من طرف أحمد الجمعة نوفمبر 20, 2009 4:36 am
شخصية بن باديس و عوامل تكوينها
نفضل هنا أن نترك ابن باديس يحدثنا عن العوامل التي أسهمت في تكوين شخصيته، كما يذكرها هو في ختام حفلة التكريم التي خصه بها إخوانه العلماء وتلاميذه بمناسبة الاحتفال بختم تفسيره للقرآن قال رحمه الله :
" أنا رجل أشعر بكل ما له أثر في حياتي وبكل من له يد في تكويني، وإن الإنصاف ليدعوني أن أذكر في هذا الموقف بالتمجيد والتكريم كل العناصر التي كان لها الأثر في تكويني حتى تأخذ حظها مستوفى من كل ما أفرغتم علي من ثناء ومدح... وإني أشهد أن هذا التحفي عسير علي، ثقيل علي حمله. فلعلي إذا ذكرت هذه العناصر توزعت حصصها من التنويه، وتقاضت حقوقها من الثناء، الذي أثقلتم به كاهلي، فأكون بذلك قد أرضيت ضميري، وحففت على نفسي.
1 – إن الفضل يرجع أولا إلى والدي الذي رباني تربية صالحة، ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها، ومشربا أرده، و قاتني وأعاشني، وبراني كالسهم، وراشني، وحماني من المكاره صغيرا و كبيرا، وكفاني كلف الحياة فلأشكرنه بلساني ولسانكم ما وسعني الشكر.
2 – ثم لمشائخي الذين علموني العلم، وخطوا لي مناهج العمل في الحياة، ولم يبخسوا استعدادي حقه، وأذكر منهم رجلين لهما الأثر البليغ في تربيتي، وفي حياتي العملية، و هما (من مشائخي) اللذان تجاوزا بي حد التعلم المعهود... إلى التربية والتثقيف، والأخذ باليد إلى الغايات المثلى في الحياة؛ أحد الرجلين : الشيخ حمدان الونيسي القسنطيني، وثانيهما : الشيخ محمد النخلي القيرواني المدرس بجامع الزيتونة المعمور.
وإني لأذكر للأول وصية أوصاني بها، و عهدا عهد به إلي، وأذكر ذلك العهد في نفسي ومستقبلي وحياتي، فأوجدني مدينا لهذا الرجل بمنة لا يقوم بها الشكر، فقد أوصاني وشدد علي أن لا أقرب الوظيفة ما حييت، ولا أتخذ علمي مطية لها، كما كان يفعله أمثالي في ذلك الوقت.
وأذكر للثاني كلمة لا يقل أثرها في ناحيتي العلمية عن أثر تلك الوصية في ناحيتي العملية، وذلك أني كنت متبرما بأساليب المفسرين وتأويلاتهم الجدلية في كلام الله، ضيق الصدر من اختلافهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن... فذاكرت يوما الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق، فقال لي، " اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، والآراء المضطربة يسقط الساقط، ويبقي الصحيح وتستريح " فوالله لقد فتح عن ذهني آفاقا واسعة عهد له بها.
3 – ثم لإخواني العلماء الذين آزروني في العمل من فجر النهضة إلى الآن، فمن حظ الجزائر السعيد، ومن مفاخرها التي تتيه بها علي الأقطار أنه لم يجتمع في بلد من بلدان الإسلام (اليوم) فيما رأينا وسمعنا وقرأنا مجموعة من العلماء، وافرة الحظ من العلم، مؤتلفة القصد والاتجاه، مخلصة النية، متينة العزائم، متحابة في الحق مجتمعة القلوب على الإسلام والعربية قد ألف بينها العلم والعمل ،مثلما اجتمع للجزائر في علمائها، فهؤلاء هم الذين وري بهم زنادي، وتأثل بطارفهم تلادي،أطال الله أعمارهم، و رفع أقدارهم.
