لَمْ يكنْ الحوارُ في يومٍ مِنْ الأيَّامِ بوسيلةٍ مستغنًى عنها في تبادلِ الأفكارِ، وتمحيصِ المعلوماتِ، ومقابلةِ الخِبْراتِ والقناعاتِ الذاتيةِ المكتسبةِ لدى الفرد على مجموعِ خِبْراتِ الآخرين، فتتولدُ القَناعاتُ وتُوثقُ الخبراتُ بأدلة يجمعها صاحبها بناءً على ما ثبتَ عنده مِنْ الدليلِ، وهى مُمارسةٌ عقليةٌ من بين أهدافِها الطلبُ المتبادَلُ للتَّصحيحِ والمقارنةِ، و التوصُّلُِ بنيّةٍ سليمةٍ واضحةٍ لمعرفةٍ الحقائقِ المجردة ، والتي قد تُغطِّيها عند بعض أطرافِ الحِوارِ قِلَّةُ الفهمِ، وعَوارُ النفوسِ، والانتصارُ للرأي، واللَّجاجَةُ في العرضِ والطلبِ. وهى آفاتٌ تتلاشى أثناءَ الحواراتِ المنضبطةِ وتنكمشُ؛ فلا يبقى لها أثرٌ إنْ كان الحرصُ على الفهمِ الصحيحِ هو الإطارُ العامُ لتلك الممارسةِ الإنسانيةِ الراقيةِ. وحين ينضبطُ الحوارُ بأصولٍ منهجيةٍ تعتمدُ فى مقامِها الأوَّلِ على الإيضاحِ والاستيعابِ، والصدقِ مع النفس في التعاملِ مع المطروحِ، فإن النتيجةَ الحتميَّةَ المرجوةَ هي خضوعُ أطرَافِ الحِوارِ لسلطانِ الدليلِ وقوةِ البرهانِ، وقَبُولُ البديهيَّاتِ، والنَأْيُ بالذاتِ عن السَفْسَطَةِ، وتركُ عادةِ التَّتَرُّسِ خلْفَ فُقَّاعاتِ الجَدَلِ لتمريرِ الأخطاءِ وردِّ المثبت.
وهاهنا شبهةٌ حولَ (امتلاكِ الحقيقةِ) قد تُحيطُ بمفهومِ الحوارِ، وربَّما أٌسِيءَ فهمُها أحيانًا لتُستخدم وسيلةً للتشنيعِ على الآخرين أو زعزعةِ معرفتِهم بالحقيقةِ وتمكنِهم منها وامتلاكِهم لها، وهذا ما قد يُقَوِّضُ الأساسَ الذي تُعقدُ لأجلِه مِثلُ هذه الحواراتِ إن لم يُفهمْ فى إطارهِ البدِيهِيِّ ، فالصحيحُ أنَّ الحقيقةَ لا يملِكها أحدٌ، بل هي سلطانٌ قائمٌ بذاتِه يُخضِعُ جميعَ الأطرافِ لقوَّتِه، ويملِكُ العقولَ بسُطُوعِه وجلائِه الذي يتفقُ مع الإدراكِ السليمِ، والوعي الناضجِ. وحينَ يَدَّعِي طرفٌ أنَّه يملِكُ "الحقيقةَ" فهو لا يعني سوى أنَّ "الحقيقةَ" هي التي تملِكُه فكريًّا، وتُشبِعُه عقليًّا، وتَسكنُ نفسُه لها بالاطمئنان، ويتبنَّاها بيقينٍ راسخٍ يُوْرِثُه خضوعًا لسلطانِها، وانسياقًا لحتميِّةِ التصديقِ بها. فالحقيقةُ كينونَةٌ قائمةٌ بذاتِها وإنْ لَمْ يدرِكْها بعضُ الناسِ. وعدمُ إدراكِهم لا يعني نفيَ وجودِها أو التشكيكَ في قيْمتِها لمجردِ رفضِهم لها، وهو المنحَى الذي تتخذُه بعضُ الحواراتِ العقيمةِ؛ فتنتكِسُ وتتحولُ إلى مجردِ حَلَبةٍ تتصارَعُ فيها الكلماتُ والأشباحُ، فتُطِيْحُ بكُلِّ الثوابتِ والمفاهيمِ الصحيحةِ لصالحِِ العَبث ، وذلك حين يَجنحُ الإنسانُ للتملصِ من قُيودِ العقلِ والمنهجيةِ المُثمرةِ ، انتصاراً لما أُشرِبت نَفسُه من كأسِ هواه المَريرِ ، وإذلالاً لنفسه وتحقيراً لأدوات إدراكه ، حين تصبحُ الحقائقُ عِندَه هى مَجموعُ ما تَقبلُه نَفسُه ، وإن خالفَ بذلك القَبول كلَّ ما قامَت عليه المعارفُ من بديهيات.
