في « مفهوم الأيديولوجيا »
ينبهنا الأستاذ العروي في تقديمه لكتابه حول الأيديولوجيا(1) إلى أن هذا المفهوم «ليس مفهوماً عادياً يعبر عن واقع ملموس فيوصف وصفاً شافياً، وليس مفهوماً متولداً عن بديهيات فيحد حداً مجرداً. وإنما هو مفهوم اجتماعي تاريخي، وبالتالي يحمل في ذاته آثار تطورات وصراعات ومناظرات اجتماعية وسياسية عديدة، إنه يمثّل «تراكم معان»، مثله في هذا مثل مفاهيم محورية أخرى كالدولة أو الحرية أو المادة أو الإنسان» (ص 5). لذا فهو إذ يدعونا لمواصلة التساؤلات حول موضوع كتابه، فذلك ليس تواضعاً من جانبه فحسب، وإنما وعياً منه، كمصنف كتاب حول الأيديولوجية، بأن المفاهيم «تتراكم معانيها» وأنها بالتالي ما تنفك تؤول. ولهذا أيضاً فهو لا يسعى إلى تحديد معنى هذا المفهوم وتعريفه، وإنما يحاول، كما يقول، «أن يرسم الخطوط العريضة لخلفيات المفهوم متوخياً توضيح المعاني المضمنة فيه» (ص 6). وهو يرد هذه المعاني إلى ثلاثة: «مفهوم الأدلوجة/قناع الذي يوظف في المناظرة السياسية، ومفهوم الأدلوجة/رؤية كونية ويوظف في اجتماعيات الثقافة وأخيراً مفهوم الأدلوجة/علم الظاهر الذي يوظف في نظرية المعرفة ونظرية الكائن، فيقوم ببحث «تاريخي ومفهومي» (ص 103) يترصد فيه نشأة هاته المعاني ليقف عند بعض اللحظات الأساسية في تاريخ الفلسفة، تلك اللحظات التي اغتنى فيها هذا المفهوم. لذا فهو يواجه مشكلة قراءة التراث الفلسفي وتأويل بعض الفلسفات. فماذا كان سبيله إلى هذا التأويل؟
يعتقد الأستاذ العروي أن ماركس ونيتشه وفرويد، هؤلاء المفكرين الذين أقاموا بالفعل مفهوم الأيديولوجيا، قد أرسوا، في الوقت ذاته، نظرية في التأويل. يقول: «يقول ماركس إن الأدلوجة تخفي مصلحة طبقية ويعلل قوله استناداً إلى تطور التاريخ. يقول نيتشه إن القيم الثقافية أوهام ابتدعها المستضعفون لتغطية غلهم ضد الأسياد ويعلل قوله استناداً إلى قانون الحياة. يقول فرويد إن إنتاجات العقل تبريرات خلقها الإنسان المتمدن لمعارضة دافع الرغبة الجارف ويعلل قوله استناداً إلى طبيعة الإنسان الحيوانية. من الواضح أن هذه الأقوال تحتوي على بنية مشتركة: إن الأفكار رموز لا تحمل حقيقتها فيها: بل تستر حقيقة باطنية، وفي هذا الستر ذاته تومئ إليها، وبتأويل ذلك الإيماء نكشف عن الحقيقة المستورة» (ص 42 ـ 43)(2).
سنحاول هنا شرح هذا النص، أو على الأصح تأويله على ضوء الكتاب بمجموعه. إذ إن الدلالة التي يتخذها ضمن الكتاب هي التي ستحدد في نظرنا مدى أهمية المساهمة التي قام بها الأستاذ العروي.
