معركة وادي المخازن "الملوك الثلاثة"
الزمان/ الاثنين 30 جمادى الآخرة ـ 986 هجرية.
المكان/ وادي المخازن ـ المغرب الأقصى.
بلاد المغرب عبر التاريخ:
مفكرة الإسلام : يتميز تاريخ المغرب الإسلامي بعدد من الظواهر التي تميزه عن سائر بلاد الإسلام: منها طول الفترة التي استغرقها الفتح الإسلامي، حيث استغرق 70 سنة كاملة حتى الفتح التام العام للمغرب كله، حروب عنيفة وطاحنة بين المسلمين العرب والبربر الوثنيين، والتي انتهت بدخول البربر في دين الله أفواجًا، بعدما احتكوا بالمسلمين، وتعرفوا على فضائل الإسلام وأخلاقه، ومن الظواهر أيضًا أن أهل المغرب دخلوا جميعًا في دين الله أفواجاً، فلم تبقَ هناك أقليات غير مسلمة بالبلاد، والأكثر من ذلك أن هذا التاريخ قد انتهى إلى وحدة دينية مذهبية بلا نظير في أي مكان في العالم الإسلامي، فأهل المغرب جميعهم من أقصاه إلى أدناه على مذهب أهل السنة والجماعة، لا يوجد بينهم رافضي واحد.
عندما دخل المسلمون الفاتحون لبلاد المغرب قاموا بتقسيم البلاد إدارياً وجغرافياً إلى أربعة أقسام كبرى؛ وهي [إفريقية وهي تونس/ والمغرب الأوسط/ والسوس/ والمغرب الأقصى], وهذه الأقسام الأربعة تمثل أربع دول وهي: [تونس/ والجزائر/ والمغرب/ وموريتانيا], ويبدأ تاريخ الفتح الإسلامي للمغرب العربي من سنة 28 هجرية، وهو العام الذي فتح فيه المسلمون بلاد إفريقية "تونس" بعد معركة طاحنة مع الروم والبربر عند مدينة "سبيطلة" وبعدها انساح المسلمون الفاتحون في بلاد المغرب العربي, وبرزت أسماء لامعة في سماء البطولة والفتح الإسلامي مثل "عقبة بن نافع"، "والمهاجر أبو دينار"، و"زهير بن قيس" و"حسان بن النعمان" و"موسى بن نصير" الذي يعد الفاتح الأكبر لبلاد المغرب ثم الأندلس.
وعلى مدى عشرة قرون منذ الفتح الإسلامي لبلاد المغرب تداولت السلطة بها عدة دول: بعضها قوي والآخر ضعيف, وبعضها مجاهد والبعض الآخر تابع، ومن أمثال تلك الدول [دولة الأغالبة "184 - 297 هجرية"/ ودولة الأدارسة "172 - 343 هجرية"/ ودولة الرستميين "164 - 296 هجرية" وهى دولة كانت تحكم أجزاءً متفرقة من البلاد وليست كلها/ ثم الدولة الفاطمية الشريرة "297 - 362 هجرية"/ ثم الدولة المرابطية العظيمة "448 - 541 هجرية"/ ثم الدولة الموحدية الكبيرة "541 - 668 هجرية"/ والدول الثلاث الأخيرة حكمت بلاد المغرب كلها]، ثم ظهرت عدة دول متفرقة مثل دولة "بني حفص"، ودولة "بني الواد"، ودولة "بني وطاس"، وكلها دول صغيرة خرجت من عباءة دولة الموحدين، واستقلت بحكم أجزاء متفرقة من بلاد المغرب، ومن هذه الدول كانت أيضاً دولة الأشراف السعديين التي استقلت بحكم المغرب الأقصى منذ سنة 948 هجرية.
العثمانيون وتوحيد بلاد المغرب:
رغم أن ظهور نجم الدولة العثمانية يعود لسنة 700 هجرية, إلا أن هذه الدولة العظيمة لم تتجه ببصرها إلى ناحية المغرب الإسلامي إلا في عهد السلطان "سليمان القانوني", وذلك سنة 925 هجرية وذلك لانشغال الدولة في الجهاد ناحية الشمال بأوروبا، وناحية الشرق ضد روسيا وإيران والتتار، وكانت البداية إسقاط الدولة المملوكية بمصر، ومنها انطلق العثمانيون إلى بلاد المغرب في رحلة شاقة من أجل توحيد بلاد المغرب، والقضاء على الدول الضعيفة التابعة للصليبيين الإسبان والبرتغاليين، حتى إن حكام تلك الدول كانوا أشبه بولاة وعمال عند ملوك الصليبيين، وبالفعل استطاع العثمانيون بفضل الله وحده، ثم بجهود رجال عظام من عينة "خير الدين بربروسا" وأخيه "عروج" و"صالح الريس" و"قلج علي" و"حسن الطوشي" وغيرهم، أن يفتحوا بلاد المغرب من ليبيا إلى تونس، ثم الجزائر, وقضوا على الدول الخاضعة للصليبيين، وأزالوا كل المراكز والنقاط الاستعمارية التي أنشأها الإسبان والبرتغال على السواحل الإسلامية ببلاد المغرب الإسلامي، ولكن بقيت بلاد المغرب الأقصى تحت حكم الدولة السعدية، التي وقفت أمام الفتح الإسلامي العثماني بدعاوى باطلة مثل: العصبية، والقبلية، والوطنية إلى غير ذلك، ولكن السبب الحقيقي هو الحرص على السلطة وكرسي الحكم.
