أولا : نبذة عن حال العالم الإسلامى قبل نور الدين محمود :
ظهر نور الدين محمود على مسرح الأحداث في النصف الأول من القرن السادس الهجري، والناس في أشد الحاجة إلى مثله ليأخذ بيدهم من حلكة الظلام الدامس الذي اكتنف بلادهم، منذ أن وطئتها أقدام الصليبيون، ودنست أرجلهم مدينة القدس، ولم تلمع في الأفق بوادر الأمل وإشراقات الصباح؛ فالفوضى تعم بلاد الشام، والأمراء والحكام مشغولون بأنفسهم وأطماعهم، والمحتل الوافد ترتفع قامته على خلافات المسلمين وتطاحنهم وتزداد قوته بتناحرهم وتنازعهم، ولولا بقية من أمل ظلت تعمل في قلوب بعض المخلصين لحدث ما لا تحمد عقباه.
وجاء أول بصيص للأمل مع ظهور "عماد الدين زنكي" الذي استطاع بقدرته وكفاءته أن يلي الموصل وأن يثبّت أقدامه فيها، ونجح في أن يمد سلطانه إلى نصيبين وحران، وهيأ نفسه لكي يقوم بحركة الجهاد ضد الصليبيين، وأدرك أن ذلك لن يتحقق ما لم تتحدد القوى الإسلامية في العراق والشام، فتطلع إلى حلب وكانت غارقة في بحر من الفوضى بعد وفاة أتابكها "عز الدين مسعود البرسقي"، ويتنازع عليها السلاجقة(ارجع لموضوع ألب أرسلان) والصليبيون للاستيلاء عليها، فتحرك عماد الدين وأفسد على الطامعين خططهم ووضع يده على حلب في سنة (522هـ = 1128م) ثم لم يلبث أن تعثرت خطاه بفعل الصراعات الداخلية في المنطقة التي أشعلها بعض الأمراء ضده؛ خوفا من ازدياد نفوذه في شمالي الشام والعراق، فقضى زمنا يدفع تلك الأخطار عن نفسه حتى تمكن من بسط نفوذه وترسيخ أقدامه، واحتاج ذلك وقتا طويلا استهلك من عمره سبع سنوات قبل أن يفرغ لمنازلة الصليبيين، حتى تمكن من فتح مدينة الرها سنة (538هـ = 1144م) وكان ذلك ضربة قوية للكيان الصليبي؛ لأن الرها كانت أولى الإمارات الصليبية التي تأسست في الشرق إبان الحملة الصليبية الأولى، ولم يهمل القدر عماد الدين لكي يواصل أعماله، حيث اغتالته يد الغدر في (6 من ربيع الثاني 541هـ = 14 من سبتمبر 1147م) على يد خادمه الخائن عند حصاره لقلعة جعبر .
ثانيا : نبذة عن بطلنا :
ولد نور الدين محمود في (17 من شوال 511هـ = 11 من فبراير 1118م) وهو ثاني أولاد عماد الدين زنكي بعد سيف الدين غازي، وقد تأثر أبناء عماد الدين بما كان لأبيهم من خلال وفضائل، فكانوا جميعا من رجال الجهاد وفرسانه، على تفاوت في ذلك بينهم.]
وبعد وفاة عماد الدين زنكي اقتسم ولداه: سيف الدين غازي ونور الدين محمود دولته، فاستقر الأول بالموصل وثبّت أقدامه بها، وانفرد الآخر بحكم حلب، وكان الحد الفاصل بين أملاك الأخوين هو نهر الخابور، وكان كلا الأخوين مؤهلا لما وجهته له الأقدار، فكان سيف الدين غازي صاحب سياسة وأناة، على حين كان نور الدين مجاهدا مخلصا جياش العاطفة صادق الإيمان، ميالا إلى جمع كلمة المسلمين وإخراج الأعداء من ديار المسلمين، مفطورا على الرقة ورهافة الشعور؛ وهو ما جذب الناس إليه، وحبب القلوب فيه.وكان على نور الدين أن يواصل سياسة أبيه في جهاد الصليبيين، يدفعه إلى ذلك طبيعته المفطورة على حب الجهاد، وملازمته لأبيه في حروبه معهم. وقرب إمارته في حلب من الصليبيين جعله أكثر الناس إحساسا بالخطر الصليبي
.ثالثا: جهاده ضد الصليبيين :
استهل نور الدين حكمه بالقيام ببعض الهجمات على إمارة إنطاكية الصليبية، واستولى على عدة قلاع في شمال الشام، ثم قضى على محاولة "جوسلين الثاني" لاستعادة الرها التي فتحها عماد الدين زنكي وكانت هزيمة الصليبيين في الرها أشد من هزيمتهم الأولى، وعاقب نور الدين من خان المسلمين من أرمن الرها، وخاف بقية أهل البلد من المسيحيين على أنفسهم فغادروها.
