السؤال: ما هو شرح هذا الحديث: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف"؟
الإجابة: الصف مقصود لذاته، لأن اجتماع المسلمين فيه وتقاربهم وتماس مناكبهم وأرجلهم أو سيقانهم، كل ذلك مقصود، لأنه يؤلف بين قلوبهم ويزيل عنهم عبية الجاهلية وتفاخرها، فإذا كان الصف الواحد يقوم فيه الغني وبجواره الفقير، والكبير وبجواره الصغير، والعالم وبجواره الجاهل، وهم يستوون جميعاً، مناكبهم متساوية فهذا يزيل عنهم ما في النفوس، وهو مدعاة لتأليف القلوب[ ] ، ولذلك قال النبي[ ] صلى الله عليه وسلم: "عباد الله: لتسون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم"، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد أن لا يُحرم في الصلاة حتى يسوّي الصفوف، فلما ظن أنهم قد عرفوا ذلك صلى يوماً فرأى خللاً في الصفوف فقال: "مالي أرى الشياطين خلال صفوفكم كأنهم غنم غفر؟"، فالفرجات التي تبقى في الصف يشغلها الشياطين، يدخلون فيها من أجل الإفساد بين الناس، فلذلك ينبغي للإنسان أن لا يترك للشيطان فرجة.
وبذلك يُعلم أن الانفراد خلف الصف هو شذوذ وسعي لحصول النفرة، والإنسان إذا انفرد خلف الصف لن يحيط به إلا الشياطين، فلذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الانفراد خلف الصف.
وهذا الحديث وهو: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف" اختلف أهل العلم في[ ] معناه، لأن: "لا" هنا ليست ناهية، فالنهي لو جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم اقتضى التحريم، فلو قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد خلف الصف" لكانت "لا" ناهية فحرم ذلك، وحرّمته مذهب الجمهور أنها تقتضى البطلان، لأن النهي في أصله يقتضي الفساد، لكن لما كانت: "لا" هنا نافية لا ناهية، عُرف أن المنفي فعل، لأن: "لا" دخلت على حقيقة شرعية، والحقائق لا تتعلق بها الأحكام، فإنما تتعلق الأحكام بالأفعال، فهنا أمر محذوف لا يستقيم الكلام دونه، هذا المحذوف هو الذي يسمى بالمقتضى لدى الأصوليين، ودلالته لا تعم، فدلالة المقتضى لا عموم له، المقتضى هو المحذوف الذي لا يستقيم الكلام دونه لا عموم له، فلذلك يمكن أن يحمل على وجه من الوجوه.
هذا الوجه مثلاً يمكن أن تقول: "لا صلاة" معناه: لا تمام صلاة للمنفرد خلف الصف، ويمكن أن يكون المعنى: "لا صحة صلاة لمنفرد خلف الصف" كل ذلك محتمل، وإذا تعدد الاحتمال مثل هذا النوع يؤخذ فيه بالاحتياط، فيقال: "لا تمام صلاة" أي أن صلاة المنفرد خلف الصف غير تامة قطعاً، ومن هنا إذا جاء الإنسان فوجد الصف ملتئماً، فالاحتياط أن لا يصلي وحده خلف الصف، بل إذا وجد فرجة في الصف فبها ونعمت، وينبغي لأهل الصف أن يلينوا في أيدي إخوانهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لينوا في أيدي إخوانكم"، وهذا من التعاون على البر والتقوى، وإذا لم يجد فرجة في الصف يمكن أن يصف مع الإمام عن يمينه أو عن شماله، واليمين أفضل، ولكن يجوز أن يصف عن شماله أيضاً، وإذا صفَّ معه آخر فليكن في الجهة التي صفَّ منها ذلك الأول، لأنه لا ينبغي أن يصف اثنان مع الإمام أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، لأن هذا يجعل الإمام في داخل الصف، والإمام لا بد أن يتميز عن المأمومين، فلذلك ينبغي أن يكون الصف عن يمينه فقط أو عن شماله فقط.