كان السبب الحقيقي وراء رفض الدولة السعدية الانضمام لسلطة العثمانيين هو سلطان الدولة السعدية في تلك الفترة واسمه "الغالب بالله"، وكان أهوج أحمق سفاكاً للدماء، قتل ثلاثة من إخوته لرفضهم البيعة لولده "محمد المتوكل" من بعده، ما جعل بقية إخوته يفرون منه خوفًا من القتل، ثم أضاف لجناياته السابقة جناية أشد منها شناعة ونذالة، وهى الغدر بمسلمي الأندلس الثائرين على اضطهاد الصليبيين الإسبان لهم سنة 976 هجرية، وذلك لأنه وعدهم بالعون والمساعدة، ثم أسلمهم لعدوهم وخذلهم، بل قام بأدهى من ذلك عندما أخبر الصليبيين الإسبان بتلك الثورة وتفاصيلها، وميعاد قيامها، ما أدى لإحباط تلك الثورة، وبقاء المسلمين تحت نير الصليبيين، وإنما قام هذا الخائن بتقديم كل هذه القرابين من دم وأرواح وعرض المسلمين من أجل ضمان مساعدة الدول الأوروبية الصليبية له في تحديه للدولة العثمانية.
على درب الخيانة:
ظل سلطان السعديين "الغالب بالله" على خيانته للمسلمين، وعمالته لصليبيي أوروبا عامة وإسبانيا والبرتغال خاصة، وصمد أمام محاولات الدولة العثمانية لتوحيد بلاد المغرب الإسلامي كلها، حتى هلك غير مأسوف عليه سنة 981 هجرية، وقد ارتاحت منه البلاد والعباد، ولكن خلفه ولده "أبو عبد الله محمد المتوكل على الله"، وكان صنو أبيه وعلى نفس منهجه وسار خلفه على درب الخيانة، فعمل على التقرب والتزلف لأعداء الإسلام من صليبيي أوروبا، ليضمن مساعدتهم له ضد الدولة العثمانية، فعقد اتفاقية تجارية مفتوحة مع الإنجليز، ووقع معاهدة دفاع مشترك مع الإسبان والبرتغاليين.
(ونحن نرى لوقتنا الحاضر أن أولى خطوات التمهيد للعدوان على بلاد الإسلام هو توقيع أمثال هذه المعاهدات والاتفاقيات التي تتيح بموجبها الفرصة لأعداء الإسلام بالتدخل في شئون المسلمين، وفرض شروط الذلة والصغار عليهم، كما يحدث الآن من سعي دولة الكفر والعدوان أمريكا من إجبار الدول الإسلامية العربية من التوقيع على اتفاقية اقتصادية حرة مع أمريكا بموجبها يتم ربط كل مقدرات واقتصاديات تلك الدول بالاقتصاد الأمريكي والبقية معروفة).
كانت بلاد المغرب الأقصى ذات موقع استراتيجي مهم جداً، فهي منتهى الحدود الغربية للعالم الإسلامي، وثغر مهم أمام أعداء الإسلام في الشمال، لذلك اهتم العثمانيون بفتحها وضمها لأملاكهم لتأمين حدود الدولة الإسلامية، وتخفيف الضغط الصليبي الرهيب على مسلمي الأندلس، فعمل العثمانيون على إزاحة الخائن ابن الخائن "محمد المتوكل" المتحالف مع أعداء الإسلام، وذلك عن طريق تشجيع عمه الأمير "عبد الملك السعدي" الذي سبق أن فر من بطش أخيه "الغالب بالله"، وقد جاءت الفرصة مناسبة لذلك عندما انشغل ملك إسبانيا الصليبي "فيليب الثاني" – وهو أكبر حليف للخائن "محمد المتوكل" - بأحداث ثورة الأراضي المنخفضة بأوروبا الغربية وخروجه للقتال مع بابا روما ملك فرنسا، فأعد العثمانيون جيشاً قوامه خمسة آلاف مقاتل بأحدث الأسلحة وقاده الأمير "عبد الملك"، واستطاع الانتصار على ابن أخيه "محمد المتوكل" الذي فرّ هاربًا من المغرب، والتجأ إلى ملك البرتغال المشهور "سبيستيان".
كان الأمير "عبد الملك السعدي" ذا همة وإرادة حديدية وملكات قيادية بارزة، فعمل على إصلاح بلاد المغرب، فنظم التجارة وجدد الأسطول، وأسس الجيش على أحدث النظم، وفرض احترامه على أهل عصره، حتى الأوروبيين احترموه وأجلّوه، وقال عنه معاصروه: [كان "عبد الملك" فكره نيراً بطبيعته، وكان يحسن اللغات الإسبانية والإيطالية والأرمينية والروسية، وكان شاعراً مجيداً للشعر, باختصار فإن معارفه لو كانت عند أمير من أمرائنا لقلنا: إن هذا أكثر مما يلزم بالنسبة إلى نبيل، فأحرى بملك، والفضل ما شهدت به الأعداء].
الخائن والحاقد:
بعدما رأى الخائن المخلوع "محمد المتوكل" ما حل به من هزيمة وفقدان ملكه، وضياع مملكته وطرد من البلاد، فهام على وجهه، ثم استقر في النهاية على رأي شيطاني، وهو الاستعانة بألد أعداء الإسلام وقتها وهو ملك البرتغال "سبيستيان" وعقد معه معاهدة خبيثة يلتزم فيها "سبستيان" بمساعدة المخلوع "محمد المتوكل" على استعادة سلطانه المفقود، وطرد عمه "عبد الملك" من بلاد المغرب في حين يلتزم فيها "محمد المتوكل" بالتنازل عن جميع سواحل المغرب للصليبيين البرتغاليين، وقطعاً وجد "سبستيان" في ذلك الفرصة التي لا تعوّض، فوافق فوراً على هذه المعاهدة الشيطانية، وانتقل المخلوع "محمد المتوكل" للإقامة بطنجة انتظاراً للإمدادات الصليبية القادمة من البرتغال.
