قصف التراث الإسلامي!
إن التراث هو تلك الآثار المكتوبة الموروثة التي حفظها لنا التاريخ كاملة أو مبتورة، فوصلت إلينا في صورة كُتب مخطوطة أو لفائف أو كرّاسات، وليس هنا حدود معيّنة لتاريخ أي تراث كان؛ فكلُّ ما خلّفه المؤلّف بعد حياته من نتاجٍ يُعدُّ تُراثًا فكريًا[1].
لكن التراث الإسلامي تعرّض لنكبات حقيقية ومفصلية في تاريخه الطويل، إننا يمكن أن نرجع لأول مصادر القوائم "الببليوجرافيا" التي كُتبت باللغة العربية، وهو كتاب "الفهرست"[2] لمحمد بن إسحاق النديم الذي ألّفه سنة 377هـ/987م جامعًا فيه أسماء معظم الدراسات التي كُتبت في عصره في مركز العاصمة العباسية بغداد في مجالات الدراسات الشرعية واللغوية والنحوية والأدبية والصوفية والمصنفات العامة والفرق والمذاهب والعلوم البحتة، لنرى أنه أحصى 8360 كتابًا ل 2238 مؤلِّفًا حتى الثلث الأخير من القرن الرابع الهجري، لم يصلنا منها سوى من 10 إلى 20% على الأكثر طبقا لما ذكره محقق الفرست العلامة الدكتور أيمن فؤاد سيد في سلسلة محاضرات عن "المخطوطات العربية" سمعتُها عنه في "معهد المخطوطات العربية" بالقاهرة، في نوفمبر 2013م.
وقد قاس على ذلك أساتذة المناهج التراثية والمخطوطات أن تراثنا الإسلامي في المجالات المختلفة لم يصلنا منه إلا الخُمس تقديرًا، ما يعني أن أكثر من 80% من تراثنا لا يزال مفقودًا!
رسم بالخط العربي لشكل طائر تعود إلى سنة 1177هـ/1763م
وبالرغم من ذلك فثمة بعض الإضاءات والمجهودات الجبّارة التي حاولت ولا تزال إحياء التراث الإسلامي المخطوط من خلال فهرسة المخطوطات وترميمها وحفظها في كل المكتبات والمعاهد العلمية المتخصصة في هذا المجال، ولعلّ أشهر مؤلّفين قاما بجمع مظانّ التراث العربي المخطوط في مكتبات العالم تمثّلت في "تاريخ الأدب العربي" للمستشرق الألماني كارل بروكلمان الذي حظي كتابه ولا يزال باهتمام الباحثين في الدراسات التراثية، وكتاب العلامة التركي فؤاد سزجين الذي استدرك ما فات بروكلمان في كتابه "تاريخ التراث العربي" وقد جاء في عشرة أجزاء، نال صاحبها جائزة الملك فيصل العالمية لمجهوده الجبّار في هذا الكتاب، حيث توقف للأسف الشديد عند سنة 430هـ/1038م.
نعود فنقول؛ إن المأساة التي نكبت بالتراث الإسلامي ترجع لعدة أسباب سياسية واقتصادية وعسكرية وفكرية في مجملها، وقد اتخذت أشكالاً متنوعة في التاريخ الإسلامي وفي العصر الحديث.
نهبُ التراث قديمًا
يمكن من خلال التأمل في حادثتين مهمتين في تاريخ الحضارة الإسلامية في المشرق والأندلس أن نكشفَ الأسباب التي دفعت إلى القضاء على شطر كبير من التراث الإسلامي، وهما:
1. الصدام العسكري: الذي قام به المغول في بلاد المشرق الإسلامي مثل مرو وخوارزم، قال المؤرخ الأمريكي ول ديورانت: "كان المغول يضعون الأسرى في مقدمة جيوشهم ويخيرونهم بين قتال مواطنيهم-من أمامهم أو قتلهم من خلفهم. وفتحت مرو خيانة وأحرقت عن آخرها، ودمرت في اللهب مكتبتها التي كانت مفخرة الإسلام"[3]. فضلا عن إشراف وزيرهم نصير الدين الطوسي في بغداد على عملية نهب منظّمة لمكتبات بغداد، قال الصفدي (ت764هـ): "فابتنى بمدينة مراغة قبة ورصدًا عظيمًا واتّخذ في ذلك خزانة عظيمة فسيحة الأرجاء، وملأها من الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة، حتى تجمع فيها زيادة على أربع مائة ألف مجلد"[4].
