مفهوم الضرورة عند النحاة
الضَّرُورةُ لُغةً:
الاضطِرارُ، وهُوَ الحَاجةُ إلَى الشَّيءِ، أو الإلجاءُ إلَيهِ، فَيُقالُ: رَجُلٌ ذُو ضَرُورةٍ، أي: ذُو حاجَةٍ، وقَد اضطَرَّ إلَى الشَّيءِ، أي: أُلجئَ إلَيهِ، والاضطِرارُ هوَ الاحتِياجُ إلَى الشَّيءِ، واضطَرَّهُ: أَحوَجَهُ وأَلجَأَهُ[1].
الضَّرُورةُ فِي الاصطِلاحِ:
" ما وَقَعَ في الشِّعرِ مُخالِفاً للقِياسِ ممَّا لم يَقَعْ لَهُ نَظِيرٌ في النَّثرِ، سواءٌ أكانَ عنهُ مَندُوحةٌ أم لا، أو ما وَقَعَ في النَّثرِ للتناسبِ أو السَّجعِ علَى خِلافِ ذلِك"[2]. أو يمكنُ القَولُ إنَّها مُخالفةٌ لِقَواعِدَ مِعيارِيَّةٍ وَضَعَها النَّحويونَ، وخالَفَها الشُّعراءُ، وخَرَجُوا بِها عن الأصلِ امتِثالاً لِمُتَطلَّباتِ الشِّعرِ مِن وَزنٍ وقافِيةٍ ومُوسِيقا.
ثمَّ تَطوَّرَ مَفهُومُ الضَّرُورةِ بَعدَ مَرحلةِ التَّدوينِ في القَرنِ الهِجرِيِّ الثَّانِي، وظُهُورِ مُصنَّفاتٍ فِي النَّحو، وهذا الفَهْمُ أَتَى مِن تَصَوُّرِ النَّحويِينَ أَمثالَ سِيبوَيهِ (ت180هـ)، والمبرِّد (ت285هـ)، وابنِ السراج (ت316هـ)، وابنِ جنيٍّ (ت392هـ) فأخَذَتْ مُصطَلَحاتٍ جَدِيدةً، نحو: الخُرُوجُ عنِ القاعِدةِ، والشُّذوذُ، والعُدُولُ النَّحويُّ، وغيرُها مِن مُصطَلَحاتٍ تُفيدُ خُصُوصِيَّةً فِي لُغةِ الشِّعرِ امتَازَتْ بِها عنِ لُغةِ النَّثرِ.
وتَعنِي الضَّرُورَةُ أَيضَاً الشُّذُوذَ، فَمِنْ رَحِمِ الضَّرُورةِ وُلِدَ مُصطَلَحُ الشُّذُوذِ الَّذِي ضَاقَ مَفهُومُهُ وانحصَرَ، واختَصَّ بَعدَ ذلكَ بِالشَّاهِدِ النَّحويِّ الشِّعري غالِباً، وهُنا فِي هذا الاتِّجاهِ صَارَ القَولُ بالضرورَةِ والشُّذُوذِ واحِداً، فكُلٌّ مِنهُما يَعنِي الخُروجَ والمُخالَفَةَ، والبُعدَ عنِ القَواعِدِ المَرعيَّةِ فِي الكَلامِ.
وانحصَرَ مَفهُومُ الشُّذُوذِ كَثيراً لِيُفهَمَ مِنهُ أنَّهُ الضَّرُورةُ الَّتِي كَسَرَتِ القَاعِدةَ الَّتي علَيها الكَلامُ فِي لُغةِ النَّثرِ أولاً، ولُغةِ الشِّعرِ ثانياً، فالشُّذُوذُ هُوَ مُخالَفةُ القَاعِدةِ النَّحويَّةِ، ومِنْ هُنا فَكُلُّ شُذُوذٍ ضَرُورَةٌ، ولَيسَ كُلُّ ضَرُورةٍ شُذُوذاً، فصارَ الشُّذُوذُ خُروجاً علَى بَعضِ قَواعِدِ النحويينَ، وهذا خطاٌ لا ينقاسُ علَيهِ.
