{ الـم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ }
هذه الآيات القرآنية الكريمة جاءت في مطلع سورة الروم, وهي سورة مكية يدور محورها الرئيسي حول قضية العقيدة, شأنها في ذلك شأن كل القرآن المكي.
ومن قضايا العقيدة الأساسية الإيمان بوحدانية الخالق -سبحانه وتعالى-, وبوحدة الرسالة, ووحدة الخلق, والإيمان بالآخرة وأهوالها, ومنها هول البعث, وهول الحساب, وهول الميزان, وهول الصراط, وحتمية الجزاء, وحتمية الخلود في الحياة القادمة إما في الجنة أبداً أو في النار أبداً...!!
وقد ابتدأت السورة الكريمة بالتنبؤ بحدث غيبي قبل وقوعه بعدة سنوات، ألا وهو انتصار الروم على الفرس بعد هزيمتهم أمامهم قبل نزول هذه السورة المباركة بعدة سنوات. وتزخر السورة بالأمر بتسبيح الله, وتنزيهه وحمده, وبالاستشهاد بعدد كبير من الآيات الكونية الدالة على طلاقة قدرته وشمول علمه, وعدل قضائه...!!
وتنصح السورة النبي والرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- بأن يقيم وجهه لدين الإسلام الحنيف, الذي لايرتضي ربنا -تبارك وتعالى- من عباده ديناً سواه, لأنه دين الفطرة التي فطر الله -تعالى- الناس عليها, والتي لاتبديل لها, وإن كان أكثر الناس لايعلمون ذلك, وتأمر المسلمين بالإنابة إلى الله وتقواه, كما تأمرهم بإقام الصلاة, وبالحذر من الوقوع في دنس الشرك بالله, لأن الذين أشركوا قد فرقوا دينهم, وكانوا شيعاً عديدة حسب أهوائهم, وكل حزب منهم فرح بما لديه...!!!
وتحدثت السورة الكريمة عن شيء من التقلب في طبائع النفس البشرية, والذي لاتستقيم معه الحياة السوية, مثل اللجوء إلى الله تعالى في الشدة, والإعراض عنه في الرخاء, والإيمان به -تعالى- في لحظات الضيق, والشرك أو الكفر به -تعالى- وبما أنزل في لحظات السعة والرحمة. وتضرب السورة مثلاً للناس من حياتهم على سخافة فكرة الشرك بالله إذا ناقشها العقل بشيء من الموضوعية والحيدة.
ومن مكارم الأخلاق التي تدعو إليها السورة الكريمة: الأمر بإخراج الزكاة وإيتاء ذي القربى, والمساكين وأبناء السبيل, والنهي عن أكل الربا, على أن ينطلق ذلك كله من الايمان بأن الله -تعالى- هو الخالق, الرزاق, المحيي, المميت, وتربط السورة بين ظهور الفساد في البر والبحر وبين أعمال الناس وما كسبت أيديهم, وتأمر بالسير في الأرض لاستخلاص العبر من سير الأولين, ومصائر الظالمين.
وتؤكد السورة مرة ثانية لخاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- ضرورة الاستقامة على الدين القيم من قبل أن تأتي الآخرة فيصدع بها كل الخلائق ثم يجزى كلٌ بعمله.
ومن الآيات الكونية التي استشهدت بها سورة الروم على طلاقة القدرة الإلهية: خلق السماوات والأرض, وخلق الأحياء, وخلق الإنسان, كل ذلك في زوجية تشهد للخالق وحده -سبحانه- بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه, ومنها اختلاف ألسنة الناس وألوانهم, وإعطاء الإنسان الاستطاعة على النوم بالليل أو في النهار, وعلى ابتغاء فضل الله, ومن آياته الرعد والبرق, وإنزال المطر, وإحياء الأرض بعد موتها, وقيام السماوات والأرض بأمره, وخضوع كل من فيها أو عليها بأمره, وبعث الموتى بأمره, وأنه هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده, وله المثل الأعلى في السماوات والأرض.
ومن آياته إرسال الرياح برحمة منه وفضل, وجري الفلك بأمره, وإثارة السحاب, وما يستتبعه من أحداث بأمره, ومرور كل حي بمراحل من الضعف, ثم القوة, ثم الضعف والوفاة, ومن آياته أنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير...!!
وتذكر السورة خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- بشيء من قصص من سبقه من الأنبياء والمرسلين, وما أصاب أقوامهم من انتقام من الظالمين, ونصر للمؤمنين, كما تذكره -صلوات الله وسلامه عليه- بأن ما عليه إلا البلاغ.
وتختتم السورة الكريمة مرة أخرى بالحديث عن البعث وأهواله, وعن مصير أهل الكفر والشرك والضلال في هذا اليوم العصيب, ومصير أهل الإيمان والتقوى, وتكرر الإشارة إلى شيء من طبائع النفس البشرية, وقد ضربت لها آيات القرآن الكريم من كل مثل, ولكن الذين كفروا لايؤمنون, فالله تعالى قد طبع على قلوب الذين لايعلمون.
