علم النحو من العلوم الضرورية للمحافظة على اللغة العربية، ومن أحسن المنظومات المؤلفة فيه ألفية ابن مالك رحمه الله، فإنها جمعت مقاصد النحو وبينت مسائله، فمن تعلمها وأتقنها بلغ الغاية في هذا العلم.
مقدمة في فوائد علم النحو ونشأته
قال محمد هو ابن مالك أحمد ربي الله خير مالك
مصلياً على النبي المصطفى وآله المستكملين الشرفا
وأستعين الله في ألفيه مقاصد النحو بها محويه
تقرب الأقصى بلفظ موجز وتبسط البذل بوعد منجز
وتقتضي رضا بغير سخط فائقة ألفية ابن معط
وهو بسبق حائز تفضيلا مستوجب ثنائي الجميلا
والله يقضي بهبات وافره لي وله في درجات الآخره
أهمية علم النحو
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
نبدأ هذه الجلسات في النحو بألفية ابن مالك ، وهي وإن كانت منتهى الطلب في النحو ، لكن نظراً إلى أنكم والحمد لله قد أخذتم من النحو شيئاً كثيراً جعلناها هي المبتدأ.
والحقيقة أن علم النحو مهم جداً لما فيه من الفوائد الكثيرة.
فمن فوائده تقويم اللسان وتقويم البنان، أي: تقويم اللسان عند النطق، وتقويم البنان عند الكتابة.
والنطق وإن كان الناس يتخاطبون فيما بينهم باللغة العامية فيعذرون؛ لأنك لو أردت أن تخاطب العامي باللغة العربية الفصحى لقال: هذا رجل أعجمي! لأنه لا يفهم اللغة العربية الفصحى إلا من ندر، لكن الكتابة التي يكون بالنحو تقويمها هي المهمة بالنسبة لطلبة العلم؛ لأن بعض الطلبة يكتب ما يكتب من الجواب على الأسئلة أو البحوث فتجد عنده من اللحن ما تكاد تقول: إنه في أول الدراسة، مع أنه قد يأخذ الشهادة العالية بعد شهر أو شهرين، وهذه محنة لما نعيشها اليوم.
وبعض الطلبة إذا تكلم في الحديث أو تكلم في الفقه أو في التفسير وجدت كلامه جيداً، لكن عندما يكتب تجد عنده أخطاء، ربما يقول: باضت الدجاجةَ البيضةُ، فيجعل الدجاجة بيضة للبيضة، وتجد أشياء غريبة.
لهذا أرى أنه يتعين على الطلبة الآن أن يتعلموا النحو وأن يمرنوا ألسنتهم وأقلامهم عليه حتى لا تسوء سمعتهم بين الناس.
ومن فوائد علم النحو: أنه يعين على فهم الكتاب والسنة؛ لأنه يعرف به الفاعل من المفعول به، ويعين على فهم المعنى، فكم من آية اختلف المعنى بإعرابها، فمثلاً قال تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة:6] أو (وأرجلِكم) فيختلف المعنى باختلاف الإعراب.
اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1] أو (والأرحامِ) فيختلف المعنى، فأنت إذا فهمت النحو أعانك على فهم المعنى، حتى تُنَزِّل الآيات والأحاديث على المراد بها.
ومن فوائد علم النحو: إحياء اللغة العربية الفصحى، ولاشك أن إحياء اللغة العربية الفصحى وانتشارها بين الناس يؤدي إلى أن يسهل فهم الكتاب والسنة على كثير من الناس.
وبهذا نعلم أن من قام بنشر اللغة غير العربية بين العامة فقد جنى على نفسه وعلى لغته وعلى من علمه تلك اللغة، نسمع أن من سفهائنا من يعلم صبيانه بدلاً من أن يقول: إذا دخلت على بيت أو على جماعة فقل: السلام عليكم، وإذا أردت أن تنصرف فقل: السلام عليكم؛ يقول: إذا دخلت فقل: باي باي! أو إذا انصرفت فقل: باي باي!سبحان الله! عندك لغة عربية ودعاء بالسلام فتجعل هذا الشيء بدلاً منه؟!
فلهذا أقول: إن تعلم اللغة العربية يؤدي إلى سهولة التخاطب بها، والتخاطب بها يعين الإنسان على معرفة الكتاب والسنة.
نشأة علم النحو
وعلم النحو إنما احتاج الناس إليه حين بدأ اللسان يختلف، ويقال: إن أول من ابتكره أبو الأسود الدؤلي في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك حينما دخل على ابنته وهي مضطجعة على فراشها تنظر إلى السماء وإلى المصابيح في الدجى، فقالت: يا أبت، ما أحسنُ السماء؟ فأجابها: نجومها.
لأن قولها: ما أحسنُ السماء، يعني: أي شيء أحسن في السماء؟ فقال: نجومها، وهي لا تريد هذا، إنما تريد أن تتعجب من حسن السماء، فقالت: لست أريد هذا، إنما أريد أن أتعجب من حسنها. قال: يا بنية! افتحي فاك فقولي: ما أحسنَ السماءَ!
لأنها إذا قالت: ما أحسنَ السماء! صارت الجملة جملة تعجب، وهذا هو المراد.
فذهب أبو الأسود الدؤلي إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأخبره الخبر، وكأنه يقول: أدرك الناس لا يفسد لسانهم، فوضع له شيئاً من القواعد وقال له: انح هذا المنحى، فسمي علم النحو.
وعلم النحو وعلم الصرف صنوان يكمل أحدهما الآخر، لكن الناس إلى علم النحو أحوج منهم إلى علم الصرف؛ لأن علم النحو هو الذي تتغير به الكلمات كثيراً، وعلم الصرف تبقى الكلمة على ما هي عليه في اللغة لا تتغير سواء كانت فاعلاً أو مفعولاً أو مجروراً، لكن علم النحو هو الذي يكثر فيه التغيير، ولهذا كانت حاجة الناس إليه أعظم من حاجتهم إلى علم الصرف.
مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة والأرجح منهما
وقد كان هذا العلم علماً مستقلاً، وكما نعلم أن الشيء أول ما يخرج يكون ضعيفاً، ثم انتشر بين العلماء وصار له أئمة ومشايخ وأتباع، وصار فيه مناظرات ومجادلات كثيرة، وانقسم العلماء فيه إلى قسمين: علماء الكوفة وزعيمهم الكسائي ، وعلماء البصرة وزعيمهم سيبويه ، ولكل منهم نظرات في علم النحو، وغالب ما يذهب إليه البصريون التقعيد والحفاظ على القواعد، وأما الكوفيون فهم يتساهلون في هذا الباب، وأنا إلى رأيهم أميل مني إلى رأي البصريين.
فأقول: القاعدة عندي: إذا اختلف الكوفيون والبصريون في مسألة فاتبع الأسهل فإنه أسهل، أي: ليس فيه تعقيد؛ لأن هذا ليس أمراً شرعياً يثبت بالأدلة الشرعية حتى ننظر ونتعب، فمادام هذا جائزاً عند جماعة من العلماء فلنتبعه، وتتبع الرخص في هذا الباب جائز ولا حرج فيه؛ لأن تتبع الرخص في هذا الباب أسهل، وسيمر بنا إن شاء الله تعالى مسائل كثيرة نجد أن البصريين فيها متشددون وأن الكوفيين متساهلون.
وإذا رأيتم أن نقرأ المقدمة -لأن فيها فائدة- فهو حسن.
التعريف بابن مالك وألفيته
الحياة العلمية في عصر ابن مالك
[بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد.
مقدمة: الحالة العلمية في عصر ابن مالك .
يمتاز عصر ابن مالك بكثرة ما ألف فيه من كتب في مختلف العلوم والفنون، ويرجع ذلك إلى ما كان يغدقه الملوك على العلماء من المال، وإلى ما كان للعلماء من المنزلة الرفيعة والتوقير لدى السلاطين والحكام، وإلى ما كان من رغبة بعض هؤلاء الملوك في إنشاء الخزانات الخاصة وحمل العلماء على تأليف الكتب برسمها.
هذا إلى كثرة إنشاء المدارس وإقبال الطلاب عليها، هذه الحالة التي جعلت العلماء ينكبون على التأليف والتدوين حتى كان ما ألفوه أعظم ثروة علمية للغة والدين والآداب.
ولعل كثرة إنشاء المدارس وإقبال الطلاب عليها وتخصيص المدرسين لها؛ لعل ذلك كان سبباً في أن يصبح التعليم صناعة خاصة تحمل العلماء على التفكير في تسهيل العلم على طلابه، وتيسير السبيل عليهم للإحاطة بشوارده، ولعله كان سبباً في أَنْ أكثرَ العلماءُ من نظم العلوم المختلفة، بل من نظم المنظومات المختلفة في العلم الواحد، فإنه من الثابت أن النظم أسرع في الحفظ وأبقى في الذهن من النثر.
وإذا علمت أن ابن مالك أندلسي المولد والنشأة، وأن أهل الأندلس إذ ذاك أشد أهل الأرض حباً للعلم وتفانياً في تحصيله وتوقيراً لأهله، وأن ابن مالك ميال بطبعه إلى النظم فلم يكن يعاني في قوله مشقة، ولا يصادفه في إنشائه عنت؛ إذا عرفت ذلك أمكنك أن تدرك السر فيما وصل إليه ابن مالك من العلم والفضل].
ترجمة ابن مالك ناظم الألفية
[هو الإمام أبو عبد الله محمد جمال الدين بن عبد الله بن مالك الطائي نسباً الجياني منشأً الدمشقي إقامة ووفاة الشافعي النحوي.
ولد رحمه الله سنة (600هـ) بجيان إحدى مدن الأندلس، ثم رحل إلى دمشق واستزاد فيها من العلم، وأقام بها مدة يصنف ويشتغل بالتعليم حتى أدركته منيته لاثنتي عشرة خلت من شعبان سنة (672هـ.
