"مقدمة فى فقه اللغة العربية"؟
أم فى الجهل والحقد والبهلوانية؟
بقلم : الدكتور / إبراهيم عوض
أم فى الجهل والحقد والبهلوانية؟
بقلم : الدكتور / إبراهيم عوض
________________________
فى أحد المواقع التبشيرية فوجئتُ، وأنا أقوم بجولة فى المِشْباك بحثًا عن شىءٍ يتعلق بكتاب الدكتور لويس عوض: "مقدمة فى فقه اللغة العربية"، أن أصحاب هذا الموقع يعرضون الكتاب عندهم ويُغْرُون القارئ بتحميله ويسهّلونه له فى طبعة ثانية منه صادرة عن دار "رؤية" للنشر والتوزيع عام 2006م. ولم أكن قد قرأت الكتاب من قبل رغم الضجة التى أثارها وقت صدوره فى أوائل الثمانينات من القرن الماضى، إذ كنت بالخارج حينذاك، ولما عدت كان الكتاب قد صودر، فظلت معرفتى به مجرد أقوال سماعية متناثرة لا تَشْفِى الغليل. ومن ثم حمدت الله أن أتاح لى هذه الفرصة فقمت بتحميل الكتاب وحفظته عندى على الكاتوب إلى أن يتاح لى الوقت لقراءته. ثم انتهزت أول سانحة لمعرفة ما يحويه من أفكار فشرعت أقرؤه وأسجل ملاحظاتى فى ملف بالجهاز على ما أقرأ أولا بأول، وقد أقوم بالبحث بين الحين والحين عن شىء يتصل بما أكتبه وأحفظه عندى كذلك، ثم تركت الأمر برُمّته انتظارا لفرصة أخرى، إذ كنت مشغولا بأمور أكثر إلحاحا، مما عطلنى عن استئناف المسألة عدة أسابيع. وأعترف للقارئ أن قراءتى للكتاب لم تكن قراءة مستغرقة، كما كنت أكتفى أحيانًا ببعض الفقرات والأمثلة عن متابعة الباقى الذى لا يضيف جديدا.
وقد تنبهت أوانها أن الرجل قد جشّم نفسه عملا هو غير مؤهل له على الإطلاق، إلا أن الأمر رغم ذلك لم يبد لى ساعتها على فداحته التى تبدت لى حين عكفت على الكتابة عنه ومناقشة ما ورد فيه، إذ كانت عوراته الفكرية والعلمية والدينية تتكشف كالحة رهيبة تبعث على الاشمئزاز والقرف. ترى ما الذى أدخل الرجل فى هذه المضايق وهو غير مستعد لها؟ ترى من أين للرجل بتلك الآراء الفطيرة علميا والمسيئة للمسلمين ودينهم؟ وتنبهتُ إلى أنى قد حصلت على الكتاب من موقع تبشيرى قبطى يكره العروبة ويهاجم الإسلام ويشتم الله والرسول والصحابة. إذن فقد انجلى السر، وظهر أن الذين دافعوا عن الكتاب واتهموا ناقديه بالتعصب لم يقولوا الحقيقة، وإلا فلماذا يحرص مثل هذا الموقع على عرض ذلك الكتاب والتصايح بالإعلان عنه إذا كان مجرد كتاب يبحث فى اللغة العربية ولا يريد بالعروبة والإسلام شرا؟ وكنت كلما مضيت فى الكتابة ومراجعة النصوص التى سجلتُ عنها ملاحظاتى الأولى أزداد استغرابًا وشُدْهًا ويتحقق لدىّ أن لويس عوض لم يكتب كتابه لوجه العلم، فقد كان واضحا أن كل ما فيه لا يمت إلى العلم بصلة، كما أنه لا يعرف عن موضوعه شيئا يؤهله لامتشاق القلم والكتابة عنه. إنها روح صليبية فعلا كما جاء فى بعض ما كُتِب عن الكتاب، وليس دفاعُ من دافعوا عنه وأعادوا نشره ووضعوه على المشباك إلا تضليلا فى تضليل.
