من أسـرار نزع الخافض فـي القـرآن الكريـم
تأليــــف
أد/ يوسف بن عبد الله الأنصاري
أستاذ ورئيس قسم البلاغـة والنقد
بجامـعة أم القرى
من أسرار نزع الخافض في القرآن الكريم
ملخص البحث
يتكون هذا البحث : من مقدمة وتمهيد ومبحثين، تناول الباحث في المقدمة أهمية البحث، وفي التمهيد تحدث الباحث عن مصطلح نزع الخافض في التراث النحوي نشأة وتاريخا وتحديداً لمفهومه عند النحاة.
وفي المبحثين الأول والثاني عرض الباحث لشواهد نزع الخافض في القرآن الكريم كاشفا عن الأسرار البلاغية من وراء نزع الخافض في البيان القرآني.
ويسعى البحث إلى سد جانب من جوانب النقص في المكتبة العربية حول
هذا الموضوع، فليس هناك فيما أعلم دراسة تناولت نزع الخافض في القرآن الكريم من الوجهة البلاغية.
ومن أهم النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة:
أن القرآن الكريم يهدف من خلال نزع الخافض إلى أسرار بلاغية يعين على إبرازها السياق بمعونة القرائن والمقام.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة البحث
الحمد لله الذي هدانا للإيمان، ووفقنا لتدبر القرآن، والصلاة والسلام على خير الأنام أفصح من تكلم بلسان، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فلعل من أسباب عنايتي بهذا الموضوع - وهو مما أعده من تصاريف القدر - أنه كثيرا ما كان يتردد على خاطري شاهد من شواهد النحاة في نزع الخافض - وبخاصة حين أعاتب صديقا بعدم زيارته لي بعد معرفتي بقدومه إلى مكة المكرمة حرسها الله - هو قول الشاعر:
تمرون الديار ولم تعوجوا كلامكم علي إذن حرام(1)
ويتبادر إلى ذهني سؤال هو ما الذي جعل الشاعر يسقط حرف الجر ؟ وهداني طول التأمل في السياق إلى أن الشاعر لعله أراد منذ الوهلة الأولى أن يقطع على هؤلاء العذر بأنهم قد مروا الديار كلها داراً داراً، ومع ذلك لم تلزمهم ما بينه وبينهم من مودة وصداقة قديمة أن يمروا للسلام عليه والاطمئنان عن حاله، ولو قال الشاعر "تمرون بالديار" لما أفاد هذا المعنى، بل هو دال على أنهم لا يستطيعون أن يمروا لأنهم في عجلة من أمرهم، وأنهم قد مروا بطرف الديار، وداره بعيدة عن طريقهم، فيكون هذا عذراً لهم لا يمكن للشاعر أن يرفضه.
وفي أثناء قراءتي لكتاب من أسرار حروف الجر في الذكر الحكيم للدكتور محمد الأمين الخضري وجدته يذكر في البحث المخصص لزيادة "من" الابتدائية وحذفها قول الله تعالى ] واختار موسى قومه سبعين رجلا[ (الأعراف 155) يكشف سر إسقاط حرف الجر في هذه الآية بقوله " وأرى - والله أعلم بما نزل- أن إسقاط حرف الجر القصد منه النعي على بني إسرائيل لكثرة تمردهم وعصيانهم، ودوام مخالفتهم لنبيهم، حتى كأنه لم يجد فيهم خيارا غير هؤلاء السبعين، فهم القوم كل القوم في ميزان الطاعة والصلاح، وفي ذلك ما فيه من التلميح بكثرة العاصين وقلة الصالحين فيهم" (3)
فالنحاة أو الصناعة النحوية تقتضي تقدير المحذوف وهو حرف الجر "من" أي من قومه ليتضح المعنى وتستقيم العبارة، والبلاغة لا تقف عنـد حـدود مـا تقتضيـه الصناعـة النحويـة مــن تقديـر للمحذوف، بل تقتضي أن نبحث عن سر الحذف وأن نعمل عقولنا في سر المحذوف من خلال النظر في السياق لنهتدي إلى الوصول إلى إدراكه فيتجلى لنا بوضوح جمال البيان وجلال الإعجاز.
وهو ما كشف عنه الدكتور الخضري في كلامه السابق من أن موسى عليه السلام قد بحث ونقب فلم يجد إلا هؤلاء السبعين وفي ذلك ما فيه من النعي على بني إسرائيل بقلة الصالحين وكثرة العاصين فيهم.
ولعل ما ذكرته حفزني إلى دراسة هذا الموضوع، فتابعت القراءة في كتب النحاة وكتب المفسرين فوجدت مادة علمية جعلت الموضوع في نظري جديرا بالدراسة والبحث، جعلت عنوانه "من أسرار نزع الخافض في القرآن الكريم.
ويسعى البحث إلى تحقيق أمور عدة منها:-
1- إبراز صفحة من صفحات إعجاز القرآن الكريم من خلال الكشف عن بلاغة النظم القرآني لنزع الخافض.
2- سد جانب من جوانب النقص في المكتبة العربية، فليس هناك فيما أعلم دراسة تناولت نزع الخافض في القرآن الكريم من الوجهة البلاغية
ويتكون البحث من مقدمة، وتمهيد: تناولت فيه نزع الخافض في التراث النحوي، ومن مبحثين هما كالآتي:
المبحث الأول: من أسرار نزع الخافض المطرد في القرآن الكريم.
المبحث الثاني: من أسرار نزع الخافض غير المطرد في القرآن الكريم.
وختاما أسأل الله العلي القدير أن يتقبل هذا العمل الذي قصدت به وجهه الكريم، وأن يثقل به موازين حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأن ينفع به العلم وأهله، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تمهيد
نزع الخافض في التراث النحوي
مصطلح نزع الخافض بين النشأة والتاريخ:
تتردد في كتب النحاة عدة مصطلحات تشترك كلها في دلالة واحدة هي حذف حرف الجر، إسقاط الخافض أو إسقاط الحرف، حذف حرف الإضافة، نزع الخافض.
وقد شاعت هذه المصطلحات في كتب كثير من متقدمي النحاة، وكان لبعضها حضور واضح في كتبهم، وبعضها الآخر ساد في كتب علماء النحو المتأخرين.
وكان إمام النحو سيبويه قد جمع في كتابه بين استعمال مصطلح حروف الجر ومصطلح حروف الإضافة ذاكرا معهما لفظ الحذف أو السقوط من ذلك قوله " وقال عمرو بن معد يكرب الزبيدي:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب
وإنما فصل هذا أنها أفعال توصل بحروف الإضافة، فتقول: اخترت فلانا من الرجال، وسميته بفلان، كما تقول: عرَّفته بهذه العلامة وأوضحته بها، وأستغفر الله من ذلك، فلما حذفوا حرف الجر عمل الفعل، ومثل ذلك قول المتلمس:
آليت حَبَ العراق الدهر أطعمه والحبُّ في القرية يأكله السُّوس " (3)
وقوله أيضا: " اعلم أنك إذا حذفت من المحلوف به حرف الجر نصبته كما تنصب حقا إذا قلت: إنك ذاهب حقا، فالمحلوف به مؤكد به الحديث كما تؤكده بالحق، ويجر بحروف الإضافة كما يجر حق إذا قلت: إنك ذاهب بحق، وذلك قولك اللهَ لأفعلن...." (4)
وقد سار المبرد في كتابه المقتضب على نهج سيبويه حيث جمع بين مصطلحي حروف الجر وحروف الإضافة،واستعمل أيضا حرف الخفض، والحرف الخافض، من ذلك قوله " واعلم أنك إذا حذفت حروف الإضافة من المقسم به نصبته، لأن الفعل يصل فيعمل فتقول: اللهَ لأفعلن، لأنك أردت أحلف اللهَ لأفعلن،وكذلك كل خافض في موضع النصب إذا حذفته وصل الفعل فعمل فيما
بعده كما قال عز وجل ] واختار موسى قومه سبعين رجلا[ ( الأعراف 155) أي من قومه، وقول الشاعر:
استغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل
أي من ذنب، وقال الشاعر:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب " (5)
وقوله " فإذا حذفت حروف الجر وصل الفعل فعمل وكان حذفها حسنا لطول الصلة كما قال عز وجل ]واختار موسى قومه [ أي من قومه، فهو مع الصلة والموصول حسن جدا " (6)
وقوله " وتقول: أمرته أن يقوم يا فتى، والمعنى أمرته بأن يقوم، إلا أنك حذفت حرف الخفض ، وحذفه مع أنْ جيد " (7)
وقد ترددت هذه المصطلحات في كتب العلماء, وإن كان قد غلب بعضها وشاع عند بعض العلماء، فابن جني مثلا نجده يستخدم حذف الجر بعد أن ذكر "يا" بقوله " ولذلك ما وصلت تارة بنفسها في قولك: يا عبد الله، وأخرى بحرف الجر نحو قوله: يا لبكرٍ، فجرت في ذلك مجرى ما يصل من الفعل تارة بنفسه, وأخرى بحرف الجر نحو قوله: خشَّنت صدره، وبصدره، وجئت زيدا، وإليه، واخترت الرجال، ومن الرجال، وسميته زيدا، وبزيد، وكنيته أبا علي وبأبي علي " (8)
وكذلك يشيع استخدام حذف حرف الجر عند الصيمري في قوله " والضرب الثاني: أن يتعدى إلى مفعولين وليس أحدهما فاعلا،فكان الأصل أن يتعدى إلى الثاني منهما بحرف الجر، فحذف منه حرف الجر استخفافا فوصل النصب إلى ما بعده، وذلك قولك: اخترت زيدا الرجال، وسميت أخاك زيدا، وكنيته أبا فلان، وكان الأصل: اخترت زيدا من الرجال، وسميت أخاك بزيد، وكنيته بأبي فلان، قال الله عز وجل ]واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا[ أي من قومه، ومن ذلك قول الشاعر:
وبيضاءَ من نسجِ ابن داودَ نثرةٍ تخيرتها يوم اللقاء الملابسا
أي من الملابس، ومنه أيضا قول الآخر:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه ربَ العبادِ إليه الوجه والعمل
أي أستغفر الله من ذنب........، واعلم أن حذف حرف الجر من هذا الباب
لا يقاس عليه، وإنما يتكلم منه بما تكلمت به العرب ولا يتجاوز، ألا ترى
أنك لا تقول: مررت زيدا، وتريد مررت بزيد، ولا أخذت زيدا مالا، تريد: أخذت من زيد مالا (9)
وذكر الزمخشري في المفصل مصطلح حذف حرف الجر بقوله " فصل: وتحذف حروف الجر فيتعدى الفعل بنفسه كقوله تعالى ] واختار موسى قومه سبعين رجلا [ وقوله:
منا الذي اختير الرجال سماحة وجودا إذا هبَّ الرياح الزعازع
وقوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب وتقول استغفر الله ذنبي، ومنه دخلت الدار، وتحذف مع أنَّ وأنْ كثيرا مستمرا " (9) ، وتابعه في ذلك ابن يعيش وابن الحاجب، وكذلك فعل ابن مالك وشراح الألفية(10).
