وقد علموا - حفظك الله - أن لك مع طول الباد راكباً طول الظهر جالساً ولكن بينهم فيك إذا قمت اختلاف وعليك لهم إذا اضطجعت مسائل.
ومن غريب ما أعطيت ومن بديع ما أوتيت أنا لم نر مقدوداً واسع الجفرة غيرك ولا رشيقاً مستفيض الخاصرة سواك.
فأنت المديد وأنت البسيط وأنت الطويل وأنت المتقارب.
فيا شعراً جمع الأعاريض ويا شخصاً جمع الاستدارة والطول.
بل ما يهمك من أقاويلهم ويتعاظمك من اختلافهم والراسخون في العلم والناطقون بالفهم يعلمون أن استفاضة عرضك قد أدخلت الضيم على ارتفاع سمكك وأن ما ذهب منك عرضاً قد استغرق ما ذهب منك طولاً.
ولئن اختلفوا في طولك لقد اتفقوا في عرضك.
وإن كانوا قد سلموا لك بالرغم شطراً فقد حصلت ما سلموا وأنت على دعواك فيما لم يسلموا.
ولعمري إن العيون لتخطىء وإن الحواس لتكذب وما الحكم القاطع إلا للذهن وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل إذ كان زماماً على الأعضاء وعياراً على الحواس.
ومما يثبت أيضاً أن ظاهر عرضك مانع من إدراك حقيقة طولك قول أبي داوود الإيادي في إبله: سمنت فاستحش أكرعها لا ال ني ني ولا السنام سنام ولو لم يكن فيك من العجب إلا أنك أول من عوده الله تعالى بالصبر على خطاء الحس وبالشكر على صواب الذهن لقد كنت في طولك غاية للعالمين وفي عرضك مناراً للمضلين.
وقد تظلم المربوع مثلي من الطويل مثل عمر ومن القصير مثل عمرو إذ زعم أنه أفرط في الرشاقة ونسب إلى القضاضة لأن إفراط عرضه غمر الاعتدال من طوله وكلاهما يحتاج إلى الاعتذار ويفتقر إلى الاعتدال.
والمربوع بحمد الله تعالى قد اعتدلت أجزاؤه في الحقيقة كما اعتدلت في المنظر فقد استغنى بعز الحقيقة عن الاعتذار وبحكم الظاهر عن الاعتلال.
وقد سمعنا من يذم الطوال كما سمعنا من يزري على القصار ولم نسمع أحداً ذم مربوعاً ولا أزرى عليه ولا وقف عنده ولا شك فيه.
ومن يذمه إلا من ذم الاعتدال ومن يزري عليه إلا من أزرى على الاقتصاد ومن ينصب للصواب الظاهر إلا المعاند ومن يماري في العيان إلا الجاهل بل من يزري على أحد بتفاقم التركيب وبسوء التنضيد مع قول الله عز وجل: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ".
وبعد فأي قد أردأ وأي نظام أفسد من عرض مجاوز للقدر أو طول مجاوز للقصد.
ومتى يضرب العرض بسهمه على قدر حقه ويأخذ الطول من نصيبه على مثل وزنه خرج الجسم من ولو جاز هذا الوصف وحسن هذا النعت كان لإبراهيم بن السندي من الفضيلة ما ليس لأحمد بن عبد الوهاب.
وهذا كله بعد أن يصدقوك على ما ادعيت لطولك في الحقيقة واحتججت به لعرضك في الحكومة.
كما أنك بإعمالك لما ينفيه العيان واستشهادك لما تنكره الأذهان معترض للصدق من المتكرم ومتحكك بالحلم من المتغافل.
وأي صامت لا ينطقه هذا المذهب وأي ناطق لا يغريه هذا القول.
وإذا كان هذا ناقضاً لعزم المتسلم فما ظنك بعادة المتكلف.
فأنشدك الله أن تغري بك السفهاء وتنقض عزائم الحكماء.
وما أدري - حفظك الله - بأي الأمرين أنت أعظم إثماً وفي أيهما أنت أفحش ظلماً: أبتعرضك للعوام أم بإفسادك حكم الخواص.