مشايخ ابن مالك
[مشايخه:
ابتدأ ابن مالك حياته بالأندلس، فأخذ عن شيوخه ما أخذ، وكانت دمشق مركزاً علمياً يحج وتضرب إليه آباط الإبل].
قوله: (يحج) يعني: يقصد، فالحج هنا يراد به المعنى اللغوي.
[فسمت بـابن مالك همته إلى ورود منابعها الصافية، فرحل إليها وأخذ عن أئمتها، وكان من مشايخه فيها وفي الأندلس مكرم وأبو صادق الحسن بن صباح ، وأبو الحسن السخاوي .
وممن أخذ عنهم العربية بجيان: أبو المظفر ثابت بن محمد بن يوسف بن خياط الكلاعي من أهل لبلبة، وقرأ كتاب سيبويه على أبي عبد الله بن مالك المرشاني .
ومن مشايخه أيضاً: ابن يعيش شارح المفصل، وتلميذه ابن عمران ، وتلميذه ابن عمرون ، ويقال إنه جلس عند أبي علي الشلوبين بضعة عشر يوماً، ونقل التبريزي في أواخر شرح الحاجبية أنه جلس في حلقة ابن الحاجب واستفاد منه، وأخذ القراءة عن أبي العداس أحمد بن نوار وأتقنها حتى صار إماماً فيها، وصنف فيها قصيدة دالية مرموزة في قدر الشاطبية.
تلاميذ ابن مالك
[تلاميذه:
وتخرج به جماعة منهم الإمام النووي ، وروى عنه ولده بدر الدين محمد وشمس الدين بن جعوان ، وشمس الدين بن أبي الفتاح ، وابن العطار ، وزين الدين أبو بكر المزي ، والشيخ أبو الحسين اليويني شيخ المؤرخ الذهبي ، وأبو عبد الله الصيرفي ، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة ، وشهاب الدين بن غانم وناصر الدين بن شافع ، وخلق سواهم.
وروى عنه الألفية شهاب الدين محمود ، ورواها الصفدي خليل عن شهاب الدين محمود قراءة ، ورواها إجازة عن ناصر الدين شافع بن عبد الظاهر ، وعن شهاب الدين بن غانم بالإجازة عنهما عنه].
أخلاق ابن مالك
[أخلاقه:
كان على جانب عظيم من الدين والعبادة وكثرة النوافل وحسن السمت، وكمال العقل والعفة.
ومن مظاهر إخلاصه لله في عمله ما قيل من أنه كان يخرج على باب مدرسته ويقول: هل من راغب في علم الحديث أو التفسير أو كذا أو كذا، قد أخلصتها من ذمتي، فإذ لم يجد قال: خرجت من آفة الكتمان.
وكان سليم الخلال رزيناً حيياً وقوراً، جم التواضع على كثرة علمه، شغوفاً بالإفادة شديد الحرص على العلم والتعليم.
كان إماماً فذاً في علوم العربية، فقد صرف همته إلى إتقان لسان العرب حتى بلغ فيه الغاية وأربى على المتقدمين، وكان إليه المنتهى في اللغة، وكان في النحو والتصريف البحر الزاخر والطود الشامخ حتى كانت شهرته على الخصوص بهما، وجل تأليفه فيهما.
ومن رسوخ قدمه في النحو أنه كان يقول عن ابن الحاجب وهو أحد أئمة العربية: إنه أخذ نحوه عن صاحب المفصل وصاحب المفصل نحوي صغير.
وإذا علمت أنه يقول هذا في حق الزمخشري وهو إمام عصره في اللغة والنحو والبيان والتفسير والحديث، وكانت تشد إليه الرحال في كل فن منها؛ إذا علمت هذا علمت مقدار علم ابن مالك وفضله.
وكان في الحديث واسع الاطلاع، وكان أكثر ما يستشهد بالقرآن، فإذ لم يكن فيه شاهد عدل إلى الحديث، وإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى أشعار العرب، وقد اعترف له فضلاء زمانه بالتقدم والفضل، فكان إماماً في العادلية، وكان إذا صلى فيها يشيعه قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان إلى بيته تعظيماً له].
مؤلفات ابن مالك
[مؤلفاته:
ألف ابن مالك كتباً كثيرة:
منها: ألفية ابن مالك ، وسماها الخلاصة، وإنما اشتهرت بالألفية لأنها ألف بيت، جمع فيها مقاصد العربية من نحو وصرف.
ثانياً: تسهيل الفوائد وتمهيد المقاصد. وهو مختصر كتاب له اسمه: كتاب الفوائد في النحو.
ثالثاً: لامية الأفعال، أو كتاب المفتاح في أبنية الأفعال، ويقال لها لامية ابن مالك .
رابعاً: الكافية الشافية، وهي أرجوزة في النحو في ألفين وسبعمائة وسبعة وخمسين بيتاً، ومنها لخص ألفيته هذه.
خامساً: عدة الحافظ وعمدة اللافظ في النحو.
سادساً: سبك المنظوم وفك المختوم في النحو.
سابعاً: إيجاز التعريف في علم التصريف.
ثامناً: شواهد التوضيح وتصحيح مشكلات الجامع الصحيح.
تاسعاً: كتاب العروض.
عاشراً: تحفة المودود في المقصور والممدود. وهي قصيدة همزية جمع فيها الألفاظ التي آخرها ألف تشتبه أن تكون مقصورة أو ممدوة.
الحادي عشر: الألفاظ المختلفة، مجموع مترادفات.
الثاني عشر: الاعتضاد في الفرق بين الصاد والضاد، قصيدة مشروحة.
الثالث عشر: الإعلام بمثلث الكلام. أرجوزة في نحو ثلاثة آلاف بيت، ذكر فيها الألفاظ التي لكل منها ثلاثة معان باختلاف حركاتها، ورتب تلك الألفاظ على الأبجدية، فهي كالمعجم للمثلثات].
الكلام على الألفية
[الألفية:
تقدم ابن مالك في عمل ألفية نحوية ابن معط ، ثم جاء ابن مالك فنظم ألفيته هذه، وفيها يقول:
فائقة ألفية ابن معط .
وتمتاز ألفية ابن مالك عن ألفية ابن معط بأنها من بحر واحد هو كامل الرجز، وتلك من السريع والرجز، وأنها أكثر أحكاماً منها.
وللجلال السيوطي ألفية زاد فيها على هذه كثيراً، وقال في أولها:
فائقة ألفية ابن مالك ].
لكن السيوطي رحمه الله يقول:
فائقة ألفية ابن مالك
لكونها واضحة المسالك
وليست أوضح من ألفية ابن مالك ، فهي لا تكاد يفهم منها شيء.
و للأجهوري المالكي ألفية زاد فيها على السيوطي وقال: فائقة ألفية السيوطي .
والذي نستطيع أن نقوله: إن ألفية ابن مالك هي التي كتب لها البقاء وعم الانتفاع بها، فهي مراد لكل مريد للعربية، وهي التي تناولها كثير من العلماء بالشرح والتبسيط والتوضيح.
شراح الألفية
[شراح الألفية:
حازت ألفية ابن مالك عناية الكثيرين من أئمة النحو، فتناولوها بالشرح والتفسير، ومن شراحها المؤلف وابنه بدر الدين محمد وبرهان الدين إبراهيم الأبناسي الهاشمي، وبهاء الدين بن عقيل، والشيخ عبد الله الأودكاوي وبدر الدين الحسن المصري المعروف بـابن أم قاسم، ونور الدين أبو الحسن الأشمورني، والمختار بن بونه ، وزين الدين عبد الرحمن المعروف بـالعيني ، وأبو زيد عبد الرحمن المكودي ، وأبو محمد القاسم الرعيني الأندلسي ، وشمس الدين أبو عبد الله الهواري الأندلسي وغيرهم].
وأكثر شروحها ذيوعاً وانتشاراً شرح ابن عقيل وشرح الأشموني .
أما أوضح المسالك فليس بشرح؛ لأنه لا يذكر الأبيات ويشرحها.
قرأنا المقدمة، وكان مما مر علينا أن من تلاميذ ابن مالك النووي رحمه الله، وقد ذكر بعض العلماء أن قول ابن مالك في باب المبتدأ والخبر:
(ورجل من الكرام عندنا)
يقصد به النووي، وذكر النووي رحمه الله في باب صفة الصلاة عند الكلام على حكم الكلام في الصلاة؛ ذكر ابن مالك ووصفه بأنه: (شيخنا الذي انتهت إليه في عصرنا الإمامة في اللغة العربية) فأثنى عليه كثيراً، وهذه شهادة من النووي رحمه الله لـابن مالك .
تعريف علم النحو وحكم تعلمه
يقول: (قال محمد هو ابن مالك
إلى آخره).
أولاً: لابد أن نعرف علم النحو، وهو: علم يعرف به أحوال أواخر الكلم من حيث الإعراب والبناء.
وحكم تعلمه: أنه فرض كفاية.
وهو مهم ولاسيما في عصرنا هذا، حيث إن الكثير من الطلبة لا يفهمون عن الإعراب شيئاً.
وعلم النحو سهل صعب، فهو في ابتدائه صعب، لكن الإنسان إذا فهم قواعده صار سهلاً ويسيراً عليه، ولهذا يقال: إن النحو سهل لكن بابه حديد، إذا دخلت من هذا الباب فلن يبقى أمامك شيء يشق عليك، لكن ادخل الباب ولا تيأس فهو سهل.
ثم إنه مما يسهل النحو أن الإنسان يجد التمارين فيه في كل ما ينطق به، فكل كلمة أو جملة تقولها أو تسمعها أو تقرؤها فهي تمرين على النحو، فهو لا يحتاج إلى تكلف أمثلة وصعوبة، ولهذا لا يكون صعباً على من أراده بجد.
