مسارات طلب العلم
بينت في الدرس السابق أن العلم الشرعي من الدين وأنه يسير بتيسير الله تعالى للدين، ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (العلم نقطة كثَّرها الجاهلون)، وقد شرح هذه الجملة أحمد بن محيي الدين الجزائري (ت:1320هـ) في رسالة سماها (نثر الدر وبسطه في كون العلم نقطة).
والعلم النافع هو فَهم مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد يسر الله القرآن لنا تيسيراً عظيماً فقال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} وحفظه لنا نصاً وبياناً فقال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقال: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه}.
وجمع الله لنبيه صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم في فصاحة لا تكلف فيها، وبيان لا يشوبه تعقيد ولا غموض، وجعل له نوراً وبهجة في النفوس، وحفظ لنا أصله من الضياع، وحفظ بيانه من التحريف والتأويل، وشرف أهل العلم بروايته ودرايته، والقيام بحقه ورعايته، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، حتى رفع الله درجاتهم، وكرَّمهم وشرَّفهم بما منَّ عليهم ، وجعلهم أئمَّة يقتدى بهم؛ فلا تزال كتبهم شاهدة على حسن بلائهم وعلو مقامهم في العلم والتحقيق، قد كتب الله لها القبول ، وأبان بها السبيل، ولا يزال طلاب العلم ينهلون من معينها ، ويدعون لأصحابها، ويتعلمون منها ويعلِّمون بها.
وكانت غاية المتعلم أن يحذو حذوهم ويقتفي أثرهم حتى يبلغ ما قُدِّرَ له أن يبلغ من العلم والإمامة في الدين.
وقد تنوعت طرائق أهل العلم في تحصيله وتعليمه، فكان منهم أهل حفظ وضبط، ومنهم أهل فقه وفهم، فاعتنى كل منهم بما فُتِحَ له فيه، فنفع الله بهم ما شاء أن ينفع، ومنهم من جمع الله له الحسنيين فكان إماماً من الأئمة.
وقد سبرت مسارات طلب العلم لدى العلماء ، وكيف أصبحوا علماء وأئمةً يقتدى بهم؛ فوجدت لهم في ذلك طرقاً متنوعة تنبيك عن سعة رحمة الله تعالى وفضله، فسلك كلٌّ منهم ما يسره الله له مما يوافق ما أنعم الله به عليه من مَلَكَات وإمكانات، وفتح له فيه فوصل وأفلح، وسأجمل أهم تلك المسارات فيما يلي:
المسار الأول: مسار الملازمة
وكان هذا المسار هو الشائع في القرون الأولى فكان طالب العلم يلازم شيخه فيتعلم منه العلم والعمل والهدي والأدب؛ فيمكث عنده ما شاء الله أن يمكث حتى إذا قضى شيخه نحبه، أو قضى هو منه نهمته، وطمع في المزيد انتقل إلى شيخ آخر يلازمه فلا يزال يزداد من العلم والخير سنوات من عمره حتى يبلغ مبلغاً يُعرف له فيه قدره فيلازمه طلاب العلم كما لازم هو أشياخه فيعلمهم ويحدثهم.
وفي عصرنا هذا أصبحت الملازمة عسيرة المنال كثيرة العوارض لما تقتضيه الحياة المدنية ، وأصبح تفرغ العلماء للتدريس ليس كحال من سبق في الأعم الأغلب، وقد يسر الله لنا من سبل الاتصال ووسائل الانتقال ما تدرك به بعض فضائل الملازمة ، ومنها الملازمة الإلكترونية بأن يلازم عن طريق شبكة الانترنت عالماً موثوقاً في علمه فيسترشد به في طلبه للعلم، ويسأله عما يشكل عليه ويستفيد من توجيهه وإرشاده حتى تتبين له مسالك الطالب، ويعرف ما يلائمه منها فيعتني به ويجتهد فيه.
وقد أقام عدد من العلماء مواقع لهم في شبكة الانترنت لتعليم العلم النافع فمن تعسرت عليه الملازمة الأصلية فلا تفوتنه الملازمة الإلكترونية.