وكان نور الدين دائم السعي إلى استمالة القوى الإسلامية المتعددة في شمال العراق والشام وكسب ودها وصداقتها؛ لتستطيع مواجهة العدو الصليبي، فعقد معاهدة مع "معين الدين أنر" حاكم دمشق سنة (541هـ = 1147م) وتزوج ابنته عصمة الدين خاتون ، فلما تعرض أنر لخطر الصليبيين وكانت تربطه بهم معاهدة وحلف لم يجد غير نور الدين يستجير به، فخرج إليه، وسارا معا واستوليا على بصرى وصرخند قبل أن يقعا في يد الصليبيين، ثم غادر نور الدين دمشق؛ حتى يبعث في قلب حاكمها الأمان، وأنه لا يفكر إلا في القضاء على الصليبيين؛ فتوجه إلى حصون إمارة إنطاكية، واستولى على أرتاح وكفر لاثا وبصرفوت.
و على أثر ذلك ملك الرعب قلوب الصليبيين من نور الدين، وأدركوا أنهم أمام رجل لا يقل كفاءة وقدرة عن أبيه عماد الدين، وكانوا قد ظنوا أنهم قد استراحوا بموته، لكن أملهم تبدد أمام حماسة ابنه وشجاعته، وكانت سنه إذ ذاك تسعا وعشرين سنة، لكنه أوتي من الحكمة والتدبير خيرا كثيرا.
وفي سنة (542هـ = 1147م) وصلت الحملة الصليبية الثانية على الشام بزعامة لويس السابع وكونراد الثالث، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها وتعرضت لخسائر هائلة، وعجزت عن احتلال دمشق بعد حصار طويل لها، ويرجع الفضل في ذلك لصبر المجاهدين واجتماع كلمة جيش المسلمين ووحدة صفهم، وكان للقوات التي جاءت مع سيف الدين غازي وأخيه نور الدين أكبر الأثر في فشل تلك الحملة، واستغل نور الدين هذه النكبة التي حلّت بالصليبيين وضياع هيبتهم للهجوم على إنطاكية بعد أن ازداد نفوذه في الشام، فهاجم في سنة (544هـ=1149م) الإقليم المحيط بقلعة حارم الواقعة على الضفة الشرقية لنهر العاصي، ثم حاصر قلعة إنب، فنهض "ريموند دي بواتيه" صاحب إنطاكية لنجدتها، والتقى الفريقان في (21 من صفر 544هـ= آخر يونيو 1149م) ونجح المسلمون في تحقيق النصر وأبادوا الصليبيين عن آخرهم، وكان من جملة القتلى صاحب إنطاكية وغيره من قادة الفرنج وكان فرح المسلمون بهذا النصر عظيما.
آمن نور الدين بضرورة وحدة الصف، وانتظام القوى الإسلامية المبعثرة بين الفرات والنيل حتى تقف كالبنيان المرصوص أمام أطماع الصليبيين، وكانت دمشق تقف حجرة عثرة في طريق تلك الوحدة، وكان معين الدين أنر صاحب السلطة الفعلية في دمشق يرتبط بعلاقات ودية مع الصليبيين ومعاهدات وتحالفات، وبعد وفاته قام "مجير الدين أبق" بحكم دمشق، وجرى على سياسة أنر في التعامل مع الصليبيين، بل أظهر ضعفا ومذلة في التعامل معهم، وأعرض عن وحدة الصف وجمع الكلمة، وبلغ الهوان به أن وافق على أن يدفع أهل دمشق ضريبة سنوية للصليبيين مقابل حمايتهم، وصار رسل الفرنجة يدخلون دمشق لجمع الجزية المفروضة دون أن يستشعر حاكمها خجلا أو هوانا.