وتنتهي السورة بتثبيت خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- بوصية من الله تعالى له بالصبر على استخفاف الكفار والمشركين بدعوته, والاطمئنان بأن وعد الله حق, وهو واقع لا محالة...!!
والآيات الكونية الواردة في سورة الروم تحتاج إلى مجلدات لتفصيل دلالاتها, ولإظهار جوانب الإعجاز العلمي فيها, ولكني سأقتصر في هذا المقال على الإشارة القرآنية إلى الموقع الذي هزمت فيه جيوش الروم على أيدي جيوش الفرس بالتعبير: أدنى الأرض, وقبل الدخول في ذلك لابد من عرض الدلالة اللغوية لهذا التعبير ولأقوال المفسرين فيه.
أدنى الأرض في اللغة العربية
يقال في اللغة:(دنا)(يدنو)(دنوا) بمعنى قَرُبَ بالذات أو بالحكم, ويستعمل في المكان, والزمان, والمنزلة, كما يعدي فيقال (أدني) (يدني) (ادناءة), ويقال: (دانيت) أو(أدنيت) بين الأمرين أي قاربت بينهما, حتى صارت بينهما(دناوة) أي: قرب أو قرابة.. و(الدني) القريب , و(الدنئ) بمعنى الدون, الخسيس, وقد(دنأ)(يدنأ), وفيهما(دناءة), ويقال:(دنؤ) بمعني انحط, و(الدنيئة) هي النقيصة.
قال تعالى { وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } [الأنعام:99].
وقال سبحانه { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [ النجم:9-8].
وفي الحديث الشريف: « إذا أكلتم فأدنوا » أي كلوا مما يليكم. ويعبر بـ(الأدنى) تارة عن الأقرب فيقابل بالأبعد (أوالأقصى) من مثل قوله تعالى { إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى } [الأنفال:42].
وتارة ثانية يعبر بها عن الأخفض (أوالأحقر) فيقابل بالأعلى (أوالأعز) وذلك من مثل قوله تعالى { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } [الأحزاب:59].
وتارة ثالثة تأتي بمعنى الأقل في مقابل الأكثر, من مثل قوله تعالى { وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ } [ المجادلة:7] وتارة رابعة يعبر بها عن الأرذل فيقابل بالذي هو خير, وذلك من مثل قوله تعالى { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } [البقرة:61]
وتارة خامسة يعبر بها عن الأولى (الدنيا) في مقابلة الآخرة وذلك من مثل قوله تعالى { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } [آل عمران:152]
وسميت (الدنيا) بهذا الاسم لدنوها, والجمع (الُّدنا) , وأصله الدنو فحذفت الواو لاجتماع الساكنين, والنسبة إليها(دنياي), وقيل(دنيوي) ودني, ويقال:(تدنى) فلان أي( دنا) قليلاً قليلاً, و(تدنى) المستوى بمعني هبط, و(تدانوا) أي(دنا) بعضهم من بعض.
شروح المفسرين
في تفسير قوله تعالى: { الـم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [الروم:1 ـ5].
ذكر ابن كثير -يرحمه الله- قول ابن عباس -رضي الله عنهما- حيث قال: كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أصحاب أوثان, وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس, لأنهم كانوا من أهل الكتاب, فذُكِرَ ذلك لأبي بكر -رضي الله عنه-, فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما إنهم سيُغلبون » , فذكره أبو بكر للمشركين, فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً, فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا, وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا, فجعل أجل خمس سنين, فلم يظهروا, فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ألا جعلتها إلى دون العشر؟), ثم ظهرت الروم بعد, قال فذلك قوله تعالى { الـم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ }
وأضاف ابن كثير عدة روايات أخرى للحديث عن كل من مسروق, وابن مسعود, وعكرمة، -رضي الله عنهم أجمعين- في المعنى نفسه, وزاد قوله: وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم, ويقال لهم بنو الأصفر, وكانوا على دين اليونان; واليونان من سلالة يافث بن نوح أبناء عم الترك, وكانوا يعبدون الكواكب السيارة, وهم الذين أسسوا دمشق وبنوا معبدها, فكان الروم على دينهم إلى بعد مبعث المسيح -عليه السلام- بنحو من ثلاثمائة سنة, وكان من ملك منهم الشام مع الجزيرة يقال له(قيصر); فكان أول من دخل في دين النصارى من الروم( قسطنطين); وأمه مريم الهيلانية من أرض حران وكانت قد تنصَّرت قبله فدعته إلى دينها... واستمروا على النصرانية, كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده حتى كان آخرهم(هرقل)، فناوأه كسرى ملك الفرس, وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر, وكانوا مجوساَ يعبدون النار, فتقدم عن عكرمة -رضي الله عنه- أنه قال: بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه, والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره, وكسره وقصره حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه, ولم يقدر كسرى على فتح البلدة, ولا أمكنه ذلك لحصانتها, لأن نصفها من ناحية البر, ونصفها الآخر من ناحية البحر, فكانت تأتيهم الميرة والمدد من هناك, ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين وهي تسع, فإن البضع في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع.