شرح مقدمة الألفية
من هو ابن مالك
[قال محمد هو ابن مالك
أحمد ربي الله خير مالك]
(قال محمد) القول لابد له من قائل ومقول، فالقائل هنا صرح به المؤلف: (قال محمد)، والمقول هو الألفية كلها، ولهذا نقول في الإعراب:
قال: فعل ماض.
ومحمد: فاعل، وجملة (أحمد ربي إلى آخر الكتاب وهو قوله:
وآله الغرام الكرام البرره
وصحبه المنتخبين الخيره).
كل هذه جملة واحدة تعتبر مقول القول في محل نصب.
وقوله: ( هو ابن مالك ) الجملة تفسير أو في محل نصب على الحال، أي: مبيناً أنه ابن مالك ، ومالك هو اسم جده، لكنه اشتهر به، واسم أبيه عبد الله ، ويجوز للإنسان أن ينتسب إلى من اشتهر به مع العلم بأبيه الأدنى، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة ثقيف (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ) لأن عبد المطلب أشهر من ابنه عبد الله، فهنا ابن مالك اشتهر بهذا الاسم محمد بن مالك وإلا فهو محمد بن عبد الله .
معنى الحمدلة
قوله: (أحمد ربي الله خير مالك):
أحمد: فعل مضارع يدل على التجدد؛ لأن الحمد فعل يحدثه الإنسان بلسانه.
والحمد: هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
فقولنا: (وصف المحمود بالكمال) خرج به الذم الذي هو مقابل المدح.
وقولنا: (مع المحبة والتعظيم) خرج به المدح؛ لأن المدح قد يقترن به حب التعظيم وقد لا يقترن به، فمن مدح ملكاً من الملوك لينال منه جائزة فإن هذا لا يكون حمداً إلا إذا كان في قلب المادح حب وتعظيم لهذا الملك، أما إذا كان يحب أن يقضم الملك بنواجذه لكن اضطر إلى مدحه ليأخذ من جائزته فهذا لا يسمى حمداً، وإنما يسمى مدحاً.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه بدائع الفوائد -الذي هو اسم على مسمى (بدائع)، فهو يبحث في ما يعن له في خاطره من غير ترتيب، لكنه يبحث أحياناً بحوثاً لا تكاد تجدها في غيره- بحث عن الفرق بين الحمد والمدح بحثاً عظيماً، وقال: كان شيخنا إذا تكلم في هذا الباب أتى بالعجب العجاب.
وشيخه هو ابن تيمية، ولكنه كما قيل:
تألق البرق نجدياً فقلت له
إليك عني فإني عنك مشغول
أي أنه رحمه الله مشغول عن مباحث النحو وما يتعلق به بأمور أهم؛ بمجادلة الفلاسفة والمتكلمين والمنطقيين وغيرهم.
وقد جرى بينه وبين أبي حيان الإمام المشهور في النحو في مصر مناظرة في مسائل نحوية، وكان أبو حيان يعظمه ويجله وقال فيه قصيدة عصماء منها:
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا
مقام سيد تيم إذ عصت مضر
وسيد تيم هو أبو بكر رضي الله عنه، وعصيان مضر كان في الردة.
ولما قدم شيخ الإسلام إلى مصر وجرت بينه وبين أبي حيان مناظرة في النحو، واحتج أبو حيان على شيخ الإسلام بما في كتاب سيبويه، وقال: إن ما ذكرته مخالف لما في الكتاب.
فقال: أي كتاب؟ قال: كتاب سيبويه.
قال: وهل سيبويه نبي النحو حتى يجب علينا اتباعه، لقد غلط سيبويه في كتابه في أكثر من ثمانين موضعاً لا تعرفها لا أنت ولا سيبويه!
فحمي الرجل وغضب وهجاه بقصيدة؛ لأنه تكلم عليه هذا الكلام.
فالمهم على كل حال أن الحمد هو: وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
(أحمد ربي الله): لم يقل أحمد الله ربي، بل بدأ بالربوبية؛ لأن المقام مقام استعانة، والربوبية تتعلق بالاستعانة أكثر من الألوهية، فالألوهية للعبادة، والاستعانة بالربوبية أكثر، ولهذا قال: (أحمد ربي).
وقوله: (الله) هذا عطف بيان يبين من ربه، وهو الله.
والرب في الأصل: المتصرف في الشيء، ولهذا يقال لمالك الدابة: رب الدابة، ولمالك الدار: رب الدار.
لكن الرب الذي هو الله عز وجل نقول في تفسيره: هو الخالق المالك المدبر، والملك المطلق لا يكون إلا لله، والخلق المطلق لا يكون إلا لله، والتدبير المطلق لا يكون إلا لله، فما أضيف إلى المخلوق من خلق فليس خلقاً حقيقة وإنما هو تغيير، ففي الحديث: (يقال للمصورين أحيوا ما خلقتم) وهم لم يخلقوا شيئاً، وإنما حولوا الشيء إلى شيء آخر، وأما الإيجاد فلا يكون إلا لله.
كذلك الملك الحقيقي لله، والملك المضاف للمخلوق ليس ملكاً مطلقاً، بل هو ملك قاصر في شموله، وقاصر في تصريفه.
قاصر في شموله؛ لأن المالك من الخلق لا يملك إلا ما تحت يده، وما عند غيره فليس له، وكذلك قاصر في تصريفه، إذ إن المالك لا يملك التصرف على ما يريد في كل شيء، بل على حسب ما شرعه الله عز وجل.
والله هو المألوه، أي: المعبود حباً وتعظيماً.
وقوله: (خير مالك) هذه من متعلقات الربوبية، يعني أنه سبحانه وتعالى خير من ملك، حتى فيما يصيب العبد من المصائب والنكبات فهي خير، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)!
شرح الصلاة على النبي وآله
قوله: (مصلياً على النبي المصطفى):
مصلياً: حال من فاعل (أَحمدُ)، يعني: أحمد الله حال كوني مصلياً على النبي، أي سائلاً الله عز وجل أن يصلي عليه.
وصلاة الله على نبيه هي: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى.
وليست الصلاة من الله هي الرحمة كما زعمه بعض العلماء، بل الصلاة أخص من الرحمة، والدليل على التباين بينهما قوله تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:157]، والأصل في العطف المغايرة.
ولو كانت الصلاة هي الرحمة لجاز أن نصلي على كل واحد كما جاز أن نترحم على كل واحد، ومعروف أن الصلاة على غير الأنبياء لا تجوز إلا تبعاً أو لسبب.
فالصلاة تبعاً كما في قوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.
والصلاة لسبب كما في قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103]، وأما أن تتخذ شعاراً لشخص معين سوى الأنبياء فإن ذلك لا يجوز.
وقوله: (على النبي):
النبي: قيل إنه من النبيء بالهمز، لكنه سهل، وجعلت الهمزة ياء وأدغمت في الياء الأولى، وإنه مأخوذ من النبأ وهو الخبر؛ لأن النبي منبَّأ منبِّئ فهو منبأ من قبل الله، ومنبئ للخلق عن الله.
وقيل: إن النبي ليس فيه تسهيل، وإنه مأخوذ من النبوة وهي الارتفاع، وذلك لارتفاع رتبة النبي.
والصحيح أنه مأخوذ من هذا ومن هذا، فهو لفظ مشترك بين المعنيين، والوصفان صالحان للنبي، فهو عليه الصلاة والسلام منبئ ومنبأ وعالي الرتبة.
وقوله: (المصطفى):
يعني المختار، أي المختار من الأنبياء؛ لأن الأنبياء مختارون من المؤمنين، والأنبياء أنفسهم منهم من اختاره الله مثل أولي العزم الخمسة: محمد صلى الله عليه وسلم، وإبراهيم، وموسى، ونوح، وعيسى، وهم مذكورون في كتاب الله في موضعين: في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7] ، وفي قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13] فهو صلى الله عليه وسلم من المصطفين.
والمصطفى تصريفها في الأصل: أن الطاء أصلها تاء (المصتفى)، لكن القاعدة في اللغة العربية أنه إذا اجتمعت التاء والصاد قلبت التاء طاء، وهو مأخوذ من الصفوة.
قوله: (وآله المستكملين الشُرفا):
ويجوز: (الشَرفا).
فإن قلنا (الشُرفا) صارت صفة لآل، وإن قلنا (الشَرفا) صارت مفعولاً به للمستكملين، أي: الذين استكملوا الشرف.
(وآله) هنا أتباعه على دينه؛ لأن الآل على القول الراجح إن قرنت بالأتباع فالمراد بها المؤمنون من قرابته، وإن أفردت فالمراد بها أتباعه على دينه.
ففي قوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، المراد أتباعه على دينه.
وفي قول القائل: اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه، المراد المؤمنون من قرابته، هذا هو الصحيح، ولا يتم المعنى إلا بذلك، وأما من حمل الآل على الأتباع مطلقاً أو على المؤمنين من أقاربه مطلقاً ففي قوله نظر.
وقوله: (المستكملين الشرفا) يعني الذين أكملوا الشرف في أخلاقهم وفي عباداتهم وفي معاملاتهم، فإن الشرف والسيادة يكون لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كانوا من قرابته نالوا شرفين: شرف الإيمان وشرف النسب والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
شرح استعانة المؤلف بالله تعالى
ثم قال: (وأستعين الله في ألفيه)
هنا أظهر في موضع الإضمار ولم يقل: وأستعينه في ألفية؛ لأن باب الدعاء ينبغي فيه البسط.
ثم إنه لما طال الفصل بين قوله: (أحمد ربي) و(أستعين الله) حسن أن يظهر في موضع الإضمار.
وثم شيء ثالث، وهو أنه لما قال: (مصلياً على النبي) لو قال: (وأستعينه) لتوهم الواهم أنه يستعين بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فلهذه الأسباب الثلاثة أظهر رحمه الله وقال: (أستعين الله)، ولم يقل: أستعينه.