4 – ثم لهذه الأمة الكريمة المعوانة على الخير، المنطوية على أصول الكمال... التي – ما عملت يوما – علم الله – لإرضائها لذاتها، و إنما عملت وما أزال أعمل لإرضاء الله بخدمة دينها ولغتها، و لكن الله سددها في الفهم، وأرشدها إلى صواب الرأي، فتبينت قصدي على وجهه، وأعمالي على حقيقتها، فأعانت ونشطت بأقوالها وأموالها، و بفلذات أكبادها، فكان لها بذلك كله من الفضل في تكويني العملي أضعاف ما كان لتلك العناصر في تكويني العلمي ؟
5 – ثم الفضل أولا و أخيرا لله و لكتابه الذي هدانا لفهمه ،و التفقه في أسراره، والتأدب بآدابه ، وإن القرآن الذي كون رجال السلف لا يكثر عليه أن يكون رجالا في الخلف، لو أحسن فهمه و تدبره، و حملت الأنفس على منهاجه ".
وبهذا فإنشخصية ابن باديس شخصية متعددة الجوانب متنوعة المواهب، فقد توفرت لها مؤهلات من النادر أن تجتمع في شخصية واحدة.
فهو : عالم ورع وفقيه في أمور الدين، مساير لمقتضيات العصر وظروف الحياة، معلم موهوب، مجدد في أساليب التعليم، وصاحب مذهب في تفسير كتاب الله وزعيم من زعماء الفكر الإصلاحي والنضال السياسي له آراء و مواقف في الدين والأخلاق والسياسة ثم هو كاتب بارع وخطيب بليغ و شاعر وإن كان مقلا وصحافي ناجح.
و من يتتبع حياته ويدرس جوانب شخصيته يلمس بوضوح هذه الجوانب المختلفة فهو يجمع إلى جانب القدرة على الكتابة البليغة الهادفة والخطابة المؤثرة وقول الشعر الوطني، الإمامة في العلم والدين، والزعامة في النضال السياسي والإصلاح الاجتماعي يزين كل ذلك سعة الاطلاع، وعمق التفكير، ومتانة في الخلق، واستقامة في السلوك وذكاء حاد، ووعي كامل بمشكلات العصر، وإدراك شامل لوضعية شعبه، وما ينبغي أن يكون عليه إذ أخذ بأسباب الحياة – كان رحمه الله – قائد ركب ومحرر شعب، لقد صحح مفاهيم الحياة الإسلامية التي اهتزت بعنف أمام ضربات الاستعمار المتتالية، في وقت ساد فيه الجهل، وعم فيه الجمود، وانتشرت الخرافة وانحطت كرامة الإنسان العربي، وأهدرت قيمة المسلم، و زاد ابن باديس هذه المفاهيم تحديدا و وضوحا بسلوكه المثالي، وتفكيره المتزن والمتوازن، و بحكمته وحنكته مع التوفيق الإلهي الذي كان يسند حركته ،فعاد النور الهادي من جديد يضيء الطريق للسالكين خلف القائد الملهم .
وهكذا الأغنياء في قوة الودعاء و وداعة الأقوياء، فكان الرجل الذي أجمع الجميع على حبه و تقديره، وحتى الأعداء الذين كانوا يحاربونه، كانوا مع ذلك يجلونه ويهابونه.
وفاته
لقد عاش الشيخ عبد الحميد بن باديس للفكرة والمبدأ ومات وهو يهتف (فإذا هلكت فصيحتي تحيا الجزائر والعرب) لم يحد عن فكرته ومبدئه قيد أنملة حتى آخر رمق من حياته، ولم يبال بصحته الضعيفة التي تدهورة كثيرا في السنتين الأخيرة من حياته، هذا هو ابن باديس الذي عرفته الجزائر عالما عاملا, وفقيها مجتهدا, ومربِّيا مخلصا, ومصلحا, وسياسيا, وإماما كان يقضي بياض نهاره وسواد ليله في خدمة دينه ولغته وبلاده. هذا هو الرجل الذي كان قلب الجزائر النابض, وروحها الوثابة وضميرها اليقظ, وفكرها المتبصر, ولسانها المبين, لم يضعف أمام هجمات الاستعمار المتتالية, ولم يستسلم لمناوراته وتهديداته, ولا للإغراءات والمساومات, بل بقي ثابتا على مبادئه صامدا حتى آخر حياته.