المسار الثاني: مسار المتون العلمية
وهذا المسار قد شاع في القرن الخامس الهجري وما بعده ، وإن كانت له بدايات يسيرة قبله ، لكن شهرته ذاعت في ذلك القرن ثم لم يزل هذا المسار شائعاً معتمداً لدى كثير من أهل العلم إلى عصرنا الحاضر حيث اتخذه كثير من العلماء منهجاً موصلاً إلى حسن التحصيل وقوة التأصيل حتى تخرَّجَ به عدد كبير من العلماء، ذلك أن المتون العلمية تجمع لطالب العلم في كل فَنٍّ لُبَّ مسائله، تجمع شتاتها بألفاظ مختصرة، وتقسيمات معتبرة، تقرب البعيد، وتجمع المتفرق، فيتناولها العلماء بالشرح والتفسير، والبيان والتحرير،حتى يذلّ صعبها، ويتضح مشكلها، وينفتح بها للطلاب أبواباً عظيمة من العلم النافع، ولايزالون يتدرجون في مدارج تلك المتون حتى يبلغوا مبلغاً عظيماً من العلم، وقديماً قيل: (من حفظ المتون حاز الفنون)، وإنما ينتفع بالحفظ من فهم ما يحفظ، فلذلك كثرت شروح العلماء على المتون واشتهرت.
وعمدة الماتنين (الذين يؤلفون المتون) أنهم يختصرون كتاباً مهماً في فن من الفنون أو يكون مختصرهم مستفاداً من كتب كثيرة في ذلك الفن فيجمع لطالب العلم مباحثها ، ويصنفها تصنيفاً يناسب المتعلمين، وبعضهم يعمد في ذلك إلى النظم لتيسير حفظه على طلاب العلم.
المسار الثالث: مسار الكتب الأصول
لكل علم مصادره وأصوله المعتبرة لدى أهل العلم ، وله أئمته المحققون المشهود لهم بالإمامة والتقدم فيه، ولهم من المؤلفات والمرويات في ذلك العلم ما عرف لهم أهل العلم فيه مقامهم الرفيع، وقد كتب أئمة كل علم كتباً صارت عمدة كثير من العلماء فأقبلوا عليها إقبالاً عظيماً ، ولا يزالون ينهلون منها جيلاً بعد جيل.
ومن قرأ سير العلماء وجد منهم عناية فائقة بأمهات الكتب بالمدوامة على قراءتها، وتكرار مراجعتها، واستظهار مسائلها، واستحضار دلائلها، وقراءتها على الشيوخ، وإقرائها للطلاب، حتى كثرت الحواشي على تلك الكتب واشتهرت، وزادتها تحريراً وتحبيراً، وزانتها بالفوائد والتقريرات واللطائف والتنبيهات.
وقد تنوعت اختيارات العلماء للكتب الأصول في كل فن من فنون العلم، وبينها من التفاضل في المزايا ما اقتضى تنوع الاختيارات بيد أنها تشترك في أغلب مباحثها، وتتضمن أصول المسائل وعُمَد الدلائل في ذلك العلم.
قال ابن فرحون المالكي: (لا زمت تفسير ابن عطية حتى كدت أحفظه).
ونقل القاضي عياض عن ابن التبان أنه قرأ المدونة أكثر من ألف مرة.
والكافيجي شيخ السيوطي لقب بذلك بسبب كثرة اشتغاله بكتاب الكافية لابن الحاجب قراءة وإقراء.
المسار الرابع: مسار العلماء المحققين
جمع الله لبعض العلماء علوماً كثيرة تمكنوا منها، وتقدموا فيها،حتى شُهد لهم بالإمامة والتقدم في تلك العلوم، ولهم من المؤلفات والمرويات في ذلك ما يدل على سعة علمهم وفضلهم، فكان من شأن بعض المتعلمين أن يختار مؤلفات إمام من هؤلاء الأئمة أو مروياته فيعتني بها عناية فائقة ، بجمعها وقراءتها، وفهم مقاصدها، واستظهار مسائلها ، وتبيُّن دلائلها، ويشتغل بها سنوات من عمره حتى يحذقها حذقاً جيداً، ويضيف إليها بعض ما يستفيده من مؤلفات غيره وما يفتح له فيه من النظر والفهم والمعرفة، حتى يكون عالماً من العلماء المشهود لهم بالعلم والفضل والإمامة.