وذكر ابن هشام في كتابه المغني حذف حرف الجر بقوله " حذف الجار يكثر ويطرِّد مع أنَّ و أنْ نحو ] يمنون عليك أن أسلموا [ ، وجاء في غيرهما نحو "قدَّرناه منازل" أي قدرنا له. (12) "
في حين نجد ابن هشام إلى جانب استعماله لحذف الجار يستعمل مصطلح إسقاط الخافض عند حديثه عن المنصوب في قولك: دخلت الدار، وسكنت البيت، فيذكر أن انتصابهما إنما على التوسع بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، أما نزع الخافض فيضع في كتابه الجامع الصغير فصلا بعنوان (فصل في النصب بنزع الخافض) وعلى حسب خطة المحقق فإن هذا العنوان من وضع ابن هشام كذلك نجد هذه المصطلحات تنتشر في كتب
أصحاب الحواشي كحاشية الشيخ يس العليمي على التصريح، والشيخ الخضري في حاشيته على شرح ابن عقيل يذكرون نزع الخافض، وحذف الجار وإسقاط الحرف،على الرغم من أن ابن عقيل وصاحب الألفية يذكران فقط حذف الجار" (13)
يتبين لنا من خلال هذا العرض أن النحاة الأوائل بدأوا باستخدام حذف حرف الجر، وحذف الجار، وحذف حرف الإضافة، كما ظهر بجوارها لدى بعض النحاة استعمال إسقاط الخافض، وإسقاط الحرف، وشيوع بعض هذه المصطلحات وغلبته لدى بعض العلماء، حتى إذا ما وصلنا إلى العصور الأخيرة لدى النحاة المتأخرين نجدهم يستعملون إسقاط الخافض، ونزع الخافض ويشيع في مؤلفاتهم النحوية.
مصطلح نزع الخافض عند النحاة:
ذكر النحاة أن الفعل اللازم وهو الذي لا يتعدى إلى المفعول، حين يراد تعديته تكون تعديته إلى المفعول بحرف الجر، يتضح ذلك من قول ابن مالك:
وعدِّ لازما بحرف جر وإن حذف فالنصب للمنجر
نقلا وفي أنًّ وأنْ يطرد مع أمن لبس كعجبت أن يدوا (14)
يعدى الفعل اللازم بحرف الجر مثل مررت بزيد، واقتربت من عمرو، ويصح نصب الاسم المجرور بشرط حذف حرف الجر، والنصب بنزع الخافض سماعي عن العرب ولا يجوز القياس عليه، وقد أشار إلى ذلك صاحب النحو الوافي بقوله " والنصب به سماعي - على الأرجح المعول عليه - مقصور على ما ورد منها منصوبا مع فعله الوارد نفسه، فلا يجوز - في الرأي الصائب - أن ينصب فعل من تلك الأفعال المحددة المعينة كلمة على نزع الخافض إلا التي وردت مسموعة عن العرب، كما لا يجوز في كلمة من تلك الكلمات المعدودة المحدودة أن تكون منصوبة على نزع الخافض إلا مع الفعل الذي وردت معه مسموعة " (15)
كما يطرد حذف حرف الجر وبقاء عمله مع أنَّ وأنْ كما في قوله تعالى ]يمنون عليك أن أسلموا [ ( الحجرات 17) أي بأن أسلموا ومثله "] بل الله يمن عليكم أن هداكم [ ( الحجرات 17 ) أي بأن هداكم، وقوله تعالى ]فاستجاب لهم ربهم إني لا أضيع عمل عامل منكم [ ( آل عمران 195 ) أي بأني لا أضيع، واختلف النحاة في حكم المجرور بعد الحذف مع أنَّ وأنْ
أيبقى الاسم مجرورا كما كان أم يكون منصوبا على نزع الخافض؟، أشار إلى ذلك ابن مالك بقوله:
وفي محل نحو "أن" هذا نظر أذو انتصاب هو أم مما يجر(16)
وكذلك الشأن في حكم الاسم المنصوب بعد حذف الجار أيكون منصوبا على نزع الخافض أم يكون مفعولا به للفعل مباشرة؟.
أولى الآراء عندي أن يكون منصوبا على نزع الخافض، لأن القول بأن نصبها على المفعولية " قد يوحي - خطأ - أن الفعل قبلها متعد بنفسه، وأن المعنى لا يحتاج إلى المحذوف، فيقع في الوهم إباحة تعديته مباشرة في غيرها، لكن إذا قلنا : منصوبة على نزع الخافض سماعا كان ذلك إعلانا صريحا عن حرف جر محذوف، نصب بعده المجرور، فيكون النصب دليلاعلى ذلك لا يستقيم المعنى إلا بملاحظته وتقدير وجوده (17)
وبهذا يتبين لنا أن المنصوب على نزع الخافض ضربان : المطرد : وهذا النوع يطرد ويكثر مع أنَّ وأنْ.
الثاني : غير المطرد: وهذا النوع غير مقيس بل مقصور على السماع عن العرب.
وقد وردت في القرآن الكريم شواهد عديدة منه لأن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين.
وهذه الدراسة ستتناول دراسة نزع الخافض في القرآن الكريم محاولة الكشف عن أسراره البلاغية.
من أسرار نزع الخافض في البيان القرآني
المبحث الأول:
نزع الخافض المطرد:
ذكرنا أن حذف حرف الجر يطرد مع أنَّ وأنْ، وشواهده في القرآن الكريم كثيرة لا يمكن حصرها، لكنني سأكتفي بتحليل شاهد واحد يمكن أن يقاس عليه بقية الشواهد القرآنية الأخرى.
ويحقق نزع الخافض في القرآن الكريم وفي غيره من الكلام البليغ فضيلة الإيجاز بالاستغناء عن الفضول واستثمار أقل ما يمكن من الألفاظ لأداء المعنى المراد.
وتظهر بجوار الإيجاز والاختصار أغراض بلاغية يتطلبها المقام ويقتضيها السياق.
ولعل أبرز سمة أسلوبية لشواهد نزع الخافض المطرد مع أنَّ وأنْ هي الإيجاز في أغلب شواهده، وإن ظهر في قليل من شواهده تكثير الدلالة تبعا لاختلاف حرف الجر المحذوف على نحو ما نراه في قول الحق تبارك وتعالى ] ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن و ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن [ (النساء 127)
يقول الزمخشري " ترغبون أن تنكحوهن يحتمل في أن تنكحوهن لجمالهن، ومن أن تنكحوهن لدمامتهن " (18) .
يؤدي تقدير حذف الجر المحذوف هنا إلى تكثير الدلالة حيث يجوز تقديره في هذه الآية "في" فيكون المعنى الرغبة في الزواج بهن والحرص عليه لجمالهن أو لغيره، ويحتمل تقديره "عن" فيكون المعنى الإعراض عن الزواج بهن كراهية ذلك، لأن فعل الرغبة كما ذكر الراغب " إذا قيل: رغب فيه وإليه يقتضي الحرص....، وإذا قيل: رغب عنه، اقتضى صرف الرغبة والزهد فيه " (19) .
أرأيت كيف أدى تقدير حرف الجر المحذوف إلى تكثير الدلالة لاحتمال التعبير القرآني لكل هذه المعاني المتعددة.
----------------------------------
المبحث الثاني: نزع الخافض غير المطرد:
وصف كثير من النحاة نزع الخافض الجاري على غير القياس بأنه مسموع عن العرب ولا يقاس عليه، ووصفوا وروده في كلام العرب بالشذوذ أو الضرورة من ذلك قول أبي حيان في تفسير آية ] لأقعدن لهم صراطك المستقيم [ ( الاعراف 16) " وانتصب صراطك على إسقاط "على" قاله الزجاج وشبهه بقول العرب: ضرب زيد الظهر والبطن أي على الظهر والبطن، وإسقاط حرف الجر لا ينقاس عليه في مثل هذا لا يقال: قعدت الخشبة أي قعدت على الخشبة....، وما جاء خلاف ذلك شاذ أو ضرورة، وعلى الضرورة أنشدوا: كما عسل الطريق الثعلب....(20) .
ويقول رضي الدين الاستراباذي " بلى قد جاء في غيرهما شذوذا كقوله "تمرون الديار ولم تعوجوا" وقوله تعالى ]لأقعدن لهم صراطك المستقيم [ ( الاعراف 16) ] ولا تعزموا عقدة النكاح [ ( البقرة 235) ] وأن تسترضعوا أولادكم[ ( البقرة 233) والأولى في مثله أن يقال ضمن اللازم معنى المتعدي أي تجوزون الديار، ولألزمن صراطك، ولا تنووا عقدة النكاح، وترضعوا أولادكم، حتى لا يحمل على الشذوذ " (21) .
وتأدبا مع القرآن الكريم لا نستطيع وصف وقوع هذا الأسلوب في البيان القرآني بالشذوذ أو الضرورة جريا على ما اعتاد النحاة وصف وقوعه في كلام العرب، بل ننزه القرآن الكريم عن ذلك ونكتفي بالقول بأن القرآن جار على سنن العرب في كلامها، ولعل ابن هشام كان يشعر بخطورة وصف وقوع هذا الأسلوب في القرآن بالضرورة أو الشذوذ، وينأى عن ذلك، ولعل هذا ما نلمحه في قوله بعد أن ذكر أنَّ حذف الجار يطرد ويكثر مع أنَّ وأنْ ذاكرا بعض الشواهد القرآنية قال: " وجاء في غيرهما نحو ] قدرناه منازل [ ( يسن 39) أي قدرنا له، وذكر مع هذا الشاهد شواهد قرآنية أخرى (22) .
بل إن بعض النحاة كالأخفش الأصغر يجيز حذف الجـار مـع غيـر أنَّ وأنْ قياسـا إذا تعيـن الجارالمحذوف كما في قولك: خرجت الدار، أي من الدار(23)، مما نعده دليلا على عدم استساغة وصف ورود هذا الأسلوب في كلام العرب وفي القرآن بالضرورة أو الشذوذ، بل إنه من طرائق العرب في الإبانة عن معانيها، وجرى وروده في القرآن الكريم جريا على عادة العرب في مخاطبتها وسنن كلامها.
وغير خاف أن لنزع الخافض في لغة القرآن الكريم أسرارا بلاغية عالية، ولسياقاته مذاقات حسنة تنادي بجلال إعجاز القرآن الكريم.
ومع ذلك فإن إدراك هذه الأسرار البلاغية غير ميسور للإنسان من النظرة العجلى، بل لا بد لإدراكها من قدح زناد الفكر وإعمال الذهن وإدامة النظر وإرهاف الحس لما يهمس به السياق من لطائف البلاغة وأسرار البيان.
والمتذوق للبيان لا يجد متعة نفسه في الكلام الواضح جدا، والمكشوف جدا " وإنما يجد متعة نفسه حيث يتحرك حسه وينشط ليستوضح ويتبين ويكشف الأسرار والمعاني وراء الإيحاءات والرموز، وحين يدرك مراده، ويقع على طلبته من المعنى يكون ذلك أمكن في نفسه، وأملك لها من المعاني التي يجدها مبذولة في حاق اللفظ " (24) .
وفي الصفحات التالية بعون الله وتوفيقه سنقوم بعرض شواهد نزع الخافض غير المطرد في القرآن الكريم، نستجلي أسراره البلاغية، محاولين الاستقصاء قدر الطاقة، وفي عرضنا لشواهده نسير في ترتيبها على حسب ترتيب سور القرآن الكريم.