وكان الأمير "سبستيان" البرتغالي يضطرم بشخصية حاقدة وعقلية استعمارية في آن واحد، فلقد وافق على هذه الصفقة الشريرة لسببين مهمين وهما:
- أراد "سبستيان" أن يمحو العار الذي لحق بالبرتغاليين على يد المغاربة الذين وجهوا لهم ضربات موجوعة ينسحبون من مدن "أسفي/ أزمور/ أصيلاً" وغيرها، وذلك في زمان أبيه "يوحنا الثالث" سنة 960 هجرية.
أراد "سبيستان بن يوحنا" أن يخوض حربًا مقدسة ضد المسلمين الكفار؛ حتى يعلو شأنه بين ملوك أوروبا، خاصة بعد أن زاد غروره بما حققه البرتغاليون من اكتشافات جغرافية جديدة أراد أن يستفيد منها من أجل تطويق العالم الإسلامي.
الخدعة الفاشلة:
وصلت أخبار مخطط الخيانة "لعبد الملك السعدي" وحلفائه العثمانيين، فاستعدوا لقتال المعتدين, وأرسل السلطان العثماني "سليم الثاني" فريقاً عسكرياً كاملاً لمساعدة "عبد الملك" في الدفاع عن بيضة الإسلام، ودوّت صيحة الجهاد المقدس في جنبات المغرب الأقصى، أن اقصدوا وادي المخازن للجهاد في سبيل الله، وتقاطر المسلمون من أنحاء المغرب للاشتراك في الدفاع عن حوزة الإسلام.
وهنا حاول الخائن المخلوع "محمد المتوكل" أن يخترق هذا التلاحم الإيماني، فكتب إلى أهل المغرب كتاباً يحاول فيه خداعهم، وكان مما قال فيه: [إني ما استنصرت بأهل العدوة "ولم يسميهم صليبيين للخداع" حتى عدمت النصرة من المسلمين، وقد قال العلماء: إنه يجوز للإنسان أن يستعين على من غصبه حقاً ما أمكنه، ثم ختم كتابه بتهديدهم قائلاً: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله]، فكيف كان رد أهل المغرب عليه؟!
قام "عبد الملك السعدي" بإحالة رسالة الخائن إلى علماء المغرب حتى يردوا عليها، فقاموا بالرد عليها رداً باهراً مؤيداً بالأدلة والبراهين التي دحضت أباطيله، وفضحت زروه وبهتانه، وخيانته للإسلام والمسلمين، وهكذا يكون دور العلماء الربانيين في مواجهة شبهات المبطلين، وأكاذيب المروجين لأعداء الإسلام، وما أحوج أمتنا لمثل هذا الدور في أيامنا هذه التي كثرت فيها شبهات أعداء الإسلام.
معركة الملوك الثلاثة:
أقبل "سبستيان" البرتغالي بجيش صليبي جرار يقدر بمائة وخمسة وعشرين ألفاً، منهم عشرون ألفاً من الإسبان، وثلاثة آلاف من ألمانيا وسبعة آلاف إيطالي، والباقي من البرتغاليين والأرمن ومعهم أربعون مدفعاً، وفى المقابل كان جيش المسلمين يقدر بأربعين ألفاً، ومعهم أربعة وثلاثون مدفعاً، ومعنوياتهم عالية جداً يقودهم "عبد الملك السعدي" ومعه أخوه "أحمد" الملقب "بالذهبي"، وقد قسم "عبد الملك" الجيش، فجعل المدفعية في المقدمة، ثم صفوف الرماة, وعلى الجانبين الرماة الفرسان، ثم جعل قوة احتياطية كبيرة من الفرسان للتدخل في الوقت المناسب.
نزل الصليبيون عند منطقة القصر الكبير، وخاف أهلها من سطوة الأعداء عليهم، واستبطئوا وصول الجيش، وعزموا على الفرار خارج المدينة والتحصن بالجبال، ولكن قام أحد العباد المجاهدين وهو الشيخ "أبو المحاسن يوسف الفاسي" بتثبيت الناس حتى لا يهربوا، وخطب فيهم وحثهم على الثبات والجهاد في سبيل الله عز وجل، حتى قويت عزائمهم، وأصروا على البقاء والدفاع عن مدينتهم.
(وهذا يوضح أهمية وجود أمثال هذه العناصر المثبتة من العلماء والعباد الذين يقودون الناس أوقات الأزمات والشدائد).
كان الأمير "سبستيان" رجلاً مغروراً متعصباً لدينه ولرأيه، سريع الغضب شديد الحقد، وتلك صفات جعلته لا يستمع لآراء قادة جيوشه الذين أشاروا عليه بالتقدم لاحتلال مدن "تطوان" و"العرايش" و"القصر"، وأصر على البقاء في معسكره بمنطقة "القصر الكبير" انتظاراً لقدوم جيش المسلمين، وكان مما زاد في إصراره على البقاء انتظاراً لوصول المسلمين الرسالة الذكية التي استفز بها الأمير "عبد الملك السعدي" الأمير "سبستيان" عندما قال له فيها: [إن سطوتك قد ظهرت في خروجك من أرضك، وجوازك العدوة، ولكن لا يليق أن تهجم على السكان العزل، وتخرب المدن الخالية من المقاتلين، فإن ثبت مكانك حتى آتيك بالجنود والسلاح فأنت نصراني شجاع وإلا فأنت كلب بن كلب].
