تمهيد :
مني العالم الإسلامي منذ عصر صدر الإسلام حتى عصرنا الحاضر بظهور العديد من الدعوات والدول التي لبست ثوب الإسلام ، واتخذته شعاراً ظاهراً لتحقيق مطامح ومطامع خفية تهدف إلى النيل من الإسلام وحرب المسلمين بشعار الإسلام واسمه ، وما دعوات الرافضة ، والقرامطة ، والعبيديين ، والموحدين إلا ضرباً لتلك الدعوات والدول على مدار التاريخ الإسلامي .
وإذا كانت الدعوات والدول الثلاث الأولى قد كتب عنها كثير من المؤرخين والكتاب المحدثين ، فأبانوا حقائقها ، وكشفوا للناس زيفها وبطلانها ؛ فإن دعوة الموحدين -التي أسسها ابن تومرت- كان نصيبها من الدراسات قليل [1] ، ولهذا خفي على كثير من المسلمين حقيقتها ، لاسيما وقد سماها مؤسسها بدعوة الموحدين ،
فظنوا بها خيراً ، ونسبوها إلى الصلاح والاستقامة [2] ، علماً بأنها كانت خلاف ذلك كما يوحي بهذا تراثها الفكري وتاريخ مؤسسها وداعيها الأول محمد بن تومرت وهذا ما دفعني إلى دراسة هذه الدعوة والتعرف على أسسها العقدية لبيان حقيقتها وكشف زيفها ، معتمداً في ذلك بعد الله -سبحانه وتعالى- على أقوال ابن تومرت وأفعاله ، وما دونه لنا المؤرخون المعاصرون لتلك الدعوة ، حيث إن مؤلفات ابن تومرت وتلاميذه من أمثال البيدق ، وابن القطان ، وابن صاحب الصلاة موجودة بين أيدينا ، إضافة إلى أن الفترة التي ظهرت فيها دعوة الموحدين حظيت بوجود العديد من المؤرخين الذين عاصروا تلك الدعوة أو عاشوا قريباً منها ، فكتبوا عنها ،وهم شهود عيان لما كتبوا من أمثال المراكشي وابن خلدون ، وابن أبي زرع ، وغيرهم .
وسأنهج في دراستي لدعوة الموحدين أن أقوم أولاً بتتبع نشأة تلك الدعوة وبيان المراحل والأطوار التي مرت بها ، وموقف الناس منها ، ثم أخلص بعد ذلك إلى بيان أهم الأسس العقدية التي قامت عليها ، ومدى قربها أو بعدها من الأسس الإسلامية الصحيحة .
الاتجاه الفكري للدول الإسلامية التي قامت في شمال بلاد المغرب :
لعل من المناسب بادئ ذي بدء أن نبين الاتجاه الفكري للدول الإسلامية التي ظهرت في بلاد المغرب الإسلامي -الشمال الأفريقي- منذ القرن الثاني وحتى القرن الخامس لنعرف مكان دولة الموحدين بينها ، والأرضية التي ظهرت فيها تلك الدعوة وأصبح لها كيان سياسي يحميها ، ذلك أنه بعد أن ضعفت قبضة الخلافة الإسلامية بالمشرق على الشمال الأفريقي ظهر هناك العديد من الدول الإسلامية التي أعلن
بعضها استقلالها عنها ، بينما بقي البعض منها موالياً لها ولاًء صورياً ، وقد تباينت اتجاهات ومشارب تلك الدول حيث انقسمت إلى أربعة اتجاهات رئيسة هي :
1- الاتجاه السني ويمثله دولتا الأغالبة والمرابطين ، والدولة الزيرية
الصنهاجية في آخر عمرها .
2- الاتجاه الخارجي ويمثله دولتا الرستميين والمدراريين [3] .
3- الاتجاه الرافضي ، ويمثله دولة العبيديين .
4- الاتجاه الاعتزالي ويمثله دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى .
وبالإضافة إلى هذه الاتجاهات الرئيسة فقد كان هناك اتجاه خامس هو اتجاه دولة الموحدين والذي كان يجمع بين هذه الاتجاهات وغيرها من الاتجاهات الفكرية الأخرى ، إذ أن محمد بن تومرت مؤسس هذه الدولة استقى من جميع هذه المشارب بل زاد عليها ما يرى أنه يخدم ميوله وأهدافه ، ولهذا جاءت الأسس الفكرية لهذه الدولة خليطاً مضطرباً كما سنرى .
