لم يكن أمير الشعراء احمد شوقي مجرد شاعر تتجسد روحُ الإسلام وقيمه وتعاليمه وآدابه في شعره، بل كان بحق شاعرا من نوع فريد يدافع عن الإسلام بإبداعاته الشعرية المتميزة، ويتصدى بشجاعة لشعراء الرذيلة، ويعبر بصدق وموضوعية عن آمال وتطلعات أمته الإسلامية ولا يهادن الاستعمار الذي ابتليت به الأقطار الإسلامية في عصره، بل قاوم بإبداعاته وفنه الراقي كل أشكال الاحتلال التي اغتصبت إرادات الشعوب، وصادرت حرياتها ونهبت ثرواتها وجثمت على صدورها. ولد شوقي في القاهرة سنة 1285 ه - 1868 م ونشأ فيها، ولكن عروقه كانت تحمل خليطا من دماء عربية وكردية وجركسية ويونانية تبعا لنسب والديه وجديه وجدتيه واهتمت به جدته اليونانية التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل.
عبقرية مبكرة
بدأ شوقي رحلة النبوغ مبكرا حيث تلقى العلم وهو في الرابعة من عمره بعدما أدخل مكتب الشيخ “صالح” في حي الحنفي بالسيدة زينب، ثم تلقى بعد ذلك دراسته الابتدائية والثانوية في المدرسة الخديوية وفي التجهيزية، ثم التحق بكلية الحقوق، ولما لم ترق له التحق بقسم الترجمة الذي أنشئ فيها وتخرج فيه.
تفتحت عبقرية شوقي الشعرية باكرا حتى بهر أساتذته بها، فلما عين بعد تخرجه موظفا في رئاسة القلم الإفرنجي في القصر اتصل بالخديوي وصار شاعره، ولم تمض سنة واحدة حتى شعر الخديوي أن على شوقي متابعة تحصيله ليستكمل ثقافته فأرسله إلى فرنسا ليلتحق بكلية الحقوق ويوثق معارفه بالمدنية الغربية وآدابها، فدرس عامين في “منبلييه” وعامين في باريس، ثم عاد إلى منصبه في المعية الخديوية، وظل يتدرج في المناصب حتى تولى رئاسة القلم الإفرنجي في عهد الخديوي “عباس الثاني” وتقرب إلى هذا الأمير حتى كانت شفاعته عند ذوي الحكم لا ترد وإشارته لا تخالف.
ولما شبت الحرب العالمية الأولى خلعت إنجلترا بقوة الاحتلال الخديوي عباس عن عرش مصر، ورأى أولياء الأمر يومئذ أن يغادر شوقي البلاد، واختار برشلونة منفى له ولأسرته، ولم يعد إلى مصر إلا بعدما عاد السلام إلى العالم، لكن صلته الوثيقة بالنظام القديم ومدائحه المروية في الخديوي في المنفى كانت مازالت تقوي بينه وبين القصر أسباب الثقة والتقريب، وقامت ثورة 1919 ومعها نهضة مصر الحديثة فانصرف الشاعر بإلهامه وأنغامه إلى الشعب يذود عن قضاياه ويهتف بمجده ويعبر عن شعوره ويتغنى بجهاده حتى حمدت له مصر والعرب هذه اليد فاستقبل عند عودته إلى مصر استقبال الأبطال، واصبح كل شاغله التقرب من الشعب وليس القصر، فذاعت شهرته واختير عضوا في مجلس الشيوخ.
أمير الشعراء
في العام 1927 تنادت الأقطار العربية إلى تكريمه فأقاموا له مهرجانا في دار الأوبرا اشترك فيه رجالات مصر وأقطاب الدول العربية وبويع فيه أميرا للشعراء، وقد أعلن ذلك حافظ إبراهيم بلسان الجميع:
أمير القوافي قد أتيت مبايعا
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
ولم يزل شوقي موضع الإكبار والإكرام حتى انتقل إلى جوار ربه في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 1932 فأقامت له وزارة المعارف وطائفة من أعيان الفضل والأدب حفل تأبين بدار الأوبرا دعت إليه أقطاب العلم والأدب في الأقطار العربية.