وقالت طائفة من أهل العلم بل يكون خلف الصف، ويجذب من هو في الصف، وهذا الجذب يترتب عليه أمران: الأمر الأول أنه إذا كان في هيئة بناء الصف يكون خلف الإمام، فأول كل صف ينبغي أن يكون من قبالة ظهر الإمام، والذي يقابل ظهر الإمام عادة هم أهل الثقة الذين يوكل إليهم شأن الصلاة، لما أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". وهذا يقتضي أن يختار أولئك لظهر الإمام لمقابل ظهر الإمام فأولئك لن يتنازلوا للانجذاب، فعلى هذا سيكون بناء الصف الذي يبدأه المنفرد من أحد طرفي الصف، فيجذب أحد طرفي الصف من يمين أو من شمال، وقد قال بعض أهل العلم ينبغي أن يكون الجذب من جهة الشمال لأنها أقل فضلاً، لما أخرج الحاكم في المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف"، وإذا جذب من هو على اليسار فلينجذب له، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، وقد كره المالكية الانجذاب بسبب أن الإنسان قد أحرز الصف أولاً فنال فضلاً بالسبق، وتأخره هو تراجع عن ذلك الفضل، ولهذا قال خليل رحمه الله: "ولا يجذب أحداً، وهو خطأ منهما" أي خطأ من الجاذب والمنجذب، ولكن عموماً: الاحتياط هو ما ذكرناه أن يأتي الإنسان مبادراً إلى الصف الأول فيسبق إليه، وأن لا ينتظر حتى يلتئم الصف فيأتي فيكون منفرداً خلف الصف.
وإذا كان الإنسان يعلم أنه سيأتيه مصلون يصفون معه وجاء وأدرك الإمام راكعاً فيجوز له أن يدرك الركعة خلف ظهر الإمام لأنه يعلم أنه لن ينفرد خلف الصف، بل سيأتيه آخرون، ومثل النهي عن الانفراد خلف الصف أيضاً التقدم على الإمام، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به"، وهذا يقتضي التأخر عن الإمام وعدم مساواته في الصلاة، إلا إذا كان معه منفرد كما ذكرنا في تقدمه إليه ودليل ذلك حديث ابن عباس الذي رواه عنه كريب وعمرو بن دينار كلاهما وفيه أنه بات عند خالته ميمونة ليرى قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فلما كان نصف الليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه بيديه وشاص فاه -أي استاك- وقام إلى شن معلق فتوضأ منه وضوء يقلله عمر ويخففه -يقلله في الكم ويخففه في الكيف-، ثم قرأ خواتيم سورة آل عمران[ ] وقال: "إن الغليم نام، إن الغليم نام"، الغليم تصغير الغلام، وهو بن عباس، قال: فقمت ففعلت مثل ما فعل، فأحرمت، وفي رواية عن يساره، وفي رواية خلفه، قال: فأخذ بمنكبي أو بأذني فجذبني، وفي رواية أنه جذبه ليساويه عن يمينه، قال ابن عباس فتأخرت فلما سلم قال: "مالك أقدمك فتتأخر"، فقال: ما كنت لأساويك قال: فأخذني فضمني فدعا لي، فذلك إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم بالاستحسان لتأخر المأموم قليلاً عن الإمام، فهذا يقتضي أن المأموم إذا كان مع الإمام وحدهما فعليهما أن يصفا صفاً لكن هذا الصف ليس كهيأة الصف المعتادة، ومن هنا فسيكون عن يمينه لكن ينبغي أن يتأخر عنه يسيراً كما فعل ابن عباس يكون مقابل منكبه متأخراً عنه قليلاً من الجهة اليمنى، أما تقدم المأموم على الإمام فلا ينبغي ذلك إلا في حال الضرورة، وعند الحنابلة أنه إذا تقدم عنه بقدر رجله فإن صلاته تبطل لأنهم يرون أن النهي مقتض للبطلان مطلقاً فإذا تقدم المأموم عن الإمام بقدر رجله بطلت صلاته عندهم.