ولم يسكت نور الدين على هذا الوضع المهين، واستثمر شعور الغضب الذي أبداه الدمشقيون، ونجح بمساعدتهم في الإطاحة بمجير الدين أبق وضم دمشق إلى دولته في سنة (549هـ = 1154م) وكانت هذه الخطوة حاسمة في تاريخ الحروب الصليبية؛ حيث توحدت بلاد الشام تحت زعامة نور الدين: من الرها شمالا حتى حوران جنوبا، واتزنت الجبهة الإسلامية مع الجبهة الصليبية التي كانت تستغل حالة التشتت والتشرذم، وتوجه ضرباتها إلى دولة الإسلام حتى إن نور الدين لم يستطع نجدة عسقلان عندما هاجمها الصليبيون سنة (548هـ = 1153م) لأن دمشق كانت تقف حائلا دون تحقيق ذلك.
بعد نجاح نور الدين في تحقيق المرحلة الأولى من توحيد الجبهة الإسلامية لم يعد أمام الصليبيين للغزو والتوسع سوى طريق الجنوب بعد أن أحكم نور الدين سيطرته على شمالي العراق والشام؛ ولذا تطلع الصليبيون إلى مصر باعتبارها الميدان الجديد لتوسعهم، وشجعهم على ذلك أن الدولة الفاطمية(العبيدية الشيعية الإسماعيلية) في مصر تعاني سكرات الموت فاستولوا على عسقلان، وكان ذلك إيذانا بمحاولتهم غزو مصر، مستغلين الفوضى في البلاد، وتحولت نياتهم إلى عزم حيث قام "بلدوين الثالث" ملك بيت المقدس بغزو مصر سنة (558هـ = 1163م) محتجا بعدم التزام الفاطميين بدفع الجزية له، غير أن حملته فشلت وأجبر على الانسحاب
.وأثارت هذه الخطوة الجريئة مخاوف نور الدين، فأسرع بشن حملات على الصليبيين في الشام حتى يشغلهم عن الاستعداد لغزو مصر، ودخل في سباق مع الزمن للفوز بمصر، فأرسل عدة حملات إليها تحت قيادة "أسد الدين شيركوه" وبصحبته ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، ابتدأت من سنة (559هـ = 1164م) واستمرت نحو خمس سنوات حتى نجحت بعد سباق محموم مع الصليبيين في الظفر بمصر سنة (564هـ = 1169م) وتولى شيركوه الوزارة للخليفة "العاضد" آخر الخلفاء الفاطميين(ما حدث هو أن الوزير شاور استعان في بادئ الأمر بنور الدين محمود بعدما استعان غريمه ضرغام بملك بيت المقدس الصليبي بلدوين و وعد نور الدين بإعطائه ثلث خراج مصر و أن يكون لنور الدين حامية عسكرية فيها و فعلا انتصر جيش نور الدين الذي يقوده أسد الدين شيركوه و صلاح الدين على جيش ضرغام و بعد ذلك حاول شاور الخائن التخلص من وعده فاستعان بملك بيت المقدس الصليبي ضد نور الدين محمود فاستبسل جيش نور الدين محمود في معاركه مع الصليبيين و شاور في بلبيس و الإسكندرية بسبب مساعدة أهل مصر لهم ووقوفهم بجانبهم ضد الشيعة(شاور)و الصليبيين(ملك بيت المقدس)فأرسل نور الدين النجدات العسكرية للجيش فانتصر على شاور و الصليبيين و تمكنوا من حكم مصر فعليا ..حيث كان العاضد العبيدي مجرد رمز فقط ثم ما لبث نور الدين ان استعجل صلاح الدين بقطع الدعاء في الخطب للعاضد و الخضوع للخلافة العباسية السنية الشرعية في أواخر حياة العاضد)، على أنه لم يلبث أن توفي بعد شهرين فخلفه في الوزارة صلاح الدين الأيوبي.