--------------------
سورة البقرة:
يقول تعالى خطابا لبني إسرائيل ] وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى [ ( الآية57)
للعلماء في توجيه نصب الغمام رأيان:أحدهما أنه منصوب بنزع الخافض تقديره: بالغمام، والثاني: أنه مفعول به لا على إسقاط الحرف، أي جعلناه عليكم ظللا.
وقد أوضح ذلك أبو حيان بقوله " الغمام مفعول على إسقاط حرف الجر أي بالغمام كما تقول ظللت على فلان بالرداء، أو مفعول به لا على إسقاط الحرف ويكون المعنى جعلناه عليكم ظللا " (25)
ويقول العكبري " أي جعلناه ظلا، وليس كقولك ظللت زيدا بظل لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الغمام مستورا بظل آخر، ويجوز أن يكون التقدير بالغمام " (26) .
السياق في هذه الآية الكريمة - كما ترى - يفيض بامتنان الله تعالى على بني إسرائيل بأن ساق إليهم الغمام وسخره لهم يسير بسيرهم يظللهم أينما ساروا في التيه ولولا ذلك لسفعتهم الشمس ولفحت وجوههم في الهجير(27).
ولو قيل "بالغمام" لما أشعر التعبير بهذا المعنى، لأنه دال على أن الغمام لم يقع عليهم مباشرة، بل وقع متلبسا بهم، أو أن الله تعالى ظللهم ببعض الغمام، وتقدير حرف الجر يفوت علينا ما كنا نجده في الآية الكريمة من عظيم امتنان الله على بني إسرائيل حيث ظلل الغمام عليهم.
--------------------
ويقول تعالى ] ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير [(الآية 148) .
اتفقت أقوال المفسرين في نصب " الخيرات " على أنها منصوبة على إسقاط حرف الجر التقدير: إلى الخيرات، وفي هذا الصدد يقول أبو حيان " فاستبقوا الخيرات، هذا أمر بالبدار إلى فعل الخيروالعمل الصالح، وناسب هذا أنَّ من جعل الله له شريعة، أو صلاة، فينبغي الاهتمام بالمسارعة إليها، وذكرنا أن استبق بمعنى تسابق فهو يدل على الاشتراك ] إنا ذهبنا نستبق [ (يوسف 17) أي نتسابق، كما تقول تضاربوا، واستبق لا يتعدى لأن تسابق لا يتعدى، وذلك أن الفعل المتعدي إذا بنيت من لفظ معناه تفـاعل للاشتـراك صـار لازمـا، تقـول ضربت زيدا، ثم تقول تضاربنا، فلذلك قيل: إن " إلى" هنا محذوفة التقدير: فاستبقوا إلى الخيرات " (28) ويقول السمين الحلبي " الخيرات " منصوبة على إسقاط حرف الجر، التقدير: إلى الخيرات " (29) ، أما الطاهر بن عاشور فقد ذكر وجهين لنصب الخيرات بقوله " والاستباق افتعال والمراد به السبق وحقه التعدية باللام إلا أنه توسع فيه فعدي بنفسه كقوله تعالى ] واستبقا الباب [ ( يوسف 25) أو على تضمين استبقوا معنى اغتنموا " (30) .
وتقدير حرف الاختصاص اللام هنا كما ذهب إلى ذلك الطاهر معناه أن الاستباق مختص للخيرات ولأجلها، وهذا المعنى بعيد يأباه السياق، كما أن القول بالتضمين والوقوف عنده ما هو إلا محاولة لتصحيح التعدية وبيان المعنى، وصرف لهمم الباحثين عن استجلاء روائع البلاغة القرآنية في نزع الخافض وإيصال الفعل إلى المفعول مباشرة دون واسطة حرف الجر.
وفي هذه الآية الكريمة - والله أعلم بمراده - دل نزع الخافض على ما يجب أن يكون عليه المؤمن من المبادرة والمسارعة إلى فعل الخيرات حتى لكأن المؤمنين في سباق لا ينتهي بهم عند الخيرات، أما لو قيل "فاستبقوا إلى الخيرات" فإن "إلى" بدلالتها على الانتهاء تشير إلى أن غاية المؤمن أن ينتهي وصوله إلى الخيرات.
وفرق كبير بين أن تكون غاية الإنسان الوصول إلى الخيرات، وأن تنتهي رحلته عندها، وبين أن يكون المؤمن في سباق دائم مع غيره رغبةً في نيل رضا الله تعالى والفوز بجناته.
ولعل هذا الذي أشرنا إليه هو ما ألمح إليه الزمخشري بقوله " واسبقوا إليها غيركم من أهل القبلة وغيره " (31)
والسيد رشيد رضا بقوله " أي ابتدروا كل نوع من أنواع الخير، وليحرص كل منكم على سبق غيره إليه " (32) .
وقد ورد هذا التعبير القرآني في قوله تعالى ]ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات [ ( المائدة48) ولهذه الآية الكريمة نظائر منها قوله تعالى ] واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر[ (يوسف25) وقوله تعالى ] ولونشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط [ (يسن 66) وسيأتي مزيد بيان لهاتين الآيتين في موضعهما من هذا البحث.
--------------------
ويقول تعالى ] إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم[(البقرة158) . تعددت أقوال العلماء في توجيه نصب "خيرا"، أولهما: أنه منصوب بنزع الخافض والتقدير: بخير فلما حذف الحرف وصل الفعل إليه ويؤيده أنه قرأ بها ابن مسعود، ولهذا رجحه كثير من العلماء، الثاني: أنه صفة لمصدر محذوف تقديره تطوعا خيرا، الثالث: أنه مفعول به على تضمين "تطوع" معنى أتى أو فعل، الرابع: أنه حال من ذلك المصدر المقدر المعرفة، وهو مذهب سيبويه (33).
ومع أن الألوسي قد ذكر بعض هذه الآراء في نصب "خيرا" إلا أنه قد أضاف كلاما يجدر بنا ذكره في هذا الموضع حيث يقول " وفائدة "خيرا" مـع أن التطـوع لا يكـون إلا كـذلك التنصيص بعموم الحكم بأن من فعل خيرا أيَّ خير كان يثاب عليه " (34) .
ويهمنا من هذه التوجيهات التوجيه الأول وهو أن "خيرا" منصوب على نزع الخافض، ولو كان معنى الحرف مرادا لذكر في الآية الكريمة، وإنما جاءت الآية بإسقاط حرف الجر وإيصال الفعل "تطوع" إلى المفعول "خيرا" لأنه يفيد معنى هو مراد الآية الكريمة.
فهو لم يتطوع بخير، وإنما تطوع خيرا، وفرق كبير بين من تطوع خيرا، وبين قولنا "تطوع بخير"، لأن فعل التطوع في الآية واقع على الخير كما يقع الفعل على المفعول مباشرة، أما في قولنا فإن التطوع واقـع علـى الخيـر وقوعـا غيـر مبـاشـر، وفرق بين أن يقع الفعل على المفعول مباشرا، وبين أن يقع عليه بواسطة حرف الجر.
ولعله مما تقدم يمكننا القول بأن نزع الخافض دال على التعميم في فعل الخير والطاعات وقد تضافرت دلالة التنكير مع إسقاط حرف الجر على العموم، ولو قيل "بخير" بزيادة الباء لدل على فعل بعض الخير لا عموم الخير.
--------------------
ويقول تعالى ]وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير[(البفرة233) .
للمفسرين في إعراب " أولادكم " رأيان: أولهما: أن الفعل استرضع يدل على الطلب، أي طلبت من المرأة إرضاع الولد، كما تقول استقيت زيدا الماء، واستطعمت عمرا الخبز، فهو يتعدى إلى مفعولين حذف أحدهما للاستغناء عنه والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم، وإلى هذا ذهب الزمخشري, الثاني: أن "أولادكم" منصوب بنزع الخافض على أنه مفعول ثان، والتقدير: أن تسترضعوا المراضع لأولادكم (35) .
وإليك ما قاله أبو حيان في بيان اختلاف العلماء في تعدية الفعل استرضع في هذه الآية الكريمة " استرضع فيه خلاف هل يتعدى إلى مفعولين بنفسه، أو إلى مفعولين الثاني بحرف الجر؟ قولان، الأول قول الزمخشري قال: استرضع منقول من أرضع، يقال: أرضعت المرأة الصبي، فتعدِّيه إلى مفعولين، كما تقول: أنجح الحاجة واستنجحته الحاجة، والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه، كما تقول: استنجحت الحاجة، ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأول انتهى كلامه....،واستفعل هنا للطلب، أي طلبت من المرأة إرضاع الولد كما تقول: استسقيت زيدا الماء، واستطعمت عمرا الخبز، أي طلبت منه أن يسقيني وأن يطعمني، فكما أن الخبز والماء منصوبان وليسا على إسقاط الخافض كذلك "أولادكم" منصوب لا على إسقاط الخافض، والثاني: قول الجمهور وهو أن يتعدى إلى اثنين، الثاني بحرف جر، وحذف من قوله "أولادكم" والتقديرلأولادكم"(36) .
يكشف التعبير - بإسقاط حرف الجر - عن رغبة الآباء وحرصهم على إرضاع أولادهم، وإيصال الرضاعة إليهم بلا واسطة مرضع أو غيرها لو أنهم استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
فكما أن إيصال الفعل إلى المفعول وقع لفظا دون وساطة حرف الجر فقد ترتب عليه في المعنى حرص الآباء ورغبتهم الأكيدة في إيصال الرضاعة إلى أولادهم بلا واسطة مرضع لو أنهم يستطيعون إلى ذلك سبيلا.
ولو ذكر في السياق حرف الاختصاص اللام "لأولادكم" لما دل على الغرض الذي اشرنا إليه، لأنه دال على اختصاص الإرضاع للأولاد ولأجلهم، وفرق كبير في المعنى بين أن يكون الإرضاع للأولاد وبين أن يكون الإرضاع واقعا عليهم.
--------------------
ويقول تعالى ] ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله[.(البقرة 235) . للعلماء في توجيه نصب "عقدة النكاح"أراء عديدة أولها: أنه منصوب بنزع الخافض والتقدير: ولا تعزموا على عقدة النكاح، وقد حكى سيبويه أن العرب تقول: ضرب زيد الظهر والبطن أي على الظهر والبطن، قال الشاعر:
ولقد أبيت على الطوى وأظله حتى أنال به كريم المأكل
وأظل عليه، فحذف "على" ووصل الفعل إلى الضمير فنصبه إذ أصل هذا الفعل أن يتعدى بعلى، قال الشاعر:
عزمت على إقامة ذي صباح لأمر ما يسوَّد من يسود
الثاني: أنه مفعول به على تضمين الفعل "تعزموا" معنى فعل يتعدى بنفسه حيث ضمن معنى تنووا، أو معنى تصححوا، أو معنى وجبوا أو معنى تباشروا، أو معنى تقطعوا أي تبتوا، الثالث: أنه منصوب على المصدر والمعنى: ولا تعقدوا عقدة النكاح (37) .
