ربما يرد سؤال-هنا- بأن يُقال: قد علمنا الفائدة من معرفة صفات النبي الخُلقية ، وهي الاقتداء به والاهتداء بهديه في تلك الأخلاق التي يحتاج إليها البشرية .
ولكن ما الفائدة من ذكر صفات النبي الخَلقية ؟، وماذا يستفيد الناس من كون النبي كان طويلاً أو أبيض ، أو لم يكن في شعره بياض؟! ، ولماذا تُسوَّد الصفحات في هذا الشأن ، ولن يقتدي الناسُ به –بأبي وأمي – في كونه طويلاً أو شعره أسود ليس فيه بياض ، أو غير ذلك من هذه الأوصاف التي ترد في صفاته الخَلقية؟
الجواب : إذا علمنا حقيقة الأمور سنعرف أن ذكر أوصاف النبي الخَلقية لا تقل أهمية عن ذكر أوصاف النبي الخُلقية ، وينبغي أن تتسع عقولنا وقلوبنا لنفهم هذا الأمر المهم ونحل هذا الإشكال الذي يتكرر ويتردد في مثل هذه الأمور ، ونقول إن السر الأساس في هذه المسألة ، ومفتاحها هو " الحب" نعم الحب الذي لايفهمه بعض القاسية قلوبهم ، وكثير من الماديين ، ومن المعلوم أن التدين أو التعبد يقوم بصورة أساسية على المحبة ، محبة الله تعالى ومحبة رسوله ومحبة المؤمنين ، ومحبة الصالحين والأولياء الصادقين ومحبة الدين، فالمحبة عنصر رئيس في الدين ، حتى فُسِّرت العبادة التي خُلق الخلق لأجلها كما في قوله تعالى : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" ، فسرت العبادة بأنها " غاية الحب مع غاية الذل " ، فهذا الدين قائم على المحبة ، بل بين الله تعالى وبين رسوله –صلى الله عليه وسلم - أن هذه المحبة واجبة لا يصلح الإيمان بدونها ويصبح الإيمان دعوى فارغة لا حياة فيها ولا عمل، فقد قال الله - تعالى-: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (24) سورة التوبة. فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالةً وحجةً على التزام محبته ووجوب فرضها، وعِظم خَطَرِها، واستحقاقه لها - صلى الله عليه وسلم -، إذ قرَّع اللهُ تعالى من كان مالُه وأَهلُه وولدُه أحبَّ إليه من الله ورسوله وأوعدهم بقوله تعالى: ((فتربصوا حتى يأتي الله بأمره)) ثم فسَّقهم بتمامِ الآيةِ وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله.
وعن أنس - رضي الله عنه –: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: (لا يُؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). رواه البخاري ومسلم
وعن أنسٍ - رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثٌ مَن كُن فيه وجد بهن حلاوةَ الإيمانِ : أن يكون الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما،وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله،وأن يكره أن يعود في الكفر كما يَكْرَهُ أن يقذف في النار.)
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لأنت أحب إليّ من كل شيءٍ إلا نفسي التي بين جنبيّ.. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه) فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحبُّ إلي من نفسي التي بين جنبي.. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( الآن يا عمر) رواه البخاري.
وقد بلغت محبة المؤمنين لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - مبلغاً عجيباً يُضرب به الأمثال ، حتى تعجَّب منه عروة بن مسعود في صلح الحديبية ، فعن عروة بن مسعود - رضي الله عنه -قال عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -فوالله ما تنخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -نُخامة إلا وقعت في كفِّ رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده...)) جزءٌ من حديث صلح الحديبية الطويل أخرجه البخاري في صحيحه (3/180) كتاب الشُّروط.
وهذه المحبة لرسول قد أصبحت سجية في نفوس المؤمنين لا يتكلفونها ولا يتطلبونها بكلفة ، بل كانت محبته –بأبي وأمي هو – تملأ عليهم نفوسهم وقلوبهم وبلغ بهم المحبة كما قال إسحاق التجيبي: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم – بعده لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرت جلودُهم وبكوا.. وكذلك كثير من التابعين منهم من كان يفعل ذلك محبةً له وشوقاً إليه.. ومنهم من كان يفعله تهيباً وتوقيراً..