وفى صباح يوم الاثنين 30 جمادى الآخرة 986 هجرية، وقف الجيشان في يوم مشهود من أيام الإسلام عامة والمغرب خاصة، ووقف السلطان "عبد الملك السعدي" خطيباً في الناس مذكراً بوعد الله عز وجل للصادقين والمجاهدين بالنصر، وذكرهم بوجوب الثبات والانتظام، وذكرهم بحقيقة مهمة جداً عندما قال: [إن انتصرت الصليبية اليوم فلن تقوم للإسلام بعدها قائمة، وقرأ آيات الجهاد]، واشتاقت النفوس للشهادة، وفى المقابل لم يألُ القسس والرهبان في إثارة حماس جنودهم, مذكرين أن البابا قد أحلهم من أوزارهم وخطاياهم، وطهّر أرواحهم من الدنس، وأن كل من سيموت في هذه الحرب سيدخل الجنة بلا شك!
انطلقت عشرات الطلقات النارية من مدافع الفريقين إيذاناً ببدء المعركة، وكان السلطان "عبد الملك" قد قام بخطة محكمة استدرج بها "سبستيان" لموقع القتال، وعزله عن أسطوله الرابض بالبحر المتوسط بعدما قام بهدم القنطرة الموجودة على نهر وادي المخازن، وهذا الأمر أفقده ميزة الانسحاب المنتظم عند الهزيمة.
احتدم القتال في أرض المعركة، والبطل الكبير قائد المسلمين "عبد الملك السعدي" يخترق الصفوف كالسهم وهو يقاتل قتال الأسود، وهو رأس حربة المسلمين في القتال يمهد لهم السبيل والطريق لاختراق صفوف الصليبيين، هذا كله رغم مرضه الشديد الذي كان يعاني منه منذ أن خرج من مراكش للجهاد، وهذا الإقدام والمباشرة للقتال بنفسه جعل علته تزداد عليه بشدة، حتى حملوه مدنفاً إلى خيمته وهو في النزع الأخير، وقد أصر هذا البطل الشجاع أن يعطينا درساً في الحزم والشجاعة، حتى وهو يجود بروحه عندما فاضت روحه وهو واضع إصبعه على فمه إشارة لمن معه عند وفاته بألا يخبروا أحداً من الجنود بوفاته، حتى لا تنهار معنوياتهم أمام عدوهم، وتولى القيادة مكانه أخوه الأمير "أحمد المنصور".
قام البطل الجديد "أحمد المنصور" بقيادة الجيش، وقلبه مشحون بالغيظ والعزم على النصر، فصدم مؤخرة الجيش البرتغالي بمنتهى العنف، وأشعلوا النار في خيام معسكر الصليبيين، وانقضت كتيبة المجاهدين المتطوعين على فرق الرماة الصليبية، ففتكت بها فتكاً ذريعاً واضطرب الجيش الصليبي بشدة، وبدأوا في الفرار من أرض المعركة إلى قنطرة نهر وادي المخازن لركوب الأسطول والفرار، ولكنهم فوجئوا بتهدمها، فوقفوا مصعوقين مذهولين ماذا يفعلون، فإذا بكتائب فرسان المسلمين من خلفهم، فقفز معظم الجيش الصليبي في النهر هرباً من سيوف المسلمين، فغرق معظمهم في مياه النهر الهادرة التي أصبحت قبراً لهم، وكان على رأس من ابتلعتهم مياه النهر رمز الخيانة والغدر المخلوع "محمد المتوكل"، الذي لا تكفيه مياه الأنهار والمحيطات لتطهره من دنس خيانته، وخطيئته في حق دينه وأمته، أما الأمير "سبستيان" فقد نال جزاءه وقتل، وحوله ألوف تدافع عنه، واستمرت هذه المعركة أربع ساعات وثلث الساعة، وانتهت بفوز ساحق وباهر للإسلام وأهله، وقد مات في هذه المعركة ثلاثة ملوك، بطل مجاهد نحتسبه شهيداً وهو "عبد الملك السعدي"، وخائن مخلوع وهو "محمد المتوكل"، وصليبي حاقد وهو "سبستيان" ملك البرتغال.
أدت هذه المعركة الخالدة لتأمين حدود دولة الإسلام من ناحية الغرب، وسقط نجم نصارى البرتغال في عالم البحار، واضطربت دولتهم، وضعفت شوكتهم، يقول المؤرخ البرتغالي "لويس ماريه" واضعاً نتائج المعركة: [وهو العصر النحس بالغ النحوسة "هذا الوصف لا يجوز شرعاً" الذي انتهت فيه مدة الصولة والظفر والنجاح, وانتهت فيه أيام العناية من البرتغال، وانطفأ مصباحهم بين الأجناس، وزال رونقهم، وذهبت نخوتهم وقوتهم، وخلفها الفشل الذريع، وانقطع الرجاء، واضمحل الغنى والربح، وهو ذلك العصر الذي هلك فيه "سبستيان" في القصر الكبير في بلاد المغرب].
المصادر:
· تاريخ الدولة العثمانية/ موسوعة التاريخ الإسلامي/ وادي المخازن.
· عوامل نهوض وسقوط الدولة العثمانية/ أطلس تاريخ الإسلام.
· التاريخ الإسلامي.