ومعنى العزم " عقد القلب على إمضاء الأمر " (38) ، وفي إيثار القرآن التعبير بإيقاع النهي على العزم بقوله تعالى ] ولا تعزموا عقدة النكاح [ بدلا من التعبير بالنهي الصريح في قولنا ولا تنكحوا النساء في العدة " مبالغة في النهي عن عقد النكاح في العدة لأن العزم على الفعل يتقدمه، فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى " (39) .
وقبل أن نبحث في بيان السر البلاغي من وراء نزع الخافض في هذه الآية الكريمة يجدر بنا أن نوضح أن القول بالتضمين ما هو إلا محاولة من العلماء لتصحيح وجه التعدية، كما أن الذهاب إليه في هذه الآية الكريمة يؤدي إلى ضعف بلاغة المعنى لأن سياق الآية الكريمة لا يقتضيه، وفي هذا الصدد يقول أحد الباحثين " ذلك لأن كثيرا من النحاة وبعض المفسرين يطلقون التضمين على أساليب بعضها لا يحتاج فيه إلى تضمين لوفاء الفعل المذكور بأداء المعنى المطلوب، وبعضها لا يتأتى فيه التضمين لعدم إمكان الجمع بين المعنيين، وبعضها يؤدي القول بالتضمين فيها إلى ضعف بلاغة العبارة.
فالفعل "عزم" يتعدى بعلى، تقول: عزمت على السفر مثلا، ولما جاء متعديا بنفسه في قوله تعالى "ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله" قالوا بتضمين "تعزمـوا" معنـى "تنووا" فنصب المفعول بنفسه مثله، ومع أن النية مطلق العزم، والعزم خصوص عقد الضمير على الشيء، إذ يقول الزمخشري: وحقيقة العزم القطع .
إلا أنه لا داعي - في نظري - لتضمين تعزموا معنى تنووا لأن صدر الآية يؤذن بالعفو عن النية والركون النفسي "ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله" فالآية رفعت الحرج في التعريض والإضمار القلبي، ونهت عن المواعدة والعزم، فليس من المناسب أن نضمن العزم معنى النية " (40) .
فما ذكره هذا الباحث مما ينثلج له الصدر وينشرح له الخاطر، لكن يبقى فيما قاله بأن الفعل "عزم" ورد متعديا بنفسه في هذه الآية نظراً لأن هذا الفعل لازم ويتعدى بعلى، والاسم بعده منصوب بنزع الخافض، يقول أبو حيان " وقيل انتصب - أي عقدة - على إسقاط حرف الجر وهو على هذا التقدير: ولا تعزموا على عقدة النكاح ....، إذ أصل هذا الفعل أن يتعدى بعلى قال الشاعر:
عزمت على إقامة ذي صباح لأمر ما يسوَّد من يسود " (41) .
ويقـول السميـن الحلبـي " إنـه منصـوب علـى إسقـاط حـرف الجـر وهـو "علـى" فإن "عـزم" يتعدى بها ....." (42) .
ولعلك حين تتأمل ما عليه التعبير القرآني "ولا تعزموا عقدة النكاح" بنزع الخافض، وقولنا "ولا تعزموا على عقدة النكاح" تجد فرقا بين تعدية الفعل بحرف الاستعلاء "على" وبين إسقاط حرف الجر وإيصال الفعل إلى المفعول مباشرة، ذلك أن على بما فيها من معنى الاستعلاء تكون آكد في الدلالة على العزم على النكاح لأن زيادة المبنى تؤدي حتما إلى زيادة المعنى كما قرر ذلك علماء البلاغة، أما ما عليه التعبير القرآني فليس فيه هذا التأكيد الذي نحس به مع زيادة حرف الاستعلاء، ونحن إذا نُهينا عن عزم النكاح فنحن أكثر نهيا بالنسبة للعزم على النكاح، ولهذا كان النهي في الآية الكريمة نهيا عن الصيغة الأقل مبالغة.
ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى ] للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم [(البقرة 226- 227).
ذكر العلماء لنصب "الطلاق" وجهين: أحدهما: أنه منصوب بنزع الخافض أو بإسقاط حرف الجر كما قالوا،لأن عزم يتعدى بعلى كما في قول الشاعر:
عزمت على إقامة ذي صباح .
الثاني: أنه مفعول به بتضمين الفعل "عزم" معنى نوى (43) .
ومع أن الآية السابقة جاءت بطريق النهي ]ولا تعزموا عقدة النكاح[ وهذه الآية جاءت بالإثبات "] فإن عزموا الطلاق [ فإن المغزى البلاغي فيهما واحد، وهو أن نزع الخافض دال على أقل ما يمكـن من عـزم الطـلاق تنفيرا من الطـلاق لأنـه أبغـض الحـلال إلـى الله، ولو قيل "عزموا على الطلاق" لدل التعبير على تأكيد عزمهم على الطلاق وإصرارهم عليه، أما ما عليه التعبير القرآني فليس فيه هذا التأكيد والإصرار الذي نلمحه من زيادة حرف الجر "على" لأن الآية لم تنفر من الطلاق بل أقل عزم عليه، وتستجيش في نفس المؤمن وتحثه على إعادة الحياة الزوجية إلى سابق عهدها، ولعل هذا ما يتناغم مع تقديم العودة والرجوع، على العزم على الطلاق في قوله ] فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم [.
--------------------
سورة النساء ( 44) :
يقول تعالى ] واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا [ (الآية 34) .
في نصب سبيلا وجهان: أحدهما: أنه منصوب على نزع الخافض، والثاني على أنه مفعول به وسنقتصر هنا على نقل ما ذكره الشهاب بقوله " بغى هنا بمعنى "ظلم" فهو لازم و "سبيلا" منصوب على نزع الخافض وأصله بسبيل أي لا تظلموهن بطريق من الطرق بالتوبيخ اللساني والأذى الفعلي وغيره، أو بمعنى الطلب فهو متعد، و "سبيلا" مفعوله أي لا تطلبوا سبيلا وطريقا إلى التعدي عليهن " (45) .
لعل نزع الخافض وإيصال الفعل إلى المفعول في هذه الآية الكريمة - والله أعلم بمراده - يستجيش في الرجل ما ينبغي أن يتحلى به من الرحمة والإنصاف، والابتعاد عن الظلم بعدم تعميم سبل البغي والظلم على الزوجة التي صلح له أمرها، وأذعنت له بالطاعة بعد نشوزها وإعراضها بعد أن سلك معها السبل التي أباح القرآن الكريم له أن يتخذها سلاحا ناجعا لإصلاح زوجته حفاظا لها من الفساد، ولبيته من الدمار والضياع.
ولو قيل "فلا تبغوا عليهن بسبيل" لكان النهي عن البغي متجها إلى سبيل من هذه السبل التي أباحها القرآن للرجل أن يتخذها وسائل لإصلاح شأن زوجته، أما ما عليه النظم القرآني فدال على عدم تعميم سبل البغي على النساء وطرق الإضرار بهن سواء كان بالتوبيخ اللساني والأذى الفعلي أو غيره.
--------------------
ويقول تعالى ]وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيبا....[ (النساء 43) , وتكررت هذة الآية في المائدة ( الآية 6).
ذكر علماؤنا رحمهم الله لنصب "صعيدا" في هذه الآية الكريمة رأيين: أولهما: أنه مفعول به لقوله "تيمموا" أي: أقصدوا، والثاني: أنه منصوب بنزع الخافض أي بصعيد(46)، وفي إيضاح هذا يقول الشهاب " صعيدا مفعول به، وقيل: إنه منصوب بنزع الخافض أي بصعيد "(47) .
الصعيد: وجه الأرض ترابا كان أو غيره(48)، فيشمل التراب والرمل والحجارة .
ونزع الخافض في هذه الآية الكريمة - والله أعلم - يشير إلى امتنان الله على هذه الأمة برفع الحرج عنها في أن يتيمموا بأي صعيد ترابا أو رملا أو حجرا شريطة أن يكون طاهرا لم تلوثه نجاسة ولا قذر.
ولو قيل "بصعيد" فإن الباء بما فيها من معنى الملابسة والإلصاق توحي بأنهم متلبسون بالأرض، وملتصقون بها، وهذا دال قطعا على عدم نظافة مظهرهم الخارجي لالتصاق الغبار وما علق على الأرض من أوساخ بملابسهم الخارجية، أما ما عليه البيان القرآني في قوله تعالى "فتيمموا صعيدا طيبا" بإسقاط حرف الجر فدال على عظيم امتنان الله برفع الحرج عن المسلمين بالتيمم بأي صعيد كـان، مـع مـا فيـه من الدلالـة علـى نظافـة المظهر الخارجـي لأن المؤمن حين يتيمم للطهارة أوالوضوء يضرب الأرض بيديه ثم يمسح وجهه وكفيه فتتحقق له طهارة البدن ونظافة المظهر.
وتأمل بلاغة القرآن في إيثاره للتعبير بالصعيد دون غيره " ليصرف المسلمين عن هوس أن يتطلبوا التراب أو الرمل مما تحت وجه الأرض غلوا في تحقيق طهارته "(49) .
--------------------
سورة الأعراف:
يقول تعالى على لسان إبليس اللعين]قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم[ (اآية16) .
للعلماء في نصب " صراطك " ثلاثة أوجه: أولها: أنه منصوب بنزع الخافض تقديره "على صراطك"، قاله الزجاج وشبهه بقول العرب: ضرب زيد الظهر والبطن أي على الظهر والبطن، وإسقاط حرف الجر لا ينقاس في مثل هذا لا يقال: قعدت الخشبة تريد: قعدت على الخشبة، الثاني: أنه منصوب على الظرف والتقدير: لأقعدن لهم في صراطك، وهذا تخريج ضعيف لأن صراطك ظرف مكان مختص، والظرف المكاني المختص لا يصل إليه الفعل بنفسه بل بحرف الظرفية "في" تقول: صليت في المسجد، ونمت في السوق، ولا تقول صليت المسجد ، ونمت السوق، وما جاء على خلاف ذلك شاذ أو ضرورة، الثالث: أنه مفعول به لأن الفعل قبله وإن كان قاصرا فقد ضُمِّن معنى فعل متعد، والتقدير: لألزمن صراطك المستقيم بقعودي عليه(50).
في هذه الآية الكريمة دل حذف حرف الجر وإيصال الفعل "أقعدن" إلى الصراط على رغبة إبليس - اللعين - الأكيدة وحرصه الشديد على الاستيلاء والاستحواذ على الصراط الموصل إلى الله تعالى ليسد على بني آدم جميع السبل الموصلة إليه مبالغة منه في إغوائهم جميعا حتى لكأن التعبير يوحي بأنه قد سدَّ عليهم منافذ الهداية وسبل الحق والخير كأنه عدو يعترض الطريق ليقطعه على المارة، ولو قيل "على صراطك" لدل على استيلاء إبليس على بعض الطريق لا كلها، وعلى بيان هيئة قعود إبليس على الصراط في استعلاء وتكبر مما يفوت عليه حرصه على إغواء ذرية آدم عليه السلام.
--------------------
ويقول تعالى ] ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح...[ (الأعراف 150 ) .