وعاش احمد شوقي آمال أمته الإسلامية وآلامها وسجل بشعره بعض الأحداث الجسام التي مرت بها الأمة، ومن ذلك موقفه من الخلافة الإسلامية حيث برز انتماؤه وولاؤه للإسلام من خلال تناوله لثورة مصطفى كمال أتاتورك.. فما كاد العالم الإسلامي يفرح بانتصار الأتراك على أعدائهم في ميدان الحرب والسياسة ذلك النصر الحاسم الذي كان حديث الدنيا والذي تم على يد مصطفى كمال في سنة 1923م حتى أعلن إلغاء الخلافة ونفى الخليفة من بلاد الأتراك، فنظم شوقي قصيدة يرثي فيها الخلافة وينبه ممالك الإسلام إلى إسداء النصح للغازي لعله يبني ما هدم وينصف من ظلم فيقول:
عادت أغاني العرس رجع نواح
ونعيت بين معالم الأفراح
كفنت في ليل الزفاف بثوبه
ودفنت عند تبلج الأصباح
ثم يقول موجها النصيحة:
أدوا إلى الغازي النصيحة ينتصح
إن الجواد يثوب بعد جماح
ثم يحذر من انتشار الفتن:
فلتسمعن بكل ارض داعيا
يدعو إلى الكذاب أو لسجاح
ولتشهدن بكل ارض فتنة
فيها يباع الدين بيع سماح
وانطلاقا من معايشته لمآسي وآلام أمته الإسلامية خلال هذه الفترة العصيبة من تاريخها جسد شوقي في قصائده شعورا قوميا خاليا من الإقليمية الضيقة، فيوم ثورة دمشق التي جابهها الفرنسيون بقوة كان له موقف مشرف فقال:
سلام من صبا بردى أرق
ودمع لا يكفكف يا دمشق
ومعذرة اليراعة والقوافي
جلال الرزء عن وصف يدق
دم الثوار تعرفه فرنسا
وتعلم انه نور وحق
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرجة يدق
شاعر الفضيلة
ورغم أن شوقي مثل غيره من كبار شعراء العروبة والإسلام- كانت تتنازعه في شعره كما في نفسه شخصيتان: شخصية الورع المؤمن والحكيم الإنساني، وشخصية رجل الدنيا والملذات، إلا أن الجانب الأخلاقي في شعر شوقي كان بارزا، فكان دائما يحض على الفضائل والقيم الإسلامية حتى أصبحت بعض أبياته الحكيمة أمثالا تجري على ألسنتنا:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وأيضا:
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه
فقوم النفس بالأخلاق تستقم
والنفس من خيرها في خير عافية
والنفس من شرها في مرتع وخم
مكانته الأدبية
حول مكانة شوقي الأدبية يقول الدكتور محمد مصطفى سلام أستاذ الأدب والنقد: يكاد النقاد يجمعون على أن شوقي كان تعويضا عادلا عن عشرة قرون خلت من تاريخ العرب بعد “المتنبي” لم يظهر فيها شاعر موهوب يصل ما انقطع من وحي الشعر ويجدد ما اندرس من نهج الأدب.
كان شوقي ينظم شعره عن طبع دقيق، وحس صادق، وذوق سليم، وروح قوي فيأتي به محكم السبك لا يشوبه ضعف ولا لغو ولا تجوُّز ولا قلق، وهو كالمتنبي في انه تصرف بين الناس وخالط دماءهم وأولياءهم حتى عرف كيف يصف طبائعهم ويصور منازعهم، وهو مثله في إرسال البيت النادر، والمثل السائر، والحكمة العالية، مستخلصا ذلك فيما يسوق من المعاني في المدح أو الوصف أو الرثاء، وكان شوقي ينظم الشعر بين أصحابه فيكون معهم وليس معهم، وينظم في المركبة وفي سكة الحديد، وفي المجتمع الرسمي وحين يريد وحيث يريد.
منقول من جريدة الخليج
الإمارات