نجح صلاح الدين الأيوبي في إقامة الأمن واستتباب الأمور وتثبيت أقدامه في البلاد، وجاءت الفرصة المناسبة لإسقاط دولة الفاطميين؛ فقطع الدعاء للخليفة الفاطمي ودعا للخليفة العباسي في أول جمعة من سنة (567هـ = سبتمبر
وكان لدخول مصر تحت حكم دولة نور الدين محمود دوي هائل، لا في مملكة بيت المقدس وحدها بل في الغرب الأوروبي كله، وارتفعت الأصوات لبعث حملة جديدة تعيد للصليبيين في الشام هيبتهم وسلطانهم، وتوجه لمصر ضربات قوية، غير أن حملتهم على مصر لم تحقق أهدافها ليقظة صلاح الدين في مصر.
وبنجاح نور الدين في ضم مصر إلى جبهة الكفاح يكون قد حقق الحلقة الأخيرة من حلقات الجبهة الإسلامية تمهيدا للضربة القاضية.
كان نور الدين مؤمنا بالإسلام وعظمته؛ وهو ما جعله يحقق ما عجز عنه غيره ممن كانوا أوسع منه بلادا وأعظم مالا ونفقة، ولم يكن يحارب الصليبيين على أنهم نصارى بل على أنهم أجانب عن بلاد العرب والمسلمين جاءوا لاحتلال الأرض وتدنيس المقدسات؛ ولذا لم يمس نصارى بلاده بسوء، بل كانوا عنده مواطنين لهم حق الرعاية الكاملة، فلم يهدم كنيسة ولا آذى قسا أو راهبا.
ولم يشغله الجهاد وتوحيد الصف عن إقامة المدارس والمساجد حتى بلغت مدارسه ومساجده المئات، لا يخلو منها بلد دخل تحت سلطانه، وكان إذا أنشأ مدرسة أوسع النفقة في بنائها، واجتهد في اختيار شيوخها، وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة، وكانت مدارسه تُعنى بالقرآن والحديث، وكان له شغف بالحديث وسماعه من جلّة المحدثين، وأجازه بعضهم بالرواية.
وإلى جانب إنشاء المدارس توسع في إقامة البيمارستانات في كل بلدة تحت حكمه، وجعلها للفقراء الذين لا تمكنهم دخولهم من الاستعانة بالأطباء والحصول على الدواء، كما حرص على إقامة الخانات على الطرق لينزل بها المسافرون للراحة أو للمبيت، وجعل عليها من يحرصها ويحافظ على زائريها.
.وكان نور الدين مؤمنا صادق الإيمان، ومجاهدا عظيما، وزاهدا متصوفا لا ينام إلا منتصف الليل ثم ينهض فيتوضأ، ويقبل على الصلاة والدعاء، حتى يقبل الصباح فيصليه ثم يأخذ في شئون دولته.
ولزهده في أبهة الحكم والسلطان لم يكن له راتب يتقاضاه، وإنما كان يأكل ويلبس من ملك له كان قد اشتراه من ماله، ولم يكن له بيت يسكنه، وإنما كان مقامه في غرفة في قلعة البلد الذي يحل فيه.
رابعا : وفاة نور الدين :
وبينما كان نور الدين محمود يستعد للسير إلى مصر، فاجأته الحمى، واشتد به المرض حتى لقي الله في (11 من شوال 569هـ = 15 من مايو 1174م) وهو في التاسعة والخمسين من عمره، وكان لموته رجة عنيفة في العالم الإسلامي، وشعر الناس بحجم الخسارة، وعظم المصيبة التي حلت بهم.
وشاء الله تعالى أن تظل سلسلة المجاهدين قائمة، فكلما غاب من الميدان زعيم نهض من بعده زعيم، وكل خلف يزيد عن سابقه في المواهب والملكات، حتى انتهت الراية إلى صلاح الدين الأيوبي فحقق ما كان أمنية في الصدور وخاطرا في العقول .