ذهب العلماء في نصب "أمر" في قوله تعالى ] أعجلتم أمر ربكم [ إلى أنه منصوب على المفعول به بعد حذف الخافض وتضمين الفعل معنى الفعل سبق , وفي هذا الصدد يقول السمين الحلبي " أنه منصوب على المفعول بعد إسقاط الخافض وتضمين الفعل معنى ما يتعدى بنفسه "(51) ، ويقول الشهاب " لما كان تعدِّي "عجل" بعن لا بنفسه لأنه يقال: عجل عن الأمر إذا تركه غير تام، ونقيضه تمَّ عليه وأُعجله عنه غيره، جعلوه هنا مضمنا معنى سبق فعدي تعديته " (52) .
أما الطاهر بن عاشور فذكر في نصبه وجهين أحدهما أنه منصوب بتضمين الفعل معنى سبق، والثاني أنه منصوب على نزع الخافض، وإليك قوله " وعجل أكثر ما يستعمل قاصرا بمعنى فعل العجلة أي السرعة، وقد يتعدى إلى المعمول "بعن" فيقال: عجل عن كذا بمعنى لم يتمه بعد أن شرع فيه، وضده تم على الأمر إذا شرع فيه فأتمه، ويستعمل عجل مضمنا معنى سبق فعدى بنفسه على اعتبار هذا المعنى، وهو استعمال كثير.
ومعنى "عجل" هنا يجوز أن يكون بمعنى لم يتم، وتكون تعديته إلى المفعول على نزع الخافض " (53).
أشعر إسقاط حرف الجر عن سرعة بني إسرائيل وعجلتهم في ترك وعد ربهم من المحافظة على الشريعة وانتظار رجوع موسى عليه السلام، فلم يتموا ذلك واستعجلوا فبدلوا وغيروا(54)،ولو ذكر حرف الجر هنا لما دل على هذا المعنى بل نراه بما فيه من معنى المجاوزة والانصراف يدل على أنهم متباعدون عن أمر ربهم منصرفون عنه.
-------------------
ويقول تعالى ] واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا...[ (تلاعراف 155) .
اتفقت أقوال العلماء على نصب "قومه" في هذه الآية الكريمة بنزع الخافض، والتقدير: اختار موسى من قومه، يقول أبو عبيدة " مجازه اختار موسـى من قومـه، ولكن بعض العرب يجتازون فيحذفون "من" قال العجاج: تحت التي اختار له الله الشجر " (55) .
ويقول الأنباري " قومه، وسبعين، منصوبان مفعولان باختار، إلا أنه تعدى إلى سبعين من غير تقدير حذف حرف الجر، وتعدى إلى قومه بتقدير حذف حرف الجر، والتقدير فيه، واختار موسى من قومه سبعين رجلا، فحذف حرف الجر فتعدى الفعل إليه " (56) .
ويقول الزمخشري " أي من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل كقوله: منا الذي اختير الرجال سماحة "(57) ، ويقول أبو حيان " اختار افتعل من الخير، وهو التخير والانتقاء، واختار من الأفعال التي تعدت إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بواسطة حرف الجر ، وهي مقصورة على السماع، وهي اختار، واستغفر، وأمر، وكنى، ودعا، وزوج، وصدق، ثم يحذف حرف الجر ويتعدى إليه الفعل، فيقول:اخترت زيدا من الرجال، واخترت زيدا الرجال، قال الشاعر:
اخترتك الناس إذارثت خلائقهم واعتلَّ من كان يرجى عنده السؤل" (58)
لا شك أن ما ذكره علماؤنا رحمهم الله لا غبار عليه من حيث الصحة لكنه ليس سوى مجرد تصحيح للمعنى وتعليل للحذف، وهو ما ينبغي علينا أن نتجاوزه للبحث عن أسرار نزع الخافض في هذه الآية الكريمة.
حذف حرف الجر يدل على أن موسى عليه السلام قد اجتهد في البحث والتنقيب في قومه فلم يجد فيهم خيارا سوى هؤلاء السبعين، ولو قيل: اختار موسى من قومه سبعين رجلا لدل على أن في القوم خيارا كثيرين وأن اختيار موسى عليه السلام قد وقع على هؤلاء السبعين رجلا، ويضيف بعض الباحثين قائلا " أرى - والله أعلم بما نزل - أن إسقاط حرف الجر قصد منه النعي على بني إسرائيل لكثرة تمردهم وعصيانهم، ودوام مخالفتهم لنبيهم، حتى كأنه لم يجد فيهم خيارا غير هؤلاء السبعين، فهم القوم كل القوم في ميزان الطاعة والصلاح، وفي ذلك ما فيه من التلميح بكثرة العاصيـن، وقلـة الصالحيـن فيهـم، ولا عجـب أن يقصـد القـرآن إلـى ذلك، بعد آيات تحدثت عما صنعه بنو إسرائيل بموسى وعبادتهم العجل من دون الله "(59) .
أرأيت بلاغة القرآن كيف دل إسقاط حرف الجر على النعي على بني إسرائيل لكثرة عصيانهم ودوام مخالفتهم لنبيهم موسى عليه السلام، ومعاناته في البحث عن الصالحين منهم فلم يجد خيارا فيهم سوى هؤلاء السبعين، ولو ذكر حرف الجر لدل أن في القوم خياراً كثيرين، وأن موسى قد اختار منهم هؤلاء السبعين وليس هذا هو مراد القرآن والله أعلم بمراده.
فقل لي بربك أي إعجاز هذا ؟ وأي نظم ذلك الذي يحذف الحرف أو يزيده حين يقتضي السياق حذفه أو زيادته* فيشيع في جوانب النص كل تلك الدلالات والإيحاءات بما لا تنهض به الكلمات، وتعجز عنه الجمل الطوال؟ ألا إنه تنزيل من حكيم حميد(60).
تأليــــف
أد/ يوسف بن عبد الله الأنصاري
أستاذ ورئيس قسم البلاغـة والنقد
بجامـعة أم القرى
من أسرار نزع الخافض في القرآن الكريم
ملخص البحث
يتكون هذا البحث : من مقدمة وتمهيد ومبحثين، تناول الباحث في المقدمة أهمية البحث، وفي التمهيد تحدث الباحث عن مصطلح نزع الخافض في التراث النحوي نشأة وتاريخا وتحديداً لمفهومه عند النحاة.
وفي المبحثين الأول والثاني عرض الباحث لشواهد نزع الخافض في القرآن الكريم كاشفا عن الأسرار البلاغية من وراء نزع الخافض في البيان القرآني.
ويسعى البحث إلى سد جانب من جوانب النقص في المكتبة العربية حول
هذا الموضوع، فليس هناك فيما أعلم دراسة تناولت نزع الخافض في القرآن الكريم من الوجهة البلاغية.
ومن أهم النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة:
أن القرآن الكريم يهدف من خلال نزع الخافض إلى أسرار بلاغية يعين على إبرازها السياق بمعونة القرائن والمقام.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة البحث
الحمد لله الذي هدانا للإيمان، ووفقنا لتدبر القرآن، والصلاة والسلام على خير الأنام أفصح من تكلم بلسان، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فلعل من أسباب عنايتي بهذا الموضوع - وهو مما أعده من تصاريف القدر - أنه كثيرا ما كان يتردد على خاطري شاهد من شواهد النحاة في نزع الخافض - وبخاصة حين أعاتب صديقا بعدم زيارته لي بعد معرفتي بقدومه إلى مكة المكرمة حرسها الله - هو قول الشاعر:
تمرون الديار ولم تعوجوا كلامكم علي إذن حرام(1)
ويتبادر إلى ذهني سؤال هو ما الذي جعل الشاعر يسقط حرف الجر ؟ وهداني طول التأمل في السياق إلى أن الشاعر لعله أراد منذ الوهلة الأولى أن يقطع على هؤلاء العذر بأنهم قد مروا الديار كلها داراً داراً، ومع ذلك لم تلزمهم ما بينه وبينهم من مودة وصداقة قديمة أن يمروا للسلام عليه والاطمئنان عن حاله، ولو قال الشاعر "تمرون بالديار" لما أفاد هذا المعنى، بل هو دال على أنهم لا يستطيعون أن يمروا لأنهم في عجلة من أمرهم، وأنهم قد مروا بطرف الديار، وداره بعيدة عن طريقهم، فيكون هذا عذراً لهم لا يمكن للشاعر أن يرفضه.
وفي أثناء قراءتي لكتاب من أسرار حروف الجر في الذكر الحكيم للدكتور محمد الأمين الخضري وجدته يذكر في البحث المخصص لزيادة "من" الابتدائية وحذفها قول الله تعالى ] واختار موسى قومه سبعين رجلا[ (الأعراف 155) يكشف سر إسقاط حرف الجر في هذه الآية بقوله " وأرى - والله أعلم بما نزل- أن إسقاط حرف الجر القصد منه النعي على بني إسرائيل لكثرة تمردهم وعصيانهم، ودوام مخالفتهم لنبيهم، حتى كأنه لم يجد فيهم خيارا غير هؤلاء السبعين، فهم القوم كل القوم في ميزان الطاعة والصلاح، وفي ذلك ما فيه من التلميح بكثرة العاصين وقلة الصالحين فيهم" (3)
فالنحاة أو الصناعة النحوية تقتضي تقدير المحذوف وهو حرف الجر "من" أي من قومه ليتضح المعنى وتستقيم العبارة، والبلاغة لا تقف عنـد حـدود مـا تقتضيـه الصناعـة النحويـة مــن تقديـر للمحذوف، بل تقتضي أن نبحث عن سر الحذف وأن نعمل عقولنا في سر المحذوف من خلال النظر في السياق لنهتدي إلى الوصول إلى إدراكه فيتجلى لنا بوضوح جمال البيان وجلال الإعجاز.
وهو ما كشف عنه الدكتور الخضري في كلامه السابق من أن موسى عليه السلام قد بحث ونقب فلم يجد إلا هؤلاء السبعين وفي ذلك ما فيه من النعي على بني إسرائيل بقلة الصالحين وكثرة العاصين فيهم.
ولعل ما ذكرته حفزني إلى دراسة هذا الموضوع، فتابعت القراءة في كتب النحاة وكتب المفسرين فوجدت مادة علمية جعلت الموضوع في نظري جديرا بالدراسة والبحث، جعلت عنوانه "من أسرار نزع الخافض في القرآن الكريم.
ويسعى البحث إلى تحقيق أمور عدة منها:-
1- إبراز صفحة من صفحات إعجاز القرآن الكريم من خلال الكشف عن بلاغة النظم القرآني لنزع الخافض.
2- سد جانب من جوانب النقص في المكتبة العربية، فليس هناك فيما أعلم دراسة تناولت نزع الخافض في القرآن الكريم من الوجهة البلاغية
ويتكون البحث من مقدمة، وتمهيد: تناولت فيه نزع الخافض في التراث النحوي، ومن مبحثين هما كالآتي:
المبحث الأول: من أسرار نزع الخافض المطرد في القرآن الكريم.
المبحث الثاني: من أسرار نزع الخافض غير المطرد في القرآن الكريم.
وختاما أسأل الله العلي القدير أن يتقبل هذا العمل الذي قصدت به وجهه الكريم، وأن يثقل به موازين حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأن ينفع به العلم وأهله، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تمهيد
نزع الخافض في التراث النحوي
مصطلح نزع الخافض بين النشأة والتاريخ:
تتردد في كتب النحاة عدة مصطلحات تشترك كلها في دلالة واحدة هي حذف حرف الجر، إسقاط الخافض أو إسقاط الحرف، حذف حرف الإضافة، نزع الخافض.