وقد قال علي - رضي الله عنه – في صفته - صلى الله عليه وسلم -: "من رآه بديهةً هابه.. ومن خالطه معرفة أحبه " ، وذُكِر عن بعض الصحابة أنه كان لا يصرف بصرَه عنه محبةً فيه." اهـ.
ولا تظن أن هذه المحبة في صحابته فقط، بل هي في قلب كل مؤمن إلى يوم القيامة، فهي من لوازم الإيمان، ومن دأب أهل الإسلام، فمن ذلك ما رُوي عن مالك وقد سُئل عن أيوب السختياني: (ما حدثتكم عن أحدٍ إلا وأيوب أفضل منه). قال: وحج حجتين فكنت أرمقه ولا أسمع منه.. غير أنه كان إذا ذُكر النبي - صلى الله عليه وسلم – بكى حتى أرحمه.. فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي - صلى الله عليه وسلم – كتبت عنه.
وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذُكر النبي - صلى الله عليه وسلم – يتغير لونه وينحني حتى يَصعُبَ ذلك على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليَّ ما ترون؟!،
ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القرّاء، لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه.. ولقد كنت أرى جعفر بن محمد. وكان كثيرَ الدعابة والتبسم فإذا ذُكِر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم – اصفرّ وما رأيته يُحدِّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – إلا على طهارةٍ.. ولقد اختلفت إليه زماناً، فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً وإما صامتاً، وإما يقرأ القرآن. ولا يتكلم فيما لا يعنيه.. وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله - عز وجل -.
ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم – فيُنظر إلى لونه كأنه نُزِفَ منه الدم، وقد جف لسانُه في فمه هيبة منه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولقد كنت آتي عامِرَ بن عبد الله بن الزبير فإذا ذُكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم – بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.
ولقد رأيت الزهري وكان من أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذُكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم – فكأنه ما عرفك ولا عرفته..
ولقد كنت آتي صفوان بن سليم، وكان من المتعبدين المجتهدين فإذا ذُكر النبي - صلى الله عليه وسلم – بكى فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه.
وروي عن قتادة أنه كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل. ولما كثر على مالك الناس قيل له: (لو جعلت مستملياً يُسمعهم) فقال: (قال الله - تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (2) سورة الحجرات، وحرمته حياً وميتاً سواء.
وكان ابن سيرين ربما يضحك. فإذا ذُكِر عنده حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: بكى).
(وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث النبي - صلى الله عليه وسلم – أمرهم بالسكوت وقال: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي). ويتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب له عند سماع قوله..
ولم تحن إليه قلوبُ المؤمنين فقط، بل حنَّت إليه الجمادات، وحنين الجذع إليه مشهورٌ متواترٌ وقد أفرد له القاضي عياض فصلاً هو الفصل السابع عشر في كتابه (الشفا).فقال :
روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال) : كان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد ، فلما صنع له المنبر فاستوى عليه ، صاحت النخلة التي كان يخطب عليها حتى كادت أن تنشق ، فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أخذها فضمها إليه ، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت ، قال : (بكت على ما كانت تسمع من الذكر (البخاري، الفتح، كتاب البيوع، باب النجار، رقم (2095).
وروى البخاري عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة ، فقالت امرأةٌ من الأنصار - أو رجلٌ - : يا رسول الله ، ألا نجعل لك منبراً ؟ قال : ( إن شئتم ) . فجعلوا له منبراً . فلما كان يوم الجمعة دُفع إلى المنبر ، فصاحت النخلةُ صياح الصبي! ، ثم نزل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فضمَّه إليه ، تـئن أنينَ الصبيِّ الذي يُسكَّن ، قال : ( كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها ) البخاري، الفتح، كتاب البيوع، باب النجار، رقم (2095).
وكان الحسنُ البصريُّ - رحمه الله تعالى - إذا حدّث بحديثِ حنين الجِذْع، يقولُ :" يا معشرَ المُسلمين ، الخشبةُ تحنُّ إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شوقاً إلى لقائه فأنتم أحقُّ أن تشتاقوا إليه " . من فتح الباري 6/697.