وكان هذا المسار عمدة بعض العلماء المعروفين، وسأضرب لذلك ثلاثة أمثلة:
المثال الأول: الإمام اللغوي أبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني الملقب بثعلب، كان من الأئمة المبرزين في علم اللغة.
هذا الإمام أقبل على قراءة كتب الفرَّاء يحيى بن زياد الكوفي فحذقها وعمره لم يجاوز الخامسة والعشرين، ثم استزاد عليها من كتب غيره، ومما تعلمه من شيوخه فصار إماماً ذا شأن عظيم لدى أهل العلم.
قال عنه ياقوت الحموي: ( إمام الكوفيين في النحو واللغة، والثقة، والديانة)
وقال الإمام أبو بكر بن مجاهد وهو أول من اختار الأئمة السبعة في القراءات: (كنت عند أبي العباس ثعلب، فقال لي: يا أبا بكر اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أهل الفقه بالفقه ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعري ما يكون حالي في الآخرة؟!
فانصرفت من عنده، فرأيت تلك الليلة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: أقرئ أبا العباس عني السلام، وقل له: إنك صاحب العلم المستطيل).
المستطيل: أي المنتشر الذي بلغ نفعه أهلَ التفسير والحديث والفقه وغيرهم.
المثال الثاني: أبو عمر الزاهد الملقب بغلام ثعلب واسمه محمد بن عبد الواحد ، فهذا العالم الجليل كان خادماً للإمام ثعلب، فاعتنى بكتبه وعلومه عناية فائقة، وكان حسن الفهم قوي الحفظ، ولم يزل يزداد من علم شيخه ويضيف إليه ما يستفيده من غيره حتى أصبح من العلماء الأعلام.
قال عنه ابن برهان الأسدي: (لم يتكلم في علم اللغة أحد من الأولين والآخرين أحسن من كلام أبي عمر الزاهد) ، وله كتاب في غريب القرآن اسمه (ياقوتة الصراط) يدل على علمه وفضله وتقدمه.
المثال الثالث: الفقيه الحنبلي المعروف محمد بن مفلح الصالحي (ت:763هـ) اعتنى بمسائل الإمام أحمد وفِقْهِهِ عنايةً بالغة ، حتى بلغ في ذلك مبلغاً عظيماً عرف له العلماء فيه فضله وإمامته وتقدمه حتى كان يقال عنه: (أعلم أهل عصره بمسائل الإمام أحمد).
قال عنه ابن القيم: (ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح).
وقال عنه ابن كثير: (كان بارعاً فاضلاً متقناً في علوم كثيرة ولاسيما في الفروع).
وقال عنه ابن حجر: (صنف (الفروع) في مجلدين أورد فيه من الفروع الغريبة ما بهر العلماء).
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول له: (ما أنت ابن مفلح بل أنت مفلح).
المسار الخامس: مسار القراءة المنظمة
مسار القراءة المنظمة من المسارات المهمة التي اعتنى بها بعض أهل العلم فحصلوا تحصيلاً عظيماً مباركاً، ذلك أنهم تبينوا في كل علم من العلوم التي أرادوا طلبها الكتب المهمة فيه، فدرسوا مسائلها وفقهوا دلائلها، وعرفوا العلماء المبرزين في كل علم من تلك العلوم، فأضحت طرق التعلم أمامهم ظاهرة جلية، ومعالمه بينة غير خفية، فقرؤوا وانتفعوا، وتدرجوا في تلك الكتب حتى حصلوا ما حصلوا من العلم، وكان من هؤلاء من لا يكاد يسأل عن مسألة إلا أخبر بموضعها في تلك الكتب ومظان بحثها، والعلماء المحققين فيها، فصارت لهم بذلك ملكة حسنة تختصر عليهم كثيراً من الجهد والوقت.