وذكر صاحبا تفسير الجلالين -يرحمهما الله- كلاماً موجزاً في المعنى نفسه, وأضافا تعليقاً على التعبير القرآني { فِي أَدْنَى الأَرْضِ } أن المقصود به: (أقرب أرض الروم إلى فارس بالجزيرة, التقى فيها الجيشان, والباديء بالغزو(هم) الفرس...).
وجاء في الظلال -رحم الله كاتبها رحمة واسعة- ما نصه:
"ثم جاءت النبوءة الصادقة الخاصة بغلبة الروم في بضع سنين، وأضاف رواية عبدالله بن مسعود (رضي الله عنه) مؤكداً أن هذا الحادث قد وردت فيه روايات كثيرة, تتفق كلها في المعنى والدلالة, وتختلف في الألفاظ وطرائق التعبير".
وجمع الكاتب -رحمه الله- من هذه الآيات القرآنية الكريمة عدداً من الإيحاءات منها: الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان; ومنها الثقة المطلقة في وعد الله كما تبدو في قولة أبي بكر -رضي الله عنه- في غير تلعثم ولا تردد, والمشركون يعجبون من قول صاحبه, فما يزيد على أن يقول: صدق, ويراهنونه فيراهن وهو واثق, ثم يتحقق وعد الله, في الأجل الذي حدده: في بضع سنين.
والإيحاء الثالث وهو المسارعة برد الأمر كله لله, في هذا الحادث وفي سواه, وتقرير هذه الحقيقة الكلية, لتكون ميزان الموقف, وميزان كل موقف, فالنصر والهزيمة, وظهور الدول ودثورها, وقوتها وضعفها, شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال, مرده كله إلى الله.
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن ما نصه: احتربت الفرس والروم فيما بين أذرعات وبصري من أرض الروم يومئذ, وهما أقرب أراضيها بالنسبة إلى مكة, وكان ذلك قبل الهجرة بخمس سنين, وقيل بست. فظهر الفرس على الروم, فلما بلغ الخبر مكة شق على المؤمنين, لأن الفرس مجوس لا يدينون بكتاب, والروم أهل كتاب; وفرح المشركون وقالوا: أنتم والنصارى أهل كتاب, ونحن والفرس أمِّيون, وقد ظهر إخواننا على إخوانكم, ولنظهرن نحن عليكم, فنزلت الآية وفيها: أن الروم سيغلبون الفرس في بضع سنين. والبضع: ما بين الثلاث إلى التسع و { غلبهم } كونهم مغلوبين.
وجاء في المنتخب في تفسير القرآن الكريم ما نصه: غلبت فارس الروم في أقرب الأرض من العرب, وهي أطراف الشام, وهم بعد انهزامهم سيغلبون الفرس, قبل أن تمضي تسع سنوات. وكان المشركون قد فرحوا بانتصار فارس, وقالوا للمسلمين: سنغلبكم كما غلبت فارس الروم التي هي من أهل الكتاب، وقد حقق الله وعده فانتصر الروم على فارس في الأجل الذي سماه, فكان ذلك آية بينة على صدق محمد -صلى الله عليه وسلم- في دعواه وصحة ما جاء به.
وجاء في الهامش التعليق التالي: في هذه الآيات الشريفة إشارة إلى حدثين: كان أولهما قد وقع بالفعل, وأما الثاني فلم يكن قد وقع بعد, وهو إخبار عن الغيب، وحُدِّدَ لوقوعه بضع سنين فيما بين الثلاث والتسع.
وتفصيل الحدث الأول أن الفرس والبيزنطيين قد اشتبكوا في معركة في بلاد الشام على أيام خسروا أبرويز أو خسروا الثاني عاهل الفرس المعروف عند العرب بكسرى. وهيراكليوس الصغير الإمبراطور الروماني المعروف عند العرب بهرقل; ففي عام 614 م استولى الفرس على أنطاكية أكبر المدن في الأقاليم الشرقية للإمبراطورية الرومانية, ثم على دمشق, وحاصروا مدينة بيت المقدس إلى أن سقطت في أيديهم وأحرقوها ونهبوا السكان وأخذوا يذبحونهم.