وقال ابن كثير –رحمه الله- في البداية والنهاية "(3/219) : "... وما أحسنَ ما قال الحسنُ البصريُّ - : يا معشر المسلمين ، الخشبةُ تحنُّ إلى رسول الله شوقاً إليه ، أو ليس الرجال الذين يرجون لقاءَه أحقُّ أن يشتاقوا إليه ."
وكيفما كان، فحديثُ الجذع مشهورٌ ومنتشرٌ، والخبر فيه متواتر، أخرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر رجلاً، وحنينه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- معجزة من معجزاته الكثيرة.
قال البيهقيُّ: "قصة حنين الجذع، من الأمور الظاهرة التي حملها الخلفُ عن السلف، وفيها دليلٌ على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكاً كأشرف الحيوان".
وقال الإمام الشافعيُّ -رحمه الله-: "ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمداً ، فقيل له: أعطى عيسى إحياء الموتى، فقال: أعطى محمداً حنين الجذع حتى سُمِعَ صوتُه، فهذا أكبر من ذلك".(1)
فهذه مكانةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم – في قُلوب المؤمنين عُموماً، وإن أصدق تعبير عن تلك المحبة وهذه المكانة ما قاله أنس بن مالك - رضي الله عنه -يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "حينما تُوفي رسول الله -صلى الله عليه و سلم- كنا نقول : يا رسولَ الله إنَّ جذعاً كنتَ تخطب عليه فترَكتَه فَحَنَّ إليك، كيف حين تركتنا لا تحنُّ القلوب إليك ؟
اللهم أمِدَّنا بحَولِكَ وقوتك فأنت وحدك المستعان ، وتقبَّل منا عملنا هذا بقَبول حسن، واجعله خالصاً لوجهك الكريم، إنك أنت السميع المجيب، وإليك أخي القارئ بعض هذه الصفات .
----------------------------------------------------------------------------------------------------------
1 -فتح الباري شرح صحيح البخاري ـ ابن حجر العسقلاني (6/602 )، و "وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى ـ السمهودي (2/388) ،و" الشفا " للقاضي عياض( / ).
أشهد ان لا اله الا الله و أشهد ان سيدنا محمد رسول الله
ولكن ما الفائدة من ذكر صفات النبي الخَلقية ؟، وماذا يستفيد الناس من كون النبي كان طويلاً أو أبيض ، أو لم يكن في شعره بياض؟! ، ولماذا تُسوَّد الصفحات في هذا الشأن ، ولن يقتدي الناسُ به –بأبي وأمي – في كونه طويلاً أو شعره أسود ليس فيه بياض ، أو غير ذلك من هذه الأوصاف التي ترد في صفاته الخَلقية؟
الجواب : إذا علمنا حقيقة الأمور سنعرف أن ذكر أوصاف النبي الخَلقية لا تقل أهمية عن ذكر أوصاف النبي الخُلقية ، وينبغي أن تتسع عقولنا وقلوبنا لنفهم هذا الأمر المهم ونحل هذا الإشكال الذي يتكرر ويتردد في مثل هذه الأمور ، ونقول إن السر الأساس في هذه المسألة ، ومفتاحها هو " الحب" نعم الحب الذي لايفهمه بعض القاسية قلوبهم ، وكثير من الماديين ، ومن المعلوم أن التدين أو التعبد يقوم بصورة أساسية على المحبة ، محبة الله تعالى ومحبة رسوله ومحبة المؤمنين ، ومحبة الصالحين والأولياء الصادقين ومحبة الدين، فالمحبة عنصر رئيس في الدين ، حتى فُسِّرت العبادة التي خُلق الخلق لأجلها كما في قوله تعالى : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" ، فسرت العبادة بأنها " غاية الحب مع غاية الذل " ، فهذا الدين قائم على المحبة ، بل بين الله تعالى وبين رسوله –صلى الله عليه وسلم - أن هذه المحبة واجبة لا يصلح الإيمان بدونها ويصبح الإيمان دعوى فارغة لا حياة فيها ولا عمل، فقد قال الله - تعالى-: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (24) سورة التوبة. فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالةً وحجةً على التزام محبته ووجوب فرضها، وعِظم خَطَرِها، واستحقاقه لها - صلى الله عليه وسلم -، إذ قرَّع اللهُ تعالى من كان مالُه وأَهلُه وولدُه أحبَّ إليه من الله ورسوله وأوعدهم بقوله تعالى: ((فتربصوا حتى يأتي الله بأمره)) ثم فسَّقهم بتمامِ الآيةِ وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله.