بينت في الدرس السابق أن العلم الشرعي من الدين وأنه يسير بتيسير الله تعالى للدين، ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (العلم نقطة كثَّرها الجاهلون)، وقد شرح هذه الجملة أحمد بن محيي الدين الجزائري (ت:1320هـ) في رسالة سماها (نثر الدر وبسطه في كون العلم نقطة).
والعلم النافع هو فَهم مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد يسر الله القرآن لنا تيسيراً عظيماً فقال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} وحفظه لنا نصاً وبياناً فقال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقال: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه}.
وجمع الله لنبيه صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم في فصاحة لا تكلف فيها، وبيان لا يشوبه تعقيد ولا غموض، وجعل له نوراً وبهجة في النفوس، وحفظ لنا أصله من الضياع، وحفظ بيانه من التحريف والتأويل، وشرف أهل العلم بروايته ودرايته، والقيام بحقه ورعايته، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، حتى رفع الله درجاتهم، وكرَّمهم وشرَّفهم بما منَّ عليهم ، وجعلهم أئمَّة يقتدى بهم؛ فلا تزال كتبهم شاهدة على حسن بلائهم وعلو مقامهم في العلم والتحقيق، قد كتب الله لها القبول ، وأبان بها السبيل، ولا يزال طلاب العلم ينهلون من معينها ، ويدعون لأصحابها، ويتعلمون منها ويعلِّمون بها.
وكانت غاية المتعلم أن يحذو حذوهم ويقتفي أثرهم حتى يبلغ ما قُدِّرَ له أن يبلغ من العلم والإمامة في الدين.
وقد تنوعت طرائق أهل العلم في تحصيله وتعليمه، فكان منهم أهل حفظ وضبط، ومنهم أهل فقه وفهم، فاعتنى كل منهم بما فُتِحَ له فيه، فنفع الله بهم ما شاء أن ينفع، ومنهم من جمع الله له الحسنيين فكان إماماً من الأئمة.
وقد سبرت مسارات طلب العلم لدى العلماء ، وكيف أصبحوا علماء وأئمةً يقتدى بهم؛ فوجدت لهم في ذلك طرقاً متنوعة تنبيك عن سعة رحمة الله تعالى وفضله، فسلك كلٌّ منهم ما يسره الله له مما يوافق ما أنعم الله به عليه من مَلَكَات وإمكانات، وفتح له فيه فوصل وأفلح، وسأجمل أهم تلك المسارات فيما يلي:
المسار الأول: مسار الملازمة
وكان هذا المسار هو الشائع في القرون الأولى فكان طالب العلم يلازم شيخه فيتعلم منه العلم والعمل والهدي والأدب؛ فيمكث عنده ما شاء الله أن يمكث حتى إذا قضى شيخه نحبه، أو قضى هو منه نهمته، وطمع في المزيد انتقل إلى شيخ آخر يلازمه فلا يزال يزداد من العلم والخير سنوات من عمره حتى يبلغ مبلغاً يُعرف له فيه قدره فيلازمه طلاب العلم كما لازم هو أشياخه فيعلمهم ويحدثهم.
وفي عصرنا هذا أصبحت الملازمة عسيرة المنال كثيرة العوارض لما تقتضيه الحياة المدنية ، وأصبح تفرغ العلماء للتدريس ليس كحال من سبق في الأعم الأغلب، وقد يسر الله لنا من سبل الاتصال ووسائل الانتقال ما تدرك به بعض فضائل الملازمة ، ومنها الملازمة الإلكترونية بأن يلازم عن طريق شبكة الانترنت عالماً موثوقاً في علمه فيسترشد به في طلبه للعلم، ويسأله عما يشكل عليه ويستفيد من توجيهه وإرشاده حتى تتبين له مسالك الطالب، ويعرف ما يلائمه منها فيعتني به ويجتهد فيه.
وقد أقام عدد من العلماء مواقع لهم في شبكة الانترنت لتعليم العلم النافع فمن تعسرت عليه الملازمة الأصلية فلا تفوتنه الملازمة الإلكترونية.