مساء يوم الثلاثاء 8 ربيع الأول سنة 1359 هـ ، الموافق 16 أبريل 1940م، على الساعة الثانية والنصف بعد الزوال أسلم ابن باديس روحه الطاهرة لبارئها، متأثرًا بمرضه بمسقط رأسه مدينة قسنطينة، وكان محاطا بوالده وشقيقه الأكبر (الزبير) والطبيب الفرنسي القادم من العاصمة "ليفي فالونزي" وابن خاله الطبيب القسنطيني الشهير "بن جلول", وقد مات رحمه الله ولم تكن في رأسه شعرة بيضاء واحدة.
ولما أعلن البرّاح في الناس خبر وفاته اهتزّت أوجاع تلاميذه ومساعديه في مهنة التعليم والمتاعب, وعندما شاع خبر وفاته في الجزائر بكاه أبناء الوطن بكاءا حارا كما بكاه عارفوه، ومقدرو علمه، وجهاده، في سبيل الجزائر والإسلام، والعروبة، في كل من المغرب وتونس وليبيا، والمشرق العربي والعالم الإسلامي.
وقد شيعت جنازته في اليوم التالي لوفاته الموافق عصر يوم الأربعاء 9 ربيع الأول سنة 1359 هـ ، الموافق 17 أبريل 1940م، وحمل جثمانه إلى مثواه الأخير طلبة الجامع الأخضر دون غيرهم وسط جموع غفيرة ما يزيد عن مائة ألف نسمة، جاءوا من كافة أنحاء القطر الجزائري لتوديعه الوداع الأخير، في حين كان عدد سكان قسنطينة آنذاك لا يتجاوز 50 ألف نسمة. وقد تولى أداء الصلاة على جنازته الشيخ العربي التبسي, كما تولى تأبينه كل من الشيخ مبارك الميلي والعربي التبسي والدكتور محمد الصالح بن جلول يجدر، ودفن في مقبرة آل باديس الخاصة في مدينة قسنطينة رغم وصيته التي أوصى فيها بدفنه في مقبرة شعبية عامة.
وقد تركت وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس فراغا كبيرا في صفوف الحركة الوطنية، وفي رجال الإصلاح الإسلامي في الجزائر وغيرها، وبين جماهير الشعب التي كانت تعتبره الزعيم المخلص، والوطني الغيور على دينه، ولغته، وشعبه، ووطنه، وعلى الإسلام والعروبة، بصفة خاصة وقد قال الشيخ الشهيد العربي بن بلقاسم التبسي في تأبينه في المقبرة ما يلي : "لقد كان الشيخ عبد الحميد بن باديس في جهاده وأعماله، هو الجزائر كلها فلنتجتهد الجزائر بعد وفاته أن تكون هي الشيخ عبد الحميد بن باديس".
هذا وحامت الأقاويل حول موته، فمن قائل مات مسموماً كما زعمت إذاعة ألمانيا "هنا برلين" يوم 09 ماي 1940 م على لسان "تقي الدين الهلالي" : "أن السلطات الفرنسية في الجزائر هي المسؤولة على وفاته، وقد ذكرت أنه مات مسموما على أيدي الفرنسيين، كما فعلوا بمعظم العلماء، الذين ما يزال بعضهم يعاني في ظلمات السجون، وأن الطغاة الفرنسيين أرادوا تسميمه، وقد قتلوا جميع الزعماء من قبله والشعب الجزائري اليوم يطالب لفديته، وسينتقم له عاجلا أو آجلا" وربما هذا ما يفسر اختفاء الشيخ العربي التبسي ووفاة الشيخ الميلي والطيب بأمراض مجهولة.
ومن قائل أنه مات بسبب مرض، فيقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي : "بعد استقراري في المنفى بأسبوع تلقيت الخبر بموت الشيخ عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – بداره في قسنطينة بسرطان في الأمعاء كان يحس به وسنوات ويمنعه انهماكه في التعليم وخدمة الشعب من التفكير فيه وعلاجه... وكنت بدأت نذر الحرب تظهر وغيومها تتلبد أجتمع بالشيخ أبن باديس في داري بتلمسان فقررنا ماذا نصنع إذا قامت الحرب، وقررنا من يخلفنا إذا قبض علينا، قلّبنا وجوه الرأي في الاحتمالات كلها، وقدرنا لكل حالة حكمها، وكتبنا بكل ما اتفقنا عليه نسختين، ولكن كانت الأقدار من وراء تدبيرنا، فقبضه الله إليه".