وقد شاعت هذه المصطلحات في كتب كثير من متقدمي النحاة، وكان لبعضها حضور واضح في كتبهم، وبعضها الآخر ساد في كتب علماء النحو المتأخرين.
وكان إمام النحو سيبويه قد جمع في كتابه بين استعمال مصطلح حروف الجر ومصطلح حروف الإضافة ذاكرا معهما لفظ الحذف أو السقوط من ذلك قوله " وقال عمرو بن معد يكرب الزبيدي:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب
وإنما فصل هذا أنها أفعال توصل بحروف الإضافة، فتقول: اخترت فلانا من الرجال، وسميته بفلان، كما تقول: عرَّفته بهذه العلامة وأوضحته بها، وأستغفر الله من ذلك، فلما حذفوا حرف الجر عمل الفعل، ومثل ذلك قول المتلمس:
آليت حَبَ العراق الدهر أطعمه والحبُّ في القرية يأكله السُّوس " (3)
وقوله أيضا: " اعلم أنك إذا حذفت من المحلوف به حرف الجر نصبته كما تنصب حقا إذا قلت: إنك ذاهب حقا، فالمحلوف به مؤكد به الحديث كما تؤكده بالحق، ويجر بحروف الإضافة كما يجر حق إذا قلت: إنك ذاهب بحق، وذلك قولك اللهَ لأفعلن...." (4)
وقد سار المبرد في كتابه المقتضب على نهج سيبويه حيث جمع بين مصطلحي حروف الجر وحروف الإضافة،واستعمل أيضا حرف الخفض، والحرف الخافض، من ذلك قوله " واعلم أنك إذا حذفت حروف الإضافة من المقسم به نصبته، لأن الفعل يصل فيعمل فتقول: اللهَ لأفعلن، لأنك أردت أحلف اللهَ لأفعلن،وكذلك كل خافض في موضع النصب إذا حذفته وصل الفعل فعمل فيما
بعده كما قال عز وجل ] واختار موسى قومه سبعين رجلا[ ( الأعراف 155) أي من قومه، وقول الشاعر:
استغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل
أي من ذنب، وقال الشاعر:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب " (5)
وقوله " فإذا حذفت حروف الجر وصل الفعل فعمل وكان حذفها حسنا لطول الصلة كما قال عز وجل ]واختار موسى قومه [ أي من قومه، فهو مع الصلة والموصول حسن جدا " (6)
وقوله " وتقول: أمرته أن يقوم يا فتى، والمعنى أمرته بأن يقوم، إلا أنك حذفت حرف الخفض ، وحذفه مع أنْ جيد " (7)
وقد ترددت هذه المصطلحات في كتب العلماء, وإن كان قد غلب بعضها وشاع عند بعض العلماء، فابن جني مثلا نجده يستخدم حذف الجر بعد أن ذكر "يا" بقوله " ولذلك ما وصلت تارة بنفسها في قولك: يا عبد الله، وأخرى بحرف الجر نحو قوله: يا لبكرٍ، فجرت في ذلك مجرى ما يصل من الفعل تارة بنفسه, وأخرى بحرف الجر نحو قوله: خشَّنت صدره، وبصدره، وجئت زيدا، وإليه، واخترت الرجال، ومن الرجال، وسميته زيدا، وبزيد، وكنيته أبا علي وبأبي علي " (8)
وكذلك يشيع استخدام حذف حرف الجر عند الصيمري في قوله " والضرب الثاني: أن يتعدى إلى مفعولين وليس أحدهما فاعلا،فكان الأصل أن يتعدى إلى الثاني منهما بحرف الجر، فحذف منه حرف الجر استخفافا فوصل النصب إلى ما بعده، وذلك قولك: اخترت زيدا الرجال، وسميت أخاك زيدا، وكنيته أبا فلان، وكان الأصل: اخترت زيدا من الرجال، وسميت أخاك بزيد، وكنيته بأبي فلان، قال الله عز وجل ]واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا[ أي من قومه، ومن ذلك قول الشاعر:
وبيضاءَ من نسجِ ابن داودَ نثرةٍ تخيرتها يوم اللقاء الملابسا
أي من الملابس، ومنه أيضا قول الآخر:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه ربَ العبادِ إليه الوجه والعمل
أي أستغفر الله من ذنب........، واعلم أن حذف حرف الجر من هذا الباب
لا يقاس عليه، وإنما يتكلم منه بما تكلمت به العرب ولا يتجاوز، ألا ترى
أنك لا تقول: مررت زيدا، وتريد مررت بزيد، ولا أخذت زيدا مالا، تريد: أخذت من زيد مالا (9)
وذكر الزمخشري في المفصل مصطلح حذف حرف الجر بقوله " فصل: وتحذف حروف الجر فيتعدى الفعل بنفسه كقوله تعالى ] واختار موسى قومه سبعين رجلا [ وقوله:
منا الذي اختير الرجال سماحة وجودا إذا هبَّ الرياح الزعازع
وقوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب وتقول استغفر الله ذنبي، ومنه دخلت الدار، وتحذف مع أنَّ وأنْ كثيرا مستمرا " (9) ، وتابعه في ذلك ابن يعيش وابن الحاجب، وكذلك فعل ابن مالك وشراح الألفية(10).
وذكر ابن هشام في كتابه المغني حذف حرف الجر بقوله " حذف الجار يكثر ويطرِّد مع أنَّ و أنْ نحو ] يمنون عليك أن أسلموا [ ، وجاء في غيرهما نحو "قدَّرناه منازل" أي قدرنا له. (12) "
في حين نجد ابن هشام إلى جانب استعماله لحذف الجار يستعمل مصطلح إسقاط الخافض عند حديثه عن المنصوب في قولك: دخلت الدار، وسكنت البيت، فيذكر أن انتصابهما إنما على التوسع بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، أما نزع الخافض فيضع في كتابه الجامع الصغير فصلا بعنوان (فصل في النصب بنزع الخافض) وعلى حسب خطة المحقق فإن هذا العنوان من وضع ابن هشام كذلك نجد هذه المصطلحات تنتشر في كتب
أصحاب الحواشي كحاشية الشيخ يس العليمي على التصريح، والشيخ الخضري في حاشيته على شرح ابن عقيل يذكرون نزع الخافض، وحذف الجار وإسقاط الحرف،على الرغم من أن ابن عقيل وصاحب الألفية يذكران فقط حذف الجار" (13)
يتبين لنا من خلال هذا العرض أن النحاة الأوائل بدأوا باستخدام حذف حرف الجر، وحذف الجار، وحذف حرف الإضافة، كما ظهر بجوارها لدى بعض النحاة استعمال إسقاط الخافض، وإسقاط الحرف، وشيوع بعض هذه المصطلحات وغلبته لدى بعض العلماء، حتى إذا ما وصلنا إلى العصور الأخيرة لدى النحاة المتأخرين نجدهم يستعملون إسقاط الخافض، ونزع الخافض ويشيع في مؤلفاتهم النحوية.
مصطلح نزع الخافض عند النحاة:
ذكر النحاة أن الفعل اللازم وهو الذي لا يتعدى إلى المفعول، حين يراد تعديته تكون تعديته إلى المفعول بحرف الجر، يتضح ذلك من قول ابن مالك:
وعدِّ لازما بحرف جر وإن حذف فالنصب للمنجر
نقلا وفي أنًّ وأنْ يطرد مع أمن لبس كعجبت أن يدوا (14)
يعدى الفعل اللازم بحرف الجر مثل مررت بزيد، واقتربت من عمرو، ويصح نصب الاسم المجرور بشرط حذف حرف الجر، والنصب بنزع الخافض سماعي عن العرب ولا يجوز القياس عليه، وقد أشار إلى ذلك صاحب النحو الوافي بقوله " والنصب به سماعي - على الأرجح المعول عليه - مقصور على ما ورد منها منصوبا مع فعله الوارد نفسه، فلا يجوز - في الرأي الصائب - أن ينصب فعل من تلك الأفعال المحددة المعينة كلمة على نزع الخافض إلا التي وردت مسموعة عن العرب، كما لا يجوز في كلمة من تلك الكلمات المعدودة المحدودة أن تكون منصوبة على نزع الخافض إلا مع الفعل الذي وردت معه مسموعة " (15)
كما يطرد حذف حرف الجر وبقاء عمله مع أنَّ وأنْ كما في قوله تعالى ]يمنون عليك أن أسلموا [ ( الحجرات 17) أي بأن أسلموا ومثله "] بل الله يمن عليكم أن هداكم [ ( الحجرات 17 ) أي بأن هداكم، وقوله تعالى ]فاستجاب لهم ربهم إني لا أضيع عمل عامل منكم [ ( آل عمران 195 ) أي بأني لا أضيع، واختلف النحاة في حكم المجرور بعد الحذف مع أنَّ وأنْ
أيبقى الاسم مجرورا كما كان أم يكون منصوبا على نزع الخافض؟، أشار إلى ذلك ابن مالك بقوله:
وفي محل نحو "أن" هذا نظر أذو انتصاب هو أم مما يجر(16)
وكذلك الشأن في حكم الاسم المنصوب بعد حذف الجار أيكون منصوبا على نزع الخافض أم يكون مفعولا به للفعل مباشرة؟.
أولى الآراء عندي أن يكون منصوبا على نزع الخافض، لأن القول بأن نصبها على المفعولية " قد يوحي - خطأ - أن الفعل قبلها متعد بنفسه، وأن المعنى لا يحتاج إلى المحذوف، فيقع في الوهم إباحة تعديته مباشرة في غيرها، لكن إذا قلنا : منصوبة على نزع الخافض سماعا كان ذلك إعلانا صريحا عن حرف جر محذوف، نصب بعده المجرور، فيكون النصب دليلاعلى ذلك لا يستقيم المعنى إلا بملاحظته وتقدير وجوده (17)
وبهذا يتبين لنا أن المنصوب على نزع الخافض ضربان : المطرد : وهذا النوع يطرد ويكثر مع أنَّ وأنْ.
الثاني : غير المطرد: وهذا النوع غير مقيس بل مقصور على السماع عن العرب.
وقد وردت في القرآن الكريم شواهد عديدة منه لأن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين.
وهذه الدراسة ستتناول دراسة نزع الخافض في القرآن الكريم محاولة الكشف عن أسراره البلاغية.
من أسرار نزع الخافض في البيان القرآني
المبحث الأول:
نزع الخافض المطرد:
ذكرنا أن حذف حرف الجر يطرد مع أنَّ وأنْ، وشواهده في القرآن الكريم كثيرة لا يمكن حصرها، لكنني سأكتفي بتحليل شاهد واحد يمكن أن يقاس عليه بقية الشواهد القرآنية الأخرى.
ويحقق نزع الخافض في القرآن الكريم وفي غيره من الكلام البليغ فضيلة الإيجاز بالاستغناء عن الفضول واستثمار أقل ما يمكن من الألفاظ لأداء المعنى المراد.
وتظهر بجوار الإيجاز والاختصار أغراض بلاغية يتطلبها المقام ويقتضيها السياق.