الأسس الفكرية لدعوة ابن تومرت :
لما كانت الأسس الفكرية -العقدية- لكل دولة أو جماعة أو فرد هي الموجه الحقيقي لحركاتها وسكناتها فإن دراسة تلك الأسس مطلب ملح قبل دراسة تاريخ الدولة أو الجماعة أو الأفراد .
ودولة الموحدين أول من وضع أسسها الفكرية هو محمد بن عبد الله ابن تومرت الصنهاجي ، ولد في الثلث الأخير من القرن الخامس الهجري ببلاد المغرب الأقصى ، وقد اختلف المؤرخون في تحديد سنة مولده [4] .
ادعى ابن تومرت النسب القرشي ، وأنه من سلالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد أقر بعض المؤرخين هذا الادعاء [5] ، لكن طائفة أخرى من المؤرخين أنكرت هذا الادعاء وقالت إن ابن تومرت دعيّ فيه فهو من هرغة إحدى قبائل المصامدة البربرية حيث عرف بمحمد بن تومرت الهرغي [6] كما قال بهذا الرأي من الكتاب المحدثين محمد عبد الله عنان -رحمه الله- ، إذ يرى أن هذا الادعاء ما هو إلا نحلة باطلة وثوب مستعار قصد من ورائها ابن تومرت أن يدعم بها صفة المهدي التي انتحلها أيضاً شعاراً لإمامته ورياسته [7] .
ولا يشك المتتبع لتاريخ ابن تومرت في كذبه بهذا الادعاء وأنه إنما قال به ليتخذه جسراً يصل عن طريقه لأغراضه وطموحاته ، ويتأكد هذا إذا علمنا أن معظم المؤرخين الذين أثبتوا له هذا النسب إنما هم من تلاميذه ، أو من مؤرخي الدولة الموحدية الذين سجلوا تاريخها بوحي من سلاطينها وأمرائها ، وبتأثير من نزعتهم العقدية الباطلة .
حفظ ابن تومرت القرآن الكريم ودرس بعض العلوم الإسلامية في بلاد
المغرب في صباه ، ثم ارتحل سنة 501 هـ إلى الأندلس ، ثم إلى بلاد المشرق حيث تنقل بين عواصمه الثلاث (بغداد) و (مكة) و (القاهرة) [8] ، وقد أفاد من هذه الرحلة علماً غزيراً لاسيما في العلوم العقلية واللسانية [9] ، حيث أعانه على ذلك ذكاؤه المفرط ومثابرته وهمته العالية [10] .
بداية ظهور ابن تومرت :
كان وضع معظم بلدان العالم الإسلامي في مطلع القرن السادس الهجرى مضطرباً فالخلافة العباسية بالمشرق قد دب فيها الضعف ، كما أن دولة العبيديين بمصر قد كرهها الناس بسبب غلو حكامها وأعمالهم العدائية ضد الإسلام والمسلمين أما بلاد المغرب والأندلس فتخضع لحكم دولة المرابطين ، وكانت قبضتها قوية واتجاهها اتجاه سني حيث كان يتولى أمرها آنذاك السلطان علي بن يوسف بن تاشفين (500 - 537 ه) وكان سلفياً ورعاً مجاهداً وهذا ما جعل الطريق صعباً أمام ابن تومرت الذي بدأ ظهوره في بلاد المرابطين ، ولهذا جاءت سهامه مسلطة ضد هذه الدولة وسلطانها ، فبعد أن وصل إلى المغرب سنة 505هـ بدأ يدعو الناس إليه [11] ، ولما كانت دعوته تقوم على أسس عقدية يشوبها كثير من الغبش والانحراف فإنه لم يجرؤ في بادئ الأمر على إظهارها للناس صراحة ، ولهذا انتحل صفه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث يذكر البيذق [12] -أحد تلاميذ ابن تومرت- أنه نهج هذا الأسلوب في بادئ الأمر ، وأنه كان إذا خشي بطشاً خلط في كلامه حتى ينسب إلى الجنون [13] ، وهذا منهج كثير من الفرق الباطنية حيث يلجأون إلى العبارات الموهية حتى لا تنكشف عقائدهم .