كتبه للمفكرة / شريف عبد العزيز
الزمان/ الاثنين 30 جمادى الآخرة ـ 986 هجرية.
المكان/ وادي المخازن ـ المغرب الأقصى.
بلاد المغرب عبر التاريخ:
مفكرة الإسلام : يتميز تاريخ المغرب الإسلامي بعدد من الظواهر التي تميزه عن سائر بلاد الإسلام: منها طول الفترة التي استغرقها الفتح الإسلامي، حيث استغرق 70 سنة كاملة حتى الفتح التام العام للمغرب كله، حروب عنيفة وطاحنة بين المسلمين العرب والبربر الوثنيين، والتي انتهت بدخول البربر في دين الله أفواجًا، بعدما احتكوا بالمسلمين، وتعرفوا على فضائل الإسلام وأخلاقه، ومن الظواهر أيضًا أن أهل المغرب دخلوا جميعًا في دين الله أفواجاً، فلم تبقَ هناك أقليات غير مسلمة بالبلاد، والأكثر من ذلك أن هذا التاريخ قد انتهى إلى وحدة دينية مذهبية بلا نظير في أي مكان في العالم الإسلامي، فأهل المغرب جميعهم من أقصاه إلى أدناه على مذهب أهل السنة والجماعة، لا يوجد بينهم رافضي واحد.
عندما دخل المسلمون الفاتحون لبلاد المغرب قاموا بتقسيم البلاد إدارياً وجغرافياً إلى أربعة أقسام كبرى؛ وهي [إفريقية وهي تونس/ والمغرب الأوسط/ والسوس/ والمغرب الأقصى], وهذه الأقسام الأربعة تمثل أربع دول وهي: [تونس/ والجزائر/ والمغرب/ وموريتانيا], ويبدأ تاريخ الفتح الإسلامي للمغرب العربي من سنة 28 هجرية، وهو العام الذي فتح فيه المسلمون بلاد إفريقية "تونس" بعد معركة طاحنة مع الروم والبربر عند مدينة "سبيطلة" وبعدها انساح المسلمون الفاتحون في بلاد المغرب العربي, وبرزت أسماء لامعة في سماء البطولة والفتح الإسلامي مثل "عقبة بن نافع"، "والمهاجر أبو دينار"، و"زهير بن قيس" و"حسان بن النعمان" و"موسى بن نصير" الذي يعد الفاتح الأكبر لبلاد المغرب ثم الأندلس.
وعلى مدى عشرة قرون منذ الفتح الإسلامي لبلاد المغرب تداولت السلطة بها عدة دول: بعضها قوي والآخر ضعيف, وبعضها مجاهد والبعض الآخر تابع، ومن أمثال تلك الدول [دولة الأغالبة "184 - 297 هجرية"/ ودولة الأدارسة "172 - 343 هجرية"/ ودولة الرستميين "164 - 296 هجرية" وهى دولة كانت تحكم أجزاءً متفرقة من البلاد وليست كلها/ ثم الدولة الفاطمية الشريرة "297 - 362 هجرية"/ ثم الدولة المرابطية العظيمة "448 - 541 هجرية"/ ثم الدولة الموحدية الكبيرة "541 - 668 هجرية"/ والدول الثلاث الأخيرة حكمت بلاد المغرب كلها]، ثم ظهرت عدة دول متفرقة مثل دولة "بني حفص"، ودولة "بني الواد"، ودولة "بني وطاس"، وكلها دول صغيرة خرجت من عباءة دولة الموحدين، واستقلت بحكم أجزاء متفرقة من بلاد المغرب، ومن هذه الدول كانت أيضاً دولة الأشراف السعديين التي استقلت بحكم المغرب الأقصى منذ سنة 948 هجرية.
العثمانيون وتوحيد بلاد المغرب:
رغم أن ظهور نجم الدولة العثمانية يعود لسنة 700 هجرية, إلا أن هذه الدولة العظيمة لم تتجه ببصرها إلى ناحية المغرب الإسلامي إلا في عهد السلطان "سليمان القانوني", وذلك سنة 925 هجرية وذلك لانشغال الدولة في الجهاد ناحية الشمال بأوروبا، وناحية الشرق ضد روسيا وإيران والتتار، وكانت البداية إسقاط الدولة المملوكية بمصر، ومنها انطلق العثمانيون إلى بلاد المغرب في رحلة شاقة من أجل توحيد بلاد المغرب، والقضاء على الدول الضعيفة التابعة للصليبيين الإسبان والبرتغاليين، حتى إن حكام تلك الدول كانوا أشبه بولاة وعمال عند ملوك الصليبيين، وبالفعل استطاع العثمانيون بفضل الله وحده، ثم بجهود رجال عظام من عينة "خير الدين بربروسا" وأخيه "عروج" و"صالح الريس" و"قلج علي" و"حسن الطوشي" وغيرهم، أن يفتحوا بلاد المغرب من ليبيا إلى تونس، ثم الجزائر, وقضوا على الدول الخاضعة للصليبيين، وأزالوا كل المراكز والنقاط الاستعمارية التي أنشأها الإسبان والبرتغال على السواحل الإسلامية ببلاد المغرب الإسلامي، ولكن بقيت بلاد المغرب الأقصى تحت حكم الدولة السعدية، التي وقفت أمام الفتح الإسلامي العثماني بدعاوى باطلة مثل: العصبية، والقبلية، والوطنية إلى غير ذلك، ولكن السبب الحقيقي هو الحرص على السلطة وكرسي الحكم.