ومن محل الضرورة ما حصل في هذا المسجد الآن في صلاة المغرب فكانت الصفوف في قبلة الإمام لأن المكان قد امتلأ لكن ينبغي لتلك الصفوف أن تتأخر حتى تتصل وأن تكون متصلة بالمسجد حتى لا تقع فرجة بينها، وقد ذكر مالك رحمه الله أن داراً لآل عمر كانت في قبلة المسجد فكان أهلها يصلون بصلاة الإمام -ومحل ذلك النساء[ ] ومن يشق عليه الخروج للصلاة- والمسجد كبير -المسجد النبوي كبير- فإذا كانت الدار في قبلته فإن الضعفة والعجزة لا يستطيعون الخروج حتى يأتوا من خلف المسجد، والصفوف ينبغي أن تكون متصلة واتصالها هو بأن لا تطول الفرجة بينها والفرجة بين كل صفين ينبغي أن لا تتجاوز ثلاثة أذرع على الراجح، لأن حد ما بين الصف والصف حد ما بين الإمام والسترة، والسترة ينبغي أن يدنو منها الإمام لحديث بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وليدن منها، وليدن منها" أي ليقترب من سترته، وهذا الدنو محل خلاف بين أهل العلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد أحدكم أن يصلي فليجعل بين يديه مثل مؤخرة الرحل، فإن أراد أحد أن يمر بين يديه فليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان" والمقاتلة لدى العرب تكون بالنبل بالسهام وبالرمح وبالسيف فالنبل بعيد جداً رميه، والرمح اثنا عشر شبراً من الوسط، والسيف قدره قدر القوس أي ثلاثة أذرع، وهي ثلاث أذرع وأصبع طوله ثلاثة أذرع فهذا القدر[ ] هو الذي أخذ به أهل العلم في تحديد ما بين الإمام والسترة، أن أقل ذلك هو ثلاثة أذرع لأنه قال: "فإن أبى فليقاتله" وأصل ذلك المقاتلة بالسيف فيكون على قدر هذه المسافة، وعلى هذا فبعد ما بين الصفين ينبغي أن لا يتجاوز ثلاثة أذرع، وهذا حريم للمصلي وهو الذي لا ينبغي المرور منه ما دام الإنسان يصلي.
وقد اختلف أهل العلم في حريم المصلي الذي يستحقه بصلاته، فذهب بعضهم إلى أن حريمه هو كل ما يشوش عليه فإذا كان يصلي في العراء فمرورك بين يديه من مسافة بعيدة مشوش عليه، فلذلك لا ينبغي أن تمر بين يديه، لكن نفى هذا القول عدد من أهل العلم وقالوا: لو كان كذلك لما شرعت السترة، لأن السترة لا تنفي التشويش، السترة تكون مثلاً قدر مؤخرة الرحل وهذا لا ينفي التشويش إذا مر مار والإنسان قائم مثلاً، ولهذا قال ابن العربي: "بالله الذي لا إله إلا هو لقد زلت أقدام العلماء[ ] في هذه المسألة، ولا يستحق المصلي من الحريم إلا قدر سجوده وركوعه القدر الذي يسجد فيه ويركع فقط"، ولكن ذكر الباجي وغيره أن حريم المصلي الذي ينبغي أن يترك له هو قدر ما بينه وبين سترته إن كان مستتراً وهو ثلاثة أذرع.
والمصلي والمار لهما أربع صور: صورة يأثمان فيها معاً وهي إذا كان المصلي متعرضا لم يستتر، وكان المار يجد مندوحة أي مكاناً يمر فيه فتعمد المرور بين يدي المصلي فهما آثمان، المصلي آثم لأنه لم يستتر، والمار آثم لأنه وجد مكاناً يمر منه فاختار ما بين يدي المصلي.
والصورة الثانية لا يأثم فيها واحد منهما: وهي إذا كان المصلي مستتراً غير متعرض، وكان المار لا يجد مندوحة لا يستطيع إلا الخروج من ذلك المكان، إذا كان المصلي يصلي هنا في هذا المكان وهو مستتر بالجدار وليس وراءه أية فرجة، وكنت أنت لا بد أن تمر لإنقاذ إنسان مثلاً أو لحاجة ضرورية لا بد منها فمرورك بين يديه ليس فيه في ذلك الوقت[ ] إثم عليك، ولا عليه فهو، قد فعل ما أمر به من الاستتار وأنت مضطر للخروج والإثم مرفوع عن المضطر، لقول الله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه}.
الصورة الثالثة يأثم فيها المار فقط دون المصلي، وهي إذا كان المصلي متعرضاً غير مستتر، وكان المار يجد طريقاً يسلكه غير الذي بين يدي المصلي فاختار الذي بين يدي المصلي، فالمار آثم والمصلي غير آثم، وهذا الذي جاء فيه: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن ينتظر أربعين خير له"، أربعين يمكن أن تكون أربعين يوماً أو أربعين سنة المهم المبالغة في العدد.
الصورة الرابعة: يأثم فيها المصلي ولا يأثم فيها المار، إذا كان المصلي متعرضاً لم يتخذ سترة، وكان المار لا يجد طريقاً إلا التي بين يدي المصلي وهو مضطر للعبور فيأثم المصلي ولا يأثم المار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلاً عن موقع فضيلة الشيخ الددو على شبكة الإنترنت.