ظل ابن تومرت مدة عشر سنوات (505 - 515 ه) ينتقل بين أقاليم ومدن المغرب الأقصى لعرض دعوته على الناس ونشر أفكاره بينهم فكثر أنصاره ومؤيدوه وذاع صيته بينهم وتعارف الناس به [14] ، فأضحى خطره يهدد كيان دولة المرابطين ، حينئذ استدعاه السلطان علي بن يوسف وسأله : ما هذا الذي بلغنا عنك ؟ فأجابه ابن تومرت في قوة بأنه يطلب الآخرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وأن هذه مسؤولية الحاكم قبل غيره ، ويذكر بعض المؤرخين أن السلطان علي بن يوسف حين سمع ذلك أطرق برأسه إلى الأرض ملياً ثم أمر الفقهاء بمناظرته واختباره [15] ، فلما ناظروه تبين لهم حقيقة ما يحمله ابن تومرت من آراء ومعتقدات تخالف طريقة أهل السنة والجماعة ، فأوصوا السلطان بسجنه سداً للذريعة ودرءاً للفتنة ، لكن أحد المرابطين شفع فيه فأمر السلطان بإخراجه من مراكش ولم يسجنه [16] .
أدرك ابن تومرت بعد ذلك المخاطر التي تهدده من قبل المرابطين ، لاسيما أن دعوته قد وصلت إلى مرحلة الظهور والجهر بالأهداف ، فقرر الانتقال الى بلاد السوس مسقط رأسه حيث نزل على قومه وقبيلته مصمودة سنة515 هـ وذلك لضمان الحماية اللازمة لدعوته [17] .
وفي بلاد السوس أسس ابن تومرت مسجداً يجتمع به مع تلاميذه وزعماء قبيلته حيث التف حوله الكثير من المؤيدين والأنصار فاختار منهم نخبة لتكون قاعدة لدعوته حيث شرع بتدريسهم على شكل حلقات ودروس منظمة ومن خلال تلك الدروس بث أفكاره بين تلاميذه ، وأخذ يعدهم إعداداً خاصاً ، فألف لهم كتاباً سماه كتاب التوحيد بلسانهم البربري قسمه إلى سبعة أحزاب عدد أيام الأسبوع ، وأمرهم بقراءة حزب واحد منه في كل يوم بعد صلاة الصبح [18] ، ويحتوي هذا الكتاب على معظم أفكار ابن تومرت والأسس العقدية لدعوته ، ولهذا يذكر ابن أبي زرع أن ابن تومرت قال لتلاميذه : من لا يحفظ هذا (التوحيد) فليس بمؤمن وإنما هو كافر لا تجوز إمامته ولا تؤكل ذبيحته فصار هذا التوحيد عند المصامدة كالقرآن العزيز " [19] .
وهكذا كفّر ابن تومرت من لا يتعلم مبادئ دعوته ويعمل بها ولاشك أن هذا الشطط والمغالاة جعلت الكثير من اتباعه ينصرفون عن الأسس الإسلامية الصحيحة إلى ما يقول به ويدعو إليه فغالوا في تعظيمه لدرجة العبودية -والعياذ بالله- .
لما شعر ابن تومرت بقبول دعوته في أوساط الهرغيين رأي توسيع إطارها المكاني فاختار جماعة من أصحابه أرسلهم إلى القبائل القريبة من بلاد السوس لاستمالة تلك القبائل للدعوة الموحدية [20] ، وبعد أن اطمأن إلى قوة دعوته وإلى تمكنه من قلوب أصحابه أخذ يشوقهم إلى (المهدي المنتظر) " ... فلما قرر في نفوسهم فضيلة المهدي ونسبه ونعته ، ادعى ذلك لنفسه وقال أنا محمد بن عبد الله ... ورفع نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وصرح بدعوى العصمة لنفسه وأنه المهدي وبسط يده فبايعوه .. ثم صنف لهم تصانيف في العلم منها كتاب سماه (أعز ما يطلب) .. " [21] .
كانت هذه هي خطوات ابن تومرت في تمهيد الطريق وجهوده في تأسيس قواعد البناء قبل أن يدعو إلى مبايعته بالإمامة ويعلن قيام الدولة الموحدية ، وقد أعان ابن تومرت على اجتذاب المؤيدين في بلاد السوس ما كان يتمتع به أهلها من سذاجة وجهالة وادعاءه النسب القرشي فضلاً عما يتمتع به ابن تومرت من ذكاء وعلم وقدرة على التأثير والتنظيم [22] .
مبايعة ابن تومرت بالإمامة :
لما اطمئن ابن تومرت إلى قاعدته وحسن ولائهم له دعا الناس إلى مبايعته حيث يذكر ابن القطان أنه قام خطيباً فيهم ومما جاء في خطبته : " ... الحمد لله الفعال لما يريد ، القاضي بما يشاء ، لا مرد لأمره ولا معقب لحكمه ، وصلى الله على سيدنا محمد المبشر بالمهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً ، يبعثه الله إذا نسخ الحق بالباطل ، وأزيل العدل بالجور ، مكانه بالمغرب الأقصى واسمه اسم النبي ، ونسبه نسب النبي .. " [23] . وبعد هذه الخطبة قام الناس فبايعوه بالإمامة وكان ذلك في الخامس عشر من شهر رمضان سنة 515ه [24] .