ظهر نور الدين محمود على مسرح الأحداث في النصف الأول من القرن السادس الهجري، والناس في أشد الحاجة إلى مثله ليأخذ بيدهم من حلكة الظلام الدامس الذي اكتنف بلادهم، منذ أن وطئتها أقدام الصليبيون، ودنست أرجلهم مدينة القدس، ولم تلمع في الأفق بوادر الأمل وإشراقات الصباح؛ فالفوضى تعم بلاد الشام، والأمراء والحكام مشغولون بأنفسهم وأطماعهم، والمحتل الوافد ترتفع قامته على خلافات المسلمين وتطاحنهم وتزداد قوته بتناحرهم وتنازعهم، ولولا بقية من أمل ظلت تعمل في قلوب بعض المخلصين لحدث ما لا تحمد عقباه.
وجاء أول بصيص للأمل مع ظهور "عماد الدين زنكي" الذي استطاع بقدرته وكفاءته أن يلي الموصل وأن يثبّت أقدامه فيها، ونجح في أن يمد سلطانه إلى نصيبين وحران، وهيأ نفسه لكي يقوم بحركة الجهاد ضد الصليبيين، وأدرك أن ذلك لن يتحقق ما لم تتحدد القوى الإسلامية في العراق والشام، فتطلع إلى حلب وكانت غارقة في بحر من الفوضى بعد وفاة أتابكها "عز الدين مسعود البرسقي"، ويتنازع عليها السلاجقة(ارجع لموضوع ألب أرسلان) والصليبيون للاستيلاء عليها، فتحرك عماد الدين وأفسد على الطامعين خططهم ووضع يده على حلب في سنة (522هـ = 1128م) ثم لم يلبث أن تعثرت خطاه بفعل الصراعات الداخلية في المنطقة التي أشعلها بعض الأمراء ضده؛ خوفا من ازدياد نفوذه في شمالي الشام والعراق، فقضى زمنا يدفع تلك الأخطار عن نفسه حتى تمكن من بسط نفوذه وترسيخ أقدامه، واحتاج ذلك وقتا طويلا استهلك من عمره سبع سنوات قبل أن يفرغ لمنازلة الصليبيين، حتى تمكن من فتح مدينة الرها سنة (538هـ = 1144م) وكان ذلك ضربة قوية للكيان الصليبي؛ لأن الرها كانت أولى الإمارات الصليبية التي تأسست في الشرق إبان الحملة الصليبية الأولى، ولم يهمل القدر عماد الدين لكي يواصل أعماله، حيث اغتالته يد الغدر في (6 من ربيع الثاني 541هـ = 14 من سبتمبر 1147م) على يد خادمه الخائن عند حصاره لقلعة جعبر .
ثانيا : نبذة عن بطلنا :
ولد نور الدين محمود في (17 من شوال 511هـ = 11 من فبراير 1118م) وهو ثاني أولاد عماد الدين زنكي بعد سيف الدين غازي، وقد تأثر أبناء عماد الدين بما كان لأبيهم من خلال وفضائل، فكانوا جميعا من رجال الجهاد وفرسانه، على تفاوت في ذلك بينهم.]
وبعد وفاة عماد الدين زنكي اقتسم ولداه: سيف الدين غازي ونور الدين محمود دولته، فاستقر الأول بالموصل وثبّت أقدامه بها، وانفرد الآخر بحكم حلب، وكان الحد الفاصل بين أملاك الأخوين هو نهر الخابور، وكان كلا الأخوين مؤهلا لما وجهته له الأقدار، فكان سيف الدين غازي صاحب سياسة وأناة، على حين كان نور الدين مجاهدا مخلصا جياش العاطفة صادق الإيمان، ميالا إلى جمع كلمة المسلمين وإخراج الأعداء من ديار المسلمين، مفطورا على الرقة ورهافة الشعور؛ وهو ما جذب الناس إليه، وحبب القلوب فيه.وكان على نور الدين أن يواصل سياسة أبيه في جهاد الصليبيين، يدفعه إلى ذلك طبيعته المفطورة على حب الجهاد، وملازمته لأبيه في حروبه معهم. وقرب إمارته في حلب من الصليبيين جعله أكثر الناس إحساسا بالخطر الصليبي
.ثالثا: جهاده ضد الصليبيين :
استهل نور الدين حكمه بالقيام ببعض الهجمات على إمارة إنطاكية الصليبية، واستولى على عدة قلاع في شمال الشام، ثم قضى على محاولة "جوسلين الثاني" لاستعادة الرها التي فتحها عماد الدين زنكي وكانت هزيمة الصليبيين في الرها أشد من هزيمتهم الأولى، وعاقب نور الدين من خان المسلمين من أرمن الرها، وخاف بقية أهل البلد من المسيحيين على أنفسهم فغادروها.