ومعنى أستعين: أطلب العون، كقول القائل: أستغفر الله، أي أطلب المغفرة.
وما ذهب إليه المؤلف رحمه الله من بدء العمل بهذه الألفية مع استعانة الله مطابق تمام المطابقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) فالمؤلف بهمته العليا نظم الألفية فحرص على ما ينفعه، ولكنه لم يقتصر على ذلك بل قال: (وأستعين الله في ألفيه)، ومن استعان بالله متلجئاً إليه صادقاً في قصده فإن الله تعالى يعينه، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أمر بمعونة من استعانك وأنت مخلوق، فإعانته من استعان به من باب أولى، ولكن اصدق الله أنك تستعينه حقيقة، فإن أكثرنا -نسأل الله أن يعاملنا بعفوه- يعتمد على ما أعطاه الله من القوة وينسى الله، وربما يتكلم بكلام يدل على إعجابه بنفسه والعياذ بالله، فيقول: فعلت وفعلت وفعلت إلى آخره، لكن المؤمن حقاً هو الذي يحرص على ما ينفعه ويقوم بما يستطيع، لكن مع الاستعانة بالله عز وجل.
وقوله: (وأستعين الله في ألفية) أي: في نظمها، وهي نسبة إلى الألف، وهذه المنظومة لا تزيد على ألف بيت إلا ببيتين فقط، والكسر عند العرب مغتفر، على أنك إذا تأملت وجدت أنها لم تزد في الحقيقة؛ لأنه استشهد في ضمنها ببيت لغيره فيسقط، وتكون ألفاً وواحداً.
والبيت الأول وهو افتتاح الألفية: (قال محمد هو ابن مالك ) فلم يكن من مقول القول، فيصدق عليها أنها ألف بيت لا تزيد ولا تنقص.
والخطب في هذا سهل، أعني أنا لو فرضنا أنها ألف وخمسة أو ألف وعشرة فإن الكسر عند العرب إما أن يجبر وإما أن يلغى.
ثناء ابن مالك رحمه الله على ألفيته
الصفات التي جمعتها الألفية
قوله: (مقاصد النحو بها محويه):
المقاصد: جمع مقصود، يعني أن المقصود من النحو قد حوته هذه الألفية.
ومعنى محوية: مجموعة.
ثم بين أن هذه الألفية مع شمولها وجمعها لمقاصد النحو سهلة فقال:
[تقرب الأقصى بلفظ موجز
وتبسط البذل بوعد منجز]
(الأقصى) يحتاج إلى مسافة طويلة، لكنها تقربه بلفظ قصير؛ لأن الموجز القصير، فهي تجمع لك شتات النحو البعيدة بلفظ قصير.
وقوله: (وتبسط البذل):
يعني تبذل بذلاً موسعاً؛ لأن البسط بمعنى التوسيع، قال الله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد:26] أي يضيق، فهي تبسط البذل، أي: توسع العطاء.
قوله: (بوعد منجز): يعني تعد بالعطاء ثم تنجزه بدون تأخير.
فجمعت بين أربع صفات:
الأولى: تقريب الأقصى، أي البعيد.
والثانية: أن لفظها موجز ليس بكثير يمل منه الإنسان، فليس مما يقرأ ويقرأ ولا يحصل منه إلا فائدة قليلة.
الثالثة: أنها تبسط البذل، يعني: توسعه، والبذل هو العطاء، فهي توسع العطاء.
والرابعة: أنها تنجز ما وعدت.
ولا يخفى ما في هذا البيت من الاستعارة، حيث صور هذه الألفية بحي ذي إدراك وعطاء وبسط ووعد، وإلا فالألفية كلمات منظومة، لكن هذا يسميه علماء البلاغة استعارة، وهو كأن تستعير صفة الحي ذي الشعور والإرادة إلى جماد لا شعور له ولا إرادة.
قال ابن مالك رحمه الله تعالى: (وتقتضي رضا بغير سخط):
أي: تستلزم رضاً بغير سخط، والمراد أنها تقتضي من القارئ رضاً بما يجد فيها من العلم.
وقوله: (بغير سخط) هذا من باب بيان أن هذا الرضا كامل لا يدخله سخط؛ لأن الرضا قد يطلق وإن كان فيه شيء من السخط، فإذا قال: (بغير سخط) تبين أنه رضا تام ليس فيه سخط.
تفضيل ابن مالك ألفيته على ألفية ابن معط وثناؤه عليه
قوله: (فائقة ألفية ابن معط ):
أي: فائقة ألفية ابن معط في أنها أكثر جمعاً للمسائل، وفي أنها على بحر واحد بخلاف ألفية ابن معط، وأيضاً هي أجمع منها وأسلس في اللفظ وأشد اتفاقاً، حيث إنها على بحر واحد بخلاف ألفية ابن معط ؛ ولكن ابن مالك رحمه الله لما عنده من العدل بيَّن ما لـابن معط من الفضل، فقال:
(وهو بسبق حائز تفضيلا).
قوله: (وهو) أي ابن معط .
(بسبق): الباء للسببية، أي: بسبب سبقه لنظم ألفية في النحو، وليس المراد بسبب سبقه بالزمن؛ لأن السابق بالزمن قد يكون له فضل وقد لا يكون.
(حائز تفضيلا): أي مدرك للتفضيل بسبب سبقه لنظم ألفية في النحو، ووجه ذلك أنه لما سبق إلى هذا فتح الباب للناس ليسيروا على منواله، فكان له فضل القدوة والأسوة.
(مستوجب ثنائي الجميلا): أي مستحق للثناء الجميل.
وقوله: (ثنائي الجميلا) هل الجميل صفة كاشفة أو هي صفة مقيدة؟
ينبني الجواب على الخلاف بين العلماء: هل الثناء لا يكون إلا في الخير؟ فإن كان الثناء لا يكون إلا في الخير كان قوله (الجميلا) صفة كاشفة، وإن كان الثناء يكون في الخير والشر فإنها صفة مقيدة، والصحيح أنه يكون في هذا وفي هذا، كما في الجنازة التي مرت فأثنوا عليها شراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجبت)، فالثناء يكون بالخير ويكون بالشر حسب ما يضاف إليه، وبناء على هذا يكون قوله (الجميلا) صفة مقيدة.
على أنه يمكن أن نقول: حتى وإن كان الثناء لا يكون إلا في الخير فإن الجميل صفة مقيدة؛ لأن مطلق الثناء في الخير قد يكون جميلاً وقد يكون دون ذلك.
إذاً: مستوجب الثناء أنه سبق إلى نظم الألفية وفتح الباب للناس، ومن دل على خير فهو كفاعله، وفي الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).
دعاء ابن مالك لنفسه ولابن معط
ثم قال المؤلف رحمه الله:
[والله يقضي بهبات وافره
لي وله في درجات الآخره]
(يقضي): أي يحكم؛ لأن القضاء يكون بمعنى الحكم، والجملة هنا خبرية لفظاً إنشائية معنى؛ لأن المراد بها الدعاء، يعني: أسأل الله أن يقضي بهبات وافرة.
والهبات: جمع هبة وهي العطية والمنحة. والوافرة: الكثيرة.
وقوله: (بهبات وافرة) قد يقول قائل: لماذا وصف الهبات وهي جمع بوافرة وهي مفرد؟
والجواب عن ذلك أن نقول: إنه إذا كان الجمع لما لا يعقل فإنه يجوز أن يوصف بالمفرد، وهذا في جمع الكثرة كثير، ولكنه في جمع القلة قليل، و(هبات) من جمع القلة؛ لأن الجمع السالم من مذكر أو مؤنث يعتبر من جمع القلة، وجمع القلة له أوزان معينة وجمع الكثرة له أوزان معينة.
جمع القلة أوزانه أربعة، قال ابن مالك فيها:
أفعلة أفعل ثم فعله
ثم أفعال جموع قله
إذاً: جموع القلة هي: الجموع السالمة مثل المسلمون والمسلمات، والثاني: جموع التكسير الدالة على القلة.
قوله: (لي وله في درجات الآخره):
بدأ بنفسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك) والبداءة بالنفس هي الأولى في الدعاء.
وقوله: (في درجات الآخرة) يعني يوم القيامة، وهو بالنسبة لـابن معط حيث إنه قد مات لا تمكن الهبات إلا في الآخرة، لكن بالنسبة لـابن مالك وهو موجود يمكن أن تكون هبات في الدنيا وهبات في الآخرة، لكنه رحمه الله اختار أن تكون الهبات في الآخرة؛ لأنها هي الباقية.
أورد بعض الناس على هذا البيت لـابن مالك إيرادين:
الإيراد الأول: أنه وصف الهبات وهي جمع بوافرة، والأفصح فيها المطابقة، أي أن يقال: بهبات وافرات.
الثاني: قوله: (لي وله). قالوا: خص نفسه وابن معط بالدعاء، فلم يدع لجميع المسلمين.
والجواب عن الأول: أنه وصفها بما يوصف به جمع الكثرة جبراً لنقصها.
والجواب عن الثاني: أنه لا مانع من أن يدعو الإنسان لنفسه ولغيره ممن يرى تخصيصه، أو يدعو بالعموم.
نعم. لو قال: (لي وله ولا تقض بالهبات لغيرنا) لكان هذا خطأ، أما تخصيص الإنسان نفسه بالدعاء أو من شاء من الناس فإنه لا يلام عليه ولا يذم، ولكن المحشين دائماً ينقشون، فقالوا: لو قال:
والله يقضي بالرضا والرحمه
لي وله ولجميع الأمه
لكان أحسن!
على كل حال: الأصل أن ابن مالك لا اعتراض عليه في هذا، فلا نرى أنه معترض عليه، وتخصيص الإنسان نفسه أو غيره بالدعاء لا بأس به، وقد جاءت السنة بالتخصيص للنفس كثيراً وبتخصيص الغير كثيراً أيضاً، مثل: (اللهم اغفر لـأبي سلمة وارفع درجته في المهديين)، وفي الجلوس بين السجدتين: (رب اغفر لي وارحمني)، ولا حرج في هذا.