المسار الثاني: مسار المتون العلمية
وهذا المسار قد شاع في القرن الخامس الهجري وما بعده ، وإن كانت له بدايات يسيرة قبله ، لكن شهرته ذاعت في ذلك القرن ثم لم يزل هذا المسار شائعاً معتمداً لدى كثير من أهل العلم إلى عصرنا الحاضر حيث اتخذه كثير من العلماء منهجاً موصلاً إلى حسن التحصيل وقوة التأصيل حتى تخرَّجَ به عدد كبير من العلماء، ذلك أن المتون العلمية تجمع لطالب العلم في كل فَنٍّ لُبَّ مسائله، تجمع شتاتها بألفاظ مختصرة، وتقسيمات معتبرة، تقرب البعيد، وتجمع المتفرق، فيتناولها العلماء بالشرح والتفسير، والبيان والتحرير،حتى يذلّ صعبها، ويتضح مشكلها، وينفتح بها للطلاب أبواباً عظيمة من العلم النافع، ولايزالون يتدرجون في مدارج تلك المتون حتى يبلغوا مبلغاً عظيماً من العلم، وقديماً قيل: (من حفظ المتون حاز الفنون)، وإنما ينتفع بالحفظ من فهم ما يحفظ، فلذلك كثرت شروح العلماء على المتون واشتهرت.
وعمدة الماتنين (الذين يؤلفون المتون) أنهم يختصرون كتاباً مهماً في فن من الفنون أو يكون مختصرهم مستفاداً من كتب كثيرة في ذلك الفن فيجمع لطالب العلم مباحثها ، ويصنفها تصنيفاً يناسب المتعلمين، وبعضهم يعمد في ذلك إلى النظم لتيسير حفظه على طلاب العلم.
المسار الثالث: مسار الكتب الأصول
لكل علم مصادره وأصوله المعتبرة لدى أهل العلم ، وله أئمته المحققون المشهود لهم بالإمامة والتقدم فيه، ولهم من المؤلفات والمرويات في ذلك العلم ما عرف لهم أهل العلم فيه مقامهم الرفيع، وقد كتب أئمة كل علم كتباً صارت عمدة كثير من العلماء فأقبلوا عليها إقبالاً عظيماً ، ولا يزالون ينهلون منها جيلاً بعد جيل.
ومن قرأ سير العلماء وجد منهم عناية فائقة بأمهات الكتب بالمدوامة على قراءتها، وتكرار مراجعتها، واستظهار مسائلها، واستحضار دلائلها، وقراءتها على الشيوخ، وإقرائها للطلاب، حتى كثرت الحواشي على تلك الكتب واشتهرت، وزادتها تحريراً وتحبيراً، وزانتها بالفوائد والتقريرات واللطائف والتنبيهات.
وقد تنوعت اختيارات العلماء للكتب الأصول في كل فن من فنون العلم، وبينها من التفاضل في المزايا ما اقتضى تنوع الاختيارات بيد أنها تشترك في أغلب مباحثها، وتتضمن أصول المسائل وعُمَد الدلائل في ذلك العلم.
قال ابن فرحون المالكي: (لا زمت تفسير ابن عطية حتى كدت أحفظه).
ونقل القاضي عياض عن ابن التبان أنه قرأ المدونة أكثر من ألف مرة.
والكافيجي شيخ السيوطي لقب بذلك بسبب كثرة اشتغاله بكتاب الكافية لابن الحاجب قراءة وإقراء.
المسار الرابع: مسار العلماء المحققين
جمع الله لبعض العلماء علوماً كثيرة تمكنوا منها، وتقدموا فيها،حتى شُهد لهم بالإمامة والتقدم في تلك العلوم، ولهم من المؤلفات والمرويات في ذلك ما يدل على سعة علمهم وفضلهم، فكان من شأن بعض المتعلمين أن يختار مؤلفات إمام من هؤلاء الأئمة أو مروياته فيعتني بها عناية فائقة ، بجمعها وقراءتها، وفهم مقاصدها، واستظهار مسائلها ، وتبيُّن دلائلها، ويشتغل بها سنوات من عمره حتى يحذقها حذقاً جيداً، ويضيف إليها بعض ما يستفيده من مؤلفات غيره وما يفتح له فيه من النظر والفهم والمعرفة، حتى يكون عالماً من العلماء المشهود لهم بالعلم والفضل والإمامة.