الإجابة: الصف مقصود لذاته، لأن اجتماع المسلمين فيه وتقاربهم وتماس مناكبهم وأرجلهم أو سيقانهم، كل ذلك مقصود، لأنه يؤلف بين قلوبهم ويزيل عنهم عبية الجاهلية وتفاخرها، فإذا كان الصف الواحد يقوم فيه الغني وبجواره الفقير، والكبير وبجواره الصغير، والعالم وبجواره الجاهل، وهم يستوون جميعاً، مناكبهم متساوية فهذا يزيل عنهم ما في النفوس، وهو مدعاة لتأليف القلوب[ ] ، ولذلك قال النبي[ ] صلى الله عليه وسلم: "عباد الله: لتسون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم"، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد أن لا يُحرم في الصلاة حتى يسوّي الصفوف، فلما ظن أنهم قد عرفوا ذلك صلى يوماً فرأى خللاً في الصفوف فقال: "مالي أرى الشياطين خلال صفوفكم كأنهم غنم غفر؟"، فالفرجات التي تبقى في الصف يشغلها الشياطين، يدخلون فيها من أجل الإفساد بين الناس، فلذلك ينبغي للإنسان أن لا يترك للشيطان فرجة.
وبذلك يُعلم أن الانفراد خلف الصف هو شذوذ وسعي لحصول النفرة، والإنسان إذا انفرد خلف الصف لن يحيط به إلا الشياطين، فلذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الانفراد خلف الصف.
وهذا الحديث وهو: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف" اختلف أهل العلم في[ ] معناه، لأن: "لا" هنا ليست ناهية، فالنهي لو جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم اقتضى التحريم، فلو قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد خلف الصف" لكانت "لا" ناهية فحرم ذلك، وحرّمته مذهب الجمهور أنها تقتضى البطلان، لأن النهي في أصله يقتضي الفساد، لكن لما كانت: "لا" هنا نافية لا ناهية، عُرف أن المنفي فعل، لأن: "لا" دخلت على حقيقة شرعية، والحقائق لا تتعلق بها الأحكام، فإنما تتعلق الأحكام بالأفعال، فهنا أمر محذوف لا يستقيم الكلام دونه، هذا المحذوف هو الذي يسمى بالمقتضى لدى الأصوليين، ودلالته لا تعم، فدلالة المقتضى لا عموم له، المقتضى هو المحذوف الذي لا يستقيم الكلام دونه لا عموم له، فلذلك يمكن أن يحمل على وجه من الوجوه.
هذا الوجه مثلاً يمكن أن تقول: "لا صلاة" معناه: لا تمام صلاة للمنفرد خلف الصف، ويمكن أن يكون المعنى: "لا صحة صلاة لمنفرد خلف الصف" كل ذلك محتمل، وإذا تعدد الاحتمال مثل هذا النوع يؤخذ فيه بالاحتياط، فيقال: "لا تمام صلاة" أي أن صلاة المنفرد خلف الصف غير تامة قطعاً، ومن هنا إذا جاء الإنسان فوجد الصف ملتئماً، فالاحتياط أن لا يصلي وحده خلف الصف، بل إذا وجد فرجة في الصف فبها ونعمت، وينبغي لأهل الصف أن يلينوا في أيدي إخوانهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لينوا في أيدي إخوانكم"، وهذا من التعاون على البر والتقوى، وإذا لم يجد فرجة في الصف يمكن أن يصف مع الإمام عن يمينه أو عن شماله، واليمين أفضل، ولكن يجوز أن يصف عن شماله أيضاً، وإذا صفَّ معه آخر فليكن في الجهة التي صفَّ منها ذلك الأول، لأنه لا ينبغي أن يصف اثنان مع الإمام أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، لأن هذا يجعل الإمام في داخل الصف، والإمام لا بد أن يتميز عن المأمومين، فلذلك ينبغي أن يكون الصف عن يمينه فقط أو عن شماله فقط.