لكن، علينا، قبل ذلك، أن نستخلص النتائج المباشرة لهذا القول. إن ما يعنيه هو أن الأفكار، عند ماركس ونيتشه وفرويد، علامات خبيثة كما يقول (فوكو)، وأنها لا تعبر عن واقع، إنها لا تكشف الواقع إلاّ بمقدار ما تحجبه. إنها مجال حضور المعنى وغيابه، مجال ظهوره وتستره. وهذا يتنافى مع نظرية في التأويل تدعي أن بإمكانها أن تستحضر المعنى بكامله، تستحضر الحقيقة. إنه يتنافى مع فلسفة الحضور وهذا هو الاسم الآخر الذي يطلقه هايدغر على الميتافيزيقا. لقد أقام هؤلاء نظرية في التأويل بمقتضاها يصبح الباطن مفعولاً للسطح، والحقيقة مفعولاً للخطأ، ويصبح المعنى في تباعد بينه وبين نفسه (وهذا هو ما يطلقون عليه اللاشعور)، ولقد أثبتوا أن التأويل عملية لا متناهية وأنه ليس بحثاً عن معنى أول وحقيقة أصلية، وإنما هو إثبات لأولويات وأسبقيات تعطى لمعنى على آخر.
الظاهر إذن أن تقنية التأويل التي تفرض نفسها هنا، في كتاب لا يسأل عما هي الأيديولوجية(3)؟ ما هو المدلول Signifiإ أيديولوجية؟ وإنما ماذا يعني الدال أيديولوجية؟ ما هي الاستخدامات المتعددة لهذا الدال؟ الظاهر أن هذه التقنية تقتضي الحوار مع هؤلاء الذين نحتوه وشحنوه بمعان جديدة لا لإقامة مدلول مطلق يوفق بين جميع المعاني، مدلول يكون قد تمتع عندهم جميعاً بوجود فعلي أصلي إذا حدنا عنه نكون قد خنا التأويل الحق، وإنما لتفكيك هذا المفهوم واستبعاد ما ليس صادقاً فيه.
لا سبيل هنا إذن، ونحن نحاور تاريخ الفلسفة، لا سبيل للكشف عن ماركس الحقيقي أو نيتشه الحقيقي للوقوف عند هذا المفهوم عندهما: ذلك أن ماركس لم يعد ذلك الشخص بعينه وإنما أصبح مفهوماً ما فتئت معانيه تتراكم. إنه أصبح المدلول «الماركسية»، وقل ذات الشيء عن النيتشوية والفرويدية.
فلن تؤول الماركسية، عند الأستاذ العروي، مبدئياً على الأقل، إلى حقيقة مطلقة، وبالفعل فهي عنده «علم العلوم أو مجموع شروط العلمية» (ص 84) «ليس دورها كسب معلومات جديدة بل وضع سياج ضد اللامعقول وضد القفز في ميدان الأساطير والاعتراف بالقصور والعجز» (ص 74). «إن إدلوجياء ماركس تزود القارئ بمادة خصبة مؤاتية لظهور تأويلات مختلفة متعاقبة، لم تصل ـ ولن تصل في الأغلب ـ إلى صورة تقريرية ترضي الجميع لأنه لو تحقق ذلك لعادت الماركسية معرفة مطلقة لا سبيل إلى تعليلها من الخارج» (ص 100).
معنى هذا أن الماركسية ليست تأويلاً آخر للعالم ينضاف إلى التأويلات السابقة، وإنما هي نظرية في التأويل. إنها علم العلوم على حد قوله أو (علم الأيديولوجيات) كما تشير كريستيفا. إلاّ أنه لا يبدو لنا أن الأستاذ العروي قد توقف بما فيه الكفاية عند النتائج التي تلزم عن ذلك القول. أشير هنا باختصار إلى تفكيك ماركس لبعض المفاهيم الأساسية التي كانت تقوم عليها نظرية المعرفة التقليدية. المعروف أن هذه النظرية تنبني على فلسفة الكوجيطو أي على فلسفة تفترض أن وراء المعرفة ذاتاً واعية تتحكم في فعل المعرفة. وحتى إن هذه تحدثت عن الوهم واللاشعور فهي تقيمها على علم النفس لا على علم الاجتماع. إن الأستاذ العروي لم يتساءل عما قد يعنيه الحديث عن لا شعور ماركسي؟ هل هو لا شعور ذات ناظرة أم هو لا شعور البنية الاجتماعية؟ إنه لم يحاول أن يخلص فعل المعرفة من المفهوم الأفلاطوني للرؤية والنظرة، لذا لم يعرض لنصوص التوسير حول القراءة حيث يحاول هذا الأخير أن يحدد اللا شعور عند ماركس «كتباعد بين الواقع وبين نفسه، تباعد من صميم البنية»(4) وحيث يكون الناظر والقارئ أولاً هو البنية ذاتها بحيث تقدم نفسها للدارس مقروءة مؤولة. ثم إن الأستاذ العروي لم يتساءل عما إذا كانت نظرية التأويل عند ماركس تتنافى مع القول بنزعة تاريخية عنده: لذا فهو لم يعرض لمناقشة موقف التوسير بصدد تاريخانية ماركس عندما بيّن أن التاريخانية لا يمكن أن تكون إلاّ فلسفة الحضور أي فلسفة تتنافى مع نظرية التأويل.