ولعل أبرز سمة أسلوبية لشواهد نزع الخافض المطرد مع أنَّ وأنْ هي الإيجاز في أغلب شواهده، وإن ظهر في قليل من شواهده تكثير الدلالة تبعا لاختلاف حرف الجر المحذوف على نحو ما نراه في قول الحق تبارك وتعالى ] ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن و ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن [ (النساء 127)
يقول الزمخشري " ترغبون أن تنكحوهن يحتمل في أن تنكحوهن لجمالهن، ومن أن تنكحوهن لدمامتهن " (18) .
يؤدي تقدير حذف الجر المحذوف هنا إلى تكثير الدلالة حيث يجوز تقديره في هذه الآية "في" فيكون المعنى الرغبة في الزواج بهن والحرص عليه لجمالهن أو لغيره، ويحتمل تقديره "عن" فيكون المعنى الإعراض عن الزواج بهن كراهية ذلك، لأن فعل الرغبة كما ذكر الراغب " إذا قيل: رغب فيه وإليه يقتضي الحرص....، وإذا قيل: رغب عنه، اقتضى صرف الرغبة والزهد فيه " (19) .
أرأيت كيف أدى تقدير حرف الجر المحذوف إلى تكثير الدلالة لاحتمال التعبير القرآني لكل هذه المعاني المتعددة.
----------------------------------
المبحث الثاني: نزع الخافض غير المطرد:
وصف كثير من النحاة نزع الخافض الجاري على غير القياس بأنه مسموع عن العرب ولا يقاس عليه، ووصفوا وروده في كلام العرب بالشذوذ أو الضرورة من ذلك قول أبي حيان في تفسير آية ] لأقعدن لهم صراطك المستقيم [ ( الاعراف 16) " وانتصب صراطك على إسقاط "على" قاله الزجاج وشبهه بقول العرب: ضرب زيد الظهر والبطن أي على الظهر والبطن، وإسقاط حرف الجر لا ينقاس عليه في مثل هذا لا يقال: قعدت الخشبة أي قعدت على الخشبة....، وما جاء خلاف ذلك شاذ أو ضرورة، وعلى الضرورة أنشدوا: كما عسل الطريق الثعلب....(20) .
ويقول رضي الدين الاستراباذي " بلى قد جاء في غيرهما شذوذا كقوله "تمرون الديار ولم تعوجوا" وقوله تعالى ]لأقعدن لهم صراطك المستقيم [ ( الاعراف 16) ] ولا تعزموا عقدة النكاح [ ( البقرة 235) ] وأن تسترضعوا أولادكم[ ( البقرة 233) والأولى في مثله أن يقال ضمن اللازم معنى المتعدي أي تجوزون الديار، ولألزمن صراطك، ولا تنووا عقدة النكاح، وترضعوا أولادكم، حتى لا يحمل على الشذوذ " (21) .
وتأدبا مع القرآن الكريم لا نستطيع وصف وقوع هذا الأسلوب في البيان القرآني بالشذوذ أو الضرورة جريا على ما اعتاد النحاة وصف وقوعه في كلام العرب، بل ننزه القرآن الكريم عن ذلك ونكتفي بالقول بأن القرآن جار على سنن العرب في كلامها، ولعل ابن هشام كان يشعر بخطورة وصف وقوع هذا الأسلوب في القرآن بالضرورة أو الشذوذ، وينأى عن ذلك، ولعل هذا ما نلمحه في قوله بعد أن ذكر أنَّ حذف الجار يطرد ويكثر مع أنَّ وأنْ ذاكرا بعض الشواهد القرآنية قال: " وجاء في غيرهما نحو ] قدرناه منازل [ ( يسن 39) أي قدرنا له، وذكر مع هذا الشاهد شواهد قرآنية أخرى (22) .
بل إن بعض النحاة كالأخفش الأصغر يجيز حذف الجـار مـع غيـر أنَّ وأنْ قياسـا إذا تعيـن الجارالمحذوف كما في قولك: خرجت الدار، أي من الدار(23)، مما نعده دليلا على عدم استساغة وصف ورود هذا الأسلوب في كلام العرب وفي القرآن بالضرورة أو الشذوذ، بل إنه من طرائق العرب في الإبانة عن معانيها، وجرى وروده في القرآن الكريم جريا على عادة العرب في مخاطبتها وسنن كلامها.
وغير خاف أن لنزع الخافض في لغة القرآن الكريم أسرارا بلاغية عالية، ولسياقاته مذاقات حسنة تنادي بجلال إعجاز القرآن الكريم.
ومع ذلك فإن إدراك هذه الأسرار البلاغية غير ميسور للإنسان من النظرة العجلى، بل لا بد لإدراكها من قدح زناد الفكر وإعمال الذهن وإدامة النظر وإرهاف الحس لما يهمس به السياق من لطائف البلاغة وأسرار البيان.
والمتذوق للبيان لا يجد متعة نفسه في الكلام الواضح جدا، والمكشوف جدا " وإنما يجد متعة نفسه حيث يتحرك حسه وينشط ليستوضح ويتبين ويكشف الأسرار والمعاني وراء الإيحاءات والرموز، وحين يدرك مراده، ويقع على طلبته من المعنى يكون ذلك أمكن في نفسه، وأملك لها من المعاني التي يجدها مبذولة في حاق اللفظ " (24) .
وفي الصفحات التالية بعون الله وتوفيقه سنقوم بعرض شواهد نزع الخافض غير المطرد في القرآن الكريم، نستجلي أسراره البلاغية، محاولين الاستقصاء قدر الطاقة، وفي عرضنا لشواهده نسير في ترتيبها على حسب ترتيب سور القرآن الكريم.
--------------------
سورة البقرة:
يقول تعالى خطابا لبني إسرائيل ] وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى [ ( الآية57)
للعلماء في توجيه نصب الغمام رأيان:أحدهما أنه منصوب بنزع الخافض تقديره: بالغمام، والثاني: أنه مفعول به لا على إسقاط الحرف، أي جعلناه عليكم ظللا.
وقد أوضح ذلك أبو حيان بقوله " الغمام مفعول على إسقاط حرف الجر أي بالغمام كما تقول ظللت على فلان بالرداء، أو مفعول به لا على إسقاط الحرف ويكون المعنى جعلناه عليكم ظللا " (25)
ويقول العكبري " أي جعلناه ظلا، وليس كقولك ظللت زيدا بظل لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الغمام مستورا بظل آخر، ويجوز أن يكون التقدير بالغمام " (26) .
السياق في هذه الآية الكريمة - كما ترى - يفيض بامتنان الله تعالى على بني إسرائيل بأن ساق إليهم الغمام وسخره لهم يسير بسيرهم يظللهم أينما ساروا في التيه ولولا ذلك لسفعتهم الشمس ولفحت وجوههم في الهجير(27).
ولو قيل "بالغمام" لما أشعر التعبير بهذا المعنى، لأنه دال على أن الغمام لم يقع عليهم مباشرة، بل وقع متلبسا بهم، أو أن الله تعالى ظللهم ببعض الغمام، وتقدير حرف الجر يفوت علينا ما كنا نجده في الآية الكريمة من عظيم امتنان الله على بني إسرائيل حيث ظلل الغمام عليهم.
--------------------
ويقول تعالى ] ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير [(الآية 148) .
اتفقت أقوال المفسرين في نصب " الخيرات " على أنها منصوبة على إسقاط حرف الجر التقدير: إلى الخيرات، وفي هذا الصدد يقول أبو حيان " فاستبقوا الخيرات، هذا أمر بالبدار إلى فعل الخيروالعمل الصالح، وناسب هذا أنَّ من جعل الله له شريعة، أو صلاة، فينبغي الاهتمام بالمسارعة إليها، وذكرنا أن استبق بمعنى تسابق فهو يدل على الاشتراك ] إنا ذهبنا نستبق [ (يوسف 17) أي نتسابق، كما تقول تضاربوا، واستبق لا يتعدى لأن تسابق لا يتعدى، وذلك أن الفعل المتعدي إذا بنيت من لفظ معناه تفـاعل للاشتـراك صـار لازمـا، تقـول ضربت زيدا، ثم تقول تضاربنا، فلذلك قيل: إن " إلى" هنا محذوفة التقدير: فاستبقوا إلى الخيرات " (28) ويقول السمين الحلبي " الخيرات " منصوبة على إسقاط حرف الجر، التقدير: إلى الخيرات " (29) ، أما الطاهر بن عاشور فقد ذكر وجهين لنصب الخيرات بقوله " والاستباق افتعال والمراد به السبق وحقه التعدية باللام إلا أنه توسع فيه فعدي بنفسه كقوله تعالى ] واستبقا الباب [ ( يوسف 25) أو على تضمين استبقوا معنى اغتنموا " (30) .
وتقدير حرف الاختصاص اللام هنا كما ذهب إلى ذلك الطاهر معناه أن الاستباق مختص للخيرات ولأجلها، وهذا المعنى بعيد يأباه السياق، كما أن القول بالتضمين والوقوف عنده ما هو إلا محاولة لتصحيح التعدية وبيان المعنى، وصرف لهمم الباحثين عن استجلاء روائع البلاغة القرآنية في نزع الخافض وإيصال الفعل إلى المفعول مباشرة دون واسطة حرف الجر.
وفي هذه الآية الكريمة - والله أعلم بمراده - دل نزع الخافض على ما يجب أن يكون عليه المؤمن من المبادرة والمسارعة إلى فعل الخيرات حتى لكأن المؤمنين في سباق لا ينتهي بهم عند الخيرات، أما لو قيل "فاستبقوا إلى الخيرات" فإن "إلى" بدلالتها على الانتهاء تشير إلى أن غاية المؤمن أن ينتهي وصوله إلى الخيرات.
وفرق كبير بين أن تكون غاية الإنسان الوصول إلى الخيرات، وأن تنتهي رحلته عندها، وبين أن يكون المؤمن في سباق دائم مع غيره رغبةً في نيل رضا الله تعالى والفوز بجناته.
ولعل هذا الذي أشرنا إليه هو ما ألمح إليه الزمخشري بقوله " واسبقوا إليها غيركم من أهل القبلة وغيره " (31)
والسيد رشيد رضا بقوله " أي ابتدروا كل نوع من أنواع الخير، وليحرص كل منكم على سبق غيره إليه " (32) .
وقد ورد هذا التعبير القرآني في قوله تعالى ]ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات [ ( المائدة48) ولهذه الآية الكريمة نظائر منها قوله تعالى ] واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر[ (يوسف25) وقوله تعالى ] ولونشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط [ (يسن 66) وسيأتي مزيد بيان لهاتين الآيتين في موضعهما من هذا البحث.
--------------------
ويقول تعالى ] إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم[(البقرة158) . تعددت أقوال العلماء في توجيه نصب "خيرا"، أولهما: أنه منصوب بنزع الخافض والتقدير: بخير فلما حذف الحرف وصل الفعل إليه ويؤيده أنه قرأ بها ابن مسعود، ولهذا رجحه كثير من العلماء، الثاني: أنه صفة لمصدر محذوف تقديره تطوعا خيرا، الثالث: أنه مفعول به على تضمين "تطوع" معنى أتى أو فعل، الرابع: أنه حال من ذلك المصدر المقدر المعرفة، وهو مذهب سيبويه (33).