لم يعرِّفْ سِيبَوَيه الضَّرورةَ الشِّعريَّةَ تَعريفاً دَقِيقاً، ولكِنْ يُفهَمُ مِن كلامِهِ فِي: (بابِ ما يَحتَمِلُ الشِّعرَ) أنَّه يجوزُ لِلشَّاعِرِ فِي الشِّعرِ ما لا يَجُوزُ لَهُ فِي الكَلامِ، شَرِيطةَ أنْ يَضطرَّ إلَى ذلِكَ، ولا يَكُونُ لَهُ بُدٌّ مِنهُ، وأنْ يَكُونَ فيهِ رَدُّ فَرعٍ إلَى أَصلٍ، أو تَشبيهُ غَيرِ جائِزٍ بِجائِزٍ، فَقَالَ: " اعلَمْ أنَّهُ يَجُوزُ في الشِّعرِ ما لا يَجُوزُ فِي الكَلامِ مِن صَرفِ ما لا يَنصَرِفُ، يُشبِّهُونَهُ بِما يَنصَرِفُ مِن الأَسماءِ، وحَذفِ ما لا يُحذَفُ، يُشبِّهُونَهُ بِما قَد حُذِفَ واستُعمِلَ مَحذُوفاً "[3].
وفي موضِعٍ ثانٍ يلجأُ إلَى الضرورة فَيُجري الشِّعرَ علَى الأَصلِ، فَقَالَ: "كما قالُوا حِينَ اضطرُّوا فِي الشِّعرِ فَأَجرَوهُ علَى الأَصلِ، قالَ الشَّاعِرُ الهُذَلِيُّ: (من الوافر)
أَبِيْتُ علَى مَعَارِيَ واضِحاتٍ
بِهِنَّ مُلَوَّبٌ كَدَمِ العِباطِ[4]
وقالَ الفَرزدقُ: (من الطويل)
فَلَو كانَ عبدُ اللهِ مَولَى هَجَوْتُهُ
ولَكِنَّ عبدَ اللهِ مولَى مَوَالِيا[5]
فلمَّا اضطرُّوا إلى ذلك فِي مَوضِعٍ لا بُدَّ لَهُم فِيهِ مِن الحَرَكةِ أَخرجُوهُ علَى الأصلِ.
قالَ الشَّاعرُ بنُ قَيسٍ الرُّقِيّاتِ: (من المنسرح)
لا بارَكَ اللهُ فِي الغَوانِيِ هلْ
يُصبِحْنَ إلَّا لَهُنَّ مُطَّلَبُ[6]
وقالَ وأنشدَنِي أعرابِيٌّ مِن بَنِي كُلَيبٍ، لِجرير: (من الطويل)
فَيَوماً يُوافِينِي الهَوى غَيرَ ماضِيٍ
ويَوماً تَرَى مِنهُنَّ غُولاً تَغَوَّلُ[7]
[1] لسان العرب: ابن منظور، محمد بن مكرم الإفريقي المصري (ت711هـ)، دار صادر، بيروت، 1956م، مادة: "ضرر ".
[2] الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر: محمود شكري الآلوسي، شرح محمد بهجت الأثري، المطبعة السلفية، القاهرة، 1341هـ، ص6.
[3] الكتاب: سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر (ت180هـ)، تحقيق: عبدالسلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط4، 1425هــ-2004م، 1 : 26.
[4] والشاهد فيه " معاري " أجراه في حال الجرِّ مجرى السالم. والصحيح: معارٍ بحذف الياء، لأنه اسمٌ منقوص،نكرة، ولكنَّه حذفها تجنباً للزحاف.
[5] الكتاب 3: 313، والشاهد فيه إجراؤه " موالي " على الأصل للضرورة، وحقُّه حذف الألف.
[6] الكتاب 3: 314.. والشاهد فيه: تحريك الياءِ من " الغواني " وجعلها على الأصل ضرورة. وينظر المقتضب للمبرد 1 :144. والخصائص 3: 159.