وكان نور الدين دائم السعي إلى استمالة القوى الإسلامية المتعددة في شمال العراق والشام وكسب ودها وصداقتها؛ لتستطيع مواجهة العدو الصليبي، فعقد معاهدة مع "معين الدين أنر" حاكم دمشق سنة (541هـ = 1147م) وتزوج ابنته عصمة الدين خاتون ، فلما تعرض أنر لخطر الصليبيين وكانت تربطه بهم معاهدة وحلف لم يجد غير نور الدين يستجير به، فخرج إليه، وسارا معا واستوليا على بصرى وصرخند قبل أن يقعا في يد الصليبيين، ثم غادر نور الدين دمشق؛ حتى يبعث في قلب حاكمها الأمان، وأنه لا يفكر إلا في القضاء على الصليبيين؛ فتوجه إلى حصون إمارة إنطاكية، واستولى على أرتاح وكفر لاثا وبصرفوت.
و على أثر ذلك ملك الرعب قلوب الصليبيين من نور الدين، وأدركوا أنهم أمام رجل لا يقل كفاءة وقدرة عن أبيه عماد الدين، وكانوا قد ظنوا أنهم قد استراحوا بموته، لكن أملهم تبدد أمام حماسة ابنه وشجاعته، وكانت سنه إذ ذاك تسعا وعشرين سنة، لكنه أوتي من الحكمة والتدبير خيرا كثيرا.
وفي سنة (542هـ = 1147م) وصلت الحملة الصليبية الثانية على الشام بزعامة لويس السابع وكونراد الثالث، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها وتعرضت لخسائر هائلة، وعجزت عن احتلال دمشق بعد حصار طويل لها، ويرجع الفضل في ذلك لصبر المجاهدين واجتماع كلمة جيش المسلمين ووحدة صفهم، وكان للقوات التي جاءت مع سيف الدين غازي وأخيه نور الدين أكبر الأثر في فشل تلك الحملة، واستغل نور الدين هذه النكبة التي حلّت بالصليبيين وضياع هيبتهم للهجوم على إنطاكية بعد أن ازداد نفوذه في الشام، فهاجم في سنة (544هـ=1149م) الإقليم المحيط بقلعة حارم الواقعة على الضفة الشرقية لنهر العاصي، ثم حاصر قلعة إنب، فنهض "ريموند دي بواتيه" صاحب إنطاكية لنجدتها، والتقى الفريقان في (21 من صفر 544هـ= آخر يونيو 1149م) ونجح المسلمون في تحقيق النصر وأبادوا الصليبيين عن آخرهم، وكان من جملة القتلى صاحب إنطاكية وغيره من قادة الفرنج وكان فرح المسلمون بهذا النصر عظيما.
آمن نور الدين بضرورة وحدة الصف، وانتظام القوى الإسلامية المبعثرة بين الفرات والنيل حتى تقف كالبنيان المرصوص أمام أطماع الصليبيين، وكانت دمشق تقف حجرة عثرة في طريق تلك الوحدة، وكان معين الدين أنر صاحب السلطة الفعلية في دمشق يرتبط بعلاقات ودية مع الصليبيين ومعاهدات وتحالفات، وبعد وفاته قام "مجير الدين أبق" بحكم دمشق، وجرى على سياسة أنر في التعامل مع الصليبيين، بل أظهر ضعفا ومذلة في التعامل معهم، وأعرض عن وحدة الصف وجمع الكلمة، وبلغ الهوان به أن وافق على أن يدفع أهل دمشق ضريبة سنوية للصليبيين مقابل حمايتهم، وصار رسل الفرنجة يدخلون دمشق لجمع الجزية المفروضة دون أن يستشعر حاكمها خجلا أو هوانا.