وقالت طائفة من أهل العلم بل يكون خلف الصف، ويجذب من هو في الصف، وهذا الجذب يترتب عليه أمران: الأمر الأول أنه إذا كان في هيئة بناء الصف يكون خلف الإمام، فأول كل صف ينبغي أن يكون من قبالة ظهر الإمام، والذي يقابل ظهر الإمام عادة هم أهل الثقة الذين يوكل إليهم شأن الصلاة، لما أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". وهذا يقتضي أن يختار أولئك لظهر الإمام لمقابل ظهر الإمام فأولئك لن يتنازلوا للانجذاب، فعلى هذا سيكون بناء الصف الذي يبدأه المنفرد من أحد طرفي الصف، فيجذب أحد طرفي الصف من يمين أو من شمال، وقد قال بعض أهل العلم ينبغي أن يكون الجذب من جهة الشمال لأنها أقل فضلاً، لما أخرج الحاكم في المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف"، وإذا جذب من هو على اليسار فلينجذب له، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، وقد كره المالكية الانجذاب بسبب أن الإنسان قد أحرز الصف أولاً فنال فضلاً بالسبق، وتأخره هو تراجع عن ذلك الفضل، ولهذا قال خليل رحمه الله: "ولا يجذب أحداً، وهو خطأ منهما" أي خطأ من الجاذب والمنجذب، ولكن عموماً: الاحتياط هو ما ذكرناه أن يأتي الإنسان مبادراً إلى الصف الأول فيسبق إليه، وأن لا ينتظر حتى يلتئم الصف فيأتي فيكون منفرداً خلف الصف.
وإذا كان الإنسان يعلم أنه سيأتيه مصلون يصفون معه وجاء وأدرك الإمام راكعاً فيجوز له أن يدرك الركعة خلف ظهر الإمام لأنه يعلم أنه لن ينفرد خلف الصف، بل سيأتيه آخرون، ومثل النهي عن الانفراد خلف الصف أيضاً التقدم على الإمام، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به"، وهذا يقتضي التأخر عن الإمام وعدم مساواته في الصلاة، إلا إذا كان معه منفرد كما ذكرنا في تقدمه إليه ودليل ذلك حديث ابن عباس الذي رواه عنه كريب وعمرو بن دينار كلاهما وفيه أنه بات عند خالته ميمونة ليرى قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فلما كان نصف الليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه بيديه وشاص فاه -أي استاك- وقام إلى شن معلق فتوضأ منه وضوء يقلله عمر ويخففه -يقلله في الكم ويخففه في الكيف-، ثم قرأ خواتيم سورة آل عمران[ ] وقال: "إن الغليم نام، إن الغليم نام"، الغليم تصغير الغلام، وهو بن عباس، قال: فقمت ففعلت مثل ما فعل، فأحرمت، وفي رواية عن يساره، وفي رواية خلفه، قال: فأخذ بمنكبي أو بأذني فجذبني، وفي رواية أنه جذبه ليساويه عن يمينه، قال ابن عباس فتأخرت فلما سلم قال: "مالك أقدمك فتتأخر"، فقال: ما كنت لأساويك قال: فأخذني فضمني فدعا لي، فذلك إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم بالاستحسان لتأخر المأموم قليلاً عن الإمام، فهذا يقتضي أن المأموم إذا كان مع الإمام وحدهما فعليهما أن يصفا صفاً لكن هذا الصف ليس كهيأة الصف المعتادة، ومن هنا فسيكون عن يمينه لكن ينبغي أن يتأخر عنه يسيراً كما فعل ابن عباس يكون مقابل منكبه متأخراً عنه قليلاً من الجهة اليمنى، أما تقدم المأموم على الإمام فلا ينبغي ذلك إلا في حال الضرورة، وعند الحنابلة أنه إذا تقدم عنه بقدر رجله فإن صلاته تبطل لأنهم يرون أن النهي مقتض للبطلان مطلقاً فإذا تقدم المأموم عن الإمام بقدر رجله بطلت صلاته عندهم.