2. الصدام الحضاري والديني: الذي قام به الإسبان مع التراث الأندلسي؛ فقد "أبدت السياسة الإسبانية اهتماماً خاصاً بالقضاء على تراث الأندلس الفكري، وبدأت بارتكاب فعلتها الشائنة فى سنة 1499 م أعنى لأعوام قلائل من سقوط غرناطة، فجمعت الكتب العربية، وأحرقت بأمر الكردينال خمنيس حسبما فصلنا من قبل، ولم تبق معاول التعصب والجهالة إلا على بقية صغيرة من الكتب العربية، جمعت فيما بعد من مختلف الأنحاء، وأودعت أيام فيليب الثاني في قصر الإسكوريـال على مقربة من مدريد، وحُجبت عن كل باحث ومتطلع. وفى أوائل القرن السابع عشر، وقع حادث كان سبباً في مضاعفة المجموعة العربية الإسبانية. ذلك أن السفن الإسبانية استطاعت أن تأسر مركباً مغربية لمولاى زيدان ملك المغرب كانت مشحونة بالكتب ومختلف التحف، و"من جملتها ثلاثة آلاف سِفْر من كتب الدين والأدب والفلسفة وغير ذلك"[5]. وتضع الرواية الإسبانية تاريخ هذا الحادث في سنة 1612 في عصر فيليب الثالث، وذلك حينما اشتد اضطراب العلائق بين اسبانيا والمملكة المغربية. وقد حملت هذه المجموعة النفيسة من الكتب العربية إلى اسبانيا، وأودعت قصر الإسكوريـال، إلى جانب بقية التراث الأندلسي التي كانت مودعة فيه منذ أيام فيليب الثاني. وكانت مجموعة مولاي زيدان المغربية تحتوى عدد كبير من الكتب الأندلسية التي كثر استنساخها، "اقتنائها بالمغرب، بعد سقوط غرناطة. ولبثت هذه المجموعة من المخطوطات العربية الأندلسية مودعة بمكتبة الإسكوريـال الملكية حتى أواسط القرن السابع عشر، وكانت تبلغ يومئذ عدة آلاف، وكانت أغنى وأنفس مجموعة من نوعها بإسبانيا. ولكن محنة جديدة أصابت هذه البقية الباقية من تراث الأندلس. ففي سنة 1671 شبت النار في الإسكوريـال، والتهمت معظم هذا الكنز الفريد، ولم ينقذ منه سوى ألفين، هي التي مازالت تثوى حتى اليوم في أقبية مكتبة الإسكوريـال التي يُشرف عليها الآباء الأوغسطنيون. وكانت الحكومة الإسبانية أثناء هذه العصور تحرصُ على إخفاء الآثار العربية عن كل قارىء"[6].
الغارة على التراث حديثًا
أما الغارة على التراث الإسلامي حديثًا، فاتخذت منحىً آخر، لم يكن بالاستيلاء على المخطوطات الإسلامية بالسرقة فقط كما فعل المستشرقون ولصوص المخطوطات الإسلامية من قراصنة الغرب الثقافي، وإنما بأداة أشد نكاية تمثّلت في ليّ عنق هذا التراث والهجوم عليه بلا هوادة من المدرسة العلمانية بفرعيها الليبرالي واليساري.