كان السبب الحقيقي وراء رفض الدولة السعدية الانضمام لسلطة العثمانيين هو سلطان الدولة السعدية في تلك الفترة واسمه "الغالب بالله"، وكان أهوج أحمق سفاكاً للدماء، قتل ثلاثة من إخوته لرفضهم البيعة لولده "محمد المتوكل" من بعده، ما جعل بقية إخوته يفرون منه خوفًا من القتل، ثم أضاف لجناياته السابقة جناية أشد منها شناعة ونذالة، وهى الغدر بمسلمي الأندلس الثائرين على اضطهاد الصليبيين الإسبان لهم سنة 976 هجرية، وذلك لأنه وعدهم بالعون والمساعدة، ثم أسلمهم لعدوهم وخذلهم، بل قام بأدهى من ذلك عندما أخبر الصليبيين الإسبان بتلك الثورة وتفاصيلها، وميعاد قيامها، ما أدى لإحباط تلك الثورة، وبقاء المسلمين تحت نير الصليبيين، وإنما قام هذا الخائن بتقديم كل هذه القرابين من دم وأرواح وعرض المسلمين من أجل ضمان مساعدة الدول الأوروبية الصليبية له في تحديه للدولة العثمانية.
على درب الخيانة:
ظل سلطان السعديين "الغالب بالله" على خيانته للمسلمين، وعمالته لصليبيي أوروبا عامة وإسبانيا والبرتغال خاصة، وصمد أمام محاولات الدولة العثمانية لتوحيد بلاد المغرب الإسلامي كلها، حتى هلك غير مأسوف عليه سنة 981 هجرية، وقد ارتاحت منه البلاد والعباد، ولكن خلفه ولده "أبو عبد الله محمد المتوكل على الله"، وكان صنو أبيه وعلى نفس منهجه وسار خلفه على درب الخيانة، فعمل على التقرب والتزلف لأعداء الإسلام من صليبيي أوروبا، ليضمن مساعدتهم له ضد الدولة العثمانية، فعقد اتفاقية تجارية مفتوحة مع الإنجليز، ووقع معاهدة دفاع مشترك مع الإسبان والبرتغاليين.
(ونحن نرى لوقتنا الحاضر أن أولى خطوات التمهيد للعدوان على بلاد الإسلام هو توقيع أمثال هذه المعاهدات والاتفاقيات التي تتيح بموجبها الفرصة لأعداء الإسلام بالتدخل في شئون المسلمين، وفرض شروط الذلة والصغار عليهم، كما يحدث الآن من سعي دولة الكفر والعدوان أمريكا من إجبار الدول الإسلامية العربية من التوقيع على اتفاقية اقتصادية حرة مع أمريكا بموجبها يتم ربط كل مقدرات واقتصاديات تلك الدول بالاقتصاد الأمريكي والبقية معروفة).
كانت بلاد المغرب الأقصى ذات موقع استراتيجي مهم جداً، فهي منتهى الحدود الغربية للعالم الإسلامي، وثغر مهم أمام أعداء الإسلام في الشمال، لذلك اهتم العثمانيون بفتحها وضمها لأملاكهم لتأمين حدود الدولة الإسلامية، وتخفيف الضغط الصليبي الرهيب على مسلمي الأندلس، فعمل العثمانيون على إزاحة الخائن ابن الخائن "محمد المتوكل" المتحالف مع أعداء الإسلام، وذلك عن طريق تشجيع عمه الأمير "عبد الملك السعدي" الذي سبق أن فر من بطش أخيه "الغالب بالله"، وقد جاءت الفرصة مناسبة لذلك عندما انشغل ملك إسبانيا الصليبي "فيليب الثاني" – وهو أكبر حليف للخائن "محمد المتوكل" - بأحداث ثورة الأراضي المنخفضة بأوروبا الغربية وخروجه للقتال مع بابا روما ملك فرنسا، فأعد العثمانيون جيشاً قوامه خمسة آلاف مقاتل بأحدث الأسلحة وقاده الأمير "عبد الملك"، واستطاع الانتصار على ابن أخيه "محمد المتوكل" الذي فرّ هاربًا من المغرب، والتجأ إلى ملك البرتغال المشهور "سبيستيان".
كان الأمير "عبد الملك السعدي" ذا همة وإرادة حديدية وملكات قيادية بارزة، فعمل على إصلاح بلاد المغرب، فنظم التجارة وجدد الأسطول، وأسس الجيش على أحدث النظم، وفرض احترامه على أهل عصره، حتى الأوروبيين احترموه وأجلّوه، وقال عنه معاصروه: [كان "عبد الملك" فكره نيراً بطبيعته، وكان يحسن اللغات الإسبانية والإيطالية والأرمينية والروسية، وكان شاعراً مجيداً للشعر, باختصار فإن معارفه لو كانت عند أمير من أمرائنا لقلنا: إن هذا أكثر مما يلزم بالنسبة إلى نبيل، فأحرى بملك، والفضل ما شهدت به الأعداء].
الخائن والحاقد:
بعدما رأى الخائن المخلوع "محمد المتوكل" ما حل به من هزيمة وفقدان ملكه، وضياع مملكته وطرد من البلاد، فهام على وجهه، ثم استقر في النهاية على رأي شيطاني، وهو الاستعانة بألد أعداء الإسلام وقتها وهو ملك البرتغال "سبيستيان" وعقد معه معاهدة خبيثة يلتزم فيها "سبستيان" بمساعدة المخلوع "محمد المتوكل" على استعادة سلطانه المفقود، وطرد عمه "عبد الملك" من بلاد المغرب في حين يلتزم فيها "محمد المتوكل" بالتنازل عن جميع سواحل المغرب للصليبيين البرتغاليين، وقطعاً وجد "سبستيان" في ذلك الفرصة التي لا تعوّض، فوافق فوراً على هذه المعاهدة الشيطانية، وانتقل المخلوع "محمد المتوكل" للإقامة بطنجة انتظاراً للإمدادات الصليبية القادمة من البرتغال.