على أنى أحب أن أنبه منذ البداية إلى أننى لم أكن أعرف الدكتور لويس عوض شخصيا ولا كانت لى به صلة على الإطلاق ولم أره على الطبيعة قط، بل كانت كل علاقتى به هى علاقة القارئ بأى صاحب قلم. وقد قرأتُ له كثيرا من كتبه، وكنت فى وقت من الأوقات من المستطرفين لبعض ما يكتب، ثم قرأت متأخرا عن إبّانه ما كتبه الأستاذ محمود شاكر رحمه الله ينبّه إلى ما فى كتاباته من سموم وكراهية للإسلام والمسلمين، وذلك فى معركة "هامش الغفران"، التى كسحه فيها شاكر كسحا وحطمه تحطيما، وإن لم يَعْدُ الأمر عندى حدود المعركة التى دارت بن الطرفين آنذاك.
وكنت، حين بدأت أقرأ الكتاب، قد استخرجت من مكتبتى الخاصة كتاب الأستاذ رجاء النقاش: "الانعزاليون فى مصر"، الذى رد فيه على لويس عوض عندما كتب مقالاته فى السبعينات من القرن الفائت يهاجم العروبة وينكر أن تكون مصر عربية رغم لغتها العربية وأدبها العربى وتاريخها العربى وفكرها العربى ودينها العالمى الذى حمله إليها صحابة الرسول العربى محمد صلى الله عليه وسلم (والبند الأخير هو مربط الفرس فى "ذلك كله"، وما "ذلك كله" إلا توطئة له وذر للرماد فى العيون كيلا ترى العيون هذا البند الأخير)، فألفيت الأستاذ النقاش قد أحسن الرد على لويس عوض إلى حد كبير. إلا أن... نعم إلا أن...! وهاكم توضيحا للأمر: فلرجاء النقاش فى بعض الأحيان مواقف فكرية نبيلة وجريئة يأخذ فيها جانب الحق والعدل فيدفع الشرفاء إلى الإعجاب به وبما يكتب، لكنه فى بعض الأحيان الأخرى للأسف يتخذ من المواقف ما لا ينسجم أو يتسق مع حق أو عدل.
ومن المواقف الأخيرة ما كتبه قبل عدة سنوات دفاعا عن رواية "وليمة لأعشاب البحر" محاولا أن يجعل من فسيخ تلك الرواية شربات، ومن خرائها عطرا فوّاحًا تَلَذّه الأنوف وتنتشى منه النفوس، إذ ادعى أن الرواية المنتنة التى يدعو صاحبها الفتاة العربية المسلمة، بكل ما يملكه من خبثٍ إبليسى وشرٍّ شيوعىٍّ مَرِيدٍ، إلى التمرد على تقاليد العفة ومكارم الأخلاق الإسلامية والرمى بنفسها وجسدها فى مستنقع الرذيلة والخنا، ويجعلها تمارس الزنا مع شيوعى كافر سافل أنانى ساقط يستغل براءتها وغرارتها وغياب أسرتها عن البيت ويظل طول الليل يجامعها فى منزل أسرتها الخالى، ادعى أن هذه الرواية تدور حول قصة حب رقيقة مرفرفة! الله أكبر! ولا أدرى كيف استطاع أن يجد فى نفسه تلك الجرأة التى تقلب الباطل حقا، والحق باطلا دون أية مبالاة بالقراء الذين اطلعوا على الرواية وأدركوا حقيقة العفن بل القىء الخلقى والفنى الذى يلوث كل صفحاتها، وكذلك دون أى اعتبار لقيم الإسلام الكريمة التى ينافح عنها فى بعض الأحايين ويقف حائلا دون ما يريد أهل القلوب المريضة أن يلطخوا به وجهها. ألا إن هذا لأمر غريب! ومثل ذلك مدحه بل تمجيده لرواية "العار" لتسليمة نسرين البنت البنجالية المفعوصة التى هاجمت الإسلام والمسلمين فى روايتها وزعمت بشأنهما الأكاذيب الحاقدة ولم تدع شيئا يلطخهما إلا انتهجته ببجاحة وكذب ما بعدهما بجاحة أو كذب، وانحازت تماما إلى الهندوس المتعصبين وصوّرتهم ملائكة أطهارا ينكِّل بهم ويغتصب فتياتهم المسلمون المتوحشون، فجاء رجاء النقاش وأطرى الرواية وصاحبتها أيما إطراء زاعما أنها إنما تدافع عن قيم الإسلام الحقيقية!