وفي كتابه "شهادة العصر والتاريخ" يقرر الأستاذ أنور الجندي ذلك- بعد رحلة عطاء في مجال الفكر الإسلامي بلغت خمسون عامًا - بقوله: "تكشَّفَت لي أبعاد هذه المؤامرة الخطيرة التي بدأها مخطط عنوانه (حرب الكلمة)، وذلك بعد هزيمة الغرب في الحروب الصليبية، في دعوة عريضة للعمل على إعلان حرب تقوم على تزييف مفاهيم الإسلام وتدمير قيمه؛ وذلك عن طريق التأويل والتمويه في محاولة لإخراج الإسلام من ذاتيته الخاصّة، وتميّزه المتفرد"[7].
لقد حمل لواء الهجوم على التراث الإسلامي زمرة من المستشرقين – لا نقول جل المستشرقين – الذين عكفوا بجد يُحسدون عليه على التراث الإسلامي؛ قراءة واستيعاباً وفهمًا، وسفراً مضنيًا ليكتشفوا ما فيه، ويقدّموه لأقوامهم. على أنهم قدّموا لهم "أن هؤلاء العرب المسلمين هم في الأصل قومٌ بُداةٌ جُهّال لا علم لهم كان، جياعٌ في صحراء مُجدبة، جاءهم رجل من أنفسهم فادّعى أنّه نبيٌّ مرسلٌ، ولفَّق لهم دينًا من اليهودية والنّصرانية، فصدّقوه بجهلهم واتّبعوه، ولم يلبث هؤلاء الجياع أن عاثوا بدينهم هذا في الأرض يفتحونها بسيوفهم، حتى كان ما كان، ودان لهم من غوغاء الأمم من دان، وقامت لهم في الأرض بعد قليل ثقافةٌ وحضارةٌ جُلّها مسلوب من ثقافات الأمم السالفة كالفُرس والهند واليونان وغيرهم، حتّى لغتهم كلُّها مسلوبة وعالةٌ على العبرية والسُّريانية والآرامية والفارسية ..."[8]. ويستطرد العلامة محمود شاكر رحمه الله في كشف طرائق هجوم هؤلاء المستشرقين على التراث الإسلامي والإسلام ذاته بخبرته المعهودة في المجال التراثي والاستشراقي على السواء.
لكن هؤلاء المستشرقين الكبار فرّخوا لنا من أبناء جلدتنا مجموعات سارت على دربهم في النيل من التراث بلا هوادة، وساعدهم في هجومهم ذاك، تملّكهم لزمام وسائل الإعلام، ومنابر الثقافة في البلدان العربية والإسلامية، فصار ضجيجهم أقوى، وطنينهم يُشوّش على الناس فهمهم، ويخلخل لديهم الثقة في تراثهم.
إننا يمكن أن نُلخّص مظاهر الهجوم على التراث الإسلامي في العصر الحديث من خلال ثلاثة مظاهر جلية، وهي:
1. سرقة الاحتلال الغربي وأذرعه من المبشّرين والمستشرقين للتراث الإسلامي من مخطوطات وتحف وذخائر[9].
2. الجهل بالتراث الإسلامي روحًا وفكرًا ومصطلحاتٍ بل وتحريفه من قِبل كثير من المستشرقين[10].
3. العداء للتراث الإسلامي من العلمانيين بكافة أطيافهم، إما بالتأويل الحداثي المناقض لبنية التراث وأهدافه، أو بالهجوم المباشر والنيل منه بالسخرية والاستهزاء[11].
لقد كان للعوامل السياسية والمذهبية والعسكرية والطبيعية، والصدام الحضاري بين المسلمين والمغول والمسلمين والصليبيين والمسلمين والبيزنطيين، فضلاً عن سرقة المخطوطات الإسلامية في عصر الغفلة الذي انتاب الأمة المسلمة في القرون الأربعة الأخيرة دوره في عمليه قصف التراث الإسلامي، ولم يخرج الاحتلال من بلادنا إلا وقد زرع مجموعات "وظيفية" استكملت مهمة القصف والنيل من التراث الإسلامي، إما جهلاً بالتراث أو عداءً له، ولكن بالرغم من هذه المحاولات العاتية المستمرة منذ قرنين على الأقل، فإن أجيالاً جديدة من الباحثين المسلمين، وطلبة العلم المجدين صار لهم الفضل في الحد من هذا العدوان، بل وتفكيكه، على أن هؤلاء المدافعين في حاجة إلى الدعم المادي والمعنوي من الحكومات والأفراد.