وبعد فما يحوجك إلى هذا وما يدعوك إليه وأشباهك من القصار كثير ومن ينصرك منهم غير قليل.
فصل
وقلت: ولولا فضيلة العرض على الطول لما وصف الله تعالى وعز وجل الجنة بالعرض دون الطول حيث يقول: " وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ".
فهذا برهانك الواضح.
ولو لم يكن فيك من الرضا والتسليم ومن القناعة والإخلاص إلا أنك ترى ما عند الله خيراً لك مما عند الناس وأن الطول الخفي أحب إليك من الطول الظاهر لكان في ذلك ما يقضي لك بالإنصاف ويحكم لك بالتوفيق.
وأنا - أبقاك الله - أعشق إنصافك كما تعشق المرأة الحسناء وأتعلم خضوعك للحق كما أتعلم التفقه في الدين.
ولربما ظننت أن جورك إنصاف قوم آخرين وأن تعقدك سماح رجال منصفين.
وما أظنك صرت إلى معارضة الحجة بالشبهة ومقابلة الاختيار بالاضطرار واليقين بالشك واليقظة بالحلم إلا للذي خصصت به من إيثار الحق وألهمته من فضيلة الإنصاف حتى صرت أحوج ما تكون إلى الإنكار أذعن ما تكون بالإقرار وأشد ما تكون إلى الحيلة فقراً أشد ما تكون للحجة طلباً.
غير أن ذلك بطرف ساكن وصوت خاضع وقلب جامع وجأش رابط ونية جسور وإرادة تامة مع غفلة كريم وفطنة عليم.
إن انقطع خصمك تغافلت وإن خرق ترفقت غير منخوب ولا متشعب ولا مدخول ولا مشترك ولا ناقص النفس ولا واهن العزم ولا حسود ولا منافس ولا مغالب ولا معاقب.
تفل الحز وتصيب المفصل وتقرب البعيد وتظهر الخفي وتميز الملتبس وتلخص المشكل وتعطي المعنى حقه من اللفظ كما تعطي اللفظ حظه من المعنى.
وتحب المعنى إذا كان حياً يلوح وظاهراً يصيح وتبغضه مستهلكاً بالتعقيد ومستوراً بالتغريب.
وتزعم أن شر الألفاظ ما غرق المعاني وأخفاها وسترها وعماها وإن راقت سمع الغمر واستمالت قلب الريض.
أعجب الألفاظ عندك ما رق وعذب وخف وسهل وكان موقوفاً على معناه ومقصوراً عليه دون ما سواه.
لا فاضل ولا مقصر ولا مشترك ولا مستغلق قد جمع خصال البلاغة واستوفى خلال المعرفة.
فإذا كان الكلام على هذه الصفة وألف على هذه الشريطة لم يكن اللفظ أسرع إلى السمع من المعنى إلى القلب وصار السامع كالقائل والمتعلم كالمعلم وخفت المؤنة واستغنى عن الفكرة وماتت الشبهة وظهرت الحجة واستبدلوا بالخلاف وفاقاً وبالمجاذبة موادعة وتهنئوا بالعلم وتقنعوا ببرد اليقين واطمأنوا بثلج الصدور وبان المنصف من المعاند وتميز الناقص من الوافر وذل الخطل وعز المحصل وبدت عورة المبطل وظهرت براءة المحق.
وقلت: والناس وإن قالوا في الحسن: كأنه طاقة ريحان أو خوط آس وكأنه قضيب خيزران وكأنه غصن بان وكأنه رمح رديني وكأنه صفيحة يمان وكأنه سيف هندواني وكأنه جان وكأنه جدل عنان فقد قالوا: كأنه المشتري وكأن وجهه دينار هرقلي.
وما هو إلا البحر وما هو إلا الغيث.
وكأنه الشمس وكأنها دارة القمر وكأنها الزهرة وكأنها درة وكأنها غمامة وكأنها مهاة.
وقد نراهم وصفوا المستدير والعريض بأكثر مما وصفوا القضيف الطويل.
وقلت: ووجدنا الأفلاك وما فيها والأرض وما عليها على التدوير دون التطويل كذلك الورق والحب والثمر والشجر.