ثمَّ إِنَّ الحواراتِ التي تعتمدُ في أصولِها على مقابلةِ البرهانِ والدليلِ بممارسةٍ تتَّسِمُ بالسلبيةِ الفكريةِ لا تخلِقُ حواراً بالمعنى الاصطلاحيِّ أو التطبيقيِّ للكلمةِ، فالفكرُ يقومُ على خطواتٍ لها استدلالاتٌ تنبُعُ من مجموعةٍ مفهومةٍ من المقدِّماتِ والنتائجِ، قد تَرقى تلكَ الخُطواتُ لتصلَ بالمُحتوى إلى مَرتبةِ البَديهي أو المَعلومِِ بالضَرورةِ، أو قد تَحتاجُ لأن تُثبتُ نفسها بدليلٍ يُضْفِي عليها المصداقِيَّةَ المطلوبةَ، كحدٍ أدنى يُؤَهِلُها لأنْ تتحولَ إلى قناعاتٍ إيجابِيَّةٍ فاعلةٍ تُلزِمُ أصحابَها بتبِعاتِها العقديَّةِ والعمليَّةِ. ومن المفتَرَضِ أنْ يُقابَلَ مِثلُ هذا البناءِ الفكريِّ أثناءَ الحوارِ بما يشبهُه، إمَّا بتسلسل نَقْضِيٍّ في الاتجاهِ المُعاكِسِ لبناءِ المخالِفِ ، أو ببناءٍ مَنهَجى أعلى قيمةً وأغلى كُلْفَةً وأقربَ للعقلِ من بناءِ المخالفِ، فيمكِنُ للعاقلِ حينها أنْ يُرَجِّحَ بينَ موقِفَيْنِ لهما رصيدٌ من المنهجيَّةِ ويملكانِ أصولاً ونتائجَ. أما أن يُقابِلَ الفكرُ بحالةٍ من الـ"لا فِكْرٍ"، أو بحالةٍ من السلبيَّةِ الفكرِيَّةِ التي يتبناها أصحابُها لِتكريسِ البطالةِ العقليَّةِ لِتُولِّدَ لديهِم إحساساً زائفاً من القناعةِ.. مفادُه: أنَّ الموقفَ الفكريَّ قد يُبنى على مجردِ المخالفةِ للآخرين دونَ الحاجةِ لِتقديمِ الدليلِ اللازمِ لِتَوَلُّدِ مِثلِ هذهِ القناعةِ! فإنَّ هذه المقابلةَ لا يمكنُ أنْ تسمَّى بالحوارِ، ولا أنْ تصِلَ -في حالِ انعقادِها- إلى أيةِ نتيجةٍ ذاتِ قيمةٍ تُضيفُ علماً أو تُقوِّضُ جهلاً، إذْ أنَّ "الجهل" في حدِّ ذاتِه أصبحَ موقفاً له قيمةٌ عندَ صاحبِه.. لمجردِ أنَّه لا يُريدُ أنْ يَعْلمَ، أو أنَّ تبِعاتِ الإذعانِ للعلمِ الضروريِّ يدخلُ في جُملةِ ما يخالفُ هواه.