لم يقم الأستاذ العروي إذن باستخلاص النتائج التي تتمخص عن قولنا بأن ماركس مؤسس لمفهوم الأيديولوجية (بل وللأدلوجياء أي لدراسة الأسباب التي تمنع الذهن من عكس مباشر لبنية الأشياء) ولعل ذلك ليس راجعاً لضيق المجال (إذ إن أصل الكتاب محاضرة) وإنما لسبب أهم هو أن ماركس ليس عنده أساساً ذلك الذي تحدثنا عنه. هناك في كتاب العروي ماركس آخر «صاحب نظرية عن الكائن» (ص 109) «يميّز بين الحق والباطل، بين الوهمي والواقعي» (ص 58) ولا يعتبر الوهم مؤسسات فعلية، يقول بذات فعالة في التاريخ هي البروليتاريا «التي لها وحدها مصلحة بديهية في معرفة الحقيقة وعدم الاكتفاء بعلوم الظاهرات كما تفعل الطبقات الأخرى. ونرى هكذا أن الضامن الحق لمعرفة الحق هو إرادة تلك المعرفة» (ص 58) إنه ماركس الذي يفسر المعرفة بحسن الإرادة ويبحث، مثل نظريات المعرفة التقليدية، عن ضامن منطقي وبداية مطلقة «الأس عند ماركس كما عند روسو وهيغل هو في الوقت ذاته البداية الزمنية والأصل المنطقي» (ص 99).
ليست الماركسية في النهاية نظرية في التأويل بل إنها «تجيب على السؤال التالي: ما هي الأسباب التي جعلت الفكر الإنساني في كل أدواره يرى الأشياء طبقاً لدعواه هو لا طبقاً لذاتها هي (أي الأشياء)؟» (ص 10) وكتاب «الرأسمال» «دراسة تاريخية عن تكوين النظام الرأسمالي في الغرب انطلاقاً من الإقطاع ومروراً بالتوسع الاستعماري وتجميع العمال في معامل يدوية. والكتاب في الوقت ذاته تحليل لبنية كل نظام رأسمالي محتمل» (ص 99). إنه نقد للواقع الاقتصادي وليس «نقداً للاقتصاد السياسي» كما يقول عنوانه الصغير.
لعل كل هذا يتنافى مع النص الذي انطلقنا منه، يتنافى مع قولنا بأن ماركس هو المساهم الأكبر في إرساء مفهوم الأيديولوجيا، وإنه يرفض للمعرفة كل ضامن، وإنه يعتبر أن الأعماق وليدة السطوح، وإنه ينظر إلى الواقع لا كشيء في ذاته وإنما في تباعده مع نفسه، أي من حيث إن الوهم يشكّل لحمته وسداه. إن هذا يتنافى مع ماركس الذي يقول عنه فوكو: «إنه لا يؤول تاريخ علاقات الإنتاج وإنما يؤول علاقة تقدم نفسها كتأويل ما دامت تقدم نفسها كطبيعة».
لا عجب إذن أن يؤول «تراكم المعاني» في نظر الأستاذ العروي إلى مجرد تحريف للمعنى الأصلي، ولا عجب أن تصبح لا نهائية التأويل في تاريخ الفلسفة مجرد حادث طارئ لا يحترم الحواجز الخالدة التي تفصل «الداخل» عن «الخارج» والأوساط الماركسية عن غيرها. يقول «نلاحظ إذن أن كل تأويل من التأويلات المذكورة يخضع لظروف أزمة معرفية طارئة إما في العلوم الاجتماعية وإما في العلوم الطبيعية. والجواب المقترح باسم ماركس يؤخذ في الغالب من أفكار رائجة في أوساط غير ماركسية» (ص 100).