وعن أنس - رضي الله عنه –: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: (لا يُؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). رواه البخاري ومسلم
وعن أنسٍ - رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثٌ مَن كُن فيه وجد بهن حلاوةَ الإيمانِ : أن يكون الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما،وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله،وأن يكره أن يعود في الكفر كما يَكْرَهُ أن يقذف في النار.)
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لأنت أحب إليّ من كل شيءٍ إلا نفسي التي بين جنبيّ.. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه) فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحبُّ إلي من نفسي التي بين جنبي.. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( الآن يا عمر) رواه البخاري.
وقد بلغت محبة المؤمنين لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - مبلغاً عجيباً يُضرب به الأمثال ، حتى تعجَّب منه عروة بن مسعود في صلح الحديبية ، فعن عروة بن مسعود - رضي الله عنه -قال عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -فوالله ما تنخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -نُخامة إلا وقعت في كفِّ رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده...)) جزءٌ من حديث صلح الحديبية الطويل أخرجه البخاري في صحيحه (3/180) كتاب الشُّروط.
وهذه المحبة لرسول قد أصبحت سجية في نفوس المؤمنين لا يتكلفونها ولا يتطلبونها بكلفة ، بل كانت محبته –بأبي وأمي هو – تملأ عليهم نفوسهم وقلوبهم وبلغ بهم المحبة كما قال إسحاق التجيبي: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم – بعده لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرت جلودُهم وبكوا.. وكذلك كثير من التابعين منهم من كان يفعل ذلك محبةً له وشوقاً إليه.. ومنهم من كان يفعله تهيباً وتوقيراً..
وقد قال علي - رضي الله عنه – في صفته - صلى الله عليه وسلم -: "من رآه بديهةً هابه.. ومن خالطه معرفة أحبه " ، وذُكِر عن بعض الصحابة أنه كان لا يصرف بصرَه عنه محبةً فيه." اهـ.
ولا تظن أن هذه المحبة في صحابته فقط، بل هي في قلب كل مؤمن إلى يوم القيامة، فهي من لوازم الإيمان، ومن دأب أهل الإسلام، فمن ذلك ما رُوي عن مالك وقد سُئل عن أيوب السختياني: (ما حدثتكم عن أحدٍ إلا وأيوب أفضل منه). قال: وحج حجتين فكنت أرمقه ولا أسمع منه.. غير أنه كان إذا ذُكر النبي - صلى الله عليه وسلم – بكى حتى أرحمه.. فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي - صلى الله عليه وسلم – كتبت عنه.
وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذُكر النبي - صلى الله عليه وسلم – يتغير لونه وينحني حتى يَصعُبَ ذلك على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليَّ ما ترون؟!،
ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القرّاء، لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه.. ولقد كنت أرى جعفر بن محمد. وكان كثيرَ الدعابة والتبسم فإذا ذُكِر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم – اصفرّ وما رأيته يُحدِّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – إلا على طهارةٍ.. ولقد اختلفت إليه زماناً، فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً وإما صامتاً، وإما يقرأ القرآن. ولا يتكلم فيما لا يعنيه.. وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله - عز وجل -.
ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم – فيُنظر إلى لونه كأنه نُزِفَ منه الدم، وقد جف لسانُه في فمه هيبة منه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولقد كنت آتي عامِرَ بن عبد الله بن الزبير فإذا ذُكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم – بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.
ولقد رأيت الزهري وكان من أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذُكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم – فكأنه ما عرفك ولا عرفته..
ولقد كنت آتي صفوان بن سليم، وكان من المتعبدين المجتهدين فإذا ذُكر النبي - صلى الله عليه وسلم – بكى فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه.
