ثمار الأوراق



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ثمار الأوراق

ثمار الأوراق

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ثمار الأوراق

منتدى تعليمي يهتم باللغة العربية علومها وآدابها.


    أهمية الشعر لابن رشيق القيرواني و انتصاره له على النثر

    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    أهمية الشعر لابن رشيق القيرواني و انتصاره له على النثر  Empty أهمية الشعر لابن رشيق القيرواني و انتصاره له على النثر

    مُساهمة من طرف أحمد الأحد يوليو 17, 2011 3:45 am

    قال ابن رشيق القيرواني في صدر كتابه (العمدة) :
    وكلام العرب نوعان: منظوم، ومنثور.
    ولكل منهما ثلاث طبقات: جيدة، ومتوسطة، ورديئة، فإذا اتفق الطبقتان في القدر، وتساوتا في القيمة، ولم يكن لإحداهما فضل على الأخرى كان الحكم للشعر ظاهراً في التسمية؛ لأن كل منظوم أحسن من كل منثور من جنسه في معترف العادة، ألا ترى أن الدر وهو أخو اللفظ ونسيبه، وإليه يقاس، وبه يشبه إذا كان منثوراً لم يؤمن عليه، ولم ينتفع به في الباب الذي له كسب، ومن أجله انتخب؛ وإن كان أعلى قدراً وأغلى ثمناً، فإذا نظم كان أصون له من الابتذال، وأظهر لحسنه مع كثرة الاستعمال، وكذلك اللفظ إذا كان منثوراً تبدد في الأسماع، وتدحرج عن الطباع، ولم تستقر منه إلا المفرطة في اللفظ وإن كانت أجمله، والواحدة من الألف، وعسى أن لا تكون أفضله، فإن كانت هي اليتيمة المعروفة، والفريدة الموصوفة؛ فكم في سقط الشعر من أمثالها ونظرائها لا يعبأ به، ولا ينظر إليه، فإذا أخذه سلك الوزن، وعقد القافية؛ تألفت أشتاته، وازدوجت فرائده وبناته، واتخذ اللابس جمالاً، والمدخر مالاً فصار قرطة الآذان، وقلائد الأعناق، وأماني النفوس، وأكاليل الرءوس، يقلب بالألسن، ويخبأ في القلوب، مصوناً باللب، ممنوعاً من السرقة والغضب.

    وقد اجتمع الناس على أن المنثور في كلامهم أكثر، وأقل جيداً محفوظاً، وأن الشعر أقل، وأكثر جيداً محفوظاً؛ لأن في أدناه من زينة الوزن والقافية ما يقارب به جيد المنثور.

    وكان الكلام كله منثوراً فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأمجاد، وسمحائها الأجواد؛ لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعراً؛ لأنهم شعروا به، أي: فطنوا.

    وقيل: ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون؛ فلم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره.


    ولعل بعض الكتاب المنتصرين للنثر، الطاعنين على الشعر، يحتج بأن القرآن كلام الله تعالى منثور، وأن النبي صلى الله عليه وسلم غير شاعر؛ لقول الله تعالى: " وما علمناه الشعر، وما ينبغي له " ويرى أنه قد أبلغ في الحجة، وبلغ في الحاجة، والذي عليه في ذلك أكثر مما له؛ لأن الله تعالى إنما بعث رسوله أمياً غير شاعر إلى قوم يعلمون منه حقيقة ذلك، حين استوت الفصاحة، واشتهرت البلاغة؛ آية للنبوة، وحجة على الخلق، وإعجازاً للمتعاطين، وجعله منثوراً ليكون أظهر برهاناً لفضله على الشعر الذي من عادة صاحبه أن يكون قادراً على ما يحبه من الكلام، وتحدى جميع الناس من شاعر وغيره بعمل مثله فأعجزهم ذلك، كما قال الله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " فكما أن القرآن أعجز الشعراء وليس بشعر، كذلك أعجز الخطباء وليس بخطبة، والمترسلين وليس بترسل، وإعجازه الشعراء أشد برهاناً، ألا ترى كيف نسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشعر لما غلبوا وتبين عجزهم؟ فقالوا: هو شاعر، لما في قلوبهم من هيبة الشعر وفخامته، وأنه يقع منه ما لا يلحق، والمنثور ليس كذلك، فمن ههنا قال الله تبارك وتعالى: " وما علمناه الشعر، وما ينبغي له " أي: لتقوم عليكم الحجة، ويصح قبلكم الدليل، ويشهد لذلك رواية يونس عن الزهري أنه قال: معناه ما الذي علمناه شعراً، وما ينبغي له أن يبلغ عنا شعراً.
    وقال غيره: أراد وما ينبغي له أن يبلغ عنا ما لم نعلمه، أي: ليس هو ممن يفعل ذلك؛ لأمانته ومشهور صدقه. ولو أن كون النبي صلى الله عليه وسلم غير شاعر غض من الشعر لكانت أميته غضاً من الكتابة، وهذا أظهر من أن يخفي على أحد.