وتفصيل الحدث الثاني أن هرقل قيصر الروم الذي مني جيشه بالهزيمة، لم يفقد الأمل في النصر, ولهذا أخذ يعد نفسه لمعركة تمحو عار الهزيمة, حتى إذا كان عام622 الميلادي (أي العام الهجري الأول) أُرْغِمَ الفرس على خوض معركة على أرض أرمينيا وكان النصر حليف الروم, وهذا النصر كان فاتحة انتصارات الروم على الفرس... فتحققت بشرى القرآن.
وثمة حدث ثالث يفهم من سياق هذه الآيات الشريفة كان مبعث فرح المسلمين، وهو انتصارهم على مشركي قريش في غزوة بدر التي وقعت في يوم الجمعة17 رمضان من العام الثاني الهجري (أي سنة624 م).
وجاء في صفوة التفاسير ما نصه:" { غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأَرْضِ } أي هزم جيش الروم في أقرب أرضهم إلى فارس { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } أي وهم من بعد انهزامهم وغلبة فارس لهم سيغلبون الفرس, وينتصرون عليهم { فِي بِضْعِ سِنِينَ } أي في فترة لا تتجاوز بضعة أعوام; والبضع ما بين الثلاث والتسع.
وأشار صاحب صفوة التفاسير -جزاه الله خيراً- إلى أقوال المفسرين السابقين وعلق على قوله تعالى: { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ } ما نصه: وقد التقى الجيشان في السنة السابعة من الحرب, وغلبت الروم فارس وهزمتهم, وفرح المسلمون بذلك; قال أبو السعود: وهذه الآيات من البينات الباهرة, الشاهدة بصحة النبوة, وكون القرآن من عند الله عز وجل حيث أخبر عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله العليم الخبير, ووقع كما أخبر, وقال البيضاوي: والآية من دلائل النبوة لأنها إخبار عن الغيب.
وأضاف صاحب صفوة التفاسير في شرح قول الحق تبارك وتعالى: { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ } ما نصه: وقد صادف ذلك اليوم يوم غزوة بدر; قال ابن عباس: كان يوم بدر هزيمة عبدة الأوثان, وعبدة النيران.
ويوم بدر وقع في السنة الثانية من الهجرة (الموافق سنة624 م), وعلى ذلك فإن هزيمة الروم على أيدي الفرس لابد وأنها كانت قد وقعت في حدود سنة614 م إلى615 م.
وجاء في أطلس تاريخ الإسلام -على واضعه رحمة الله- ما نصه:"وعندما تولى هرقل عرش الروم سنة610 م (وهي سنة البعثة المحمدية) كان الفرس قد اجتاحوا بلاد الشام ومصر وهزموا البيزنطيين سنة613 م عند أنطاكية, واستولوا على فلسطين والقدس سنة614 م, وغزوا مصر ودخلوا الإسكندرية سنة618 م أو619 م, وبعد أن أقام هرقل دولته بدأ قتال الفرس سنة622 م, وفي سنة627 م أنزل بهم هزيمة قاصمة قرب نينوى, واسترد منهم أراضي الدولة البيزنطية في أرمينيا والشام وفلسطين ومصر, وفي سنة630 م استعاد بيت المقدس.
ومن استقراء كل هذه التواريخ السابقة يتضح أن هزيمة الروم الحقيقية على أيدي جيوش الفرس كانت في حدود سنة614 م إلى615 م, وأن استعادتهم النصر على الفرس كانت في حدود سنة624 م, واستمر تقدم الروم على أرض الفرس حتى تم لهم استعادة بيت المقدس.
وواضح من شروح المفسرين أن المقصود بالتعبير القرآني { فِي أَدْنَى الأَرْضِ } الذي يصف أرض المعركة التي تمت فيها هزيمة الروم أمام جحافل جيش الفرس هو أقرب الأرض إلى مكة المكرمة أو إلى الجزيرة العربية أو إلى أرض الفرس.. ولكن الدراسات الحديثة تؤكد أن منطقة حوض البحرالميت, بالاضافة إلى كونها أقرب الأراضي التي كان الروم يحتلونها إلى الجزيرة العربية هي أيضا أكثر أجزاء اليابسة انخفاضاً, حيث يصل منسوب سطح الأرض فيها إلى حوالي الأربعمائة متر تحت متوسط مستوى سطح البحر, وأن هذه المنطقة كانت من مناطق الصراع بين إمبراطوريتي الفرس والروم, وأن المعركة الحاسمة التي أظهرت جيوش الفرس على جيوش إمبراطورية روما الشرقية (الإمبراطورية البيزنطية) لابد أنها وقعت في حوض البحرالميت, وأن الوصف بـ { أَدْنَى الأَرْضِ } هنا كما يعني أقربها للجزيرة العربية, يعني أيضاً أنها أكثر أجزاء اليابسة انخفاضاً, وهذه الإشارة القرآنية العابرة تعتبر من السبق العلمي في كتاب الله, لأن أحداً لم يكن يعلم هذه الحقيقة في زمن الوحي بالقرآن الكريم, ولا لقرون متطاولة من بعده.