وهكذا نرى كيف أن ابن تومرت لم يجرؤ على إعلان ذلك الشطط في دعوته إلا بعد أن وثق من ولاء عامة الناس له، وفي هذا يقول ابن خلدون: » ولما كملت بيعته لقبوه بالمهدي وكان لقبه قبلها الإمام « [25] .
وقد جاءت مبايعة ابن تومرت إماماً للموحدين قرب مراكش دون تصد ومقاومة من قبل المرابطين أصحاب السلطة الشرعية هناك ، بل ودون إحساسهم بالخطر الداهم قرب عاصمتهم شاهداً على ضعف دولة المرابطين وقتذاك ، وعلى النجاح الكبير الذي حققه ابن تومرت لدعوته الناشئة .
أمضى ابن تومرت السنوات الثلاث التالية لسنة مبايعته في جهد متواصل وعمل دؤوب لدعوته حيث خاطب القبائل القريبة منه يدعوهم إلى الدخول في طاعته ، ونبذ طاعة المرابطين ، فاستجاب له بعض القبائل [26] ، ولكي يوفر مزيداً من الأمن لدولته ودعوته غادر جبل ايجليز في بلاد السوس سنة 518 هـ إلى قرية تينملل ببلاد هرغة [27] ، وقد جاء اختياره لها بسبب حصانتها لوقوعها على ربوة عالية في سفح جبل درن ، ولا يمكن الوصول إليها الا من طريق واحد لا يتسع لغير فارس واحد ، ويصف ابن القطان منعة تينملل بقوله : " يسد خللها أقل عصبة من الناس " [28] .
ويبدو أيضاً أن ابن تومرت أراد من ذهابه إلى تينملل الابتعاد عن زعماء قبيلته ليتوقى مغبة تدخلهم في شئون دولته الناشئة لا سيما وهو في مرحلة وضع الأسس الأولى لها .
أصبحت تينملل عاصمة لدولة الموحدين الناشئة حيث قسّم ابن تومرت أراضيها وديارها على أصحابه الموحدين ليسكنوا فيها ، كما بنى مسجداً وداراً له بينهم [29] ، وفي تينملل وضعت أسس دولة الموحدين ومنها انطلقت جيوشهم ، كما وزع ابن تومرت مسئوليات الدولة ووظائفها على أصحابه الموحدين حسب ولائهم لطاعته [30] ، ويذكر المراكشي أن ابن تومرت بعد أن كثر لديه المؤيدون والأنصار سماهم بالمؤمنين وقال لهم : " ما على وجه الأرض من يؤمن إيمانكم ، وأنتم العصابة المعنيون بقوله -عليه الصلاة والسلام- : " لا تزال [*] طائفة بالمغرب ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله " وأنتم الذين يفتح الله بكم فارس والروم ، ويقتل الدجال ، ومنكم الأمير الذي يصلي بعيسى بن مريم ، ولا يزال الأمر فيكم إلى قيامة الساعة ... فزادت فتنة القوم به وأظهروا له شدة الطاعة " [31] ! ! .
هكذا تجرأ ابن تومرت على الله ورسوله فحرف الأحاديث الصحيحة وأقحم دلالتها ليضل الناس فيلتفوا حوله ، وقد خفيت هذه الأباطيل على قومه في بادئ الأمر فأقبلوا على دعوته وتفانوا في خدمتها لاعتقادهم بأنه هو المهدي ، حتى قال قائلهم حينا وقف على قبر ابن تومرت بعد مماته :
سلام على قبر الإمام المجدد ** ومحيي علوم الدين بعد مماتها
أتتنا به البشرى بأن يملأ الدنا ** سلالة خير العالمين محمد
ومظهر أسرار الكتاب المسدد ** بقسط وعدل في الأنام مخلد [32]
هكذا أصبحت بلاد السوس بالمغرب الأقصى تغلي حماساً وولاءً لدعوة ابن تومرت لكنه توفي قبل أن يُحكم البناء ويُوسع إطار دعوته ، فقد وافاه الأجل في شهر رمضان 524 هـ وكانت مدة حكمه حوالي تسع سنوات [33] ، وقد ترك حرباً مشتعلة بين أتباعه والمرابطين وكل من خالف دعوة الموحدين في أرض المغرب الأقصى ، كما خلف أتباعاً مؤمنين بدعوته محاربين لأجلها .