نُشر في مجلة الوعي الإسلامي - عدد رجب 1436هـ / إبريل 2015م
[1] عبد المجيد دياب: تحقيق التراث العربي؛ منهجه وتطوره ص12. دار المعارف – القاهرة.
[2] النديم: الفهرست، تحقيق أيمن فؤاد سيد، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي – لندن، 2009م.
[3] ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود 13/378. دار الجيل – بيروت، 1988م.
[4] الصفدي: الوافي بالوفيات، تحقيق أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى 1/147. دار إحياء التراث – بيروت، 2000م.
[5] السلاوي: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق جعفر الناصري ومحمد الناصري 6/70. دار الكتاب – الدار البيضاء.
[6] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 5/504. مكتبة الخانجي، الطبعة الرابعة – القاهرة، 1997م.
[7] أنور الجندي: شهادة العصر والتاريخ ص3. دار المنارة، الطبعة الأولى – جدة، 1993م.
[8] محمود محمد شاكر: المُتنبى "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" ص59، 60. دار المدني – جدّة، 1987م.
[9] مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون؛ مالهم وما عليهم ص19. دار الورّاق للنشر والتوزيع.
[10] عبد العظيم الديب: المستشرقون والتراث ص26 وما بعدها. دار الوفاء للطباعة والنشر، الطبعة الثانية - المنصورة، 1992م.
[11] إبراهيم بن عمر السكران: مآلات الخطاب المدني ص129 وما بعدها. دار الوعي للنشر والتوزيع – الرياض، 1435م. وللمؤلّف نفسه: التأويل الحداثي للتراث؛ التقنيات والاستمدادات ص133 وما بعدها. دار الحضارة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى – الرياض، 2014م.
إن التراث هو تلك الآثار المكتوبة الموروثة التي حفظها لنا التاريخ كاملة أو مبتورة، فوصلت إلينا في صورة كُتب مخطوطة أو لفائف أو كرّاسات، وليس هنا حدود معيّنة لتاريخ أي تراث كان؛ فكلُّ ما خلّفه المؤلّف بعد حياته من نتاجٍ يُعدُّ تُراثًا فكريًا[1].
لكن التراث الإسلامي تعرّض لنكبات حقيقية ومفصلية في تاريخه الطويل، إننا يمكن أن نرجع لأول مصادر القوائم "الببليوجرافيا" التي كُتبت باللغة العربية، وهو كتاب "الفهرست"[2] لمحمد بن إسحاق النديم الذي ألّفه سنة 377هـ/987م جامعًا فيه أسماء معظم الدراسات التي كُتبت في عصره في مركز العاصمة العباسية بغداد في مجالات الدراسات الشرعية واللغوية والنحوية والأدبية والصوفية والمصنفات العامة والفرق والمذاهب والعلوم البحتة، لنرى أنه أحصى 8360 كتابًا ل 2238 مؤلِّفًا حتى الثلث الأخير من القرن الرابع الهجري، لم يصلنا منها سوى من 10 إلى 20% على الأكثر طبقا لما ذكره محقق الفرست العلامة الدكتور أيمن فؤاد سيد في سلسلة محاضرات عن "المخطوطات العربية" سمعتُها عنه في "معهد المخطوطات العربية" بالقاهرة، في نوفمبر 2013م.
وقد قاس على ذلك أساتذة المناهج التراثية والمخطوطات أن تراثنا الإسلامي في المجالات المختلفة لم يصلنا منه إلا الخُمس تقديرًا، ما يعني أن أكثر من 80% من تراثنا لا يزال مفقودًا!