مقدمة في فوائد علم النحو ونشأته
قال محمد هو ابن مالك أحمد ربي الله خير مالك
مصلياً على النبي المصطفى وآله المستكملين الشرفا
وأستعين الله في ألفيه مقاصد النحو بها محويه
تقرب الأقصى بلفظ موجز وتبسط البذل بوعد منجز
وتقتضي رضا بغير سخط فائقة ألفية ابن معط
وهو بسبق حائز تفضيلا مستوجب ثنائي الجميلا
والله يقضي بهبات وافره لي وله في درجات الآخره
أهمية علم النحو
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
نبدأ هذه الجلسات في النحو بألفية ابن مالك ، وهي وإن كانت منتهى الطلب في النحو ، لكن نظراً إلى أنكم والحمد لله قد أخذتم من النحو شيئاً كثيراً جعلناها هي المبتدأ.
والحقيقة أن علم النحو مهم جداً لما فيه من الفوائد الكثيرة.
فمن فوائده تقويم اللسان وتقويم البنان، أي: تقويم اللسان عند النطق، وتقويم البنان عند الكتابة.
والنطق وإن كان الناس يتخاطبون فيما بينهم باللغة العامية فيعذرون؛ لأنك لو أردت أن تخاطب العامي باللغة العربية الفصحى لقال: هذا رجل أعجمي! لأنه لا يفهم اللغة العربية الفصحى إلا من ندر، لكن الكتابة التي يكون بالنحو تقويمها هي المهمة بالنسبة لطلبة العلم؛ لأن بعض الطلبة يكتب ما يكتب من الجواب على الأسئلة أو البحوث فتجد عنده من اللحن ما تكاد تقول: إنه في أول الدراسة، مع أنه قد يأخذ الشهادة العالية بعد شهر أو شهرين، وهذه محنة لما نعيشها اليوم.
وبعض الطلبة إذا تكلم في الحديث أو تكلم في الفقه أو في التفسير وجدت كلامه جيداً، لكن عندما يكتب تجد عنده أخطاء، ربما يقول: باضت الدجاجةَ البيضةُ، فيجعل الدجاجة بيضة للبيضة، وتجد أشياء غريبة.
لهذا أرى أنه يتعين على الطلبة الآن أن يتعلموا النحو وأن يمرنوا ألسنتهم وأقلامهم عليه حتى لا تسوء سمعتهم بين الناس.
ومن فوائد علم النحو: أنه يعين على فهم الكتاب والسنة؛ لأنه يعرف به الفاعل من المفعول به، ويعين على فهم المعنى، فكم من آية اختلف المعنى بإعرابها، فمثلاً قال تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة:6] أو (وأرجلِكم) فيختلف المعنى باختلاف الإعراب.
اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1] أو (والأرحامِ) فيختلف المعنى، فأنت إذا فهمت النحو أعانك على فهم المعنى، حتى تُنَزِّل الآيات والأحاديث على المراد بها.
ومن فوائد علم النحو: إحياء اللغة العربية الفصحى، ولاشك أن إحياء اللغة العربية الفصحى وانتشارها بين الناس يؤدي إلى أن يسهل فهم الكتاب والسنة على كثير من الناس.
وبهذا نعلم أن من قام بنشر اللغة غير العربية بين العامة فقد جنى على نفسه وعلى لغته وعلى من علمه تلك اللغة، نسمع أن من سفهائنا من يعلم صبيانه بدلاً من أن يقول: إذا دخلت على بيت أو على جماعة فقل: السلام عليكم، وإذا أردت أن تنصرف فقل: السلام عليكم؛ يقول: إذا دخلت فقل: باي باي! أو إذا انصرفت فقل: باي باي!سبحان الله! عندك لغة عربية ودعاء بالسلام فتجعل هذا الشيء بدلاً منه؟!
فلهذا أقول: إن تعلم اللغة العربية يؤدي إلى سهولة التخاطب بها، والتخاطب بها يعين الإنسان على معرفة الكتاب والسنة.
نشأة علم النحو
وعلم النحو إنما احتاج الناس إليه حين بدأ اللسان يختلف، ويقال: إن أول من ابتكره أبو الأسود الدؤلي في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك حينما دخل على ابنته وهي مضطجعة على فراشها تنظر إلى السماء وإلى المصابيح في الدجى، فقالت: يا أبت، ما أحسنُ السماء؟ فأجابها: نجومها.
لأن قولها: ما أحسنُ السماء، يعني: أي شيء أحسن في السماء؟ فقال: نجومها، وهي لا تريد هذا، إنما تريد أن تتعجب من حسن السماء، فقالت: لست أريد هذا، إنما أريد أن أتعجب من حسنها. قال: يا بنية! افتحي فاك فقولي: ما أحسنَ السماءَ!
لأنها إذا قالت: ما أحسنَ السماء! صارت الجملة جملة تعجب، وهذا هو المراد.
فذهب أبو الأسود الدؤلي إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأخبره الخبر، وكأنه يقول: أدرك الناس لا يفسد لسانهم، فوضع له شيئاً من القواعد وقال له: انح هذا المنحى، فسمي علم النحو.
وعلم النحو وعلم الصرف صنوان يكمل أحدهما الآخر، لكن الناس إلى علم النحو أحوج منهم إلى علم الصرف؛ لأن علم النحو هو الذي تتغير به الكلمات كثيراً، وعلم الصرف تبقى الكلمة على ما هي عليه في اللغة لا تتغير سواء كانت فاعلاً أو مفعولاً أو مجروراً، لكن علم النحو هو الذي يكثر فيه التغيير، ولهذا كانت حاجة الناس إليه أعظم من حاجتهم إلى علم الصرف.
مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة والأرجح منهما
وقد كان هذا العلم علماً مستقلاً، وكما نعلم أن الشيء أول ما يخرج يكون ضعيفاً، ثم انتشر بين العلماء وصار له أئمة ومشايخ وأتباع، وصار فيه مناظرات ومجادلات كثيرة، وانقسم العلماء فيه إلى قسمين: علماء الكوفة وزعيمهم الكسائي ، وعلماء البصرة وزعيمهم سيبويه ، ولكل منهم نظرات في علم النحو، وغالب ما يذهب إليه البصريون التقعيد والحفاظ على القواعد، وأما الكوفيون فهم يتساهلون في هذا الباب، وأنا إلى رأيهم أميل مني إلى رأي البصريين.
فأقول: القاعدة عندي: إذا اختلف الكوفيون والبصريون في مسألة فاتبع الأسهل فإنه أسهل، أي: ليس فيه تعقيد؛ لأن هذا ليس أمراً شرعياً يثبت بالأدلة الشرعية حتى ننظر ونتعب، فمادام هذا جائزاً عند جماعة من العلماء فلنتبعه، وتتبع الرخص في هذا الباب جائز ولا حرج فيه؛ لأن تتبع الرخص في هذا الباب أسهل، وسيمر بنا إن شاء الله تعالى مسائل كثيرة نجد أن البصريين فيها متشددون وأن الكوفيين متساهلون.
وإذا رأيتم أن نقرأ المقدمة -لأن فيها فائدة- فهو حسن.
التعريف بابن مالك وألفيته
الحياة العلمية في عصر ابن مالك
[بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد.
مقدمة: الحالة العلمية في عصر ابن مالك .
يمتاز عصر ابن مالك بكثرة ما ألف فيه من كتب في مختلف العلوم والفنون، ويرجع ذلك إلى ما كان يغدقه الملوك على العلماء من المال، وإلى ما كان للعلماء من المنزلة الرفيعة والتوقير لدى السلاطين والحكام، وإلى ما كان من رغبة بعض هؤلاء الملوك في إنشاء الخزانات الخاصة وحمل العلماء على تأليف الكتب برسمها.
هذا إلى كثرة إنشاء المدارس وإقبال الطلاب عليها، هذه الحالة التي جعلت العلماء ينكبون على التأليف والتدوين حتى كان ما ألفوه أعظم ثروة علمية للغة والدين والآداب.
ولعل كثرة إنشاء المدارس وإقبال الطلاب عليها وتخصيص المدرسين لها؛ لعل ذلك كان سبباً في أن يصبح التعليم صناعة خاصة تحمل العلماء على التفكير في تسهيل العلم على طلابه، وتيسير السبيل عليهم للإحاطة بشوارده، ولعله كان سبباً في أَنْ أكثرَ العلماءُ من نظم العلوم المختلفة، بل من نظم المنظومات المختلفة في العلم الواحد، فإنه من الثابت أن النظم أسرع في الحفظ وأبقى في الذهن من النثر.
وإذا علمت أن ابن مالك أندلسي المولد والنشأة، وأن أهل الأندلس إذ ذاك أشد أهل الأرض حباً للعلم وتفانياً في تحصيله وتوقيراً لأهله، وأن ابن مالك ميال بطبعه إلى النظم فلم يكن يعاني في قوله مشقة، ولا يصادفه في إنشائه عنت؛ إذا عرفت ذلك أمكنك أن تدرك السر فيما وصل إليه ابن مالك من العلم والفضل].
ترجمة ابن مالك ناظم الألفية
[هو الإمام أبو عبد الله محمد جمال الدين بن عبد الله بن مالك الطائي نسباً الجياني منشأً الدمشقي إقامة ووفاة الشافعي النحوي.
ولد رحمه الله سنة (600هـ) بجيان إحدى مدن الأندلس، ثم رحل إلى دمشق واستزاد فيها من العلم، وأقام بها مدة يصنف ويشتغل بالتعليم حتى أدركته منيته لاثنتي عشرة خلت من شعبان سنة (672هـ.
مشايخ ابن مالك
[مشايخه:
ابتدأ ابن مالك حياته بالأندلس، فأخذ عن شيوخه ما أخذ، وكانت دمشق مركزاً علمياً يحج وتضرب إليه آباط الإبل].