وقلت: والرمح وإن طال فإن التدوير عليه أغلب لأن التدوير قائم فيه موصلاً ومفصلا والطول لا يوجد فيه إلا موصلا ومفصلاً.
وكذلك الإنسان وجميع الحيوان.
وقلت: ولا يوجد التربيع إلا في المصنوع دون المخلوق وفما أكره على تركيبه دون ما خلي وسوم طبيعته.
وعلى أن كل مربع ففي جوفه مدور فقد بان المدور بفضله وشارك المطول في حصته.
ومن العجب أنك تزعم أنك طويل في الحقيقة ثم تحتج للعرض والاستدارة وقد أضربت عما عند الله صفحاً ولهجت بما عند الناس.
فأما حور العين فقد انفردت بحسنه وذهبت ببهجته وملحه إلا ما أبانك الله تعالى به من الشكلة فإنها لا تكون في اللئام ولا تفارق الكرام.
وأما سواد الناظر وحسن المحاجر وهدب الأشفار ورقة حواشي الأجفان فعلى أصل عنصرك ومجاري أعراقك.
وأما إدراكك الشخص البعيد وقراءتك الكتاب الدقيق ونقش الخاتم قبل الطابع وفهم المشكل قبل التأمل مع وهن الكبرة وتقادم الميلاد ومع تخون الأيام وتنقص الأزمان فمن توتيا الهند ولترك الجماع ومن الحمية الشديدة وطول استقبال الخضرة فأنت يا عم عندما تصلح ما أفسده الدهر وتسترجع ما أخذته الأيام لكما قال الشاعر: عجوز ترجي أن تكون فتية وقد لحب الجنبان واحدودب الظهر تدس إلى العطار سلعةأهلها ولن يصلح العطار ما أفسد الدهر وكيف أطمع في نزوعك عن اللجاج وقد منعتنيه قبله.
وكيف أرجو إقرارك جهراً وقد أبيته سراً وكيف تجود به صحيحاً مطمعاً وقد بخلت به مريضاً مؤيساً.
وكيف يرجو خيرك من رآك تطاول أبا جعفر وتحاسنه وتنافره وتراهنه ثم لا تفعل ذلك إلا في المحافل العظام وبحضرة كبار الحكام ثم تستغرب ضحكاً من طمعه فيك وتعجب الناس من وأشهد لك بعد هذا أنك ستحاسن عمراً الجاحظ وتعاقله ثم تظارفه وتطاوله وتتغنى مع مخارق وتنكر فضل زبزب وتستجهل النظام وتستغبي قيس بن زهير وتستخف الأحنف بن قيس وتبارز علي بن أبي طالب ثم تخرج من حد الغلبة إلى حد المراء ومن حد الأحياء إلى حدود الموتى.
هذا وليس لك مساعد ولا معك شاهد واحد ولا رأيت أحداً يقف في الحكم عليك أو ينتظر تحقيق دعواك ولا رأيت منكراً يخليك من التأنيب ولا مؤنباً يخليك من الوعيد ولا موعداً يخليك من الإيقاع ولا موقعاً يرثي لك ولا شافعاً يشفع فيك.
يا عم لم تحملنا على الصدق ولم تجرعنا مرارة الحق ولم تعرضنا لأداء الواجب ولم تستكثر من الشهود عليك ولم تحمل الإخوان على خلاف محبتهم فيك اجعل بدل ما تجني على نفسك أن تجني على عدوك وبدل ما يضطر الناس أن يصدقوا فيك أن تضطرهم إلى أن يمسكوا عنك.
ولا بد - يرحمك الله - لمن فاته الطول من أن يلقي بيده إنما يقول خلاف ما يجده في نفسه.
فوالله إنك لجيد الهامة وفي ذلك خلف لحسن القامة.
وإنك لحسن الحظ وفي ذلك عوض من حسن اللفظ.
وإنك لتجد مقالاً وإنك لتعد خصالاً.
فقل معروفاً فإنا من أعوانك واقتصد فإنا من أنصارك.
وهات فإنك لو أسرفت لقلنا قد اقتصدت ولو جرت لقلنا قد اهتديت ولكنك تجيء بشيء " تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً ".
