة ويحضهم على المكارم ؛ حتى إن الرجل منهم وهو في فجٍ من الأرض يصف المكارم فما يبقى من نعتها شيئاً ، ويسرف في ذم المساوىء فلا يقصر ؛ ليس لهم كلام إلا وهم يحاضون به على اصطناع المعروف ثم حفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد ، كل واحد منهم يصيب ذلك بعقله ، ويستخرجه بفطنته وفكرته فلا يتعلمون ولا يتأدبون ، بل نحائز مؤدبة ، وعقولٌ عارفة ؛ فلذلك قلت لكم : إنهم أعقل الأمم ، لصحة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكر وذكاء الفهم .
من كتاب الإمتاع و المؤانسة لأبي حيان التوحيدي
من كتاب الإمتاع و المؤانسة لأبي حيان التوحيدي