قوله: (يحج) يعني: يقصد، فالحج هنا يراد به المعنى اللغوي.
[فسمت بـابن مالك همته إلى ورود منابعها الصافية، فرحل إليها وأخذ عن أئمتها، وكان من مشايخه فيها وفي الأندلس مكرم وأبو صادق الحسن بن صباح ، وأبو الحسن السخاوي .
وممن أخذ عنهم العربية بجيان: أبو المظفر ثابت بن محمد بن يوسف بن خياط الكلاعي من أهل لبلبة، وقرأ كتاب سيبويه على أبي عبد الله بن مالك المرشاني .
ومن مشايخه أيضاً: ابن يعيش شارح المفصل، وتلميذه ابن عمران ، وتلميذه ابن عمرون ، ويقال إنه جلس عند أبي علي الشلوبين بضعة عشر يوماً، ونقل التبريزي في أواخر شرح الحاجبية أنه جلس في حلقة ابن الحاجب واستفاد منه، وأخذ القراءة عن أبي العداس أحمد بن نوار وأتقنها حتى صار إماماً فيها، وصنف فيها قصيدة دالية مرموزة في قدر الشاطبية.
تلاميذ ابن مالك
[تلاميذه:
وتخرج به جماعة منهم الإمام النووي ، وروى عنه ولده بدر الدين محمد وشمس الدين بن جعوان ، وشمس الدين بن أبي الفتاح ، وابن العطار ، وزين الدين أبو بكر المزي ، والشيخ أبو الحسين اليويني شيخ المؤرخ الذهبي ، وأبو عبد الله الصيرفي ، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة ، وشهاب الدين بن غانم وناصر الدين بن شافع ، وخلق سواهم.
وروى عنه الألفية شهاب الدين محمود ، ورواها الصفدي خليل عن شهاب الدين محمود قراءة ، ورواها إجازة عن ناصر الدين شافع بن عبد الظاهر ، وعن شهاب الدين بن غانم بالإجازة عنهما عنه].
أخلاق ابن مالك
[أخلاقه:
كان على جانب عظيم من الدين والعبادة وكثرة النوافل وحسن السمت، وكمال العقل والعفة.
ومن مظاهر إخلاصه لله في عمله ما قيل من أنه كان يخرج على باب مدرسته ويقول: هل من راغب في علم الحديث أو التفسير أو كذا أو كذا، قد أخلصتها من ذمتي، فإذ لم يجد قال: خرجت من آفة الكتمان.
وكان سليم الخلال رزيناً حيياً وقوراً، جم التواضع على كثرة علمه، شغوفاً بالإفادة شديد الحرص على العلم والتعليم.
كان إماماً فذاً في علوم العربية، فقد صرف همته إلى إتقان لسان العرب حتى بلغ فيه الغاية وأربى على المتقدمين، وكان إليه المنتهى في اللغة، وكان في النحو والتصريف البحر الزاخر والطود الشامخ حتى كانت شهرته على الخصوص بهما، وجل تأليفه فيهما.
ومن رسوخ قدمه في النحو أنه كان يقول عن ابن الحاجب وهو أحد أئمة العربية: إنه أخذ نحوه عن صاحب المفصل وصاحب المفصل نحوي صغير.
وإذا علمت أنه يقول هذا في حق الزمخشري وهو إمام عصره في اللغة والنحو والبيان والتفسير والحديث، وكانت تشد إليه الرحال في كل فن منها؛ إذا علمت هذا علمت مقدار علم ابن مالك وفضله.
وكان في الحديث واسع الاطلاع، وكان أكثر ما يستشهد بالقرآن، فإذ لم يكن فيه شاهد عدل إلى الحديث، وإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى أشعار العرب، وقد اعترف له فضلاء زمانه بالتقدم والفضل، فكان إماماً في العادلية، وكان إذا صلى فيها يشيعه قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان إلى بيته تعظيماً له].
مؤلفات ابن مالك
[مؤلفاته:
ألف ابن مالك كتباً كثيرة:
منها: ألفية ابن مالك ، وسماها الخلاصة، وإنما اشتهرت بالألفية لأنها ألف بيت، جمع فيها مقاصد العربية من نحو وصرف.
ثانياً: تسهيل الفوائد وتمهيد المقاصد. وهو مختصر كتاب له اسمه: كتاب الفوائد في النحو.
ثالثاً: لامية الأفعال، أو كتاب المفتاح في أبنية الأفعال، ويقال لها لامية ابن مالك .
رابعاً: الكافية الشافية، وهي أرجوزة في النحو في ألفين وسبعمائة وسبعة وخمسين بيتاً، ومنها لخص ألفيته هذه.
خامساً: عدة الحافظ وعمدة اللافظ في النحو.
سادساً: سبك المنظوم وفك المختوم في النحو.
سابعاً: إيجاز التعريف في علم التصريف.
ثامناً: شواهد التوضيح وتصحيح مشكلات الجامع الصحيح.
تاسعاً: كتاب العروض.
عاشراً: تحفة المودود في المقصور والممدود. وهي قصيدة همزية جمع فيها الألفاظ التي آخرها ألف تشتبه أن تكون مقصورة أو ممدوة.
الحادي عشر: الألفاظ المختلفة، مجموع مترادفات.
الثاني عشر: الاعتضاد في الفرق بين الصاد والضاد، قصيدة مشروحة.
الثالث عشر: الإعلام بمثلث الكلام. أرجوزة في نحو ثلاثة آلاف بيت، ذكر فيها الألفاظ التي لكل منها ثلاثة معان باختلاف حركاتها، ورتب تلك الألفاظ على الأبجدية، فهي كالمعجم للمثلثات].
الكلام على الألفية
[الألفية:
تقدم ابن مالك في عمل ألفية نحوية ابن معط ، ثم جاء ابن مالك فنظم ألفيته هذه، وفيها يقول:
فائقة ألفية ابن معط .
وتمتاز ألفية ابن مالك عن ألفية ابن معط بأنها من بحر واحد هو كامل الرجز، وتلك من السريع والرجز، وأنها أكثر أحكاماً منها.
وللجلال السيوطي ألفية زاد فيها على هذه كثيراً، وقال في أولها:
فائقة ألفية ابن مالك ].
لكن السيوطي رحمه الله يقول:
فائقة ألفية ابن مالك
لكونها واضحة المسالك
وليست أوضح من ألفية ابن مالك ، فهي لا تكاد يفهم منها شيء.
و للأجهوري المالكي ألفية زاد فيها على السيوطي وقال: فائقة ألفية السيوطي .
والذي نستطيع أن نقوله: إن ألفية ابن مالك هي التي كتب لها البقاء وعم الانتفاع بها، فهي مراد لكل مريد للعربية، وهي التي تناولها كثير من العلماء بالشرح والتبسيط والتوضيح.
شراح الألفية
[شراح الألفية:
حازت ألفية ابن مالك عناية الكثيرين من أئمة النحو، فتناولوها بالشرح والتفسير، ومن شراحها المؤلف وابنه بدر الدين محمد وبرهان الدين إبراهيم الأبناسي الهاشمي، وبهاء الدين بن عقيل، والشيخ عبد الله الأودكاوي وبدر الدين الحسن المصري المعروف بـابن أم قاسم، ونور الدين أبو الحسن الأشمورني، والمختار بن بونه ، وزين الدين عبد الرحمن المعروف بـالعيني ، وأبو زيد عبد الرحمن المكودي ، وأبو محمد القاسم الرعيني الأندلسي ، وشمس الدين أبو عبد الله الهواري الأندلسي وغيرهم].
وأكثر شروحها ذيوعاً وانتشاراً شرح ابن عقيل وشرح الأشموني .
أما أوضح المسالك فليس بشرح؛ لأنه لا يذكر الأبيات ويشرحها.
قرأنا المقدمة، وكان مما مر علينا أن من تلاميذ ابن مالك النووي رحمه الله، وقد ذكر بعض العلماء أن قول ابن مالك في باب المبتدأ والخبر:
(ورجل من الكرام عندنا)
يقصد به النووي، وذكر النووي رحمه الله في باب صفة الصلاة عند الكلام على حكم الكلام في الصلاة؛ ذكر ابن مالك ووصفه بأنه: (شيخنا الذي انتهت إليه في عصرنا الإمامة في اللغة العربية) فأثنى عليه كثيراً، وهذه شهادة من النووي رحمه الله لـابن مالك .
تعريف علم النحو وحكم تعلمه
يقول: (قال محمد هو ابن مالك
إلى آخره).
أولاً: لابد أن نعرف علم النحو، وهو: علم يعرف به أحوال أواخر الكلم من حيث الإعراب والبناء.
وحكم تعلمه: أنه فرض كفاية.
وهو مهم ولاسيما في عصرنا هذا، حيث إن الكثير من الطلبة لا يفهمون عن الإعراب شيئاً.
وعلم النحو سهل صعب، فهو في ابتدائه صعب، لكن الإنسان إذا فهم قواعده صار سهلاً ويسيراً عليه، ولهذا يقال: إن النحو سهل لكن بابه حديد، إذا دخلت من هذا الباب فلن يبقى أمامك شيء يشق عليك، لكن ادخل الباب ولا تيأس فهو سهل.
ثم إنه مما يسهل النحو أن الإنسان يجد التمارين فيه في كل ما ينطق به، فكل كلمة أو جملة تقولها أو تسمعها أو تقرؤها فهي تمرين على النحو، فهو لا يحتاج إلى تكلف أمثلة وصعوبة، ولهذا لا يكون صعباً على من أراده بجد.
شرح مقدمة الألفية
من هو ابن مالك
[قال محمد هو ابن مالك
أحمد ربي الله خير مالك]
(قال محمد) القول لابد له من قائل ومقول، فالقائل هنا صرح به المؤلف: (قال محمد)، والمقول هو الألفية كلها، ولهذا نقول في الإعراب:
قال: فعل ماض.
