في كتاب "صيد الخاطر" (ص316 – 318/ تحقيق د. عبد الرحمن البر) للإمام أبي الفرج ابن الجوزي (ت597هـ) - رحمه الله – ، قال - رحمه الله -:
رأيتُ من الرأي القويمِ أنَّ نفعَ التصانيفِ أكثرُ من نفع التعليم بالمشافهة؛ لأني أشافه في عمري عددًا من المتعلمين، وأشافه بتصنيفي خلقًا لا تحصى ما خلقوا بعد، ودليل هذا أن انتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من انتفاعهم بما يستفيدونه من مشايخهم.
فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وفق للتصنيف المفيد؛ فإنه ليس كل من صنف صنف، وليس المقصود جمع شيء كيف كان، وإنما هي أسرار يُطلع الله -عز وجل- عليها من شاء من عباده، ويوفقه لكشفها، فيجمع ما فرق، أو يرتب ما شتت، أو يشرح ما أهمل، هذا هو التصنيف المفيد.
وينبغي اغتنام التصنيف في وسط العمر؛ لأن أوائل العمر زمن الطلب، وآخره كلال الحواس.
وربما خان الفهمُ والعقلُ من قدَّر عمره؛ وإنما يكون التقدير على العادات الغالبة؛ لأنه لا يعلم الغيب. فيكون زمان الطلب والحفظ والتشاغل إلى الأربعين، ثم يبتدئ بعد الأربعين بالتصانيف والتعليم، هذا إذا كان قد بلغ مع ما يريد من الجمع والحفظ، وأعين على تحصيل المطالب.
فأما إذا قلَّت الآلات عنده من الكتب، أو كان في أول عمره ضعيف الطلب، فلم ينل ما يريده في هذا الأوان، أخر التصانيف إلى تمام خمسين سنة، ثم ابتدأ بعد الخمسين في التصنيف والتعليم إلى رأس الستين.
ثم يزيد فيما بعد الستين في التعليم، ويسمع الحديث والعلم، ويقلل التصانيف إلا أن يقع مهم إلى رأس السبعين.
فإذا جاوز السبعين، جعل الغالب عليه ذكر الآخرة والتهيؤ للرحيل، فيوفر نفسه على نفسه، إلا من تعليم يحتسبه، أو تصنيف يفتقر إليه؛ فذلك أشرف العدد للآخرة.
ولتكن همته في تنظيف نفسه، وتهذيب خلاله، والمبالغة في استدراك زلاته، فإن اختطف في خلال ما ذكرناه، فـ"نية المؤمن خير من عمله"، وإن بلغ إلى هذه المنازل، فقد بينا ما يصلح لكل منزل.
وقد قال سفيان الثوري: من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليتخذ لنفسه كَفَنًا. وقد بلغ جماعة من العلماء سبعًا وسبعين سنةً، منهم أحمد بن حنبل، فإن بلغها، فليعلم أنه على شفير القبر، وأن كل يوم يأتي بعدها مستطرف.
فإن تمت له الثمانون، فيلجعل همته كلها مصروفة إلى تنظيف خلاله، وتهيئة زاده، وليجعل الاستغفار حليفه، والذكر أليفه، وليدقق في محاسبة النفس، وفي بذل العلم، أو مخالطة الخلق، فإن قُرْبَ الاستعراض للجيش يوجب عليه الحذر من العارض.
وليبالغ في إبقاء أثره قبل رحيله، مثل بث علمه، وإنفاق كتبه، وشيء من ماله.
ويعد: فمن تولاه الله عز وجل علمه، ومن أراده ألهمه. نسأل الله عز وجل أن ينعم علينا بأن يتولانا، ولا يتولى عنا، إنه قريب مجيب.
رأيتُ من الرأي القويمِ أنَّ نفعَ التصانيفِ أكثرُ من نفع التعليم بالمشافهة؛ لأني أشافه في عمري عددًا من المتعلمين، وأشافه بتصنيفي خلقًا لا تحصى ما خلقوا بعد، ودليل هذا أن انتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من انتفاعهم بما يستفيدونه من مشايخهم.
فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وفق للتصنيف المفيد؛ فإنه ليس كل من صنف صنف، وليس المقصود جمع شيء كيف كان، وإنما هي أسرار يُطلع الله -عز وجل- عليها من شاء من عباده، ويوفقه لكشفها، فيجمع ما فرق، أو يرتب ما شتت، أو يشرح ما أهمل، هذا هو التصنيف المفيد.
وينبغي اغتنام التصنيف في وسط العمر؛ لأن أوائل العمر زمن الطلب، وآخره كلال الحواس.
وربما خان الفهمُ والعقلُ من قدَّر عمره؛ وإنما يكون التقدير على العادات الغالبة؛ لأنه لا يعلم الغيب. فيكون زمان الطلب والحفظ والتشاغل إلى الأربعين، ثم يبتدئ بعد الأربعين بالتصانيف والتعليم، هذا إذا كان قد بلغ مع ما يريد من الجمع والحفظ، وأعين على تحصيل المطالب.
فأما إذا قلَّت الآلات عنده من الكتب، أو كان في أول عمره ضعيف الطلب، فلم ينل ما يريده في هذا الأوان، أخر التصانيف إلى تمام خمسين سنة، ثم ابتدأ بعد الخمسين في التصنيف والتعليم إلى رأس الستين.
ثم يزيد فيما بعد الستين في التعليم، ويسمع الحديث والعلم، ويقلل التصانيف إلا أن يقع مهم إلى رأس السبعين.
فإذا جاوز السبعين، جعل الغالب عليه ذكر الآخرة والتهيؤ للرحيل، فيوفر نفسه على نفسه، إلا من تعليم يحتسبه، أو تصنيف يفتقر إليه؛ فذلك أشرف العدد للآخرة.
ولتكن همته في تنظيف نفسه، وتهذيب خلاله، والمبالغة في استدراك زلاته، فإن اختطف في خلال ما ذكرناه، فـ"نية المؤمن خير من عمله"، وإن بلغ إلى هذه المنازل، فقد بينا ما يصلح لكل منزل.
وقد قال سفيان الثوري: من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليتخذ لنفسه كَفَنًا. وقد بلغ جماعة من العلماء سبعًا وسبعين سنةً، منهم أحمد بن حنبل، فإن بلغها، فليعلم أنه على شفير القبر، وأن كل يوم يأتي بعدها مستطرف.
فإن تمت له الثمانون، فيلجعل همته كلها مصروفة إلى تنظيف خلاله، وتهيئة زاده، وليجعل الاستغفار حليفه، والذكر أليفه، وليدقق في محاسبة النفس، وفي بذل العلم، أو مخالطة الخلق، فإن قُرْبَ الاستعراض للجيش يوجب عليه الحذر من العارض.
وليبالغ في إبقاء أثره قبل رحيله، مثل بث علمه، وإنفاق كتبه، وشيء من ماله.
ويعد: فمن تولاه الله عز وجل علمه، ومن أراده ألهمه. نسأل الله عز وجل أن ينعم علينا بأن يتولانا، ولا يتولى عنا، إنه قريب مجيب.