رسم بالخط العربي لشكل طائر تعود إلى سنة 1177هـ/1763م
وبالرغم من ذلك فثمة بعض الإضاءات والمجهودات الجبّارة التي حاولت ولا تزال إحياء التراث الإسلامي المخطوط من خلال فهرسة المخطوطات وترميمها وحفظها في كل المكتبات والمعاهد العلمية المتخصصة في هذا المجال، ولعلّ أشهر مؤلّفين قاما بجمع مظانّ التراث العربي المخطوط في مكتبات العالم تمثّلت في "تاريخ الأدب العربي" للمستشرق الألماني كارل بروكلمان الذي حظي كتابه ولا يزال باهتمام الباحثين في الدراسات التراثية، وكتاب العلامة التركي فؤاد سزجين الذي استدرك ما فات بروكلمان في كتابه "تاريخ التراث العربي" وقد جاء في عشرة أجزاء، نال صاحبها جائزة الملك فيصل العالمية لمجهوده الجبّار في هذا الكتاب، حيث توقف للأسف الشديد عند سنة 430هـ/1038م.
نعود فنقول؛ إن المأساة التي نكبت بالتراث الإسلامي ترجع لعدة أسباب سياسية واقتصادية وعسكرية وفكرية في مجملها، وقد اتخذت أشكالاً متنوعة في التاريخ الإسلامي وفي العصر الحديث.
نهبُ التراث قديمًا
يمكن من خلال التأمل في حادثتين مهمتين في تاريخ الحضارة الإسلامية في المشرق والأندلس أن نكشفَ الأسباب التي دفعت إلى القضاء على شطر كبير من التراث الإسلامي، وهما:
1. الصدام العسكري: الذي قام به المغول في بلاد المشرق الإسلامي مثل مرو وخوارزم، قال المؤرخ الأمريكي ول ديورانت: "كان المغول يضعون الأسرى في مقدمة جيوشهم ويخيرونهم بين قتال مواطنيهم-من أمامهم أو قتلهم من خلفهم. وفتحت مرو خيانة وأحرقت عن آخرها، ودمرت في اللهب مكتبتها التي كانت مفخرة الإسلام"[3]. فضلا عن إشراف وزيرهم نصير الدين الطوسي في بغداد على عملية نهب منظّمة لمكتبات بغداد، قال الصفدي (ت764هـ): "فابتنى بمدينة مراغة قبة ورصدًا عظيمًا واتّخذ في ذلك خزانة عظيمة فسيحة الأرجاء، وملأها من الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة، حتى تجمع فيها زيادة على أربع مائة ألف مجلد"[4].
2. الصدام الحضاري والديني: الذي قام به الإسبان مع التراث الأندلسي؛ فقد "أبدت السياسة الإسبانية اهتماماً خاصاً بالقضاء على تراث الأندلس الفكري، وبدأت بارتكاب فعلتها الشائنة فى سنة 1499 م أعنى لأعوام قلائل من سقوط غرناطة، فجمعت الكتب العربية، وأحرقت بأمر الكردينال خمنيس حسبما فصلنا من قبل، ولم تبق معاول التعصب والجهالة إلا على بقية صغيرة من الكتب العربية، جمعت فيما بعد من مختلف الأنحاء، وأودعت أيام فيليب الثاني في قصر الإسكوريـال على مقربة من مدريد، وحُجبت عن كل باحث ومتطلع. وفى أوائل القرن السابع عشر، وقع حادث كان سبباً في مضاعفة المجموعة العربية الإسبانية. ذلك أن السفن الإسبانية استطاعت أن تأسر مركباً مغربية لمولاى زيدان ملك المغرب كانت مشحونة بالكتب ومختلف التحف، و"من جملتها ثلاثة آلاف سِفْر من كتب الدين والأدب والفلسفة وغير ذلك"[5]. وتضع الرواية الإسبانية تاريخ هذا الحادث في سنة 1612 في عصر فيليب الثالث، وذلك حينما اشتد اضطراب العلائق بين