إنَّنا ندعو مِنْ خلالِ هذا العملِ الذي نقدمه بين أيدِيكُم إلى تحويلِ الحواراتِ المنهجيَّةِ إلى منْفَذٍ طبيعِيٍّ للنفوسِ والعقولِ، وفرصةٍ لتَتَبُّعِ آثارِ الحقِ، لا لتسفِيهِه، بلْ لاتِخاذِه عقيدةً ومنهاجاً. ندعو لأنْ يتبنَّى أصحابُ العقائدِ المختلفةِ والأفكارِ المتباينةِ قناعاتٍ لها أُسُسٌ منهجيَّةٌ يُمْكِنُ البناءُ عليها، وتحييدُها لِلدرجةِ التي تُجبِرُ المخالفين لهم على الإذعانِ لِسلطانِها. ندعوهم لتبنِّي منهجٍٍ حواريٍّ مبنيٍّ على الانتصار للحقائقِ والعلمِ، لا أنْ نكسوَ العلمَ برداءِ الجهلِ توسلًا لتزييفِ القناعاتِ، وتسكينِ الضمائرِ، وافتعالِ المواقفِ الفكريَّةِ التي لا تَحْمِلُ أيَّةَ مِصْدَاقِيَّةٍ.
منتدى التوحيد
وهاهنا شبهةٌ حولَ (امتلاكِ الحقيقةِ) قد تُحيطُ بمفهومِ الحوارِ، وربَّما أٌسِيءَ فهمُها أحيانًا لتُستخدم وسيلةً للتشنيعِ على الآخرين أو زعزعةِ معرفتِهم بالحقيقةِ وتمكنِهم منها وامتلاكِهم لها، وهذا ما قد يُقَوِّضُ الأساسَ الذي تُعقدُ لأجلِه مِثلُ هذه الحواراتِ إن لم يُفهمْ فى إطارهِ البدِيهِيِّ ، فالصحيحُ أنَّ الحقيقةَ لا يملِكها أحدٌ، بل هي سلطانٌ قائمٌ بذاتِه يُخضِعُ جميعَ الأطرافِ لقوَّتِه، ويملِكُ العقولَ بسُطُوعِه وجلائِه الذي يتفقُ مع الإدراكِ السليمِ، والوعي الناضجِ. وحينَ يَدَّعِي طرفٌ أنَّه يملِكُ "الحقيقةَ" فهو لا يعني سوى أنَّ "الحقيقةَ" هي التي تملِكُه فكريًّا، وتُشبِعُه عقليًّا، وتَسكنُ نفسُه لها بالاطمئنان، ويتبنَّاها بيقينٍ راسخٍ يُوْرِثُه خضوعًا لسلطانِها، وانسياقًا لحتميِّةِ التصديقِ بها. فالحقيقةُ كينونَةٌ قائمةٌ بذاتِها وإنْ لَمْ يدرِكْها بعضُ الناسِ. وعدمُ إدراكِهم لا يعني نفيَ وجودِها أو التشكيكَ في قيْمتِها لمجردِ رفضِهم لها، وهو المنحَى الذي تتخذُه بعضُ الحواراتِ العقيمةِ؛ فتنتكِسُ وتتحولُ إلى مجردِ حَلَبةٍ تتصارَعُ فيها الكلماتُ والأشباحُ، فتُطِيْحُ بكُلِّ الثوابتِ والمفاهيمِ الصحيحةِ لصالحِِ العَبث ، وذلك حين يَجنحُ الإنسانُ للتملصِ من قُيودِ العقلِ والمنهجيةِ المُثمرةِ ، انتصاراً لما أُشرِبت نَفسُه من كأسِ هواه المَريرِ ، وإذلالاً لنفسه وتحقيراً لأدوات إدراكه ، حين تصبحُ الحقائقُ عِندَه هى مَجموعُ ما تَقبلُه نَفسُه ، وإن خالفَ بذلك القَبول كلَّ ما قامَت عليه المعارفُ من بديهيات.