ولم يسكت نور الدين على هذا الوضع المهين، واستثمر شعور الغضب الذي أبداه الدمشقيون، ونجح بمساعدتهم في الإطاحة بمجير الدين أبق وضم دمشق إلى دولته في سنة (549هـ = 1154م) وكانت هذه الخطوة حاسمة في تاريخ الحروب الصليبية؛ حيث توحدت بلاد الشام تحت زعامة نور الدين: من الرها شمالا حتى حوران جنوبا، واتزنت الجبهة الإسلامية مع الجبهة الصليبية التي كانت تستغل حالة التشتت والتشرذم، وتوجه ضرباتها إلى دولة الإسلام حتى إن نور الدين لم يستطع نجدة عسقلان عندما هاجمها الصليبيون سنة (548هـ = 1153م) لأن دمشق كانت تقف حائلا دون تحقيق ذلك.
بعد نجاح نور الدين في تحقيق المرحلة الأولى من توحيد الجبهة الإسلامية لم يعد أمام الصليبيين للغزو والتوسع سوى طريق الجنوب بعد أن أحكم نور الدين سيطرته على شمالي العراق والشام؛ ولذا تطلع الصليبيون إلى مصر باعتبارها الميدان الجديد لتوسعهم، وشجعهم على ذلك أن الدولة الفاطمية(العبيدية الشيعية الإسماعيلية) في مصر تعاني سكرات الموت فاستولوا على عسقلان، وكان ذلك إيذانا بمحاولتهم غزو مصر، مستغلين الفوضى في البلاد، وتحولت نياتهم إلى عزم حيث قام "بلدوين الثالث" ملك بيت المقدس بغزو مصر سنة (558هـ = 1163م) محتجا بعدم التزام الفاطميين بدفع الجزية له، غير أن حملته فشلت وأجبر على الانسحاب
.وأثارت هذه الخطوة الجريئة مخاوف نور الدين، فأسرع بشن حملات على الصليبيين في الشام حتى يشغلهم عن الاستعداد لغزو مصر، ودخل في سباق مع الزمن للفوز بمصر، فأرسل عدة حملات إليها تحت قيادة "أسد الدين شيركوه" وبصحبته ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، ابتدأت من سنة (559هـ = 1164م) واستمرت نحو خمس سنوات حتى نجحت بعد سباق محموم مع الصليبيين في الظفر بمصر سنة (564هـ = 1169م) وتولى شيركوه الوزارة للخليفة "العاضد" آخر الخلفاء الفاطميين(ما حدث هو أن الوزير شاور استعان في بادئ الأمر بنور الدين محمود بعدما استعان غريمه ضرغام بملك بيت المقدس الصليبي بلدوين و وعد نور الدين بإعطائه ثلث خراج مصر و أن يكون لنور الدين حامية عسكرية فيها و فعلا انتصر جيش نور الدين الذي يقوده أسد الدين شيركوه و صلاح الدين على جيش ضرغام و بعد ذلك حاول شاور الخائن التخلص من وعده فاستعان بملك بيت المقدس الصليبي ضد نور الدين محمود فاستبسل جيش نور الدين محمود في معاركه مع الصليبيين و شاور في بلبيس و الإسكندرية بسبب مساعدة أهل مصر لهم ووقوفهم بجانبهم ضد الشيعة(شاور)و الصليبيين(ملك بيت المقدس)فأرسل نور الدين النجدات العسكرية للجيش فانتصر على شاور و الصليبيين و تمكنوا من حكم مصر فعليا ..حيث كان العاضد العبيدي مجرد رمز فقط ثم ما لبث نور الدين ان استعجل صلاح الدين بقطع الدعاء في الخطب للعاضد و الخضوع للخلافة العباسية السنية الشرعية في أواخر حياة العاضد)، على أنه لم يلبث أن توفي بعد شهرين فخلفه في الوزارة صلاح الدين الأيوبي.