اسبانيا والمملكة المغربية. وقد حملت هذه المجموعة النفيسة من الكتب العربية إلى اسبانيا، وأودعت قصر الإسكوريـال، إلى جانب بقية التراث الأندلسي التي كانت مودعة فيه منذ أيام فيليب الثاني. وكانت مجموعة مولاي زيدان المغربية تحتوى عدد كبير من الكتب الأندلسية التي كثر استنساخها، "اقتنائها بالمغرب، بعد سقوط غرناطة. ولبثت هذه المجموعة من المخطوطات العربية الأندلسية مودعة بمكتبة الإسكوريـال الملكية حتى أواسط القرن السابع عشر، وكانت تبلغ يومئذ عدة آلاف، وكانت أغنى وأنفس مجموعة من نوعها بإسبانيا. ولكن محنة جديدة أصابت هذه البقية الباقية من تراث الأندلس. ففي سنة 1671 شبت النار في الإسكوريـال، والتهمت معظم هذا الكنز الفريد، ولم ينقذ منه سوى ألفين، هي التي مازالت تثوى حتى اليوم في أقبية مكتبة الإسكوريـال التي يُشرف عليها الآباء الأوغسطنيون. وكانت الحكومة الإسبانية أثناء هذه العصور تحرصُ على إخفاء الآثار العربية عن كل قارىء"[6].
الغارة على التراث حديثًا
أما الغارة على التراث الإسلامي حديثًا، فاتخذت منحىً آخر، لم يكن بالاستيلاء على المخطوطات الإسلامية بالسرقة فقط كما فعل المستشرقون ولصوص المخطوطات الإسلامية من قراصنة الغرب الثقافي، وإنما بأداة أشد نكاية تمثّلت في ليّ عنق هذا التراث والهجوم عليه بلا هوادة من المدرسة العلمانية بفرعيها الليبرالي واليساري.
وفي كتابه "شهادة العصر والتاريخ" يقرر الأستاذ أنور الجندي ذلك- بعد رحلة عطاء في مجال الفكر الإسلامي بلغت خمسون عامًا - بقوله: "تكشَّفَت لي أبعاد هذه المؤامرة الخطيرة التي بدأها مخطط عنوانه (حرب الكلمة)، وذلك بعد هزيمة الغرب في الحروب الصليبية، في دعوة عريضة للعمل على إعلان حرب تقوم على تزييف مفاهيم الإسلام وتدمير قيمه؛ وذلك عن طريق التأويل والتمويه في محاولة لإخراج الإسلام من ذاتيته الخاصّة، وتميّزه المتفرد"[7].
لقد حمل لواء الهجوم على التراث الإسلامي زمرة من المستشرقين – لا نقول جل المستشرقين – الذين عكفوا بجد يُحسدون عليه على التراث الإسلامي؛ قراءة واستيعاباً وفهمًا، وسفراً مضنيًا ليكتشفوا ما فيه، ويقدّموه لأقوامهم. على أنهم قدّموا لهم "أن هؤلاء العرب المسلمين هم في الأصل قومٌ بُداةٌ جُهّال لا علم لهم كان، جياعٌ في صحراء مُجدبة، جاءهم رجل من أنفسهم فادّعى أنّه نبيٌّ مرسلٌ، ولفَّق لهم دينًا من اليهودية والنّصرانية، فصدّقوه بجهلهم واتّبعوه، ولم يلبث هؤلاء الجياع أن عاثوا بدينهم هذا في الأرض يفتحونها بسيوفهم، حتى كان ما كان، ودان لهم من غوغاء الأمم من دان، وقامت لهم في الأرض بعد قليل ثقافةٌ وحضارةٌ جُلّها مسلوب من ثقافات الأمم السالفة كالفُرس والهند واليونان وغيرهم، حتّى لغتهم كلُّها مسلوبة وعالةٌ على العبرية والسُّريانية والآرامية والفارسية ..."[8]. ويستطرد العلامة محمود شاكر رحمه الله في كشف طرائق هجوم هؤلاء المستشرقين على التراث الإسلامي والإسلام ذاته بخبرته المعهودة في المجال التراثي والاستشراقي على السواء.