ومن قضايا العقيدة الأساسية الإيمان بوحدانية الخالق -سبحانه وتعالى-, وبوحدة الرسالة, ووحدة الخلق, والإيمان بالآخرة وأهوالها, ومنها هول البعث, وهول الحساب, وهول الميزان, وهول الصراط, وحتمية الجزاء, وحتمية الخلود في الحياة القادمة إما في الجنة أبداً أو في النار أبداً...!!
وقد ابتدأت السورة الكريمة بالتنبؤ بحدث غيبي قبل وقوعه بعدة سنوات، ألا وهو انتصار الروم على الفرس بعد هزيمتهم أمامهم قبل نزول هذه السورة المباركة بعدة سنوات. وتزخر السورة بالأمر بتسبيح الله, وتنزيهه وحمده, وبالاستشهاد بعدد كبير من الآيات الكونية الدالة على طلاقة قدرته وشمول علمه, وعدل قضائه...!!
وتنصح السورة النبي والرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- بأن يقيم وجهه لدين الإسلام الحنيف, الذي لايرتضي ربنا -تبارك وتعالى- من عباده ديناً سواه, لأنه دين الفطرة التي فطر الله -تعالى- الناس عليها, والتي لاتبديل لها, وإن كان أكثر الناس لايعلمون ذلك, وتأمر المسلمين بالإنابة إلى الله وتقواه, كما تأمرهم بإقام الصلاة, وبالحذر من الوقوع في دنس الشرك بالله, لأن الذين أشركوا قد فرقوا دينهم, وكانوا شيعاً عديدة حسب أهوائهم, وكل حزب منهم فرح بما لديه...!!!
وتحدثت السورة الكريمة عن شيء من التقلب في طبائع النفس البشرية, والذي لاتستقيم معه الحياة السوية, مثل اللجوء إلى الله تعالى في الشدة, والإعراض عنه في الرخاء, والإيمان به -تعالى- في لحظات الضيق, والشرك أو الكفر به -تعالى- وبما أنزل في لحظات السعة والرحمة. وتضرب السورة مثلاً للناس من حياتهم على سخافة فكرة الشرك بالله إذا ناقشها العقل بشيء من الموضوعية والحيدة.
ومن مكارم الأخلاق التي تدعو إليها السورة الكريمة: الأمر بإخراج الزكاة وإيتاء ذي القربى, والمساكين وأبناء السبيل, والنهي عن أكل الربا, على أن ينطلق ذلك كله من الايمان بأن الله -تعالى- هو الخالق, الرزاق, المحيي, المميت, وتربط السورة بين ظهور الفساد في البر والبحر وبين أعمال الناس وما كسبت أيديهم, وتأمر بالسير في الأرض لاستخلاص العبر من سير الأولين, ومصائر الظالمين.
وتؤكد السورة مرة ثانية لخاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- ضرورة الاستقامة على الدين القيم من قبل أن تأتي الآخرة فيصدع بها كل الخلائق ثم يجزى كلٌ بعمله.
ومن الآيات الكونية التي استشهدت بها سورة الروم على طلاقة القدرة الإلهية: خلق السماوات والأرض, وخلق الأحياء, وخلق الإنسان, كل ذلك في زوجية تشهد للخالق وحده -سبحانه- بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه, ومنها اختلاف ألسنة الناس وألوانهم, وإعطاء الإنسان الاستطاعة على النوم بالليل أو في النهار, وعلى ابتغاء فضل الله, ومن آياته الرعد والبرق, وإنزال المطر, وإحياء الأرض بعد موتها, وقيام السماوات والأرض بأمره, وخضوع كل من فيها أو عليها بأمره, وبعث الموتى بأمره, وأنه هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده, وله المثل الأعلى في السماوات والأرض.
ومن آياته إرسال الرياح برحمة منه وفضل, وجري الفلك بأمره, وإثارة السحاب, وما يستتبعه من أحداث بأمره, ومرور كل حي بمراحل من الضعف, ثم القوة, ثم الضعف والوفاة, ومن آياته أنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير...!!
وتذكر السورة خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- بشيء من قصص من سبقه من الأنبياء والمرسلين, وما أصاب أقوامهم من انتقام من الظالمين, ونصر للمؤمنين, كما تذكره -صلوات الله وسلامه عليه- بأن ما عليه إلا البلاغ.
وتختتم السورة الكريمة مرة أخرى بالحديث عن البعث وأهواله, وعن مصير أهل الكفر والشرك والضلال في هذا اليوم العصيب, ومصير أهل الإيمان والتقوى, وتكرر الإشارة إلى شيء من طبائع النفس البشرية, وقد ضربت لها آيات القرآن الكريم من كل مثل, ولكن الذين كفروا لايؤمنون, فالله تعالى قد طبع على قلوب الذين لايعلمون.