ومن مواقف الأستاذ النقاش الكريمة تلك المقالات التى كتبها ردا على لويس عوض وأشباهه ممن ظنوا أن بمستطاعهم اجتيال المصريين عن نسبهم الثقافى العربى الذى خلعه عليهم الإسلام العظيم وشاركهم فيه إخوان الوطن من الأقباط الشرفاء الذين لم يجدوا فى دين محمد ما يؤذيهم فى كرامتهم أو يحرمهم من حرية المعتقد والتدين فدخلوا فيما دخل فيه إخوانهم المصريون المسلمون من اللسان العربى والأدب العربى والفكر العربى، ولم يجدوا فى شىء من ذلك ما يتعارض مع تمسكهم بدينهم وعباداتهم وشرائعهم. ذلك أن لويس عوض قد هبّ فى السبعينات من القرن المنصرم لظنه أن الوقت قد حان كى يتقايأ ما فى بطنه من سخائم ضد العرب والعروبة والإسلام زاعما أن مصر لا علاقة لها بالعروبة وأن المصريين ليسوا عربا، وأنه ليست هناك عروبة بأى معنى من المعانى، بل هى أوهام لا ترتبط بالواقع أى ارتباط. ومعروف أن هذا أسلوب من الكتابة يعتمد على التقدم خطوة خطوة، حتى إذا تمت الخطوة الأولى تبعتها مقدمات الخطوة التالية ثم الخطوة التالية ذاتها... وهكذا دواليك حتى يتم المراد النهائى، وهو قطع الوشائج تماما ما بين مصر والإسلام. هذه هى الغاية الأخيرة للويس عوض وأشباهه.
ويجد القارئ تلك المقالات الممتعة التى رد بها رجاء النقاش على لويس عوض فى كتابه: "الانعزاليون فى مصر"، وكان قد كتبها فى السبعينات فى مجلة "المصور" المصرية، ثم جمعها فيما بَعْد فى الكتاب السابق. وهى مقالات ممتعة أسلوبا ومنهجا وقوة حجة ومقدرة على تعرية السفاهات والتفاهات والضحالات الفكرية التى انتحاها لويس عوض فى الهجوم على العروبة تطرُّقًا للهجوم بعدها على الإسلام ذاته حين يؤون الأوان، وكل وقت وله أذان!
ولا يكاد الإنسان يختلف مع مقالات الأستاذ النقاش فى شىء، اللهم إلا فى إبرازه للعروبة وتأخيره الإسلام إلى الصف الثانى مع أن العروبة لا معنى لها بل ما كان ليكون لها وجود أصلا فى مصر وخارج الجزيرة العربية بوجه عام لولا الإسلام، وإلا تكرُّر وصفه للويس عوض بالكاتب الكبير، وإن كنت أرى أنه قد يكون لجأ إلى هذا كى يمرر كلامه دون أن يحدث ضجة أو يستفز أحدا من الموالين للويس. فإن كان الأمر كذلك فلا بأس، وإلا فليس لويس عوض عندنا ولا عند أحد من المحققين بالكاتب الكبير، وإلا فعلى اللغة العفاء! ورحم الله الأستاذ محمود شاكر، الذى مسح بما كتبه لويس عوض الأرض ذهوبا وجيئة، وجيئة وذهوبا حتى اتسخت ملابسه وضاعت معالم وجهه من السحل والتمريغ على الأرض وأصبحت بلون التراب، بل أصبحت هى التراب ذاته، وتكأكأ المارة يستطلعون طِلْعَ الأمر، ووقتها كان الذى لا يشترى يتفرج! وصح أن يُضْرَب به المثل فيقال: "بهدلة ولا بهدلة شاكر للويس"!