لكن هؤلاء المستشرقين الكبار فرّخوا لنا من أبناء جلدتنا مجموعات سارت على دربهم في النيل من التراث بلا هوادة، وساعدهم في هجومهم ذاك، تملّكهم لزمام وسائل الإعلام، ومنابر الثقافة في البلدان العربية والإسلامية، فصار ضجيجهم أقوى، وطنينهم يُشوّش على الناس فهمهم، ويخلخل لديهم الثقة في تراثهم.
إننا يمكن أن نُلخّص مظاهر الهجوم على التراث الإسلامي في العصر الحديث من خلال ثلاثة مظاهر جلية، وهي:
1. سرقة الاحتلال الغربي وأذرعه من المبشّرين والمستشرقين للتراث الإسلامي من مخطوطات وتحف وذخائر[9].
2. الجهل بالتراث الإسلامي روحًا وفكرًا ومصطلحاتٍ بل وتحريفه من قِبل كثير من المستشرقين[10].
3. العداء للتراث الإسلامي من العلمانيين بكافة أطيافهم، إما بالتأويل الحداثي المناقض لبنية التراث وأهدافه، أو بالهجوم المباشر والنيل منه بالسخرية والاستهزاء[11].
لقد كان للعوامل السياسية والمذهبية والعسكرية والطبيعية، والصدام الحضاري بين المسلمين والمغول والمسلمين والصليبيين والمسلمين والبيزنطيين، فضلاً عن سرقة المخطوطات الإسلامية في عصر الغفلة الذي انتاب الأمة المسلمة في القرون الأربعة الأخيرة دوره في عمليه قصف التراث الإسلامي، ولم يخرج الاحتلال من بلادنا إلا وقد زرع مجموعات "وظيفية" استكملت مهمة القصف والنيل من التراث الإسلامي، إما جهلاً بالتراث أو عداءً له، ولكن بالرغم من هذه المحاولات العاتية المستمرة منذ قرنين على الأقل، فإن أجيالاً جديدة من الباحثين المسلمين، وطلبة العلم المجدين صار لهم الفضل في الحد من هذا العدوان، بل وتفكيكه، على أن هؤلاء المدافعين في حاجة إلى الدعم المادي والمعنوي من الحكومات والأفراد.
نُشر في مجلة الوعي الإسلامي - عدد رجب 1436هـ / إبريل 2015م
[1] عبد المجيد دياب: تحقيق التراث العربي؛ منهجه وتطوره ص12. دار المعارف – القاهرة.
[2] النديم: الفهرست، تحقيق أيمن فؤاد سيد، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي – لندن، 2009م.
[3] ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود 13/378. دار الجيل – بيروت، 1988م.
[4] الصفدي: الوافي بالوفيات، تحقيق أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى 1/147. دار إحياء التراث – بيروت، 2000م.
[5] السلاوي: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق جعفر الناصري ومحمد الناصري 6/70. دار الكتاب – الدار البيضاء.
[6] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 5/504. مكتبة الخانجي، الطبعة الرابعة – القاهرة، 1997م.
[7] أنور الجندي: شهادة العصر والتاريخ ص3. دار المنارة، الطبعة الأولى – جدة، 1993م.
[8] محمود محمد شاكر: المُتنبى "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" ص59، 60. دار المدني – جدّة، 1987م.
[9] مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون؛ مالهم وما عليهم ص19. دار الورّاق للنشر والتوزيع.
[10] عبد العظيم الديب: المستشرقون والتراث ص26 وما بعدها. دار الوفاء للطباعة والنشر، الطبعة الثانية - المنصورة، 1992م.
[11] إبراهيم بن عمر السكران: مآلات الخطاب المدني ص129 وما بعدها. دار الوعي للنشر والتوزيع – الرياض، 1435م. وللمؤلّف نفسه: التأويل الحداثي للتراث؛ التقنيات والاستمدادات ص133 وما بعدها. دار الحضارة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى – الرياض، 2014م.