إن ظلت الماركسية نظرية في التأويل، فهي تبقى في نظر الأستاذ العروي تحت رحمة النسبية وتهديد الوضعانية «أما الميدان الذي ندخل إليه للهروب من نسبية الوضعانية فهو ميدان الأنتولوجية، أي نظرية الكائن الذي يطرح قضية الحكمة أي العلم المطلق الذي يكشف عن حقيقة الأشياء. وفي هذا المستوى نجد موقفين فقط: إما نفي السؤال وهو موقف الكنطية والوضعانية والذرائعية في أشكالها القديمة والجديدة وإما تقرير وجود الحكمة وهو موقف هيغل وورثته ومن ضمنهم ماركس» (ص 108). إن اعتبار الماركسية نظرية في التأويل وعدم النظر إليها أساساً كميتافيزيقا لا يعني في نظر الأستاذ العروي إلاّ وقوفاً عند ظاهر الأمور: «نرى هكذا بوضوح لماذا تتعدد تأويلات الماركسية. إن المادية الجدلية نظرية عن الكائن. من الماركسيين من يغض عنها الطرف ويجعل من الماركسية نظرية سياسية واجتماعية فقط فيقف ضمنياً في صف الكانطيين والذرائعيين. أما الذي يأخذها بجد ويتعمق في سوابقها ولواحقها فإنه يجد نفسه بالضرورة في عشرة هيغل وتلاميذه» (ص 108 ـ 109).
إن ماركس ـ العروي فيلسوف تاريخاني يعطي السبق المنطقي والفعلي للتاريخ العام على التاريخ المحلي (هامش 34) و «يرجع إلى التاريخ الكوني ليميّز بين الوعي الصادق أي الحكم المطابق للواقع، وبين الوعي الزائف أي الأدلوجة» (ص 35) ونسبيته «نسبية نسبية بمعنى أن حقيقة زمن معين تعتبر مرحلة في تحقيق الحقيقة المطلقة وبذا تكسب قيمة دائمة» (ص 78) لذا فالأدلوجة في نطره قناع «يدل الناظر المدقق على الحكمة والمعرفة المطلقة» (ص 108). هناك إذن أنطولوجيا ماركسية وتاريخ كوني وطبقة كونية بل ومعرفة مطلقة!
لا يتردد الأستاذ العروي بصدد نيتشه بين هذين الموقفين المتعارضين. ذلك أنه لم يقم هنا بمثل ما حاول القيام به في ما يخص ماركس. إنه لم يعرض لمختلف التأويلات التي أعطيت لنيتشه ولم يرصد مختلف معاني النيتشوية، لم يقف عند (نيتشه ـ هايدغر)، و (نيتشه ـ كلوسوفسكي) و (نيتشه ـ ياسبرر) و (نيتشه ـ باتاي) و (نيتشه ـ دولوز) مثلما وقف عند (ماركس ـ مانهايم) و (ماركس ـ لوكاتش) و (ماركس ـ التوسير). وإنما حاول أن يبحث مباشرة عن نيتشه الحقيقي. حاول أن يؤرخ لنيتشه بعيداً عن نظرية التأويل، وأن يعطينا حقيقة نيتشه بعيداً عن مفهوم الأيديولوجية. وهنا اقتصر على ما كان يُقال قبل دروس هايدغر من أن نيتشه صاحب فلسفة وهي فلسفة حيوية، تمجد الجسم على حساب العقل، والطبيعة على حساب الثقافة. فترد الإنسان إلى طبيعته الحيوانية وتهاجم مكتسبات الحضارة الغربية فتسقط في عدمية مطلقة.
إن نيتشه في نظر الأستاذ العروي يقدم لنا «نظرية حول الأوهام الإنسانية تبرر ذاتها اعتماداً على البيولوجيا والاشتقاق اللغوي والتاريخ الوقائعي» (ص 37). ومضمون النيتشوية «رفض المفاهيم التي شيدت عليها الثقافة الغربية: العقل، الحقيقة، الإنسان: ترفض النيتشوية بعنف وتنقد نقداً لاذعاً معتقدات الإنسان المتحضر» (37 ـ 39) لذا فهي «أدلوجة مبنية على نقد الأدلوجات» (ص 37).