[7] ديوان جرير بن عطية: تحقيق: نعمان أمين طه، دار المعارف، القاهرة، 1976م، ص 457.وينظر الكتاب 3: 314. والشاهد فيه: تحريك الياء في " ماضي " جرَّاً ضرورة.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/83835/#ixzz3cYCylBpD
الضَّرُورةُ لُغةً:
الاضطِرارُ، وهُوَ الحَاجةُ إلَى الشَّيءِ، أو الإلجاءُ إلَيهِ، فَيُقالُ: رَجُلٌ ذُو ضَرُورةٍ، أي: ذُو حاجَةٍ، وقَد اضطَرَّ إلَى الشَّيءِ، أي: أُلجئَ إلَيهِ، والاضطِرارُ هوَ الاحتِياجُ إلَى الشَّيءِ، واضطَرَّهُ: أَحوَجَهُ وأَلجَأَهُ[1].
الضَّرُورةُ فِي الاصطِلاحِ:
" ما وَقَعَ في الشِّعرِ مُخالِفاً للقِياسِ ممَّا لم يَقَعْ لَهُ نَظِيرٌ في النَّثرِ، سواءٌ أكانَ عنهُ مَندُوحةٌ أم لا، أو ما وَقَعَ في النَّثرِ للتناسبِ أو السَّجعِ علَى خِلافِ ذلِك"[2]. أو يمكنُ القَولُ إنَّها مُخالفةٌ لِقَواعِدَ مِعيارِيَّةٍ وَضَعَها النَّحويونَ، وخالَفَها الشُّعراءُ، وخَرَجُوا بِها عن الأصلِ امتِثالاً لِمُتَطلَّباتِ الشِّعرِ مِن وَزنٍ وقافِيةٍ ومُوسِيقا.
ثمَّ تَطوَّرَ مَفهُومُ الضَّرُورةِ بَعدَ مَرحلةِ التَّدوينِ في القَرنِ الهِجرِيِّ الثَّانِي، وظُهُورِ مُصنَّفاتٍ فِي النَّحو، وهذا الفَهْمُ أَتَى مِن تَصَوُّرِ النَّحويِينَ أَمثالَ سِيبوَيهِ (ت180هـ)، والمبرِّد (ت285هـ)، وابنِ السراج (ت316هـ)، وابنِ جنيٍّ (ت392هـ) فأخَذَتْ مُصطَلَحاتٍ جَدِيدةً، نحو: الخُرُوجُ عنِ القاعِدةِ، والشُّذوذُ، والعُدُولُ النَّحويُّ، وغيرُها مِن مُصطَلَحاتٍ تُفيدُ خُصُوصِيَّةً فِي لُغةِ الشِّعرِ امتَازَتْ بِها عنِ لُغةِ النَّثرِ.
وتَعنِي الضَّرُورَةُ أَيضَاً الشُّذُوذَ، فَمِنْ رَحِمِ الضَّرُورةِ وُلِدَ مُصطَلَحُ الشُّذُوذِ الَّذِي ضَاقَ مَفهُومُهُ وانحصَرَ، واختَصَّ بَعدَ ذلكَ بِالشَّاهِدِ النَّحويِّ الشِّعري غالِباً، وهُنا فِي هذا الاتِّجاهِ صَارَ القَولُ بالضرورَةِ والشُّذُوذِ واحِداً، فكُلٌّ مِنهُما يَعنِي الخُروجَ والمُخالَفَةَ، والبُعدَ عنِ القَواعِدِ المَرعيَّةِ فِي الكَلامِ.
وانحصَرَ مَفهُومُ الشُّذُوذِ كَثيراً لِيُفهَمَ مِنهُ أنَّهُ الضَّرُورةُ الَّتِي كَسَرَتِ القَاعِدةَ الَّتي علَيها الكَلامُ فِي لُغةِ النَّثرِ أولاً، ولُغةِ الشِّعرِ ثانياً، فالشُّذُوذُ هُوَ مُخالَفةُ القَاعِدةِ النَّحويَّةِ، ومِنْ هُنا فَكُلُّ شُذُوذٍ ضَرُورَةٌ، ولَيسَ كُلُّ ضَرُورةٍ شُذُوذاً، فصارَ الشُّذُوذُ خُروجاً علَى بَعضِ قَواعِدِ النحويينَ، وهذا خطاٌ لا ينقاسُ علَيهِ.