    واحتج بعضهم بأن الشعراء أبداً يخدمون الكتاب، ولا تجد كاتباً يخدم شاعراً، وقد عميت عليهم الأنباء، وإنما ذلك لأن الشاعر واثق بنفسه. مدل بما عنده على الكاتب والملك؛ فهو يطلب ما في أيديهما ويأخذه، والكاتب بأي آية يفضل الشاعر فيرجو ما في يده؟ وإنما صناعته فضلة عن صناعته، على أن يكون كاتب بلاغة، فأما كاتب الخدمة في القانون وما شاكله فصانع مستأجر، مع أنه قد كان لأبي تمام والبحتري قهارمة وكتاب، وكان من عميان الشعراء كتاب أزمة كبشار وأبي علي البصير، وكان ابن الرومي من أكبر كتاب الدواوين، فغلب عليه الشعر؛ لأنه غلاب. وكما تجد من يمدح السوقة في الشعراء فكذلك تجد للسوقة كتاباً، وللتجار الباعة، في زمننا هذا وقبله.
    ولما أهجم بهذا الرد، وأورد هذه الحجة، لولا أن السيد أبقاه الله قد جمع النوعين، وحاز الفضيلتين، فهما نقطتان من بحره، ونوارتان من زهره، وسيرد في أضعاف هذا الكتاب من أشعاره ما يكون دليلاً على صدق ما قلته، إن شاء الله تعالى.


    ومن فضل الشعر أن الشاعر يخاطب الملك باسمه، وينسبه إلى أمه، ويخاطبه بالكاف كما يخاطب أقل السوقة؛ فلا ينكر ذلك عليه، بل يراه أوكد في المدح، وأعظم اشتهاراً للممدوح، كل ذلك حرص على الشعر، ورغبة فيه، ولبقائه على مر الدهور واختلاف العصور، والكاتب لا يفعل ذلك إلا أن يفعله منظوماً غير منثور، وهذه مزية ظاهرة وفضل بين.