ومحمد: فاعل، وجملة (أحمد ربي إلى آخر الكتاب وهو قوله:
وآله الغرام الكرام البرره
وصحبه المنتخبين الخيره).
كل هذه جملة واحدة تعتبر مقول القول في محل نصب.
وقوله: ( هو ابن مالك ) الجملة تفسير أو في محل نصب على الحال، أي: مبيناً أنه ابن مالك ، ومالك هو اسم جده، لكنه اشتهر به، واسم أبيه عبد الله ، ويجوز للإنسان أن ينتسب إلى من اشتهر به مع العلم بأبيه الأدنى، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة ثقيف (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ) لأن عبد المطلب أشهر من ابنه عبد الله، فهنا ابن مالك اشتهر بهذا الاسم محمد بن مالك وإلا فهو محمد بن عبد الله .
معنى الحمدلة
قوله: (أحمد ربي الله خير مالك):
أحمد: فعل مضارع يدل على التجدد؛ لأن الحمد فعل يحدثه الإنسان بلسانه.
والحمد: هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
فقولنا: (وصف المحمود بالكمال) خرج به الذم الذي هو مقابل المدح.
وقولنا: (مع المحبة والتعظيم) خرج به المدح؛ لأن المدح قد يقترن به حب التعظيم وقد لا يقترن به، فمن مدح ملكاً من الملوك لينال منه جائزة فإن هذا لا يكون حمداً إلا إذا كان في قلب المادح حب وتعظيم لهذا الملك، أما إذا كان يحب أن يقضم الملك بنواجذه لكن اضطر إلى مدحه ليأخذ من جائزته فهذا لا يسمى حمداً، وإنما يسمى مدحاً.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه بدائع الفوائد -الذي هو اسم على مسمى (بدائع)، فهو يبحث في ما يعن له في خاطره من غير ترتيب، لكنه يبحث أحياناً بحوثاً لا تكاد تجدها في غيره- بحث عن الفرق بين الحمد والمدح بحثاً عظيماً، وقال: كان شيخنا إذا تكلم في هذا الباب أتى بالعجب العجاب.
وشيخه هو ابن تيمية، ولكنه كما قيل:
تألق البرق نجدياً فقلت له
إليك عني فإني عنك مشغول
أي أنه رحمه الله مشغول عن مباحث النحو وما يتعلق به بأمور أهم؛ بمجادلة الفلاسفة والمتكلمين والمنطقيين وغيرهم.
وقد جرى بينه وبين أبي حيان الإمام المشهور في النحو في مصر مناظرة في مسائل نحوية، وكان أبو حيان يعظمه ويجله وقال فيه قصيدة عصماء منها:
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا
مقام سيد تيم إذ عصت مضر
وسيد تيم هو أبو بكر رضي الله عنه، وعصيان مضر كان في الردة.
ولما قدم شيخ الإسلام إلى مصر وجرت بينه وبين أبي حيان مناظرة في النحو، واحتج أبو حيان على شيخ الإسلام بما في كتاب سيبويه، وقال: إن ما ذكرته مخالف لما في الكتاب.
فقال: أي كتاب؟ قال: كتاب سيبويه.
قال: وهل سيبويه نبي النحو حتى يجب علينا اتباعه، لقد غلط سيبويه في كتابه في أكثر من ثمانين موضعاً لا تعرفها لا أنت ولا سيبويه!
فحمي الرجل وغضب وهجاه بقصيدة؛ لأنه تكلم عليه هذا الكلام.
فالمهم على كل حال أن الحمد هو: وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
(أحمد ربي الله): لم يقل أحمد الله ربي، بل بدأ بالربوبية؛ لأن المقام مقام استعانة، والربوبية تتعلق بالاستعانة أكثر من الألوهية، فالألوهية للعبادة، والاستعانة بالربوبية أكثر، ولهذا قال: (أحمد ربي).
وقوله: (الله) هذا عطف بيان يبين من ربه، وهو الله.
والرب في الأصل: المتصرف في الشيء، ولهذا يقال لمالك الدابة: رب الدابة، ولمالك الدار: رب الدار.
لكن الرب الذي هو الله عز وجل نقول في تفسيره: هو الخالق المالك المدبر، والملك المطلق لا يكون إلا لله، والخلق المطلق لا يكون إلا لله، والتدبير المطلق لا يكون إلا لله، فما أضيف إلى المخلوق من خلق فليس خلقاً حقيقة وإنما هو تغيير، ففي الحديث: (يقال للمصورين أحيوا ما خلقتم) وهم لم يخلقوا شيئاً، وإنما حولوا الشيء إلى شيء آخر، وأما الإيجاد فلا يكون إلا لله.
كذلك الملك الحقيقي لله، والملك المضاف للمخلوق ليس ملكاً مطلقاً، بل هو ملك قاصر في شموله، وقاصر في تصريفه.
قاصر في شموله؛ لأن المالك من الخلق لا يملك إلا ما تحت يده، وما عند غيره فليس له، وكذلك قاصر في تصريفه، إذ إن المالك لا يملك التصرف على ما يريد في كل شيء، بل على حسب ما شرعه الله عز وجل.
والله هو المألوه، أي: المعبود حباً وتعظيماً.
وقوله: (خير مالك) هذه من متعلقات الربوبية، يعني أنه سبحانه وتعالى خير من ملك، حتى فيما يصيب العبد من المصائب والنكبات فهي خير، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)!
شرح الصلاة على النبي وآله
قوله: (مصلياً على النبي المصطفى):
مصلياً: حال من فاعل (أَحمدُ)، يعني: أحمد الله حال كوني مصلياً على النبي، أي سائلاً الله عز وجل أن يصلي عليه.
وصلاة الله على نبيه هي: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى.
وليست الصلاة من الله هي الرحمة كما زعمه بعض العلماء، بل الصلاة أخص من الرحمة، والدليل على التباين بينهما قوله تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:157]، والأصل في العطف المغايرة.
ولو كانت الصلاة هي الرحمة لجاز أن نصلي على كل واحد كما جاز أن نترحم على كل واحد، ومعروف أن الصلاة على غير الأنبياء لا تجوز إلا تبعاً أو لسبب.
فالصلاة تبعاً كما في قوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.
والصلاة لسبب كما في قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103]، وأما أن تتخذ شعاراً لشخص معين سوى الأنبياء فإن ذلك لا يجوز.
وقوله: (على النبي):
النبي: قيل إنه من النبيء بالهمز، لكنه سهل، وجعلت الهمزة ياء وأدغمت في الياء الأولى، وإنه مأخوذ من النبأ وهو الخبر؛ لأن النبي منبَّأ منبِّئ فهو منبأ من قبل الله، ومنبئ للخلق عن الله.
وقيل: إن النبي ليس فيه تسهيل، وإنه مأخوذ من النبوة وهي الارتفاع، وذلك لارتفاع رتبة النبي.
والصحيح أنه مأخوذ من هذا ومن هذا، فهو لفظ مشترك بين المعنيين، والوصفان صالحان للنبي، فهو عليه الصلاة والسلام منبئ ومنبأ وعالي الرتبة.
وقوله: (المصطفى):
يعني المختار، أي المختار من الأنبياء؛ لأن الأنبياء مختارون من المؤمنين، والأنبياء أنفسهم منهم من اختاره الله مثل أولي العزم الخمسة: محمد صلى الله عليه وسلم، وإبراهيم، وموسى، ونوح، وعيسى، وهم مذكورون في كتاب الله في موضعين: في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7] ، وفي قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13] فهو صلى الله عليه وسلم من المصطفين.
والمصطفى تصريفها في الأصل: أن الطاء أصلها تاء (المصتفى)، لكن القاعدة في اللغة العربية أنه إذا اجتمعت التاء والصاد قلبت التاء طاء، وهو مأخوذ من الصفوة.
قوله: (وآله المستكملين الشُرفا):
ويجوز: (الشَرفا).
فإن قلنا (الشُرفا) صارت صفة لآل، وإن قلنا (الشَرفا) صارت مفعولاً به للمستكملين، أي: الذين استكملوا الشرف.
(وآله) هنا أتباعه على دينه؛ لأن الآل على القول الراجح إن قرنت بالأتباع فالمراد بها المؤمنون من قرابته، وإن أفردت فالمراد بها أتباعه على دينه.
ففي قوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، المراد أتباعه على دينه.
وفي قول القائل: اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه، المراد المؤمنون من قرابته، هذا هو الصحيح، ولا يتم المعنى إلا بذلك، وأما من حمل الآل على الأتباع مطلقاً أو على المؤمنين من أقاربه مطلقاً ففي قوله نظر.
وقوله: (المستكملين الشرفا) يعني الذين أكملوا الشرف في أخلاقهم وفي عباداتهم وفي معاملاتهم، فإن الشرف والسيادة يكون لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كانوا من قرابته نالوا شرفين: شرف الإيمان وشرف النسب والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
شرح استعانة المؤلف بالله تعالى
ثم قال: (وأستعين الله في ألفيه)
هنا أظهر في موضع الإضمار ولم يقل: وأستعينه في ألفية؛ لأن باب الدعاء ينبغي فيه البسط.
ثم إنه لما طال الفصل بين قوله: (أحمد ربي) و(أستعين الله) حسن أن يظهر في موضع الإضمار.
وثم شيء ثالث، وهو أنه لما قال: (مصلياً على النبي) لو قال: (وأستعينه) لتوهم الواهم أنه يستعين بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فلهذه الأسباب الثلاثة أظهر رحمه الله وقال: (أستعين الله)، ولم يقل: أستعينه.
ومعنى أستعين: أطلب العون، كقول القائل: أستغفر الله، أي أطلب المغفرة.
