من طرف أحمد الأربعاء أبريل 15, 2015 3:04 pm
قرأت في بعض الروايات أن فتى قضى حقبةً من دهره مولعاً بحب فتاة خيالية لم يرها مرة واحدة في حياته ، وإنما تخيل في ذهنه صورةً ألِفَها من شتى المحاسن ومتفرقاتها في صورة البشر ، فلما استقرت في مخيلته ، تجسمت في عينيه ، فرآها ، فأحبها حباً ملك عليه قلبه ، وحال بينه وبين نفسه ، و ذهب به كل مذهب :
فأنشأ يفتش عنها بين سمعِ الأرضِ وبصرِها أعواماً طولاً حتى وجدها .
لا أستطيع أن أكذِّبَ هذه القصة لأني أنا ذلك الفتى بعينه ، لا فرق بيني وبينه إلا أنه يسمي ضالته الفتاة وأسميها الفضيلة ، وأنه فتش عنها فوجدها ،
وفتشت عنها حتى عييت بأمرها ، فما وجدت إليها سبيلا .
فتشت عن الفضيلة في حوانيت التجار ، فرأيت التاجر لصاً في أثواب بائع ، وجدته يبيعني بدينارين ما ثمنه دينار واحد ، فعلمت أنه سارق للدينار الثاني ، ولو وُكِلَ إلىّ أمرُ القضاءِ ، ما هان عليّ أن أعاقب لصوص الدراهم ، وأغفل لصوص الدنانير ، ما دام كل منهما يسلبني مالي ويتغفلني عنه أنا لا أنكر على التاجر ربحه ، ولكني أنكر عليه أن يتناول من أكثر من الجزاء الذي يستحقه على مابذل من جهد في جلب السلعة ، وما أنفق من راحته في سبيل صونها وإحرازها ، وكل ما أعرف من الفرق بين حلال المال وحرامه :
أن الأول بدل الجد والعمل ، والثاني بدل الغش والكذب .
فتشت عن الفضيلة في مجالس القضاء ، فرأيت أن أعدل القضاة ، يحرص الحرص كله على أن لا يهفو في تطبيق القانون الذي بين يديه ، هفوة يحاسبه عليها من منحه هذا الكرسي الذي يجلس عليه ، مخافة أن يسلبه إياه ، أما إنصاف المظلوم ، والضرب على يد الظالم ، وإراحة الحقوق على أهلها ، وإنزال العقوبات منازلها من الذنوب ، فهي عنده ذيول ، وأذناب لا يأبه لها ولا يحتفل بشأنها ، إلا إذا أشرق عليها الكوكب بسعده ، فمشت مع القانون في طريق واحد مصادفة واتفاقاً .
فإذا اختلف طريقاهما بين يديه ، حكم بغير ما يعتقد ، ونطق بغير ما يعلم ، ودان البريء ، وبرأ المجرم .
فإذا عتبَ عليه في ذلك عاتبٌ ، كانت معذِرَتُه إليه حكم القانون عليه . كأنما يريد أن يجعل العقل أسير القانون .
وما القانون إلا حسنة من حسنات العقل ، وصنعة من صنائعه . فتشت عن الفضيلة في قصور الأغنياء فرأيت الغني إما شحيحاً ، أو متلافاً ، أما الأول فلو كان جاراً لبيت فاطمة رضي الله عنها ، وسمع في جوف الليل أنينها ، وأنين ولديها من الجوع ما مد إصبعيه إلى أذنيه ثقةً منه أن قلبه المتحجر لا تنفذه أشعة الرحمة ، ولا تمر بين طياته نسمات الإحسان وأما الثاني ، فماله بين الثغرين : ثغر الحسناء ، وثغر الصهباء ، فعلى يدِ أي رجل من الرجلين تدخل الفضيلة قصور الأغنياء ؟
فتشت عنها في مجالس السياسة ، فرأيت أن المعاهدة ، والاتفاق ، والقاعدة ، والشرط ، ألفاظ مترادفة معناها الكذب . فرأيت أن الملك في كرسي مملكته كالحوذي في كرسي عربته لا فرق بينهما
إلا أن هذا ينقضُ ( تَعرِيفَتَةُ ) وذلك ينقض معاهدته .
ورأيت أن أعدى عدو للإنسان الإنسان ، وأن كل أمة قد أعدت في مخازنها ومستودعاتها في بطون قلاعها ، وعلى ظهور سفنها ، وفوق متون طياراتها ، ما شاء الله أن تعده لأختِها من الموت أفانين العذاب . حتى إذا وقع الحتف بينهما على حد من لحدود أو جدار من الجدارن ، لبس الإنسان فروة السبع ، واتخذ له من تلك العدد الوحشية أظفارا كأظفاره ، وأنياباً كأنيابه ، فشحذ الأولى ، وكشر عن الأخرى ، ثم هجم على ولد أبيه وأمه هجمة ، لا يعود منها إلا بنفسه التي بين جنبيه .