    ومن فضائله أن الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه حسن فيه، وحسبك ما حسن الكذب، واغتفر له قبحه، فقد أوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير لما أرسل إلى أخيه بجير ينهاه عن الإسلام، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بما أحفظه، فأرسل إليه أخوه " ويحك إن النبي صلى الله عليه وسلم أوعدك لما بلغه عنك، وقد كان أوعد رجالاً بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه فقتلهم يعني ابن خطل وابن حبابة وإن من بقيء من شعراء قريش كابن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يقتل من جاء تائباً، وإلا فانج إلى نجائك، فإنه والله قاتلك، فضاقت به الأرض، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متنكراً، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وضع كعب يده في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد أتى مستأمناً تائباً، أفتؤمنه فآتيك به؟ قال: هو آمن، فحسر كعب عن وجهه وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله هذا مكان العائذ بك، أنا كعب بن زهير، فأمنه رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنشد كعب قصيدته التي أولها:
    بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
    يقول فيها بعد تغزله وذكر شدة خوفه ووجله:
    أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
    مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة ال ... قرآن فيه مواعيظ وتفصيل
    لا تأخذني بأقوال الوشاة فلم ... أذنب، ولو كثرت في الأقاويل
    فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله، وما كان ليوعده على باطل، بل تجاوز عنه ووهب له بردته، فاشتراها منه معاوية بثلاثين ألف درهم. وقال العتبي بعشرين ألفاً، وهي التي يتوارثها الخلفاء يلبسونها في الجمع والأعياد تبركاً بها.
    وذكر جماعة منهم عبد الكريم بن إبراهيم النهشلي الشاعر أنه أعطاه مع البردة مائة من الإبل، قال: وقال الأحوص يذكر عمر بن عبد العزيز عطية رسول الله صلى الله عليه وسلم كعباً، وقد توقف في عطاء الشعراء:
    وقبلك ما أعطى هنيدة جلة ... على الشعر كعباً من سديس وبازل
    رسول الإله المستضاء بنوره ... عليه السلام بالضحى والأصائل
    واعتذر حسان بن ثابت من قوله في الإفك بقوله لعائشة رضي الله عنها في أبيات مدحها بها:
    حصان رزان ما تزن بريبةٍ ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
    يقول فيها:
    فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي
    ثم يقول:
    فإن الذي قد قيل ليس بلائط ... ولكنه قول امرئ بي ماحل

    فاعتذر كما تراه مغالطاً في شيء نفذ فيه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحد، وزعم أن ذلك قول امرئ ماحل، أي: مكايد، فلم يعاقب لما يرون من استخفاف كذب الشاعر، وأنه يحتج به ولا يحتج عليه.


    وسئل أحد المتقدمين عن الشعراء فقال: ما ظنك بقوم الاقتصاد محمود إلا منهم، والكذب مذموم إلا فيهم.


    حكى أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين النيسابوري أن كعب الأحبار قال له عمر بن الخطاب وقد ذكر الشعر: يا كعب، هل تجد للشعراء ذكراً في التوراة؟ فقال كعب: أجد في التوراة قوماً من ولد إسماعيل، أناجيلهم في صدورهم ينطقون بالحكمة، ويضربون الأمثال، لا نعلمهم إلا العرب.
    وقيل: ليس لأحد من الناس أن يطري نفسه ويمدحها، في غير منافرة، إلا أن يكون شاعراً، فإن ذلك جائز له في الشعر، غير معيب عليه.


    وقال بعضهم وأظنه أبا العباس الناشئ العلم عند الفلاسفة ثلاث طبقات: أعلى، وهو ما غاب عن الحواس فأدرك بالعقل أو القياس، وأوسط، وهو علم الآداب النفيسة التي أظهرها العقل من الأشياء الطبيعية كالأعداد والمساحات وصناعة التنجيم وصناعة اللحون، وأسفل، وهو العلم بالأشياء الجزئية والأشخاص الجسيمة، فوجب إذا كانت العلوم أفضلها ما لم تشارك فيه الجسوم أن يكون أفضل الصناعات ما لم تشارك فيه الآلات، وإذا كانت اللحون عند الفلاسفة أعظم أركان العمل الذي هو أحد قسمي الفلسفة وجدنا الشعر أقدم من لحنه لا محالة، فكان أعظم من الذي هو أعظم أركان الفلسفة، والفلسفة عندهم علم وعمل. هذا معنى الكلام المنقول عنه مختصراً وليس نصاً.


    فإن قيل في الشعر: إنه سبب التكفف، وأخذ الأعراض، وما أشبه ذلك؛ لم يلحقه من ذلك إلا ما يلحق المنثور.