وكان الأمير "سبستيان" البرتغالي يضطرم بشخصية حاقدة وعقلية استعمارية في آن واحد، فلقد وافق على هذه الصفقة الشريرة لسببين مهمين وهما:
- أراد "سبستيان" أن يمحو العار الذي لحق بالبرتغاليين على يد المغاربة الذين وجهوا لهم ضربات موجوعة ينسحبون من مدن "أسفي/ أزمور/ أصيلاً" وغيرها، وذلك في زمان أبيه "يوحنا الثالث" سنة 960 هجرية.
أراد "سبيستان بن يوحنا" أن يخوض حربًا مقدسة ضد المسلمين الكفار؛ حتى يعلو شأنه بين ملوك أوروبا، خاصة بعد أن زاد غروره بما حققه البرتغاليون من اكتشافات جغرافية جديدة أراد أن يستفيد منها من أجل تطويق العالم الإسلامي.
الخدعة الفاشلة:
وصلت أخبار مخطط الخيانة "لعبد الملك السعدي" وحلفائه العثمانيين، فاستعدوا لقتال المعتدين, وأرسل السلطان العثماني "سليم الثاني" فريقاً عسكرياً كاملاً لمساعدة "عبد الملك" في الدفاع عن بيضة الإسلام، ودوّت صيحة الجهاد المقدس في جنبات المغرب الأقصى، أن اقصدوا وادي المخازن للجهاد في سبيل الله، وتقاطر المسلمون من أنحاء المغرب للاشتراك في الدفاع عن حوزة الإسلام.
وهنا حاول الخائن المخلوع "محمد المتوكل" أن يخترق هذا التلاحم الإيماني، فكتب إلى أهل المغرب كتاباً يحاول فيه خداعهم، وكان مما قال فيه: [إني ما استنصرت بأهل العدوة "ولم يسميهم صليبيين للخداع" حتى عدمت النصرة من المسلمين، وقد قال العلماء: إنه يجوز للإنسان أن يستعين على من غصبه حقاً ما أمكنه، ثم ختم كتابه بتهديدهم قائلاً: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله]، فكيف كان رد أهل المغرب عليه؟!
قام "عبد الملك السعدي" بإحالة رسالة الخائن إلى علماء المغرب حتى يردوا عليها، فقاموا بالرد عليها رداً باهراً مؤيداً بالأدلة والبراهين التي دحضت أباطيله، وفضحت زروه وبهتانه، وخيانته للإسلام والمسلمين، وهكذا يكون دور العلماء الربانيين في مواجهة شبهات المبطلين، وأكاذيب المروجين لأعداء الإسلام، وما أحوج أمتنا لمثل هذا الدور في أيامنا هذه التي كثرت فيها شبهات أعداء الإسلام.
معركة الملوك الثلاثة:
أقبل "سبستيان" البرتغالي بجيش صليبي جرار يقدر بمائة وخمسة وعشرين ألفاً، منهم عشرون ألفاً من الإسبان، وثلاثة آلاف من ألمانيا وسبعة آلاف إيطالي، والباقي من البرتغاليين والأرمن ومعهم أربعون مدفعاً، وفى المقابل كان جيش المسلمين يقدر بأربعين ألفاً، ومعهم أربعة وثلاثون مدفعاً، ومعنوياتهم عالية جداً يقودهم "عبد الملك السعدي" ومعه أخوه "أحمد" الملقب "بالذهبي"، وقد قسم "عبد الملك" الجيش، فجعل المدفعية في المقدمة، ثم صفوف الرماة, وعلى الجانبين الرماة الفرسان، ثم جعل قوة احتياطية كبيرة من الفرسان للتدخل في الوقت المناسب.
نزل الصليبيون عند منطقة القصر الكبير، وخاف أهلها من سطوة الأعداء عليهم، واستبطئوا وصول الجيش، وعزموا على الفرار خارج المدينة والتحصن بالجبال، ولكن قام أحد العباد المجاهدين وهو الشيخ "أبو المحاسن يوسف الفاسي" بتثبيت الناس حتى لا يهربوا، وخطب فيهم وحثهم على الثبات والجهاد في سبيل الله عز وجل، حتى قويت عزائمهم، وأصروا على البقاء والدفاع عن مدينتهم.
(وهذا يوضح أهمية وجود أمثال هذه العناصر المثبتة من العلماء والعباد الذين يقودون الناس أوقات الأزمات والشدائد).
كان الأمير "سبستيان" رجلاً مغروراً متعصباً لدينه ولرأيه، سريع الغضب شديد الحقد، وتلك صفات جعلته لا يستمع لآراء قادة جيوشه الذين أشاروا عليه بالتقدم لاحتلال مدن "تطوان" و"العرايش" و"القصر"، وأصر على البقاء في معسكره بمنطقة "القصر الكبير" انتظاراً لقدوم جيش المسلمين، وكان مما زاد في إصراره على البقاء انتظاراً لوصول المسلمين الرسالة الذكية التي استفز بها الأمير "عبد الملك السعدي" الأمير "سبستيان" عندما قال له فيها: [إن سطوتك قد ظهرت في خروجك من أرضك، وجوازك العدوة، ولكن لا يليق أن تهجم على السكان العزل، وتخرب المدن الخالية من المقاتلين، فإن ثبت مكانك حتى آتيك بالجنود والسلاح فأنت نصراني شجاع وإلا فأنت كلب بن كلب].