أما ما كان الدكتور لويس يعتقده فى نفسه من أنه لا أحد يمكن أن يرتفع إلى قامته السامقة بحيث يكون نِدًّا له سبحانه (انظر نسيم مجلى/ لويس عوض ومعاركه الأدبية/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1995م/ 19/ هــ 2)، فكل إنسان حر فى أن يرى فى نفسه ما يحلو له، فالكلام (كما يقول العوام) ليس عليه جمرك! وكذلك ليس على يوسف إدريس من حرج فى أن يقول فى مقال له بجريدة "الأهرام" بتاريخ 20 نوفمبر 1989م: "إن الدكتور لويس عوض واحد من أعظم مفكرينا العرب فى كل التاريخ العربى"، إذ ما علاقة يوسف إدريس بالفكر؟ ومن فوّضه للحكم على المفكرين؟ وإنما هو كاتب قصة قصيرة بأسلوب فيه ركاكة ملحوظة يُحْسِن حينا ويسىء أحيانا، ولا على الأستاذ نسيم مجلى أن يقول عنه بدوره إنه "معلم من طراز نادر"، وإن صيته قد ذاع حتى تعدى المنطقة العربية "إلى آفاق عالمية فى الشرق والغرب" (المرجع السابق/ 15)، لأن العبرة بالحقائق لا بالأوهام كما سوف يرى القارئ بنفسه من خلال هذه الدراسة التى يطالعها الآن، وإلا فكما هو معروف ليس هناك قانون يمنع أى إنسان من أن يقول ما يشاء فيمن يشاء لمن يشاء، وفى أى وقت يشاء، وبالطريقة التى يشاء.
لكن الأستاذ النقاش، كما عودنا على اتخاذ مثل تلك المواقف والآراء النبيلة الكريمة والمنافحة عنها، عودنا أيضا بين الحين والحين على اتخاذ أوضاع أخرى. فمثلا حين هبّ بعض الأساتذة للرد على ما فى كتاب لويس عوض الذى بين يدينا عن العرب ولغتهم من أباطيل وترهات وأحقاد خبيثة، وقف فى وجههم طالبا منهم أن يجادلوه بهدوء، وكأنهم كانوا يمسكون بخناقه ويمزقون ملابسه ويضربونه بالنبابيت ويصيحون فى الجو صيحات منكرة، مع أن كلام لويس عوض لا يصلح معه إلا الفضح والتعرية والتنبيه إلى ما لجأ إليه فى كتابه هذا الضحل من بهلوانيات لا تليق بالعلم ولا بأهله وكذلك إلى ما يستكن فى قلبه من تعصب ممقوت ضد الإسلام والقرآن على ما سوف يأتى بيانه. وكان أحرى بالأستاذ رجاء، بدلا من ذلك، أن يرد هو أيضا على هذه الزُّيُوف السمجة التى صدع بها لويس عوض أدمغتنا وفلق بها هامة البحث العلمى وهام بها فى بيداء الأوهام العجيبة التى يتبرأ منها كل منطق وكل منهج من مناهج الفكر والكتابة. صحيح أنه، فى الكتاب الذى كنا بصدد الحديث عنه قبل قليل، قد سبق أن رد عليه كلامه الفِجّ عن العروبة، بَيْدَ أن ما قاله لويس فى ذلك الحين عن العروبة لا يعد شيئا بإزاء ما ورد فى كتابه الجديد عن العربية وأهلها وعن كتاب الله المجيد. إنه فى هذا الكتاب قد طلق العقل والمنطق والعلم والتفكير المنهجى السليم بالثلاثة واستبله غاية الاستبلاه، أو كما نقول فى اللغة العامية: "ساق الهبل على الشيطنة" وتدهدى فى البحث العلمى وبالبحث العلمى إلى هوة سحيقة القرار!