.
مني العالم الإسلامي منذ عصر صدر الإسلام حتى عصرنا الحاضر بظهور العديد من الدعوات والدول التي لبست ثوب الإسلام ، واتخذته شعاراً ظاهراً لتحقيق مطامح ومطامع خفية تهدف إلى النيل من الإسلام وحرب المسلمين بشعار الإسلام واسمه ، وما دعوات الرافضة ، والقرامطة ، والعبيديين ، والموحدين إلا ضرباً لتلك الدعوات والدول على مدار التاريخ الإسلامي .
وإذا كانت الدعوات والدول الثلاث الأولى قد كتب عنها كثير من المؤرخين والكتاب المحدثين ، فأبانوا حقائقها ، وكشفوا للناس زيفها وبطلانها ؛ فإن دعوة الموحدين -التي أسسها ابن تومرت- كان نصيبها من الدراسات قليل [1] ، ولهذا خفي على كثير من المسلمين حقيقتها ، لاسيما وقد سماها مؤسسها بدعوة الموحدين ،
فظنوا بها خيراً ، ونسبوها إلى الصلاح والاستقامة [2] ، علماً بأنها كانت خلاف ذلك كما يوحي بهذا تراثها الفكري وتاريخ مؤسسها وداعيها الأول محمد بن تومرت وهذا ما دفعني إلى دراسة هذه الدعوة والتعرف على أسسها العقدية لبيان حقيقتها وكشف زيفها ، معتمداً في ذلك بعد الله -سبحانه وتعالى- على أقوال ابن تومرت وأفعاله ، وما دونه لنا المؤرخون المعاصرون لتلك الدعوة ، حيث إن مؤلفات ابن تومرت وتلاميذه من أمثال البيدق ، وابن القطان ، وابن صاحب الصلاة موجودة بين أيدينا ، إضافة إلى أن الفترة التي ظهرت فيها دعوة الموحدين حظيت بوجود العديد من المؤرخين الذين عاصروا تلك الدعوة أو عاشوا قريباً منها ، فكتبوا عنها ،وهم شهود عيان لما كتبوا من أمثال المراكشي وابن خلدون ، وابن أبي زرع ، وغيرهم .
وسأنهج في دراستي لدعوة الموحدين أن أقوم أولاً بتتبع نشأة تلك الدعوة وبيان المراحل والأطوار التي مرت بها ، وموقف الناس منها ، ثم أخلص بعد ذلك إلى بيان أهم الأسس العقدية التي قامت عليها ، ومدى قربها أو بعدها من الأسس الإسلامية الصحيحة .
الاتجاه الفكري للدول الإسلامية التي قامت في شمال بلاد المغرب :
لعل من المناسب بادئ ذي بدء أن نبين الاتجاه الفكري للدول الإسلامية التي ظهرت في بلاد المغرب الإسلامي -الشمال الأفريقي- منذ القرن الثاني وحتى القرن الخامس لنعرف مكان دولة الموحدين بينها ، والأرضية التي ظهرت فيها تلك الدعوة وأصبح لها كيان سياسي يحميها ، ذلك أنه بعد أن ضعفت قبضة الخلافة الإسلامية بالمشرق على الشمال الأفريقي ظهر هناك العديد من الدول الإسلامية التي أعلن
بعضها استقلالها عنها ، بينما بقي البعض منها موالياً لها ولاًء صورياً ، وقد تباينت اتجاهات ومشارب تلك الدول حيث انقسمت إلى أربعة اتجاهات رئيسة هي :
1- الاتجاه السني ويمثله دولتا الأغالبة والمرابطين ، والدولة الزيرية
الصنهاجية في آخر عمرها .
2- الاتجاه الخارجي ويمثله دولتا الرستميين والمدراريين [3] .
3- الاتجاه الرافضي ، ويمثله دولة العبيديين .
4- الاتجاه الاعتزالي ويمثله دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى .
وبالإضافة إلى هذه الاتجاهات الرئيسة فقد كان هناك اتجاه خامس هو اتجاه دولة الموحدين والذي كان يجمع بين هذه الاتجاهات وغيرها من الاتجاهات الفكرية الأخرى ، إذ أن محمد بن تومرت مؤسس هذه الدولة استقى من جميع هذه المشارب بل زاد عليها ما يرى أنه يخدم ميوله وأهدافه ، ولهذا جاءت الأسس الفكرية لهذه الدولة خليطاً مضطرباً كما سنرى .