وتنتهي السورة بتثبيت خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- بوصية من الله تعالى له بالصبر على استخفاف الكفار والمشركين بدعوته, والاطمئنان بأن وعد الله حق, وهو واقع لا محالة...!!
والآيات الكونية الواردة في سورة الروم تحتاج إلى مجلدات لتفصيل دلالاتها, ولإظهار جوانب الإعجاز العلمي فيها, ولكني سأقتصر في هذا المقال على الإشارة القرآنية إلى الموقع الذي هزمت فيه جيوش الروم على أيدي جيوش الفرس بالتعبير: أدنى الأرض, وقبل الدخول في ذلك لابد من عرض الدلالة اللغوية لهذا التعبير ولأقوال المفسرين فيه.
أدنى الأرض في اللغة العربية
يقال في اللغة:(دنا)(يدنو)(دنوا) بمعنى قَرُبَ بالذات أو بالحكم, ويستعمل في المكان, والزمان, والمنزلة, كما يعدي فيقال (أدني) (يدني) (ادناءة), ويقال: (دانيت) أو(أدنيت) بين الأمرين أي قاربت بينهما, حتى صارت بينهما(دناوة) أي: قرب أو قرابة.. و(الدني) القريب , و(الدنئ) بمعنى الدون, الخسيس, وقد(دنأ)(يدنأ), وفيهما(دناءة), ويقال:(دنؤ) بمعني انحط, و(الدنيئة) هي النقيصة.
قال تعالى { وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } [الأنعام:99].
وقال سبحانه { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [ النجم:9-8].
وفي الحديث الشريف: « إذا أكلتم فأدنوا » أي كلوا مما يليكم. ويعبر بـ(الأدنى) تارة عن الأقرب فيقابل بالأبعد (أوالأقصى) من مثل قوله تعالى { إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى } [الأنفال:42].
وتارة ثانية يعبر بها عن الأخفض (أوالأحقر) فيقابل بالأعلى (أوالأعز) وذلك من مثل قوله تعالى { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } [الأحزاب:59].
وتارة ثالثة تأتي بمعنى الأقل في مقابل الأكثر, من مثل قوله تعالى { وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ } [ المجادلة:7] وتارة رابعة يعبر بها عن الأرذل فيقابل بالذي هو خير, وذلك من مثل قوله تعالى { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } [البقرة:61]
وتارة خامسة يعبر بها عن الأولى (الدنيا) في مقابلة الآخرة وذلك من مثل قوله تعالى { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } [آل عمران:152]
وسميت (الدنيا) بهذا الاسم لدنوها, والجمع (الُّدنا) , وأصله الدنو فحذفت الواو لاجتماع الساكنين, والنسبة إليها(دنياي), وقيل(دنيوي) ودني, ويقال:(تدنى) فلان أي( دنا) قليلاً قليلاً, و(تدنى) المستوى بمعني هبط, و(تدانوا) أي(دنا) بعضهم من بعض.
شروح المفسرين
في تفسير قوله تعالى: { الـم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [الروم:1 ـ5].
ذكر ابن كثير -يرحمه الله- قول ابن عباس -رضي الله عنهما- حيث قال: كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أصحاب أوثان, وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس, لأنهم كانوا من أهل الكتاب, فذُكِرَ ذلك لأبي بكر -رضي الله عنه-, فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما إنهم سيُغلبون » , فذكره أبو بكر للمشركين, فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً, فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا, وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا, فجعل أجل خمس سنين, فلم يظهروا, فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ألا جعلتها إلى دون العشر؟), ثم ظهرت الروم بعد, قال فذلك قوله تعالى { الـم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ }
وأضاف ابن كثير عدة روايات أخرى للحديث عن كل من مسروق, وابن مسعود, وعكرمة، -رضي الله عنهم أجمعين- في المعنى نفسه, وزاد قوله: وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم, ويقال لهم بنو الأصفر, وكانوا على دين اليونان; واليونان من سلالة يافث بن نوح أبناء عم الترك, وكانوا يعبدون الكواكب السيارة, وهم الذين أسسوا دمشق وبنوا معبدها, فكان الروم على دينهم إلى بعد مبعث المسيح -عليه السلام- بنحو من ثلاثمائة سنة, وكان من ملك منهم الشام مع الجزيرة يقال له(قيصر); فكان أول من دخل في دين النصارى من الروم( قسطنطين); وأمه مريم الهيلانية من أرض حران وكانت قد تنصَّرت قبله فدعته إلى دينها... واستمروا على النصرانية, كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده حتى كان آخرهم(هرقل)، فناوأه كسرى ملك الفرس, وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر, وكانوا مجوساَ يعبدون النار, فتقدم عن عكرمة -رضي الله عنه- أنه قال: بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه, والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره, وكسره وقصره حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه, ولم يقدر كسرى على فتح البلدة, ولا أمكنه ذلك لحصانتها, لأن نصفها من ناحية البر, ونصفها الآخر من ناحية البحر, فكانت تأتيهم الميرة والمدد من هناك, ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين وهي تسع, فإن البضع في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع.