نجح صلاح الدين الأيوبي في إقامة الأمن واستتباب الأمور وتثبيت أقدامه في البلاد، وجاءت الفرصة المناسبة لإسقاط دولة الفاطميين؛ فقطع الدعاء للخليفة الفاطمي ودعا للخليفة العباسي في أول جمعة من سنة (567هـ = سبتمبر
وكان لدخول مصر تحت حكم دولة نور الدين محمود دوي هائل، لا في مملكة بيت المقدس وحدها بل في الغرب الأوروبي كله، وارتفعت الأصوات لبعث حملة جديدة تعيد للصليبيين في الشام هيبتهم وسلطانهم، وتوجه لمصر ضربات قوية، غير أن حملتهم على مصر لم تحقق أهدافها ليقظة صلاح الدين في مصر.
وبنجاح نور الدين في ضم مصر إلى جبهة الكفاح يكون قد حقق الحلقة الأخيرة من حلقات الجبهة الإسلامية تمهيدا للضربة القاضية.
كان نور الدين مؤمنا بالإسلام وعظمته؛ وهو ما جعله يحقق ما عجز عنه غيره ممن كانوا أوسع منه بلادا وأعظم مالا ونفقة، ولم يكن يحارب الصليبيين على أنهم نصارى بل على أنهم أجانب عن بلاد العرب والمسلمين جاءوا لاحتلال الأرض وتدنيس المقدسات؛ ولذا لم يمس نصارى بلاده بسوء، بل كانوا عنده مواطنين لهم حق الرعاية الكاملة، فلم يهدم كنيسة ولا آذى قسا أو راهبا.
ولم يشغله الجهاد وتوحيد الصف عن إقامة المدارس والمساجد حتى بلغت مدارسه ومساجده المئات، لا يخلو منها بلد دخل تحت سلطانه، وكان إذا أنشأ مدرسة أوسع النفقة في بنائها، واجتهد في اختيار شيوخها، وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة، وكانت مدارسه تُعنى بالقرآن والحديث، وكان له شغف بالحديث وسماعه من جلّة المحدثين، وأجازه بعضهم بالرواية.
وإلى جانب إنشاء المدارس توسع في إقامة البيمارستانات في كل بلدة تحت حكمه، وجعلها للفقراء الذين لا تمكنهم دخولهم من الاستعانة بالأطباء والحصول على الدواء، كما حرص على إقامة الخانات على الطرق لينزل بها المسافرون للراحة أو للمبيت، وجعل عليها من يحرصها ويحافظ على زائريها.
.وكان نور الدين مؤمنا صادق الإيمان، ومجاهدا عظيما، وزاهدا متصوفا لا ينام إلا منتصف الليل ثم ينهض فيتوضأ، ويقبل على الصلاة والدعاء، حتى يقبل الصباح فيصليه ثم يأخذ في شئون دولته.
ولزهده في أبهة الحكم والسلطان لم يكن له راتب يتقاضاه، وإنما كان يأكل ويلبس من ملك له كان قد اشتراه من ماله، ولم يكن له بيت يسكنه، وإنما كان مقامه في غرفة في قلعة البلد الذي يحل فيه.
رابعا : وفاة نور الدين :
وبينما كان نور الدين محمود يستعد للسير إلى مصر، فاجأته الحمى، واشتد به المرض حتى لقي الله في (11 من شوال 569هـ = 15 من مايو 1174م) وهو في التاسعة والخمسين من عمره، وكان لموته رجة عنيفة في العالم الإسلامي، وشعر الناس بحجم الخسارة، وعظم المصيبة التي حلت بهم.
وشاء الله تعالى أن تظل سلسلة المجاهدين قائمة، فكلما غاب من الميدان زعيم نهض من بعده زعيم، وكل خلف يزيد عن سابقه في المواهب والملكات، حتى انتهت الراية إلى صلاح الدين الأيوبي فحقق ما كان أمنية في الصدور وخاطرا في العقول .
عدل سابقا من قبل أحمد في الجمعة مايو 15, 2009 1:14 pm عدل 1 مرات