لو غششناك لساعدناك ولو نافقناك لأغريناك.
ومن غريب ما أعطيت ومن بديع ما أوتيت أنا لم نر مقدوداً واسع الجفرة غيرك ولا رشيقاً مستفيض الخاصرة سواك.
فأنت المديد وأنت البسيط وأنت الطويل وأنت المتقارب.
فيا شعراً جمع الأعاريض ويا شخصاً جمع الاستدارة والطول.
بل ما يهمك من أقاويلهم ويتعاظمك من اختلافهم والراسخون في العلم والناطقون بالفهم يعلمون أن استفاضة عرضك قد أدخلت الضيم على ارتفاع سمكك وأن ما ذهب منك عرضاً قد استغرق ما ذهب منك طولاً.
ولئن اختلفوا في طولك لقد اتفقوا في عرضك.
وإن كانوا قد سلموا لك بالرغم شطراً فقد حصلت ما سلموا وأنت على دعواك فيما لم يسلموا.
ولعمري إن العيون لتخطىء وإن الحواس لتكذب وما الحكم القاطع إلا للذهن وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل إذ كان زماماً على الأعضاء وعياراً على الحواس.
ومما يثبت أيضاً أن ظاهر عرضك مانع من إدراك حقيقة طولك قول أبي داوود الإيادي في إبله: سمنت فاستحش أكرعها لا ال ني ني ولا السنام سنام ولو لم يكن فيك من العجب إلا أنك أول من عوده الله تعالى بالصبر على خطاء الحس وبالشكر على صواب الذهن لقد كنت في طولك غاية للعالمين وفي عرضك مناراً للمضلين.
وقد تظلم المربوع مثلي من الطويل مثل عمر ومن القصير مثل عمرو إذ زعم أنه أفرط في الرشاقة ونسب إلى القضاضة لأن إفراط عرضه غمر الاعتدال من طوله وكلاهما يحتاج إلى الاعتذار ويفتقر إلى الاعتدال.
والمربوع بحمد الله تعالى قد اعتدلت أجزاؤه في الحقيقة كما اعتدلت في المنظر فقد استغنى بعز الحقيقة عن الاعتذار وبحكم الظاهر عن الاعتلال.
وقد سمعنا من يذم الطوال كما سمعنا من يزري على القصار ولم نسمع أحداً ذم مربوعاً ولا أزرى عليه ولا وقف عنده ولا شك فيه.
ومن يذمه إلا من ذم الاعتدال ومن يزري عليه إلا من أزرى على الاقتصاد ومن ينصب للصواب الظاهر إلا المعاند ومن يماري في العيان إلا الجاهل بل من يزري على أحد بتفاقم التركيب وبسوء التنضيد مع قول الله عز وجل: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ".
وبعد فأي قد أردأ وأي نظام أفسد من عرض مجاوز للقدر أو طول مجاوز للقصد.
ومتى يضرب العرض بسهمه على قدر حقه ويأخذ الطول من نصيبه على مثل وزنه خرج الجسم من ولو جاز هذا الوصف وحسن هذا النعت كان لإبراهيم بن السندي من الفضيلة ما ليس لأحمد بن عبد الوهاب.
وهذا كله بعد أن يصدقوك على ما ادعيت لطولك في الحقيقة واحتججت به لعرضك في الحكومة.
كما أنك بإعمالك لما ينفيه العيان واستشهادك لما تنكره الأذهان معترض للصدق من المتكرم ومتحكك بالحلم من المتغافل.
وأي صامت لا ينطقه هذا المذهب وأي ناطق لا يغريه هذا القول.
وإذا كان هذا ناقضاً لعزم المتسلم فما ظنك بعادة المتكلف.
فأنشدك الله أن تغري بك السفهاء وتنقض عزائم الحكماء.
وما أدري - حفظك الله - بأي الأمرين أنت أعظم إثماً وفي أيهما أنت أفحش ظلماً: أبتعرضك للعوام أم بإفسادك حكم الخواص.
وبعد فما يحوجك إلى هذا وما يدعوك إليه وأشباهك من القصار كثير ومن ينصرك منهم غير قليل.