وذكر صاحبا تفسير الجلالين -يرحمهما الله- كلاماً موجزاً في المعنى نفسه, وأضافا تعليقاً على التعبير القرآني { فِي أَدْنَى الأَرْضِ } أن المقصود به: (أقرب أرض الروم إلى فارس بالجزيرة, التقى فيها الجيشان, والباديء بالغزو(هم) الفرس...).
وجاء في الظلال -رحم الله كاتبها رحمة واسعة- ما نصه:
"ثم جاءت النبوءة الصادقة الخاصة بغلبة الروم في بضع سنين، وأضاف رواية عبدالله بن مسعود (رضي الله عنه) مؤكداً أن هذا الحادث قد وردت فيه روايات كثيرة, تتفق كلها في المعنى والدلالة, وتختلف في الألفاظ وطرائق التعبير".
وجمع الكاتب -رحمه الله- من هذه الآيات القرآنية الكريمة عدداً من الإيحاءات منها: الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان; ومنها الثقة المطلقة في وعد الله كما تبدو في قولة أبي بكر -رضي الله عنه- في غير تلعثم ولا تردد, والمشركون يعجبون من قول صاحبه, فما يزيد على أن يقول: صدق, ويراهنونه فيراهن وهو واثق, ثم يتحقق وعد الله, في الأجل الذي حدده: في بضع سنين.
والإيحاء الثالث وهو المسارعة برد الأمر كله لله, في هذا الحادث وفي سواه, وتقرير هذه الحقيقة الكلية, لتكون ميزان الموقف, وميزان كل موقف, فالنصر والهزيمة, وظهور الدول ودثورها, وقوتها وضعفها, شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال, مرده كله إلى الله.
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن ما نصه: احتربت الفرس والروم فيما بين أذرعات وبصري من أرض الروم يومئذ, وهما أقرب أراضيها بالنسبة إلى مكة, وكان ذلك قبل الهجرة بخمس سنين, وقيل بست. فظهر الفرس على الروم, فلما بلغ الخبر مكة شق على المؤمنين, لأن الفرس مجوس لا يدينون بكتاب, والروم أهل كتاب; وفرح المشركون وقالوا: أنتم والنصارى أهل كتاب, ونحن والفرس أمِّيون, وقد ظهر إخواننا على إخوانكم, ولنظهرن نحن عليكم, فنزلت الآية وفيها: أن الروم سيغلبون الفرس في بضع سنين. والبضع: ما بين الثلاث إلى التسع و { غلبهم } كونهم مغلوبين.
وجاء في المنتخب في تفسير القرآن الكريم ما نصه: غلبت فارس الروم في أقرب الأرض من العرب, وهي أطراف الشام, وهم بعد انهزامهم سيغلبون الفرس, قبل أن تمضي تسع سنوات. وكان المشركون قد فرحوا بانتصار فارس, وقالوا للمسلمين: سنغلبكم كما غلبت فارس الروم التي هي من أهل الكتاب، وقد حقق الله وعده فانتصر الروم على فارس في الأجل الذي سماه, فكان ذلك آية بينة على صدق محمد -صلى الله عليه وسلم- في دعواه وصحة ما جاء به.
وجاء في الهامش التعليق التالي: في هذه الآيات الشريفة إشارة إلى حدثين: كان أولهما قد وقع بالفعل, وأما الثاني فلم يكن قد وقع بعد, وهو إخبار عن الغيب، وحُدِّدَ لوقوعه بضع سنين فيما بين الثلاث والتسع.
وتفصيل الحدث الأول أن الفرس والبيزنطيين قد اشتبكوا في معركة في بلاد الشام على أيام خسروا أبرويز أو خسروا الثاني عاهل الفرس المعروف عند العرب بكسرى. وهيراكليوس الصغير الإمبراطور الروماني المعروف عند العرب بهرقل; ففي عام 614 م استولى الفرس على أنطاكية أكبر المدن في الأقاليم الشرقية للإمبراطورية الرومانية, ثم على دمشق, وحاصروا مدينة بيت المقدس إلى أن سقطت في أيديهم وأحرقوها ونهبوا السكان وأخذوا يذبحونهم.
وتفصيل الحدث الثاني أن هرقل قيصر الروم الذي مني جيشه بالهزيمة، لم يفقد الأمل في النصر, ولهذا أخذ يعد نفسه لمعركة تمحو عار الهزيمة, حتى إذا كان عام622 الميلادي (أي العام الهجري الأول) أُرْغِمَ الفرس على خوض معركة على أرض أرمينيا وكان النصر حليف الروم, وهذا النصر كان فاتحة انتصارات الروم على الفرس... فتحققت بشرى القرآن.