الأسس الفكرية لدعوة ابن تومرت :
لما كانت الأسس الفكرية -العقدية- لكل دولة أو جماعة أو فرد هي الموجه الحقيقي لحركاتها وسكناتها فإن دراسة تلك الأسس مطلب ملح قبل دراسة تاريخ الدولة أو الجماعة أو الأفراد .
ودولة الموحدين أول من وضع أسسها الفكرية هو محمد بن عبد الله ابن تومرت الصنهاجي ، ولد في الثلث الأخير من القرن الخامس الهجري ببلاد المغرب الأقصى ، وقد اختلف المؤرخون في تحديد سنة مولده [4] .
ادعى ابن تومرت النسب القرشي ، وأنه من سلالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد أقر بعض المؤرخين هذا الادعاء [5] ، لكن طائفة أخرى من المؤرخين أنكرت هذا الادعاء وقالت إن ابن تومرت دعيّ فيه فهو من هرغة إحدى قبائل المصامدة البربرية حيث عرف بمحمد بن تومرت الهرغي [6] كما قال بهذا الرأي من الكتاب المحدثين محمد عبد الله عنان -رحمه الله- ، إذ يرى أن هذا الادعاء ما هو إلا نحلة باطلة وثوب مستعار قصد من ورائها ابن تومرت أن يدعم بها صفة المهدي التي انتحلها أيضاً شعاراً لإمامته ورياسته [7] .
ولا يشك المتتبع لتاريخ ابن تومرت في كذبه بهذا الادعاء وأنه إنما قال به ليتخذه جسراً يصل عن طريقه لأغراضه وطموحاته ، ويتأكد هذا إذا علمنا أن معظم المؤرخين الذين أثبتوا له هذا النسب إنما هم من تلاميذه ، أو من مؤرخي الدولة الموحدية الذين سجلوا تاريخها بوحي من سلاطينها وأمرائها ، وبتأثير من نزعتهم العقدية الباطلة .
حفظ ابن تومرت القرآن الكريم ودرس بعض العلوم الإسلامية في بلاد
المغرب في صباه ، ثم ارتحل سنة 501 هـ إلى الأندلس ، ثم إلى بلاد المشرق حيث تنقل بين عواصمه الثلاث (بغداد) و (مكة) و (القاهرة) [8] ، وقد أفاد من هذه الرحلة علماً غزيراً لاسيما في العلوم العقلية واللسانية [9] ، حيث أعانه على ذلك ذكاؤه المفرط ومثابرته وهمته العالية [10] .
بداية ظهور ابن تومرت :
كان وضع معظم بلدان العالم الإسلامي في مطلع القرن السادس الهجرى مضطرباً فالخلافة العباسية بالمشرق قد دب فيها الضعف ، كما أن دولة العبيديين بمصر قد كرهها الناس بسبب غلو حكامها وأعمالهم العدائية ضد الإسلام والمسلمين أما بلاد المغرب والأندلس فتخضع لحكم دولة المرابطين ، وكانت قبضتها قوية واتجاهها اتجاه سني حيث كان يتولى أمرها آنذاك السلطان علي بن يوسف بن تاشفين (500 - 537 ه) وكان سلفياً ورعاً مجاهداً وهذا ما جعل الطريق صعباً أمام ابن تومرت الذي بدأ ظهوره في بلاد المرابطين ، ولهذا جاءت سهامه مسلطة ضد هذه الدولة وسلطانها ، فبعد أن وصل إلى المغرب سنة 505هـ بدأ يدعو الناس إليه [11] ، ولما كانت دعوته تقوم على أسس عقدية يشوبها كثير من الغبش والانحراف فإنه لم يجرؤ في بادئ الأمر على إظهارها للناس صراحة ، ولهذا انتحل صفه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث يذكر البيذق [12] -أحد تلاميذ ابن تومرت- أنه نهج هذا الأسلوب في بادئ الأمر ، وأنه كان إذا خشي بطشاً خلط في كلامه حتى ينسب إلى الجنون [13] ، وهذا منهج كثير من الفرق الباطنية حيث يلجأون إلى العبارات الموهية حتى لا تنكشف عقائدهم .