فصل
وقلت: ولولا فضيلة العرض على الطول لما وصف الله تعالى وعز وجل الجنة بالعرض دون الطول حيث يقول: " وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ".
فهذا برهانك الواضح.
ولو لم يكن فيك من الرضا والتسليم ومن القناعة والإخلاص إلا أنك ترى ما عند الله خيراً لك مما عند الناس وأن الطول الخفي أحب إليك من الطول الظاهر لكان في ذلك ما يقضي لك بالإنصاف ويحكم لك بالتوفيق.
وأنا - أبقاك الله - أعشق إنصافك كما تعشق المرأة الحسناء وأتعلم خضوعك للحق كما أتعلم التفقه في الدين.
ولربما ظننت أن جورك إنصاف قوم آخرين وأن تعقدك سماح رجال منصفين.
وما أظنك صرت إلى معارضة الحجة بالشبهة ومقابلة الاختيار بالاضطرار واليقين بالشك واليقظة بالحلم إلا للذي خصصت به من إيثار الحق وألهمته من فضيلة الإنصاف حتى صرت أحوج ما تكون إلى الإنكار أذعن ما تكون بالإقرار وأشد ما تكون إلى الحيلة فقراً أشد ما تكون للحجة طلباً.
غير أن ذلك بطرف ساكن وصوت خاضع وقلب جامع وجأش رابط ونية جسور وإرادة تامة مع غفلة كريم وفطنة عليم.
إن انقطع خصمك تغافلت وإن خرق ترفقت غير منخوب ولا متشعب ولا مدخول ولا مشترك ولا ناقص النفس ولا واهن العزم ولا حسود ولا منافس ولا مغالب ولا معاقب.
تفل الحز وتصيب المفصل وتقرب البعيد وتظهر الخفي وتميز الملتبس وتلخص المشكل وتعطي المعنى حقه من اللفظ كما تعطي اللفظ حظه من المعنى.
وتحب المعنى إذا كان حياً يلوح وظاهراً يصيح وتبغضه مستهلكاً بالتعقيد ومستوراً بالتغريب.
وتزعم أن شر الألفاظ ما غرق المعاني وأخفاها وسترها وعماها وإن راقت سمع الغمر واستمالت قلب الريض.
أعجب الألفاظ عندك ما رق وعذب وخف وسهل وكان موقوفاً على معناه ومقصوراً عليه دون ما سواه.
لا فاضل ولا مقصر ولا مشترك ولا مستغلق قد جمع خصال البلاغة واستوفى خلال المعرفة.
فإذا كان الكلام على هذه الصفة وألف على هذه الشريطة لم يكن اللفظ أسرع إلى السمع من المعنى إلى القلب وصار السامع كالقائل والمتعلم كالمعلم وخفت المؤنة واستغنى عن الفكرة وماتت الشبهة وظهرت الحجة واستبدلوا بالخلاف وفاقاً وبالمجاذبة موادعة وتهنئوا بالعلم وتقنعوا ببرد اليقين واطمأنوا بثلج الصدور وبان المنصف من المعاند وتميز الناقص من الوافر وذل الخطل وعز المحصل وبدت عورة المبطل وظهرت براءة المحق.
وقلت: والناس وإن قالوا في الحسن: كأنه طاقة ريحان أو خوط آس وكأنه قضيب خيزران وكأنه غصن بان وكأنه رمح رديني وكأنه صفيحة يمان وكأنه سيف هندواني وكأنه جان وكأنه جدل عنان فقد قالوا: كأنه المشتري وكأن وجهه دينار هرقلي.
وما هو إلا البحر وما هو إلا الغيث.
وكأنه الشمس وكأنها دارة القمر وكأنها الزهرة وكأنها درة وكأنها غمامة وكأنها مهاة.
وقد نراهم وصفوا المستدير والعريض بأكثر مما وصفوا القضيف الطويل.
وقلت: ووجدنا الأفلاك وما فيها والأرض وما عليها على التدوير دون التطويل كذلك الورق والحب والثمر والشجر.
وقلت: والرمح وإن طال فإن التدوير عليه أغلب لأن التدوير قائم فيه موصلاً ومفصلا والطول لا يوجد فيه إلا موصلا ومفصلاً.