كما أشار ابن جلول وهو من بين المأبنين البارزين للشيخ ابن باديس وابن خاله إلى مرض ابن باديس الذي ظل مجهولا حتى عند أقرب الناس إليه فيقول :"وبحكم مهنتي كطبيب تشرفت ببذل المعالجة له خلال مرضه الأخير, الذي قضى عليه ولم يرض بالتوجه إلي ومنحي ثقته لمعالجته إلا بعد أن فطنا له مرهق منذ عهد بعيد, وأن مشيه من مكتبه إلى الجمعية, إلى الجامع الأخضر قد أصبح مضنيا بالنسبة إليه, وقد بذلت ما في وسعي لكسب ثقته, وبذل الشفاء له, ويا أسفاه فالمرض قد كان يمخر جسمه شيئا فشيئا".
ويقول ابن جلول : أن ابن باديس بلغ منه التعب والإرهاق مبلغا جعله في آخر أيامه لا يقوى على تجاوز مسافة تقدر بمئتي متر على قدميه نظرا لتمكن المرض من جسمه النحيف المتهالك, فكان مرقده إلى جوار حجرة دروسه ولما أنهكه العيي, وهو الذي قاومه خمسين سنة, أذن لطلابه لأول مرة في حياته منحهم خمسة عشر يوما كعطلة بمناسبة المولد النبوي بعدما عرف عنه أنه لم يكن يقبل بأكثر من ثلاثة أيام كتوقف عن التحصيل, ولما أظهر طلابه المتعلقون به تعجبهم من هذا التسريح الذي يدوم نصف شهر, أجابهم بلغة يائسة وألم يمزق أحشاءه وحسرة تعتصر قلبه :"إنني متهالك... إنني مريض للغاية فاعذروني" فلم يعلن رجل كابن باديس أنه انهار فمعنى ذلك أن في الأمر ما يدفع إلى التساؤل عن كيفية الرعاية التي كان يحظى بها في مدينة قسنطينة وأعني بذلك الرعاية الصحية والغذائية والنفسية.
ومن قائل أنه مات موتة طبيعية، وهو ما يؤكده الأستاذ عبد الحق أخو الشيخ بن باديس : " كان ابن باديس نحيف الجسم، ولم يكن يُعطي لنفسه قسطا من الراحة، فيومه يبدأ مع صلاة الصبح، ولا ينتهي إلا في ساعة متأخرة من الليل، وهذا لمدة 25 سنة قضاها بأيامها ولياليها في التدريس والتفسير، وإلقاء المحاضرات ودروس الوعظ والإرشاد، والكتابة في الصحافة، وإدارة الأعمال الإدارية وكثرة السفر حيث كان يستقل قطار (قسنطينة – الجزائر) كل مساء أربعاء ليعود مساء كل جمعة, وزادت حصصه التدريسية اليومية لترتفع إلى ثلاث حصص في اليوم.. ومع أنه لم يكن يعاني من أي مرض حتى أنه لم يلبس في حياته نظارات طبية ولم يشتكي من تسوس أسنانه إلا أنه رقد في فراش المرض في 14 أفريل 1940 وعلى مدى ثلاثة أيام لم يستطع مغادرة فراشه فكان يقوم بتمريضه "من ضعفه وشحوبه" والده وشقيقته "بتول" طوال النهار ويتولى "عبد الحق" السهر معه ليلا، فالإرهاق والتعب والزهد في الحياة، وثقل المسئولية التي كانت يشعر بها تجاه الأمة الجزائرية هي السبب المباشر لوفاته عندما حان وقت تسليم الروح إلى خالقها".
- ولا يعلم الحقيقة إلا الله - وذلك شأن الناس عند موت كل عظيم.