ظل ابن تومرت مدة عشر سنوات (505 - 515 ه) ينتقل بين أقاليم ومدن المغرب الأقصى لعرض دعوته على الناس ونشر أفكاره بينهم فكثر أنصاره ومؤيدوه وذاع صيته بينهم وتعارف الناس به [14] ، فأضحى خطره يهدد كيان دولة المرابطين ، حينئذ استدعاه السلطان علي بن يوسف وسأله : ما هذا الذي بلغنا عنك ؟ فأجابه ابن تومرت في قوة بأنه يطلب الآخرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وأن هذه مسؤولية الحاكم قبل غيره ، ويذكر بعض المؤرخين أن السلطان علي بن يوسف حين سمع ذلك أطرق برأسه إلى الأرض ملياً ثم أمر الفقهاء بمناظرته واختباره [15] ، فلما ناظروه تبين لهم حقيقة ما يحمله ابن تومرت من آراء ومعتقدات تخالف طريقة أهل السنة والجماعة ، فأوصوا السلطان بسجنه سداً للذريعة ودرءاً للفتنة ، لكن أحد المرابطين شفع فيه فأمر السلطان بإخراجه من مراكش ولم يسجنه [16] .
أدرك ابن تومرت بعد ذلك المخاطر التي تهدده من قبل المرابطين ، لاسيما أن دعوته قد وصلت إلى مرحلة الظهور والجهر بالأهداف ، فقرر الانتقال الى بلاد السوس مسقط رأسه حيث نزل على قومه وقبيلته مصمودة سنة515 هـ وذلك لضمان الحماية اللازمة لدعوته [17] .
وفي بلاد السوس أسس ابن تومرت مسجداً يجتمع به مع تلاميذه وزعماء قبيلته حيث التف حوله الكثير من المؤيدين والأنصار فاختار منهم نخبة لتكون قاعدة لدعوته حيث شرع بتدريسهم على شكل حلقات ودروس منظمة ومن خلال تلك الدروس بث أفكاره بين تلاميذه ، وأخذ يعدهم إعداداً خاصاً ، فألف لهم كتاباً سماه كتاب التوحيد بلسانهم البربري قسمه إلى سبعة أحزاب عدد أيام الأسبوع ، وأمرهم بقراءة حزب واحد منه في كل يوم بعد صلاة الصبح [18] ، ويحتوي هذا الكتاب على معظم أفكار ابن تومرت والأسس العقدية لدعوته ، ولهذا يذكر ابن أبي زرع أن ابن تومرت قال لتلاميذه : من لا يحفظ هذا (التوحيد) فليس بمؤمن وإنما هو كافر لا تجوز إمامته ولا تؤكل ذبيحته فصار هذا التوحيد عند المصامدة كالقرآن العزيز " [19] .
وهكذا كفّر ابن تومرت من لا يتعلم مبادئ دعوته ويعمل بها ولاشك أن هذا الشطط والمغالاة جعلت الكثير من اتباعه ينصرفون عن الأسس الإسلامية الصحيحة إلى ما يقول به ويدعو إليه فغالوا في تعظيمه لدرجة العبودية -والعياذ بالله- .
لما شعر ابن تومرت بقبول دعوته في أوساط الهرغيين رأي توسيع إطارها المكاني فاختار جماعة من أصحابه أرسلهم إلى القبائل القريبة من بلاد السوس لاستمالة تلك القبائل للدعوة الموحدية [20] ، وبعد أن اطمأن إلى قوة دعوته وإلى تمكنه من قلوب أصحابه أخذ يشوقهم إلى (المهدي المنتظر) " ... فلما قرر في نفوسهم فضيلة المهدي ونسبه ونعته ، ادعى ذلك لنفسه وقال أنا محمد بن عبد الله ... ورفع نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وصرح بدعوى العصمة لنفسه وأنه المهدي وبسط يده فبايعوه .. ثم صنف لهم تصانيف في العلم منها كتاب سماه (أعز ما يطلب) .. " [21] .
كانت هذه هي خطوات ابن تومرت في تمهيد الطريق وجهوده في تأسيس قواعد البناء قبل أن يدعو إلى مبايعته بالإمامة ويعلن قيام الدولة الموحدية ، وقد أعان ابن تومرت على اجتذاب المؤيدين في بلاد السوس ما كان يتمتع به أهلها من سذاجة وجهالة وادعاءه النسب القرشي فضلاً عما يتمتع به ابن تومرت من ذكاء وعلم وقدرة على التأثير والتنظيم [22] .
مبايعة ابن تومرت بالإمامة :
لما اطمئن ابن تومرت إلى قاعدته وحسن ولائهم له دعا الناس إلى مبايعته حيث يذكر ابن القطان أنه قام خطيباً فيهم ومما جاء في خطبته : " ... الحمد لله الفعال لما يريد ، القاضي بما يشاء ، لا مرد لأمره ولا معقب لحكمه ، وصلى الله على سيدنا محمد المبشر بالمهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً ، يبعثه الله إذا نسخ الحق بالباطل ، وأزيل العدل بالجور ، مكانه بالمغرب الأقصى واسمه اسم النبي ، ونسبه نسب النبي .. " [23] . وبعد هذه الخطبة قام الناس فبايعوه بالإمامة وكان ذلك في الخامس عشر من شهر رمضان سنة 515ه [24] .