وما ذهب إليه المؤلف رحمه الله من بدء العمل بهذه الألفية مع استعانة الله مطابق تمام المطابقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) فالمؤلف بهمته العليا نظم الألفية فحرص على ما ينفعه، ولكنه لم يقتصر على ذلك بل قال: (وأستعين الله في ألفيه)، ومن استعان بالله متلجئاً إليه صادقاً في قصده فإن الله تعالى يعينه، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أمر بمعونة من استعانك وأنت مخلوق، فإعانته من استعان به من باب أولى، ولكن اصدق الله أنك تستعينه حقيقة، فإن أكثرنا -نسأل الله أن يعاملنا بعفوه- يعتمد على ما أعطاه الله من القوة وينسى الله، وربما يتكلم بكلام يدل على إعجابه بنفسه والعياذ بالله، فيقول: فعلت وفعلت وفعلت إلى آخره، لكن المؤمن حقاً هو الذي يحرص على ما ينفعه ويقوم بما يستطيع، لكن مع الاستعانة بالله عز وجل.
وقوله: (وأستعين الله في ألفية) أي: في نظمها، وهي نسبة إلى الألف، وهذه المنظومة لا تزيد على ألف بيت إلا ببيتين فقط، والكسر عند العرب مغتفر، على أنك إذا تأملت وجدت أنها لم تزد في الحقيقة؛ لأنه استشهد في ضمنها ببيت لغيره فيسقط، وتكون ألفاً وواحداً.
والبيت الأول وهو افتتاح الألفية: (قال محمد هو ابن مالك ) فلم يكن من مقول القول، فيصدق عليها أنها ألف بيت لا تزيد ولا تنقص.
والخطب في هذا سهل، أعني أنا لو فرضنا أنها ألف وخمسة أو ألف وعشرة فإن الكسر عند العرب إما أن يجبر وإما أن يلغى.
ثناء ابن مالك رحمه الله على ألفيته
الصفات التي جمعتها الألفية
قوله: (مقاصد النحو بها محويه):
المقاصد: جمع مقصود، يعني أن المقصود من النحو قد حوته هذه الألفية.
ومعنى محوية: مجموعة.
ثم بين أن هذه الألفية مع شمولها وجمعها لمقاصد النحو سهلة فقال:
[تقرب الأقصى بلفظ موجز
وتبسط البذل بوعد منجز]
(الأقصى) يحتاج إلى مسافة طويلة، لكنها تقربه بلفظ قصير؛ لأن الموجز القصير، فهي تجمع لك شتات النحو البعيدة بلفظ قصير.
وقوله: (وتبسط البذل):
يعني تبذل بذلاً موسعاً؛ لأن البسط بمعنى التوسيع، قال الله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد:26] أي يضيق، فهي تبسط البذل، أي: توسع العطاء.
قوله: (بوعد منجز): يعني تعد بالعطاء ثم تنجزه بدون تأخير.
فجمعت بين أربع صفات:
الأولى: تقريب الأقصى، أي البعيد.
والثانية: أن لفظها موجز ليس بكثير يمل منه الإنسان، فليس مما يقرأ ويقرأ ولا يحصل منه إلا فائدة قليلة.
الثالثة: أنها تبسط البذل، يعني: توسعه، والبذل هو العطاء، فهي توسع العطاء.
والرابعة: أنها تنجز ما وعدت.
ولا يخفى ما في هذا البيت من الاستعارة، حيث صور هذه الألفية بحي ذي إدراك وعطاء وبسط ووعد، وإلا فالألفية كلمات منظومة، لكن هذا يسميه علماء البلاغة استعارة، وهو كأن تستعير صفة الحي ذي الشعور والإرادة إلى جماد لا شعور له ولا إرادة.
قال ابن مالك رحمه الله تعالى: (وتقتضي رضا بغير سخط):
أي: تستلزم رضاً بغير سخط، والمراد أنها تقتضي من القارئ رضاً بما يجد فيها من العلم.
وقوله: (بغير سخط) هذا من باب بيان أن هذا الرضا كامل لا يدخله سخط؛ لأن الرضا قد يطلق وإن كان فيه شيء من السخط، فإذا قال: (بغير سخط) تبين أنه رضا تام ليس فيه سخط.
تفضيل ابن مالك ألفيته على ألفية ابن معط وثناؤه عليه
قوله: (فائقة ألفية ابن معط ):
أي: فائقة ألفية ابن معط في أنها أكثر جمعاً للمسائل، وفي أنها على بحر واحد بخلاف ألفية ابن معط، وأيضاً هي أجمع منها وأسلس في اللفظ وأشد اتفاقاً، حيث إنها على بحر واحد بخلاف ألفية ابن معط ؛ ولكن ابن مالك رحمه الله لما عنده من العدل بيَّن ما لـابن معط من الفضل، فقال:
(وهو بسبق حائز تفضيلا).
قوله: (وهو) أي ابن معط .
(بسبق): الباء للسببية، أي: بسبب سبقه لنظم ألفية في النحو، وليس المراد بسبب سبقه بالزمن؛ لأن السابق بالزمن قد يكون له فضل وقد لا يكون.
(حائز تفضيلا): أي مدرك للتفضيل بسبب سبقه لنظم ألفية في النحو، ووجه ذلك أنه لما سبق إلى هذا فتح الباب للناس ليسيروا على منواله، فكان له فضل القدوة والأسوة.
(مستوجب ثنائي الجميلا): أي مستحق للثناء الجميل.
وقوله: (ثنائي الجميلا) هل الجميل صفة كاشفة أو هي صفة مقيدة؟
ينبني الجواب على الخلاف بين العلماء: هل الثناء لا يكون إلا في الخير؟ فإن كان الثناء لا يكون إلا في الخير كان قوله (الجميلا) صفة كاشفة، وإن كان الثناء يكون في الخير والشر فإنها صفة مقيدة، والصحيح أنه يكون في هذا وفي هذا، كما في الجنازة التي مرت فأثنوا عليها شراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجبت)، فالثناء يكون بالخير ويكون بالشر حسب ما يضاف إليه، وبناء على هذا يكون قوله (الجميلا) صفة مقيدة.
على أنه يمكن أن نقول: حتى وإن كان الثناء لا يكون إلا في الخير فإن الجميل صفة مقيدة؛ لأن مطلق الثناء في الخير قد يكون جميلاً وقد يكون دون ذلك.
إذاً: مستوجب الثناء أنه سبق إلى نظم الألفية وفتح الباب للناس، ومن دل على خير فهو كفاعله، وفي الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).
دعاء ابن مالك لنفسه ولابن معط
ثم قال المؤلف رحمه الله:
[والله يقضي بهبات وافره
لي وله في درجات الآخره]
(يقضي): أي يحكم؛ لأن القضاء يكون بمعنى الحكم، والجملة هنا خبرية لفظاً إنشائية معنى؛ لأن المراد بها الدعاء، يعني: أسأل الله أن يقضي بهبات وافرة.
والهبات: جمع هبة وهي العطية والمنحة. والوافرة: الكثيرة.
وقوله: (بهبات وافرة) قد يقول قائل: لماذا وصف الهبات وهي جمع بوافرة وهي مفرد؟
والجواب عن ذلك أن نقول: إنه إذا كان الجمع لما لا يعقل فإنه يجوز أن يوصف بالمفرد، وهذا في جمع الكثرة كثير، ولكنه في جمع القلة قليل، و(هبات) من جمع القلة؛ لأن الجمع السالم من مذكر أو مؤنث يعتبر من جمع القلة، وجمع القلة له أوزان معينة وجمع الكثرة له أوزان معينة.
جمع القلة أوزانه أربعة، قال ابن مالك فيها:
أفعلة أفعل ثم فعله
ثم أفعال جموع قله
إذاً: جموع القلة هي: الجموع السالمة مثل المسلمون والمسلمات، والثاني: جموع التكسير الدالة على القلة.
قوله: (لي وله في درجات الآخره):
بدأ بنفسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك) والبداءة بالنفس هي الأولى في الدعاء.
وقوله: (في درجات الآخرة) يعني يوم القيامة، وهو بالنسبة لـابن معط حيث إنه قد مات لا تمكن الهبات إلا في الآخرة، لكن بالنسبة لـابن مالك وهو موجود يمكن أن تكون هبات في الدنيا وهبات في الآخرة، لكنه رحمه الله اختار أن تكون الهبات في الآخرة؛ لأنها هي الباقية.
أورد بعض الناس على هذا البيت لـابن مالك إيرادين:
الإيراد الأول: أنه وصف الهبات وهي جمع بوافرة، والأفصح فيها المطابقة، أي أن يقال: بهبات وافرات.
الثاني: قوله: (لي وله). قالوا: خص نفسه وابن معط بالدعاء، فلم يدع لجميع المسلمين.
والجواب عن الأول: أنه وصفها بما يوصف به جمع الكثرة جبراً لنقصها.
والجواب عن الثاني: أنه لا مانع من أن يدعو الإنسان لنفسه ولغيره ممن يرى تخصيصه، أو يدعو بالعموم.
نعم. لو قال: (لي وله ولا تقض بالهبات لغيرنا) لكان هذا خطأ، أما تخصيص الإنسان نفسه بالدعاء أو من شاء من الناس فإنه لا يلام عليه ولا يذم، ولكن المحشين دائماً ينقشون، فقالوا: لو قال:
والله يقضي بالرضا والرحمه
لي وله ولجميع الأمه
لكان أحسن!
على كل حال: الأصل أن ابن مالك لا اعتراض عليه في هذا، فلا نرى أنه معترض عليه، وتخصيص الإنسان نفسه أو غيره بالدعاء لا بأس به، وقد جاءت السنة بالتخصيص للنفس كثيراً وبتخصيص الغير كثيراً أيضاً، مثل: (اللهم اغفر لـأبي سلمة وارفع درجته في المهديين)، وفي الجلوس بين السجدتين: (رب اغفر لي وارحمني)، ولا حرج في هذا.