ويتلخص كتاب الدكتور لويس عوض فى أن العرب أمة حديثة عهد بالوجود على صفحة التاريخ، وأنهم لا ينتمون إلى هذه المنطقة، بل هم مجرد قبائل رُحَّل انتقلت من بلاد القوقاز فى الزمان القديم إلى ما يسمَّى بــ"الجزيرة العربية"، وأن لغتهم لغةٌ بزرميط لا شخصية لها، فضلا عن أن يكون لها أية ميزة على غيرها من اللغات، وأن العامية المصرية هى لغة مستقلة عن العربية الفصحى لا تربطها بها صلة إلا كما ترتبط أى لغتين مستقلتين تأخذان من مصدر واحد فى بعض الأحيان، فضلا عن عبثه الشيطانى بلغة القرآن المجيد، وكذلك المزاعم الجاهلة الحاقدة بشأنه... إلخ.
*****
وكنت، أثناء قراءتى ما خطته يد لويس عوض فى كتابه الذى بين يدىّ، أجد كلاما لا وشيجة تَشِجه بالعقل ولا بالمنطق ولا بمنهج العلم، كلاما لو أن إنسانا توخى توخيًا أن يكون كلامه فى الغاية من التهافت والتنافر ومدابرة الفهم والفقه ما استطاع أن يصل إلى ذلك القرار السحيق! هذا ليس بكلام البشر، إنما هو كلام الشياطين! والعجيب، كما سمعت، أن ينبرى بعض من لا لهم فى العير ولا فى النفير فيمدحوا لويس عوض ويلقبوه بـ"ابن منظور القبطى"، وكأن ابن منظور كان عَيِّلاً يلعب فى الشارع حتى يشبَّه به كل من هب ودب! وكأن المسالة مناقرة، فإذا كان هناك ابنُ منظورٍ مسلمٌ فلا بد أن يكون هناك بإزائه ابنُ منظورٍ قبطىٌّ، ولا أحد أحسن من أحد. كذلك لم يكن ابن منظور يعدو قدره ولا يتدخل فيما لا يحسن ولا يطجّن فى كتاباته، بل يلتزم بما يعلم أنه يصلح له، ويحترم عقل نفسه وعقل القارئ معه. أما لويس عوض فهو ليس عالما لغويا ولا علاقة له بلسان العرب سوى أنه يكتب به، وإن لم يكن من المبرّزين فيه، بل أسلوبه مما يحسنه أى أحد، أما أن يكون قد درس لغة القرآن وعرف تاريخها وعلومها فلا. إنما هو متخصص فى جانب من جوانب الأدب الإنجليزى، فدراسته إذن لا تؤهله للخوض فى ذلك الموضوع، كما أن قراءاته فى الموضوع ضحلة ويتبين منها بكل وضوح أنها قراءات سطحية وأنه لم ينتفع بشىء منها، فضلا عن أن الأسلوب الذى اتبعه فى تأليف كتابه ذاك هو أسلوب مضحك غاية الإضحاك، إذ ما على الإنسان الذى يريد أن يكتب بنفس الطريقة إلا أن يخلّف عقله خارج الغرفة التى يكتب فيها ويغلق الباب بينه وبين ذلك العقل بالضبة والمفتاح ثم يقيم عليه حرّاسا شدادا غلاظا حتى لا يُقِلّ "عَقْلَه" ويعود فيقتحم الغرفة عليه!