وهكذا نرى كيف أن ابن تومرت لم يجرؤ على إعلان ذلك الشطط في دعوته إلا بعد أن وثق من ولاء عامة الناس له، وفي هذا يقول ابن خلدون: » ولما كملت بيعته لقبوه بالمهدي وكان لقبه قبلها الإمام « [25] .
وقد جاءت مبايعة ابن تومرت إماماً للموحدين قرب مراكش دون تصد ومقاومة من قبل المرابطين أصحاب السلطة الشرعية هناك ، بل ودون إحساسهم بالخطر الداهم قرب عاصمتهم شاهداً على ضعف دولة المرابطين وقتذاك ، وعلى النجاح الكبير الذي حققه ابن تومرت لدعوته الناشئة .
أمضى ابن تومرت السنوات الثلاث التالية لسنة مبايعته في جهد متواصل وعمل دؤوب لدعوته حيث خاطب القبائل القريبة منه يدعوهم إلى الدخول في طاعته ، ونبذ طاعة المرابطين ، فاستجاب له بعض القبائل [26] ، ولكي يوفر مزيداً من الأمن لدولته ودعوته غادر جبل ايجليز في بلاد السوس سنة 518 هـ إلى قرية تينملل ببلاد هرغة [27] ، وقد جاء اختياره لها بسبب حصانتها لوقوعها على ربوة عالية في سفح جبل درن ، ولا يمكن الوصول إليها الا من طريق واحد لا يتسع لغير فارس واحد ، ويصف ابن القطان منعة تينملل بقوله : " يسد خللها أقل عصبة من الناس " [28] .
ويبدو أيضاً أن ابن تومرت أراد من ذهابه إلى تينملل الابتعاد عن زعماء قبيلته ليتوقى مغبة تدخلهم في شئون دولته الناشئة لا سيما وهو في مرحلة وضع الأسس الأولى لها .
أصبحت تينملل عاصمة لدولة الموحدين الناشئة حيث قسّم ابن تومرت أراضيها وديارها على أصحابه الموحدين ليسكنوا فيها ، كما بنى مسجداً وداراً له بينهم [29] ، وفي تينملل وضعت أسس دولة الموحدين ومنها انطلقت جيوشهم ، كما وزع ابن تومرت مسئوليات الدولة ووظائفها على أصحابه الموحدين حسب ولائهم لطاعته [30] ، ويذكر المراكشي أن ابن تومرت بعد أن كثر لديه المؤيدون والأنصار سماهم بالمؤمنين وقال لهم : " ما على وجه الأرض من يؤمن إيمانكم ، وأنتم العصابة المعنيون بقوله -عليه الصلاة والسلام- : " لا تزال [*] طائفة بالمغرب ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله " وأنتم الذين يفتح الله بكم فارس والروم ، ويقتل الدجال ، ومنكم الأمير الذي يصلي بعيسى بن مريم ، ولا يزال الأمر فيكم إلى قيامة الساعة ... فزادت فتنة القوم به وأظهروا له شدة الطاعة " [31] ! ! .
هكذا تجرأ ابن تومرت على الله ورسوله فحرف الأحاديث الصحيحة وأقحم دلالتها ليضل الناس فيلتفوا حوله ، وقد خفيت هذه الأباطيل على قومه في بادئ الأمر فأقبلوا على دعوته وتفانوا في خدمتها لاعتقادهم بأنه هو المهدي ، حتى قال قائلهم حينا وقف على قبر ابن تومرت بعد مماته :
سلام على قبر الإمام المجدد ** ومحيي علوم الدين بعد مماتها
أتتنا به البشرى بأن يملأ الدنا ** سلالة خير العالمين محمد
ومظهر أسرار الكتاب المسدد ** بقسط وعدل في الأنام مخلد [32]
هكذا أصبحت بلاد السوس بالمغرب الأقصى تغلي حماساً وولاءً لدعوة ابن تومرت لكنه توفي قبل أن يُحكم البناء ويُوسع إطار دعوته ، فقد وافاه الأجل في شهر رمضان 524 هـ وكانت مدة حكمه حوالي تسع سنوات [33] ، وقد ترك حرباً مشتعلة بين أتباعه والمرابطين وكل من خالف دعوة الموحدين في أرض المغرب الأقصى ، كما خلف أتباعاً مؤمنين بدعوته محاربين لأجلها .
.