لم يعرِّفْ سِيبَوَيه الضَّرورةَ الشِّعريَّةَ تَعريفاً دَقِيقاً، ولكِنْ يُفهَمُ مِن كلامِهِ فِي: (بابِ ما يَحتَمِلُ الشِّعرَ) أنَّه يجوزُ لِلشَّاعِرِ فِي الشِّعرِ ما لا يَجُوزُ لَهُ فِي الكَلامِ، شَرِيطةَ أنْ يَضطرَّ إلَى ذلِكَ، ولا يَكُونُ لَهُ بُدٌّ مِنهُ، وأنْ يَكُونَ فيهِ رَدُّ فَرعٍ إلَى أَصلٍ، أو تَشبيهُ غَيرِ جائِزٍ بِجائِزٍ، فَقَالَ: " اعلَمْ أنَّهُ يَجُوزُ في الشِّعرِ ما لا يَجُوزُ فِي الكَلامِ مِن صَرفِ ما لا يَنصَرِفُ، يُشبِّهُونَهُ بِما يَنصَرِفُ مِن الأَسماءِ، وحَذفِ ما لا يُحذَفُ، يُشبِّهُونَهُ بِما قَد حُذِفَ واستُعمِلَ مَحذُوفاً "[3].
وفي موضِعٍ ثانٍ يلجأُ إلَى الضرورة فَيُجري الشِّعرَ علَى الأَصلِ، فَقَالَ: "كما قالُوا حِينَ اضطرُّوا فِي الشِّعرِ فَأَجرَوهُ علَى الأَصلِ، قالَ الشَّاعِرُ الهُذَلِيُّ: (من الوافر)
أَبِيْتُ علَى مَعَارِيَ واضِحاتٍ
بِهِنَّ مُلَوَّبٌ كَدَمِ العِباطِ[4]
وقالَ الفَرزدقُ: (من الطويل)
فَلَو كانَ عبدُ اللهِ مَولَى هَجَوْتُهُ
ولَكِنَّ عبدَ اللهِ مولَى مَوَالِيا[5]
فلمَّا اضطرُّوا إلى ذلك فِي مَوضِعٍ لا بُدَّ لَهُم فِيهِ مِن الحَرَكةِ أَخرجُوهُ علَى الأصلِ.
قالَ الشَّاعرُ بنُ قَيسٍ الرُّقِيّاتِ: (من المنسرح)
لا بارَكَ اللهُ فِي الغَوانِيِ هلْ
يُصبِحْنَ إلَّا لَهُنَّ مُطَّلَبُ[6]
وقالَ وأنشدَنِي أعرابِيٌّ مِن بَنِي كُلَيبٍ، لِجرير: (من الطويل)
فَيَوماً يُوافِينِي الهَوى غَيرَ ماضِيٍ
ويَوماً تَرَى مِنهُنَّ غُولاً تَغَوَّلُ[7]
[1] لسان العرب: ابن منظور، محمد بن مكرم الإفريقي المصري (ت711هـ)، دار صادر، بيروت، 1956م، مادة: "ضرر ".
[2] الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر: محمود شكري الآلوسي، شرح محمد بهجت الأثري، المطبعة السلفية، القاهرة، 1341هـ، ص6.
[3] الكتاب: سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر (ت180هـ)، تحقيق: عبدالسلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط4، 1425هــ-2004م، 1 : 26.
[4] والشاهد فيه " معاري " أجراه في حال الجرِّ مجرى السالم. والصحيح: معارٍ بحذف الياء، لأنه اسمٌ منقوص،نكرة، ولكنَّه حذفها تجنباً للزحاف.
[5] الكتاب 3: 313، والشاهد فيه إجراؤه " موالي " على الأصل للضرورة، وحقُّه حذف الألف.
[6] الكتاب 3: 314.. والشاهد فيه: تحريك الياءِ من " الغواني " وجعلها على الأصل ضرورة. وينظر المقتضب للمبرد 1 :144. والخصائص 3: 159.
[7] ديوان جرير بن عطية: تحقيق: نعمان أمين طه، دار المعارف، القاهرة، 1976م، ص 457.وينظر الكتاب 3: 314. والشاهد فيه: تحريك الياء في " ماضي " جرَّاً ضرورة.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/83835/#ixzz3cYCylBpD