ثم إن ابن منظور كان عالما يعرف كيف يحترم العلم وكيف يزن كلامه بميزان العقل، ولم يكن يقول كلاما متفلتا آتيا من وراء أسوار الفهم. كما أن ابن منظور قد خدم العربية وبذل فى تلك الخدمة غاية ما فى وسعه، وكان يغار على القرآن وعلى لغة القرآن وينافح عنهما بكل قواه، أما لويس عوض فقد شمر منذ البداية وفى نيته، كما يتوهم، أن يضرب لغة القرآن ضربة قاضية لا تبقى على شىء فيها ولا تذر! وهو بهذا إنما ينفذ مخططا كان قد بدأه فى الأربعينات حين وضع ما يسمى: "ديوان بلوتولاند" العامى السخيف بغية كسر بلاغة اللغة العربية (كسر الله رقبة كل من يفكر فى كسر رقبة بلاغتها!) والاستعاضة عنها بالعامية اليومية كى يأتى اليوم الذى نستيقظ فيه فنجد أن ثمة سورا ضخما عاليا يقوم بيننا وبين تراثنا وكتاب ربنا! فما لابن منظور إذن وما لا بن عوض؟ أما قول هؤلاء البعض عن لويس عوض: "أستاذنا الدكتور لويس عوض" فليس أمامى إلا أن أقول وكلى أسف وحزن: "عليه العوض، ومنه العوض!". إنه لا يعرف شيئا عن التمر هندى كما تقول العامية التى يريد أن يزيح اللغة الفصحى (لغة القرآن الكريم) ليُحِلّها محلها كخطوة أولى نحو إعادة عقارب الساعة مئات السنين إلى "الخَلْف دُرْ" وإحياء القبطية والقضاء على الإسلام! فأل الله ولا فألكم يا بُعَداء!
كذلك لا يعرف لويس عوض تلك اللغات الكثيرة التى يكرر ذكرها فى كتابه العجيب الخالى من كل علم ومن أى منهج سوى طريقة البهلوانات، إن صح تسمية ما يأتيه البهلوانات: "منهجا"، وذلك على عكس (بل على رغم) ما يزعمه بعض من يتحمسون له، إذ يحاول هؤلاء أن يلقوا فى رُوع القارئ المسكين أن الدكتور لويس كان يعرف كل اللغات التى وردت فى كتابه من سريانية وحبشية وآرامية وعبرية وأكادية ونبطية وسنسكريتية وفارسية ومصرية قديمة وأرمنية وإيطالية وألمانية ويونانية وإسبانية وهولندية وسويدية ودانماركية وقوطية وأنجلوسكسونية وغيرها من اللغات التى تكررت الإشارة إليها عنده قائلين إن معرفته بلغات كثيرة قد أفادت بحثه ذاك، مع أن الرجل لم يكن يعرف سوى الإنجليزية، وهى تخصصه، والفرنسية فيما أظن، وربما اللاتينية إلى حد ما على أساس أنه درسها على هامش تخصصه فى اللغة الإنجليزية. أما الإيطالية، التى أذكر أنه أشار إلى إقباله على تعلمها فلا أحسبه أتقنها، وإلا لظهر أثر ذلك فى كتاباته ومراجعه.
وإذا كان الأستاذ شاكر قد هتك عواره فى الإنجليزية ذاتها، فما بالنا بالفرنسية، التى لا أستطيع أن أتذكر أنه ترجم منها شيئا إلى العربية؟ ودعنا من اللاتينية التى لا أظنه كان يعرف منها إلا ما كنا نعرفه نحن من الفارسية أو العبرية حين كنا ندرسها كلغة شرقية فى الجامعة. وكثير منا نحن المهتمين بتعلم اللغات الأجنبية قد يتعلم منها لغة أو أكثر غير تلك اللغات التى يتقنها، لكنه لأمر أو لآخر لا يواصل تعلمها إلى المدى الذى يتقنها فيه كما حدث لى حين تعلمت الألمانية والفارسية فى أوائل ثمانينات القرن الماضى وقطعت فيهما شوطا لا بأس به، وبخاصة فى الألمانية التى كنت أقرأ بعض ترجمات القرآن بها، ثم لم تساعدنى ظروفى على المضى فيهما إلى آخر الشوط فنسيت ما كنت تعلمته منهما للأسف الشديد.