وكذلك الإنسان وجميع الحيوان.
وقلت: ولا يوجد التربيع إلا في المصنوع دون المخلوق وفما أكره على تركيبه دون ما خلي وسوم طبيعته.
وعلى أن كل مربع ففي جوفه مدور فقد بان المدور بفضله وشارك المطول في حصته.
ومن العجب أنك تزعم أنك طويل في الحقيقة ثم تحتج للعرض والاستدارة وقد أضربت عما عند الله صفحاً ولهجت بما عند الناس.
فأما حور العين فقد انفردت بحسنه وذهبت ببهجته وملحه إلا ما أبانك الله تعالى به من الشكلة فإنها لا تكون في اللئام ولا تفارق الكرام.
وأما سواد الناظر وحسن المحاجر وهدب الأشفار ورقة حواشي الأجفان فعلى أصل عنصرك ومجاري أعراقك.
وأما إدراكك الشخص البعيد وقراءتك الكتاب الدقيق ونقش الخاتم قبل الطابع وفهم المشكل قبل التأمل مع وهن الكبرة وتقادم الميلاد ومع تخون الأيام وتنقص الأزمان فمن توتيا الهند ولترك الجماع ومن الحمية الشديدة وطول استقبال الخضرة فأنت يا عم عندما تصلح ما أفسده الدهر وتسترجع ما أخذته الأيام لكما قال الشاعر: عجوز ترجي أن تكون فتية وقد لحب الجنبان واحدودب الظهر تدس إلى العطار سلعةأهلها ولن يصلح العطار ما أفسد الدهر وكيف أطمع في نزوعك عن اللجاج وقد منعتنيه قبله.
وكيف أرجو إقرارك جهراً وقد أبيته سراً وكيف تجود به صحيحاً مطمعاً وقد بخلت به مريضاً مؤيساً.
وكيف يرجو خيرك من رآك تطاول أبا جعفر وتحاسنه وتنافره وتراهنه ثم لا تفعل ذلك إلا في المحافل العظام وبحضرة كبار الحكام ثم تستغرب ضحكاً من طمعه فيك وتعجب الناس من وأشهد لك بعد هذا أنك ستحاسن عمراً الجاحظ وتعاقله ثم تظارفه وتطاوله وتتغنى مع مخارق وتنكر فضل زبزب وتستجهل النظام وتستغبي قيس بن زهير وتستخف الأحنف بن قيس وتبارز علي بن أبي طالب ثم تخرج من حد الغلبة إلى حد المراء ومن حد الأحياء إلى حدود الموتى.
هذا وليس لك مساعد ولا معك شاهد واحد ولا رأيت أحداً يقف في الحكم عليك أو ينتظر تحقيق دعواك ولا رأيت منكراً يخليك من التأنيب ولا مؤنباً يخليك من الوعيد ولا موعداً يخليك من الإيقاع ولا موقعاً يرثي لك ولا شافعاً يشفع فيك.
يا عم لم تحملنا على الصدق ولم تجرعنا مرارة الحق ولم تعرضنا لأداء الواجب ولم تستكثر من الشهود عليك ولم تحمل الإخوان على خلاف محبتهم فيك اجعل بدل ما تجني على نفسك أن تجني على عدوك وبدل ما يضطر الناس أن يصدقوا فيك أن تضطرهم إلى أن يمسكوا عنك.
ولا بد - يرحمك الله - لمن فاته الطول من أن يلقي بيده إنما يقول خلاف ما يجده في نفسه.
فوالله إنك لجيد الهامة وفي ذلك خلف لحسن القامة.
وإنك لحسن الحظ وفي ذلك عوض من حسن اللفظ.
وإنك لتجد مقالاً وإنك لتعد خصالاً.
فقل معروفاً فإنا من أعوانك واقتصد فإنا من أنصارك.
وهات فإنك لو أسرفت لقلنا قد اقتصدت ولو جرت لقلنا قد اهتديت ولكنك تجيء بشيء " تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً ".
لو غششناك لساعدناك ولو نافقناك لأغريناك.