ومن محل الضرورة ما حصل في هذا المسجد الآن في صلاة المغرب فكانت الصفوف في قبلة الإمام لأن المكان قد امتلأ لكن ينبغي لتلك الصفوف أن تتأخر حتى تتصل وأن تكون متصلة بالمسجد حتى لا تقع فرجة بينها، وقد ذكر مالك رحمه الله أن داراً لآل عمر كانت في قبلة المسجد فكان أهلها يصلون بصلاة الإمام -ومحل ذلك النساء[ ] ومن يشق عليه الخروج للصلاة- والمسجد كبير -المسجد النبوي كبير- فإذا كانت الدار في قبلته فإن الضعفة والعجزة لا يستطيعون الخروج حتى يأتوا من خلف المسجد، والصفوف ينبغي أن تكون متصلة واتصالها هو بأن لا تطول الفرجة بينها والفرجة بين كل صفين ينبغي أن لا تتجاوز ثلاثة أذرع على الراجح، لأن حد ما بين الصف والصف حد ما بين الإمام والسترة، والسترة ينبغي أن يدنو منها الإمام لحديث بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وليدن منها، وليدن منها" أي ليقترب من سترته، وهذا الدنو محل خلاف بين أهل العلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد أحدكم أن يصلي فليجعل بين يديه مثل مؤخرة الرحل، فإن أراد أحد أن يمر بين يديه فليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان" والمقاتلة لدى العرب تكون بالنبل بالسهام وبالرمح وبالسيف فالنبل بعيد جداً رميه، والرمح اثنا عشر شبراً من الوسط، والسيف قدره قدر القوس أي ثلاثة أذرع، وهي ثلاث أذرع وأصبع طوله ثلاثة أذرع فهذا القدر[ ] هو الذي أخذ به أهل العلم في تحديد ما بين الإمام والسترة، أن أقل ذلك هو ثلاثة أذرع لأنه قال: "فإن أبى فليقاتله" وأصل ذلك المقاتلة بالسيف فيكون على قدر هذه المسافة، وعلى هذا فبعد ما بين الصفين ينبغي أن لا يتجاوز ثلاثة أذرع، وهذا حريم للمصلي وهو الذي لا ينبغي المرور منه ما دام الإنسان يصلي.
وقد اختلف أهل العلم في حريم المصلي الذي يستحقه بصلاته، فذهب بعضهم إلى أن حريمه هو كل ما يشوش عليه فإذا كان يصلي في العراء فمرورك بين يديه من مسافة بعيدة مشوش عليه، فلذلك لا ينبغي أن تمر بين يديه، لكن نفى هذا القول عدد من أهل العلم وقالوا: لو كان كذلك لما شرعت السترة، لأن السترة لا تنفي التشويش، السترة تكون مثلاً قدر مؤخرة الرحل وهذا لا ينفي التشويش إذا مر مار والإنسان قائم مثلاً، ولهذا قال ابن العربي: "بالله الذي لا إله إلا هو لقد زلت أقدام العلماء[ ] في هذه المسألة، ولا يستحق المصلي من الحريم إلا قدر سجوده وركوعه القدر الذي يسجد فيه ويركع فقط"، ولكن ذكر الباجي وغيره أن حريم المصلي الذي ينبغي أن يترك له هو قدر ما بينه وبين سترته إن كان مستتراً وهو ثلاثة أذرع.
والمصلي والمار لهما أربع صور: صورة يأثمان فيها معاً وهي إذا كان المصلي متعرضا لم يستتر، وكان المار يجد مندوحة أي مكاناً يمر فيه فتعمد المرور بين يدي المصلي فهما آثمان، المصلي آثم لأنه لم يستتر، والمار آثم لأنه وجد مكاناً يمر منه فاختار ما بين يدي المصلي.
والصورة الثانية لا يأثم فيها واحد منهما: وهي إذا كان المصلي مستتراً غير متعرض، وكان المار لا يجد مندوحة لا يستطيع إلا الخروج من ذلك المكان، إذا كان المصلي يصلي هنا في هذا المكان وهو مستتر بالجدار وليس وراءه أية فرجة، وكنت أنت لا بد أن تمر لإنقاذ إنسان مثلاً أو لحاجة ضرورية لا بد منها فمرورك بين يديه ليس فيه في ذلك الوقت[ ] إثم عليك، ولا عليه فهو، قد فعل ما أمر به من الاستتار وأنت مضطر للخروج والإثم مرفوع عن المضطر، لقول الله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه}.
الصورة الثالثة يأثم فيها المار فقط دون المصلي، وهي إذا كان المصلي متعرضاً غير مستتر، وكان المار يجد طريقاً يسلكه غير الذي بين يدي المصلي فاختار الذي بين يدي المصلي، فالمار آثم والمصلي غير آثم، وهذا الذي جاء فيه: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن ينتظر أربعين خير له"، أربعين يمكن أن تكون أربعين يوماً أو أربعين سنة المهم المبالغة في العدد.
الصورة الرابعة: يأثم فيها المصلي ولا يأثم فيها المار، إذا كان المصلي متعرضاً لم يتخذ سترة، وكان المار لا يجد طريقاً إلا التي بين يدي المصلي وهو مضطر للعبور فيأثم المصلي ولا يأثم المار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلاً عن موقع فضيلة الشيخ الددو على شبكة الإنترنت.