وكان هذا المسار عمدة بعض العلماء المعروفين، وسأضرب لذلك ثلاثة أمثلة:
المثال الأول: الإمام اللغوي أبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني الملقب بثعلب، كان من الأئمة المبرزين في علم اللغة.
هذا الإمام أقبل على قراءة كتب الفرَّاء يحيى بن زياد الكوفي فحذقها وعمره لم يجاوز الخامسة والعشرين، ثم استزاد عليها من كتب غيره، ومما تعلمه من شيوخه فصار إماماً ذا شأن عظيم لدى أهل العلم.
قال عنه ياقوت الحموي: ( إمام الكوفيين في النحو واللغة، والثقة، والديانة)
وقال الإمام أبو بكر بن مجاهد وهو أول من اختار الأئمة السبعة في القراءات: (كنت عند أبي العباس ثعلب، فقال لي: يا أبا بكر اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أهل الفقه بالفقه ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعري ما يكون حالي في الآخرة؟!
فانصرفت من عنده، فرأيت تلك الليلة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: أقرئ أبا العباس عني السلام، وقل له: إنك صاحب العلم المستطيل).
المستطيل: أي المنتشر الذي بلغ نفعه أهلَ التفسير والحديث والفقه وغيرهم.
المثال الثاني: أبو عمر الزاهد الملقب بغلام ثعلب واسمه محمد بن عبد الواحد ، فهذا العالم الجليل كان خادماً للإمام ثعلب، فاعتنى بكتبه وعلومه عناية فائقة، وكان حسن الفهم قوي الحفظ، ولم يزل يزداد من علم شيخه ويضيف إليه ما يستفيده من غيره حتى أصبح من العلماء الأعلام.
قال عنه ابن برهان الأسدي: (لم يتكلم في علم اللغة أحد من الأولين والآخرين أحسن من كلام أبي عمر الزاهد) ، وله كتاب في غريب القرآن اسمه (ياقوتة الصراط) يدل على علمه وفضله وتقدمه.
المثال الثالث: الفقيه الحنبلي المعروف محمد بن مفلح الصالحي (ت:763هـ) اعتنى بمسائل الإمام أحمد وفِقْهِهِ عنايةً بالغة ، حتى بلغ في ذلك مبلغاً عظيماً عرف له العلماء فيه فضله وإمامته وتقدمه حتى كان يقال عنه: (أعلم أهل عصره بمسائل الإمام أحمد).
قال عنه ابن القيم: (ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح).
وقال عنه ابن كثير: (كان بارعاً فاضلاً متقناً في علوم كثيرة ولاسيما في الفروع).
وقال عنه ابن حجر: (صنف (الفروع) في مجلدين أورد فيه من الفروع الغريبة ما بهر العلماء).
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول له: (ما أنت ابن مفلح بل أنت مفلح).
المسار الخامس: مسار القراءة المنظمة
مسار القراءة المنظمة من المسارات المهمة التي اعتنى بها بعض أهل العلم فحصلوا تحصيلاً عظيماً مباركاً، ذلك أنهم تبينوا في كل علم من العلوم التي أرادوا طلبها الكتب المهمة فيه، فدرسوا مسائلها وفقهوا دلائلها، وعرفوا العلماء المبرزين في كل علم من تلك العلوم، فأضحت طرق التعلم أمامهم ظاهرة جلية، ومعالمه بينة غير خفية، فقرؤوا وانتفعوا، وتدرجوا في تلك الكتب حتى حصلوا ما حصلوا من العلم، وكان من هؤلاء من لا يكاد يسأل عن مسألة إلا أخبر بموضعها في تلك الكتب ومظان بحثها، والعلماء المحققين فيها، فصارت لهم بذلك ملكة حسنة تختصر عليهم كثيراً من الجهد والوقت.