صحيح أن نيتشه يقيم جنيالوجيا تفضح الأوهام ولكن، هل الجنيالوجيا تعتمد البيولوجيا(5) والتاريخ الوقائعي؟ هل يصح الحديث عند نيتشه عن تاريخ وقائعي؟ وهل يفصل نيتشه عالم القيم عن عالم الواقع؟ (يقول العروي في ص 44: لقد تعلم الاجتماعيون الألمان من نيتشه أن العالم الإنساني عالم القيم، مفصول عن عالم الواقع). ألا يبعدنا هذا عن نيتشه صاحب نظرية التأويل؟
الظاهر أن الاهتمام بالاشتقاق اللغوي عند نيتشه يتنافر وكل تاريخ وقائعي. ذلك أن معنى الاهتمام باللغة عنده هو نفي الاحالة، نفي الواقعة الخام. فالقول بالواقعة الخام هو قول بحضور المعنى ونفي لخبث الرموز والعلامات. إن الدال عندما يحيل فهو يحيل إلى دال آخر لا إلى واقع في ذاته. فالأفكار لا تعبر، وهي لا تكشف إلاّ بقدر ما تحجب. يقول زرادشت «إن جميع أسماء الخير والشر ليست إلاّ مجموعة من الرموز. إنها لم تعد تعبر عن شيء. وإنما هي تدل وتعني» لذا يؤكد نيتشه، «ليس هناك واقعة في ذاتها. فكل ما يحصل ويتم ليس إلاّ مجموعة من الظواهر التي انتقاها واختارها كائن مؤول»، ذلك أن نيتشه لا يلجأ إلى اشتقاقات اللغة إلاّ لأنه ينفي الواقعة الخام «إن ما يهمنا هو معرفة الكيفية التي تسمى بها الأشياء لا معرفة ماهيتها. فما يشتهر به شيء ما، إن اسمه ومظهره وقيمته وقياسه ووزنه، كل هاته الأمور التي تنضاف إلى الشيء بمحض الصدفة والخطأ تصبح، من شدة إيماننا بها، يشجعنا على ذلك تناقلها من جيل لآخر، تصبح بالتدريج لحمة الشيء ويتحول ما كان مظهراً في البداية إلى جوهر ثم يأخذ في العمل كماهية».
إن الجنيالوجيا ليست تاريخاً وقائعياً يفصل عالم القيم عن الواقع وإنما هي تحاول أن تربط معاني الواقع بالمنظورات Perspectives أو التطلعات التي تعطيها قيمة، وهي تدرك تلك التطلعات من حيث هي إرادات قوة متفاضلة. إن الجنيالوجيا ليست رفضاً للقيم، إنها لا تهتم بالقيم في ذاتها وإنما بقيمة القيم. إنها سيميولوجيا تنظر للقيمة كعلامة ورمز فتسعى إلى فضح العملية التي يتم بها خلق المثل العليا. يقول نيتشه «إن الحكم الأخلاقي لا ينبغي أن يؤخذ في حرفيته لأنه لن يكون حينئذ ذا معنى، وعلى العكس من ذلك، إذا أخذ كسيميولوجيا فإنه يكون غنياً بالدلالات. إن الأخلاق ليست إلاّ لغة رموز». إن نيتشه عندما يسائل منطوراً معيناً فهو لا يسأل عن مدلول، لا يسأل مثلاً ما هو الحق في هذا المنظور وما قيمته؟ إن سؤال نيتشه، كما بيّن دولوز، هو السؤال عمن؟ Le qui لا السؤال عمن هو الصادق أو الخير، بل عمن يصنع جمال الأشياء وحقيقتها (مثلما يتساءل ماركس عمن يوجد وراء القيم السائدة في العالم الرأسمالي) لذا يقول نيتشه في أفول الأصنام: «إننا لا نستطيع تفنيد المسيحية مثلما لا .