    ومن فضائله أن اليونانيين إنما كانت أشعارهم تقييد العلوم والأشياء النفيسة والطبيعية التي يخشى ذهابها، فكيف ظنك بالعرب الذي هو فخرها العظيم وقسطاسها المستقيم؟ وزعم صاحب الموسيقى أن ألذ الملاذ كلها اللحن، ونحن نعلم أن الأوزان قواعد الألحان، والأشعار معايير الأوتار لا محالة، مع أن صنعة صاحب الألحان واضعة من قدره، مستخدمة له، نازلة به، مسقطة لمروءته، ورتبة الشاعر لا مهانة فيها عليه، بل تكسبه مهابة العلم، وتكسوه جلالة الحكمة.
    فأما قيامه وجلوس اللحون فلأن هذا متشوف إليه، يحب إسماع من بحضرته أجمعين، بغير آلة ولا معين، و لا يمكنه ذلك إلا قائماً أو مشرفاً، وليدل على نفسه، ويعلم أنه المتكلم دون غيره، وكذلك الخطيب، وصاحب اللحون لا يمكنه القيام لما في حجره كرامة منه على القوم، على أن منهم من كان يقوم بالدف والمزهر.


    وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكماً " وقيل " لحكمة " : فقرن البيان بالسحر فصاحة منه صلى الله عليه وسلم، وجعل من الشعر حكماً؛ لأن السحر يخيل للإنسان ما لم يكن للطافته وحيلة صاحبه وكذلك البيان يتصور فيه الحق بصورة الباطل، والباطل بصورة الحق؛ لرقة معناه، ولطف موقعه، وأبلغ البيانين عند العلماء الشعر بلا مدافعة، وقال رؤبة:
    لقد خشيت أن تكون ساحراً ... راوية مراً ومراً شاعراً
    فقرن الشعر أيضاً بالسحر لتلك العلة، ويروي أيضاً لقد حسنت بسين مضمومة غير معجمة، ونون، والتاء مفتوحة.

    باب في الرد علي من يكره الشعر

    روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنما الشعر كلام مؤلف فما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه " ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: " إنما الشعر كلام، فمن الكلام خبيث وطيب " ، وقالت عائشة رضي الله عنها: الشعر فيه كلام حسن وقبيح، فخذ الحسن واترك القبيح، ويروي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى لحسان بن ثابت في المسجد منبراً ينشد عليه الشعر، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أعلم منه، وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه: الشعر ميزان القول، ورواه بعضهم: الشعر ميزان القوم.


    وروى ابن عائشة يرفعه قال: قال رسول الله صلى الله علية وسلم: " الشعر كلام من كلام العرب جزل، تتكلم به في بواديها، وتسل به الضغائن من بينها " وأنشد ابن عائشة قول أعشى بني قيس بن ثعلبة:
    قلدتك الشعر يا سلامة ذا ... فايش، والشيء حيث ما جعلا
    والشعر يستنزل الكريم كما ... ينزل رعد السحابة السبلا


    ويروى عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: مر الزبير بن العوام رضي الله عنه بمجلس لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحسان ينشدهم، وهم غير آذنين لما يسمعون من شعره، فقال: مالي أراكم غير آذنين لما تسمعون من شعر ابن الفريعة؟ لقد كان ينشد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسن استماعه، ويجزل عليه ثوابه، ولا يشتغل عنه إذا أنشده.
    ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بحسان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أرغاء كرغاء البكر؟ فقال حسان: دعني عنك يا عمر، فوالله إنك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك فما يغير علي ذلك، فقال عمر: صدقت.


    وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: مر من قبلك بتعلم الشعر؛ فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب.


    وقال معاوية رحمه الله: يجب على الرجل تأديب ولده، والشعر أعلى مراتب الأدب وقال: اجعلوا الشعر أكبر همكم، وأكثر دأبكم، فلقد رأيتني ليلة الهرير بصفين وقد أتيت بفرس أغر محجل بعيد البطن من الأرض، وأنا أريد الهرب لشدة البلوى فما حملني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الإطنابة:
    أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
    وإقحامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
    وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
    لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح


    ويروى أن أعرابياً وقف على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: إن لي إليك حاجة رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك، فإن أنت قضيتها حمدت الله تعالى وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت الله تعالى وعذرتك، فقال له علي: خط حاجتك في الأرض، فإني أرى الضر عليك، فكتب الأعرابي على الأرض إني فقير فقال له علي: يا قنبر؛ ادفع إليه حلتي الفلانية، فلما أخذها مثل بين يديه فقال:
    كسوتني حلة تبلى محاسنها ... فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا
    إن الثناء ليحيي ذكر صاحبه ... كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا
    لا تزهد الدهر في عرف بدأت به ... فكل عبد سيجزى بالذي فعلا
    فقال علي: يا قنبر، أعطه خمسين ديناراً، أما الحلة فلمسألتك، وأما الدنانير فلأدبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أنزلوا الناس منازلهم " وقيل لسعيد بن المسيب: إن قوماً بالعراق يكرهون الشعر، فقال: نسكوا نسكاً أعجمياً.


    وقال ابن سيرين: الشعر كلام عقد بالقوافي، فما حسن في الكلام حسن في الشعر، وكذلك ما قبح منه.
    وسئل في المسجد عن رواية الشعر في شهر رمضان وقد قال قوم: إنها تنقض الوضوء فقال:
    نبئت أن فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
    ثم قام فأم الناس، وقيل: بل أنشد:
    لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزاً ... ولو رضيت رمح أسته لاستقرت


    وقال الزبير بن بكار: سمعت العمري يقول: رووا أولادكم الشعر؛ فإنه يحل عقدة اللسان، ويشجع قلب الجبان، ويطلق يد البخيل، ويحض على الخلق الجميل.
    وسئل ابن عباس: هل الشعر من رفث القول؟ فأنشد:
    وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا
    وقال: إنما الرفث عند النساء، ثم أحرم للصلاة.


    وكان ابن عباس يقول: إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب؛ فإن الشعر ديوان العرب. وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعراً.
    وكانت عائشة رضي الله عنها كثيرة الرواية للشعر. يقال: إنها كانت تروي جميع شعر لبيد.


    وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين " .
    وكان أبو السائب المخزومي على شرفه، وجلالته، وفضله في الدين والعلم يقول: أما والله لو كان الشعر محرماً لوردنا الرحبة كل يوم مراراً. والرحبة: الموضع الذي تقام فيه الحدود، يريد أنه لا يستطيع الصبر عنه فيحد في كل يوم مراراً ولا يتركه.

    فأما احتجاج من لا يفهم وجه الكلام بقوله تعالى: " والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون " فهو غلط، وسوه تأول؛ لأن المقصودين بهذا النص شعراء المشركين الذين تناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء، ومسوه بالأذى، فأما من سواهم من المؤمنين فغير داخل في شيء من ذلك، ألا تسمع كيف استثناهم الله عز وجل ونبه عليهم فقال: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا " يريد شعراء النبي صلى الله عليه وسلم ينتصرون له، ويجيبون المشركين عنه، كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. وقد قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: " هؤلاء النفر أشد على قريش من نضح النبل " ، وقال لحسان بن ثابت " اهجهم يعني قريشاً فوالله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام، في غلس الظلام، اهجهم ومعك جبريل روح القدس، وألق أبا بكر يعلمك تلك الهنات " فلو أن الشعر حرام أو مكروه ما اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم شعراء يثيبهم على الشعر، ويأمرهم بعمله، ويسمعه منهم.


    وأما قوله عليه الصلاة والسلام: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً " فإنما هو من غلب الشعر على قلبه، وملك نفسه حتى شغله عن دينه وإقامة فروضه، ومنعه من ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، والشعر غيره مما جرى هذه المجرى من شطرنج وغيره سواء. وأما غير ذلك ممن يتخذ الشعر أدباً وفكاهة وإقامة مروءة فلا جناح عليه وقد قال الشعر كثير من الخلفاء الراشدين، والجلة من الصحابة والتابعين، والفقهاء المشهورين، وسأذكر من ذلك طرفاً يقتدي به في هذا الباب، إن شاء الله تعالى.



      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 14, 2024 11:57 pm