وثمة حدث ثالث يفهم من سياق هذه الآيات الشريفة كان مبعث فرح المسلمين، وهو انتصارهم على مشركي قريش في غزوة بدر التي وقعت في يوم الجمعة17 رمضان من العام الثاني الهجري (أي سنة624 م).
وجاء في صفوة التفاسير ما نصه:" { غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأَرْضِ } أي هزم جيش الروم في أقرب أرضهم إلى فارس { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } أي وهم من بعد انهزامهم وغلبة فارس لهم سيغلبون الفرس, وينتصرون عليهم { فِي بِضْعِ سِنِينَ } أي في فترة لا تتجاوز بضعة أعوام; والبضع ما بين الثلاث والتسع.
وأشار صاحب صفوة التفاسير -جزاه الله خيراً- إلى أقوال المفسرين السابقين وعلق على قوله تعالى: { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ } ما نصه: وقد التقى الجيشان في السنة السابعة من الحرب, وغلبت الروم فارس وهزمتهم, وفرح المسلمون بذلك; قال أبو السعود: وهذه الآيات من البينات الباهرة, الشاهدة بصحة النبوة, وكون القرآن من عند الله عز وجل حيث أخبر عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله العليم الخبير, ووقع كما أخبر, وقال البيضاوي: والآية من دلائل النبوة لأنها إخبار عن الغيب.
وأضاف صاحب صفوة التفاسير في شرح قول الحق تبارك وتعالى: { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ } ما نصه: وقد صادف ذلك اليوم يوم غزوة بدر; قال ابن عباس: كان يوم بدر هزيمة عبدة الأوثان, وعبدة النيران.
ويوم بدر وقع في السنة الثانية من الهجرة (الموافق سنة624 م), وعلى ذلك فإن هزيمة الروم على أيدي الفرس لابد وأنها كانت قد وقعت في حدود سنة614 م إلى615 م.
وجاء في أطلس تاريخ الإسلام -على واضعه رحمة الله- ما نصه:"وعندما تولى هرقل عرش الروم سنة610 م (وهي سنة البعثة المحمدية) كان الفرس قد اجتاحوا بلاد الشام ومصر وهزموا البيزنطيين سنة613 م عند أنطاكية, واستولوا على فلسطين والقدس سنة614 م, وغزوا مصر ودخلوا الإسكندرية سنة618 م أو619 م, وبعد أن أقام هرقل دولته بدأ قتال الفرس سنة622 م, وفي سنة627 م أنزل بهم هزيمة قاصمة قرب نينوى, واسترد منهم أراضي الدولة البيزنطية في أرمينيا والشام وفلسطين ومصر, وفي سنة630 م استعاد بيت المقدس.
ومن استقراء كل هذه التواريخ السابقة يتضح أن هزيمة الروم الحقيقية على أيدي جيوش الفرس كانت في حدود سنة614 م إلى615 م, وأن استعادتهم النصر على الفرس كانت في حدود سنة624 م, واستمر تقدم الروم على أرض الفرس حتى تم لهم استعادة بيت المقدس.
وواضح من شروح المفسرين أن المقصود بالتعبير القرآني { فِي أَدْنَى الأَرْضِ } الذي يصف أرض المعركة التي تمت فيها هزيمة الروم أمام جحافل جيش الفرس هو أقرب الأرض إلى مكة المكرمة أو إلى الجزيرة العربية أو إلى أرض الفرس.. ولكن الدراسات الحديثة تؤكد أن منطقة حوض البحرالميت, بالاضافة إلى كونها أقرب الأراضي التي كان الروم يحتلونها إلى الجزيرة العربية هي أيضا أكثر أجزاء اليابسة انخفاضاً, حيث يصل منسوب سطح الأرض فيها إلى حوالي الأربعمائة متر تحت متوسط مستوى سطح البحر, وأن هذه المنطقة كانت من مناطق الصراع بين إمبراطوريتي الفرس والروم, وأن المعركة الحاسمة التي أظهرت جيوش الفرس على جيوش إمبراطورية روما الشرقية (الإمبراطورية البيزنطية) لابد أنها وقعت في حوض البحرالميت, وأن الوصف بـ { أَدْنَى الأَرْضِ } هنا كما يعني أقربها للجزيرة العربية, يعني أيضاً أنها أكثر أجزاء اليابسة انخفاضاً, وهذه الإشارة القرآنية العابرة تعتبر من السبق العلمي في كتاب الله, لأن أحداً لم يكن يعلم هذه الحقيقة في زمن الوحي بالقرآن الكريم, ولا لقرون متطاولة من بعده.