وإنك لو سألت الجنديين المتقاتلين ، ما خطبكما ، وما شأنكما ؟ وعلام تقتتلان وما هذه المَوجِدَةُ – الغضب – التي تحملانها بين جنبيكما ؟ ومتى ابتدأت الخصومة بينكما ، وعهدي بكما أنكما ما تعارفتما إلا في الساعة التي اقتتلتما فيها ؟ لعرفت أنهما مخدوعان عن نفسيهما ، وأنهما ما خرجا من ديارهما إلا ليضعا درة في تاج الملك ، أو نيشاناً على صدر القائد .
فتشت عنها بين رجال الدين ، فرأيتهم – إلا من رحم الله – يتّجِرُون بالعقول في أسواق الجهل ، ورأيت كلا منهم ، قد ثغر له في كل رأس من رؤوس البشر ثغرة ينحدر منها إلى الأخلاق ، فيفسدها ، والمشاعر ، فيقتلها ، ليتوسل لذلك إلى الذخائر ، فيسرقها ، والخزائن ، فيسلبها .
فتشت عنها في كل مكان أعلم أنه تربتها ، وموطنها ، فلم أعثر بها . فليت شعري هل أجدها في الحانات والمواخير – مجالس الفساق – أو في مغارات اللصوص ، أو بين جدران السجون .
سيقول كثير من الناس :
قد غلا الكاتب في حكمه ، وجاوز الحد في تقديره ، فالفضيلة لا تزال تَجِدُ في صدور الكثير من الناس صدراً رحباً ، ومورداً عذبا ، وإني قائل لهم قبل أن يقولوا كلمتهم : إني لا أنكر وجود الفضيلة ، ولكني أجهل مكانها ، فقد عقد رياء الناس أمامم عيني سحابة سوداء أظلم لها بصري ، حتى ما أجد في صفحة السماء نجما لامعاً ، ولا كوكباً طالعاً . كل الناس يدعي الفضيلة ، وينتحلها ، وكلهم يلبس لِباسها ، ويرتدي رداءها ، ويُعِدُّ لها عدتها من منظر يستهوي الأذكياء والأغنياء ، ومظهر يخدع أسوأ الناس ظنا . فمن لي بالوصول إليها في هذا الظلام الحالك ، والليل الأليل – شديد السواد - إن كان صحيحا ً ما يتحدث به الناس من سعادة الحياة ، وطيبها ، وغبطتها ، ونعيمها ، فسعادتي فيها أن أعثر في طريقي في يوم من أيام حياتي بصديقٍ يصدقني الودّ ، وأصدقه ، فيقنعه مني ودي وإخلاصي دون أن يتجاوز ذلك إلى ما وراءه من مآربَ وأغراض ، وأن يكون شريف النفس ، فلا يطمع في غير مطمع ، شريف القلب ، فلا يحمل حقداً ، ولا يحفظ وِتْراً . ولا يحدث نفسه في خلوته بغير ما يحدث به الناس في محضره ، شريف اللسان ، فلا يكذب ، ولا ينمُّ ، ولا يلمُّ بعرض ، ولا ينطق بهجر ، شريف الحب ، فلا يحب غير الفضيلة ، ولا يبغض غير الرذيلة . هذه هي السعادة التي أتمناها ، ولكني لا أراها .
إني لأرى الرياض الغناء ، تهفو أشجارها ، وترن أطيارها ، وأرى جداول الماء ، تنساب بين أنوارها وأزهارها ، انسياب الأفاعي الرقطاء – المنقطة – في الرمال البيضاء وأرى أنامل النسائم تعبث بمنثورها الأوراق ، عبث الهوى بالباب العشاق ، وأسمع ما بين صفير البلابل ، وخرير الجداول نغمات شجية ، تبلغ من نفس الإنسان ، ما لا تبلغ أوتار العيدان ، فلا يسرني منها منظر ، ولا يطربني مسمع ، لأني لا ارى بين هذه المشاهد التي أراها ضالتي التي أنشدها .
لقد سمج – قبح – وجه الرذيلة في عيني ، وثقل حديثها في مسمعي ، حتى أصبحتُ أتمنى أن أعيش بلا قلب فلا أشعر بخير الحياة وشرِّها وسرورها وحزنها .
ولولا بنيات صغارٌ يفقدن بفقدي طيب العيش ونعيمه ، لفررت من هذا العالم الناطق إلى ذلك العالم الصامت ، فأجد من الأنس به ، والسكون إليه ما وجده الذي يقول :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى/// وَصَوّت إنسان فكِدتُ أطِيرُ