وفى صباح يوم الاثنين 30 جمادى الآخرة 986 هجرية، وقف الجيشان في يوم مشهود من أيام الإسلام عامة والمغرب خاصة، ووقف السلطان "عبد الملك السعدي" خطيباً في الناس مذكراً بوعد الله عز وجل للصادقين والمجاهدين بالنصر، وذكرهم بوجوب الثبات والانتظام، وذكرهم بحقيقة مهمة جداً عندما قال: [إن انتصرت الصليبية اليوم فلن تقوم للإسلام بعدها قائمة، وقرأ آيات الجهاد]، واشتاقت النفوس للشهادة، وفى المقابل لم يألُ القسس والرهبان في إثارة حماس جنودهم, مذكرين أن البابا قد أحلهم من أوزارهم وخطاياهم، وطهّر أرواحهم من الدنس، وأن كل من سيموت في هذه الحرب سيدخل الجنة بلا شك!
انطلقت عشرات الطلقات النارية من مدافع الفريقين إيذاناً ببدء المعركة، وكان السلطان "عبد الملك" قد قام بخطة محكمة استدرج بها "سبستيان" لموقع القتال، وعزله عن أسطوله الرابض بالبحر المتوسط بعدما قام بهدم القنطرة الموجودة على نهر وادي المخازن، وهذا الأمر أفقده ميزة الانسحاب المنتظم عند الهزيمة.
احتدم القتال في أرض المعركة، والبطل الكبير قائد المسلمين "عبد الملك السعدي" يخترق الصفوف كالسهم وهو يقاتل قتال الأسود، وهو رأس حربة المسلمين في القتال يمهد لهم السبيل والطريق لاختراق صفوف الصليبيين، هذا كله رغم مرضه الشديد الذي كان يعاني منه منذ أن خرج من مراكش للجهاد، وهذا الإقدام والمباشرة للقتال بنفسه جعل علته تزداد عليه بشدة، حتى حملوه مدنفاً إلى خيمته وهو في النزع الأخير، وقد أصر هذا البطل الشجاع أن يعطينا درساً في الحزم والشجاعة، حتى وهو يجود بروحه عندما فاضت روحه وهو واضع إصبعه على فمه إشارة لمن معه عند وفاته بألا يخبروا أحداً من الجنود بوفاته، حتى لا تنهار معنوياتهم أمام عدوهم، وتولى القيادة مكانه أخوه الأمير "أحمد المنصور".
قام البطل الجديد "أحمد المنصور" بقيادة الجيش، وقلبه مشحون بالغيظ والعزم على النصر، فصدم مؤخرة الجيش البرتغالي بمنتهى العنف، وأشعلوا النار في خيام معسكر الصليبيين، وانقضت كتيبة المجاهدين المتطوعين على فرق الرماة الصليبية، ففتكت بها فتكاً ذريعاً واضطرب الجيش الصليبي بشدة، وبدأوا في الفرار من أرض المعركة إلى قنطرة نهر وادي المخازن لركوب الأسطول والفرار، ولكنهم فوجئوا بتهدمها، فوقفوا مصعوقين مذهولين ماذا يفعلون، فإذا بكتائب فرسان المسلمين من خلفهم، فقفز معظم الجيش الصليبي في النهر هرباً من سيوف المسلمين، فغرق معظمهم في مياه النهر الهادرة التي أصبحت قبراً لهم، وكان على رأس من ابتلعتهم مياه النهر رمز الخيانة والغدر المخلوع "محمد المتوكل"، الذي لا تكفيه مياه الأنهار والمحيطات لتطهره من دنس خيانته، وخطيئته في حق دينه وأمته، أما الأمير "سبستيان" فقد نال جزاءه وقتل، وحوله ألوف تدافع عنه، واستمرت هذه المعركة أربع ساعات وثلث الساعة، وانتهت بفوز ساحق وباهر للإسلام وأهله، وقد مات في هذه المعركة ثلاثة ملوك، بطل مجاهد نحتسبه شهيداً وهو "عبد الملك السعدي"، وخائن مخلوع وهو "محمد المتوكل"، وصليبي حاقد وهو "سبستيان" ملك البرتغال.
أدت هذه المعركة الخالدة لتأمين حدود دولة الإسلام من ناحية الغرب، وسقط نجم نصارى البرتغال في عالم البحار، واضطربت دولتهم، وضعفت شوكتهم، يقول المؤرخ البرتغالي "لويس ماريه" واضعاً نتائج المعركة: [وهو العصر النحس بالغ النحوسة "هذا الوصف لا يجوز شرعاً" الذي انتهت فيه مدة الصولة والظفر والنجاح, وانتهت فيه أيام العناية من البرتغال، وانطفأ مصباحهم بين الأجناس، وزال رونقهم، وذهبت نخوتهم وقوتهم، وخلفها الفشل الذريع، وانقطع الرجاء، واضمحل الغنى والربح، وهو ذلك العصر الذي هلك فيه "سبستيان" في القصر الكبير في بلاد المغرب].
المصادر:
· تاريخ الدولة العثمانية/ موسوعة التاريخ الإسلامي/ وادي المخازن.
· عوامل نهوض وسقوط الدولة العثمانية/ أطلس تاريخ الإسلام.
· التاريخ الإسلامي.