ثمَّ إِنَّ الحواراتِ التي تعتمدُ في أصولِها على مقابلةِ البرهانِ والدليلِ بممارسةٍ تتَّسِمُ بالسلبيةِ الفكريةِ لا تخلِقُ حواراً بالمعنى الاصطلاحيِّ أو التطبيقيِّ للكلمةِ، فالفكرُ يقومُ على خطواتٍ لها استدلالاتٌ تنبُعُ من مجموعةٍ مفهومةٍ من المقدِّماتِ والنتائجِ، قد تَرقى تلكَ الخُطواتُ لتصلَ بالمُحتوى إلى مَرتبةِ البَديهي أو المَعلومِِ بالضَرورةِ، أو قد تَحتاجُ لأن تُثبتُ نفسها بدليلٍ يُضْفِي عليها المصداقِيَّةَ المطلوبةَ، كحدٍ أدنى يُؤَهِلُها لأنْ تتحولَ إلى قناعاتٍ إيجابِيَّةٍ فاعلةٍ تُلزِمُ أصحابَها بتبِعاتِها العقديَّةِ والعمليَّةِ. ومن المفتَرَضِ أنْ يُقابَلَ مِثلُ هذا البناءِ الفكريِّ أثناءَ الحوارِ بما يشبهُه، إمَّا بتسلسل نَقْضِيٍّ في الاتجاهِ المُعاكِسِ لبناءِ المخالِفِ ، أو ببناءٍ مَنهَجى أعلى قيمةً وأغلى كُلْفَةً وأقربَ للعقلِ من بناءِ المخالفِ، فيمكِنُ للعاقلِ حينها أنْ يُرَجِّحَ بينَ موقِفَيْنِ لهما رصيدٌ من المنهجيَّةِ ويملكانِ أصولاً ونتائجَ. أما أن يُقابِلَ الفكرُ بحالةٍ من الـ"لا فِكْرٍ"، أو بحالةٍ من السلبيَّةِ الفكرِيَّةِ التي يتبناها أصحابُها لِتكريسِ البطالةِ العقليَّةِ لِتُولِّدَ لديهِم إحساساً زائفاً من القناعةِ.. مفادُه: أنَّ الموقفَ الفكريَّ قد يُبنى على مجردِ المخالفةِ للآخرين دونَ الحاجةِ لِتقديمِ الدليلِ اللازمِ لِتَوَلُّدِ مِثلِ هذهِ القناعةِ! فإنَّ هذه المقابلةَ لا يمكنُ أنْ تسمَّى بالحوارِ، ولا أنْ تصِلَ -في حالِ انعقادِها- إلى أيةِ نتيجةٍ ذاتِ قيمةٍ تُضيفُ علماً أو تُقوِّضُ جهلاً، إذْ أنَّ "الجهل" في حدِّ ذاتِه أصبحَ موقفاً له قيمةٌ عندَ صاحبِه.. لمجردِ أنَّه لا يُريدُ أنْ يَعْلمَ، أو أنَّ تبِعاتِ الإذعانِ للعلمِ الضروريِّ يدخلُ في جُملةِ ما يخالفُ هواه.
إنَّنا ندعو مِنْ خلالِ هذا العملِ الذي نقدمه بين أيدِيكُم إلى تحويلِ الحواراتِ المنهجيَّةِ إلى منْفَذٍ طبيعِيٍّ للنفوسِ والعقولِ، وفرصةٍ لتَتَبُّعِ آثارِ الحقِ، لا لتسفِيهِه، بلْ لاتِخاذِه عقيدةً ومنهاجاً. ندعو لأنْ يتبنَّى أصحابُ العقائدِ المختلفةِ والأفكارِ المتباينةِ قناعاتٍ لها أُسُسٌ منهجيَّةٌ يُمْكِنُ البناءُ عليها، وتحييدُها لِلدرجةِ التي تُجبِرُ المخالفين لهم على الإذعانِ لِسلطانِها. ندعوهم لتبنِّي منهجٍٍ حواريٍّ مبنيٍّ على الانتصار للحقائقِ والعلمِ، لا أنْ نكسوَ العلمَ برداءِ الجهلِ توسلًا لتزييفِ القناعاتِ، وتسكينِ الضمائرِ، وافتعالِ المواقفِ الفكريَّةِ التي لا تَحْمِلُ أيَّةَ مِصْدَاقِيَّةٍ.
منتدى التوحيد
عدل سابقا من قبل أحمد في الإثنين يونيو 28, 2010 1:05 am عدل 1 مرات (السبب : تثبيت الموضوع لأهميته)