ولعل سائلا يسأل: فكيف كان الدكتور لويس يفتى فى أمر كل تلك اللغات المشار إليها؟ والجواب من أبسط وأسهل ما يمكن، فقد وضع الرجل أمامه كتابين أو ثلاثة لبعض علماء اللغة الأوربيين وأخذ ينقل منها بطريقة تُوهِم من ليست عنده خبرة فى التعامل مع لويس عوض وأمثاله أنه كان يتقن كل تلك اللغات، على حين أنه لم يكن يدرى عنها شيئا البتة! وعلى أية حال فلا يوجد فى مراجعه التى قلما يذكرها إلا بعض الكتب الإنجليزية والفرنسية. فهذه المبالغة إذن لا تستحق الالتفات، ذلك أن المقارنات التى يجريها فى الجذور وما إليها هى، كما أوضحنا، من عمل بعض اللغويين الأوربيين (مثل كونى وهرمان مولر وبوزواك) لا من عمله، وإن حاول أن يضيف هنا أو ها هنا من لدنه شيئا سخيفا ضحلا كالعادة. وأرجو من القراء أن يرجعوا إلى ص 168، 171- 175، 192- 197، 232 مثلا. وعلى هذا لا ينبغى أن نكون ملكيين أكثر من الملك نفسه.
هذا، ولعله من الضرورى هنا أن أكرر ما قلته آنفا من أن للويس عوض بعض الإضافات الماسخة إلى ما ينقله "بالويبة" عن كُونِى فى المقام الأول وعن مُولَر فى المقام الثانى، ألا وهى تعليقاته الجاهلة عن اشتقاق هذه اللفظة العربية أو تلك، من تلك اللفظة الأجنبية أو هذه، مما لا يجرى فيه على منطق أو منهج أو علم، إذ هو أقرب إلى الهلاوس التى لا يُلْتَفَت إليها فى ميدان العلم إلا على سبيل التندر والسخرية والترفيه عن النفس وإضحاك القراء! وأيا ما يكن الأمر فليست العبرة فى معرفة اللغات وحدها، بل العبرة كل العبرة فى العلم الواسع والعميق بالموضوع المراد درسه، وبسلامة المنهج، والإخلاص فى العمل، والاجتهاد الذكى، والدُّؤُوب فى السعى وراء الحق، وتوخِّى أكبر قدر ممكن من الموضوعية، وهو ما لم يستطع لويس عوض الوفاء ولو بواحد على الألف منه! وعلى هذا فتشبيه لويس عوض بكبار الباحثين اللغويين العرب، فضلا عن الزعم بأن ما كتبه هؤلاء العلماء الأعلام إنْ هو إلا تمهيد لكتاب لويس عوض السطحى الذى بين أيدينا كما فعل حامد الظالمي فى مقاله: "لويس عوض ومنجزه في فقه اللغة العربية" بموقع "läs på arabiska"، لا يمكن أن يأخذ به باحث جاد، فليست الأمور بالمزاعم والأمنيات، بل بالحقائق والإنجازات، وإلا لصدقنا العبارة التالية، وهيهات، إذ لا أحسب الأمور قد فسدت فى الوسط العلمى إلى الحد الذى يقبل عاقل أن يسمع، فضلا عن أن يوافق على قول من يقول إن "الكتب المؤلفة في فقه اللغة كثيرة جدا ولكنها غير مثيرة، فهي باعتقادي مقدمات لكتاب لويس عوض، فهي كتب تتناول تعريف فقه اللغة وكيفية دراسته ولم تدخل في صلب هذا العلم الذي دخله الدكتور لويس عوض في كتابه ذاك على الرغم من عدة ملاحظات عليه. فكُتُب فقه اللغة العربية تُعَدّ بالعشرات بدأها في الأربعينات الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه: "فقه اللغة"، وبعده كتاب الدكتور صبحي الصالح: "دراسات في فقه اللغة" وكاصد الزيدي وحاتم الضامن، فضلا على الدكتور تمام حسان والدكتور عبد الصبور شاهين والدكتور إبراهيم أنيس والدكتور رمضان عبد التواب والدكتور عبده الراجحي والدكتور إبراهيم السامرائي وغيرهم، وكذلك دراسات المستشرقين في هذا العلم ككتاب "فقه اللغة" للمستشرق كارل بروكلمان وإسرائيل ولفنسون ونولدكه ورابين وغيرهم، ولكن كتاب"مقدمة في فقه اللغة العربية" يُعَدّ دراسة متعمقة في موضوع الأصول اللغوية والتاريخية والأنثربولوجية للشعوب العربية وما جاورها، وان كان الخلاف فيه كبيرا".