وروي عن قتادة أنه كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل. ولما كثر على مالك الناس قيل له: (لو جعلت مستملياً يُسمعهم) فقال: (قال الله - تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (2) سورة الحجرات، وحرمته حياً وميتاً سواء.
وكان ابن سيرين ربما يضحك. فإذا ذُكِر عنده حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: بكى).
(وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث النبي - صلى الله عليه وسلم – أمرهم بالسكوت وقال: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي). ويتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب له عند سماع قوله..
ولم تحن إليه قلوبُ المؤمنين فقط، بل حنَّت إليه الجمادات، وحنين الجذع إليه مشهورٌ متواترٌ وقد أفرد له القاضي عياض فصلاً هو الفصل السابع عشر في كتابه (الشفا).فقال :
روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال) : كان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد ، فلما صنع له المنبر فاستوى عليه ، صاحت النخلة التي كان يخطب عليها حتى كادت أن تنشق ، فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أخذها فضمها إليه ، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت ، قال : (بكت على ما كانت تسمع من الذكر (البخاري، الفتح، كتاب البيوع، باب النجار، رقم (2095).
وروى البخاري عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة ، فقالت امرأةٌ من الأنصار - أو رجلٌ - : يا رسول الله ، ألا نجعل لك منبراً ؟ قال : ( إن شئتم ) . فجعلوا له منبراً . فلما كان يوم الجمعة دُفع إلى المنبر ، فصاحت النخلةُ صياح الصبي! ، ثم نزل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فضمَّه إليه ، تـئن أنينَ الصبيِّ الذي يُسكَّن ، قال : ( كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها ) البخاري، الفتح، كتاب البيوع، باب النجار، رقم (2095).
وكان الحسنُ البصريُّ - رحمه الله تعالى - إذا حدّث بحديثِ حنين الجِذْع، يقولُ :" يا معشرَ المُسلمين ، الخشبةُ تحنُّ إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شوقاً إلى لقائه فأنتم أحقُّ أن تشتاقوا إليه " . من فتح الباري 6/697.
وقال ابن كثير –رحمه الله- في البداية والنهاية "(3/219) : "... وما أحسنَ ما قال الحسنُ البصريُّ - : يا معشر المسلمين ، الخشبةُ تحنُّ إلى رسول الله شوقاً إليه ، أو ليس الرجال الذين يرجون لقاءَه أحقُّ أن يشتاقوا إليه ."
وكيفما كان، فحديثُ الجذع مشهورٌ ومنتشرٌ، والخبر فيه متواتر، أخرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر رجلاً، وحنينه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- معجزة من معجزاته الكثيرة.
قال البيهقيُّ: "قصة حنين الجذع، من الأمور الظاهرة التي حملها الخلفُ عن السلف، وفيها دليلٌ على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكاً كأشرف الحيوان".
وقال الإمام الشافعيُّ -رحمه الله-: "ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمداً ، فقيل له: أعطى عيسى إحياء الموتى، فقال: أعطى محمداً حنين الجذع حتى سُمِعَ صوتُه، فهذا أكبر من ذلك".(1)
فهذه مكانةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم – في قُلوب المؤمنين عُموماً، وإن أصدق تعبير عن تلك المحبة وهذه المكانة ما قاله أنس بن مالك - رضي الله عنه -يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "حينما تُوفي رسول الله -صلى الله عليه و سلم- كنا نقول : يا رسولَ الله إنَّ جذعاً كنتَ تخطب عليه فترَكتَه فَحَنَّ إليك، كيف حين تركتنا لا تحنُّ القلوب إليك ؟
اللهم أمِدَّنا بحَولِكَ وقوتك فأنت وحدك المستعان ، وتقبَّل منا عملنا هذا بقَبول حسن، واجعله خالصاً لوجهك الكريم، إنك أنت السميع المجيب، وإليك أخي القارئ بعض هذه الصفات .
----------------------------------------------------------------------------------------------------------
1 -فتح الباري شرح صحيح البخاري ـ ابن حجر العسقلاني (6/602 )، و "وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى ـ السمهودي (2/388) ،و" الشفا " للقاضي عياض( / ).
أشهد ان لا اله الا الله و أشهد ان سيدنا محمد رسول الله