ومع أن الألوسي قد ذكر بعض هذه الآراء في نصب "خيرا" إلا أنه قد أضاف كلاما يجدر بنا ذكره في هذا الموضع حيث يقول " وفائدة "خيرا" مـع أن التطـوع لا يكـون إلا كـذلك التنصيص بعموم الحكم بأن من فعل خيرا أيَّ خير كان يثاب عليه " (34) .
ويهمنا من هذه التوجيهات التوجيه الأول وهو أن "خيرا" منصوب على نزع الخافض، ولو كان معنى الحرف مرادا لذكر في الآية الكريمة، وإنما جاءت الآية بإسقاط حرف الجر وإيصال الفعل "تطوع" إلى المفعول "خيرا" لأنه يفيد معنى هو مراد الآية الكريمة.
فهو لم يتطوع بخير، وإنما تطوع خيرا، وفرق كبير بين من تطوع خيرا، وبين قولنا "تطوع بخير"، لأن فعل التطوع في الآية واقع على الخير كما يقع الفعل على المفعول مباشرة، أما في قولنا فإن التطوع واقـع علـى الخيـر وقوعـا غيـر مبـاشـر، وفرق بين أن يقع الفعل على المفعول مباشرا، وبين أن يقع عليه بواسطة حرف الجر.
ولعله مما تقدم يمكننا القول بأن نزع الخافض دال على التعميم في فعل الخير والطاعات وقد تضافرت دلالة التنكير مع إسقاط حرف الجر على العموم، ولو قيل "بخير" بزيادة الباء لدل على فعل بعض الخير لا عموم الخير.
--------------------
ويقول تعالى ]وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير[(البفرة233) .
للمفسرين في إعراب " أولادكم " رأيان: أولهما: أن الفعل استرضع يدل على الطلب، أي طلبت من المرأة إرضاع الولد، كما تقول استقيت زيدا الماء، واستطعمت عمرا الخبز، فهو يتعدى إلى مفعولين حذف أحدهما للاستغناء عنه والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم، وإلى هذا ذهب الزمخشري, الثاني: أن "أولادكم" منصوب بنزع الخافض على أنه مفعول ثان، والتقدير: أن تسترضعوا المراضع لأولادكم (35) .
وإليك ما قاله أبو حيان في بيان اختلاف العلماء في تعدية الفعل استرضع في هذه الآية الكريمة " استرضع فيه خلاف هل يتعدى إلى مفعولين بنفسه، أو إلى مفعولين الثاني بحرف الجر؟ قولان، الأول قول الزمخشري قال: استرضع منقول من أرضع، يقال: أرضعت المرأة الصبي، فتعدِّيه إلى مفعولين، كما تقول: أنجح الحاجة واستنجحته الحاجة، والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه، كما تقول: استنجحت الحاجة، ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأول انتهى كلامه....،واستفعل هنا للطلب، أي طلبت من المرأة إرضاع الولد كما تقول: استسقيت زيدا الماء، واستطعمت عمرا الخبز، أي طلبت منه أن يسقيني وأن يطعمني، فكما أن الخبز والماء منصوبان وليسا على إسقاط الخافض كذلك "أولادكم" منصوب لا على إسقاط الخافض، والثاني: قول الجمهور وهو أن يتعدى إلى اثنين، الثاني بحرف جر، وحذف من قوله "أولادكم" والتقديرلأولادكم"(36) .
يكشف التعبير - بإسقاط حرف الجر - عن رغبة الآباء وحرصهم على إرضاع أولادهم، وإيصال الرضاعة إليهم بلا واسطة مرضع أو غيرها لو أنهم استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
فكما أن إيصال الفعل إلى المفعول وقع لفظا دون وساطة حرف الجر فقد ترتب عليه في المعنى حرص الآباء ورغبتهم الأكيدة في إيصال الرضاعة إلى أولادهم بلا واسطة مرضع لو أنهم يستطيعون إلى ذلك سبيلا.
ولو ذكر في السياق حرف الاختصاص اللام "لأولادكم" لما دل على الغرض الذي اشرنا إليه، لأنه دال على اختصاص الإرضاع للأولاد ولأجلهم، وفرق كبير في المعنى بين أن يكون الإرضاع للأولاد وبين أن يكون الإرضاع واقعا عليهم.
--------------------
ويقول تعالى ] ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله[.(البقرة 235) . للعلماء في توجيه نصب "عقدة النكاح"أراء عديدة أولها: أنه منصوب بنزع الخافض والتقدير: ولا تعزموا على عقدة النكاح، وقد حكى سيبويه أن العرب تقول: ضرب زيد الظهر والبطن أي على الظهر والبطن، قال الشاعر:
ولقد أبيت على الطوى وأظله حتى أنال به كريم المأكل
وأظل عليه، فحذف "على" ووصل الفعل إلى الضمير فنصبه إذ أصل هذا الفعل أن يتعدى بعلى، قال الشاعر:
عزمت على إقامة ذي صباح لأمر ما يسوَّد من يسود
الثاني: أنه مفعول به على تضمين الفعل "تعزموا" معنى فعل يتعدى بنفسه حيث ضمن معنى تنووا، أو معنى تصححوا، أو معنى وجبوا أو معنى تباشروا، أو معنى تقطعوا أي تبتوا، الثالث: أنه منصوب على المصدر والمعنى: ولا تعقدوا عقدة النكاح (37) .
ومعنى العزم " عقد القلب على إمضاء الأمر " (38) ، وفي إيثار القرآن التعبير بإيقاع النهي على العزم بقوله تعالى ] ولا تعزموا عقدة النكاح [ بدلا من التعبير بالنهي الصريح في قولنا ولا تنكحوا النساء في العدة " مبالغة في النهي عن عقد النكاح في العدة لأن العزم على الفعل يتقدمه، فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى " (39) .
وقبل أن نبحث في بيان السر البلاغي من وراء نزع الخافض في هذه الآية الكريمة يجدر بنا أن نوضح أن القول بالتضمين ما هو إلا محاولة من العلماء لتصحيح وجه التعدية، كما أن الذهاب إليه في هذه الآية الكريمة يؤدي إلى ضعف بلاغة المعنى لأن سياق الآية الكريمة لا يقتضيه، وفي هذا الصدد يقول أحد الباحثين " ذلك لأن كثيرا من النحاة وبعض المفسرين يطلقون التضمين على أساليب بعضها لا يحتاج فيه إلى تضمين لوفاء الفعل المذكور بأداء المعنى المطلوب، وبعضها لا يتأتى فيه التضمين لعدم إمكان الجمع بين المعنيين، وبعضها يؤدي القول بالتضمين فيها إلى ضعف بلاغة العبارة.
فالفعل "عزم" يتعدى بعلى، تقول: عزمت على السفر مثلا، ولما جاء متعديا بنفسه في قوله تعالى "ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله" قالوا بتضمين "تعزمـوا" معنـى "تنووا" فنصب المفعول بنفسه مثله، ومع أن النية مطلق العزم، والعزم خصوص عقد الضمير على الشيء، إذ يقول الزمخشري: وحقيقة العزم القطع .
إلا أنه لا داعي - في نظري - لتضمين تعزموا معنى تنووا لأن صدر الآية يؤذن بالعفو عن النية والركون النفسي "ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله" فالآية رفعت الحرج في التعريض والإضمار القلبي، ونهت عن المواعدة والعزم، فليس من المناسب أن نضمن العزم معنى النية " (40) .
فما ذكره هذا الباحث مما ينثلج له الصدر وينشرح له الخاطر، لكن يبقى فيما قاله بأن الفعل "عزم" ورد متعديا بنفسه في هذه الآية نظراً لأن هذا الفعل لازم ويتعدى بعلى، والاسم بعده منصوب بنزع الخافض، يقول أبو حيان " وقيل انتصب - أي عقدة - على إسقاط حرف الجر وهو على هذا التقدير: ولا تعزموا على عقدة النكاح ....، إذ أصل هذا الفعل أن يتعدى بعلى قال الشاعر:
عزمت على إقامة ذي صباح لأمر ما يسوَّد من يسود " (41) .
ويقـول السميـن الحلبـي " إنـه منصـوب علـى إسقـاط حـرف الجـر وهـو "علـى" فإن "عـزم" يتعدى بها ....." (42) .
ولعلك حين تتأمل ما عليه التعبير القرآني "ولا تعزموا عقدة النكاح" بنزع الخافض، وقولنا "ولا تعزموا على عقدة النكاح" تجد فرقا بين تعدية الفعل بحرف الاستعلاء "على" وبين إسقاط حرف الجر وإيصال الفعل إلى المفعول مباشرة، ذلك أن على بما فيها من معنى الاستعلاء تكون آكد في الدلالة على العزم على النكاح لأن زيادة المبنى تؤدي حتما إلى زيادة المعنى كما قرر ذلك علماء البلاغة، أما ما عليه التعبير القرآني فليس فيه هذا التأكيد الذي نحس به مع زيادة حرف الاستعلاء، ونحن إذا نُهينا عن عزم النكاح فنحن أكثر نهيا بالنسبة للعزم على النكاح، ولهذا كان النهي في الآية الكريمة نهيا عن الصيغة الأقل مبالغة.
ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى ] للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم [(البقرة 226- 227).
ذكر العلماء لنصب "الطلاق" وجهين: أحدهما: أنه منصوب بنزع الخافض أو بإسقاط حرف الجر كما قالوا،لأن عزم يتعدى بعلى كما في قول الشاعر:
عزمت على إقامة ذي صباح .
الثاني: أنه مفعول به بتضمين الفعل "عزم" معنى نوى (43) .
ومع أن الآية السابقة جاءت بطريق النهي ]ولا تعزموا عقدة النكاح[ وهذه الآية جاءت بالإثبات "] فإن عزموا الطلاق [ فإن المغزى البلاغي فيهما واحد، وهو أن نزع الخافض دال على أقل ما يمكـن من عـزم الطـلاق تنفيرا من الطـلاق لأنـه أبغـض الحـلال إلـى الله، ولو قيل "عزموا على الطلاق" لدل التعبير على تأكيد عزمهم على الطلاق وإصرارهم عليه، أما ما عليه التعبير القرآني فليس فيه هذا التأكيد والإصرار الذي نلمحه من زيادة حرف الجر "على" لأن الآية لم تنفر من الطلاق بل أقل عزم عليه، وتستجيش في نفس المؤمن وتحثه على إعادة الحياة الزوجية إلى سابق عهدها، ولعل هذا ما يتناغم مع تقديم العودة والرجوع، على العزم على الطلاق في قوله ] فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم [.
--------------------
سورة النساء ( 44) :
يقول تعالى ] واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا [ (الآية 34) .
في نصب سبيلا وجهان: أحدهما: أنه منصوب على نزع الخافض، والثاني على أنه مفعول به وسنقتصر هنا على نقل ما ذكره الشهاب بقوله " بغى هنا بمعنى "ظلم" فهو لازم و "سبيلا" منصوب على نزع الخافض وأصله بسبيل أي لا تظلموهن بطريق من الطرق بالتوبيخ اللساني والأذى الفعلي وغيره، أو بمعنى الطلب فهو متعد، و "سبيلا" مفعوله أي لا تطلبوا سبيلا وطريقا إلى التعدي عليهن " (45) .
لعل نزع الخافض وإيصال الفعل إلى المفعول في هذه الآية الكريمة - والله أعلم بمراده - يستجيش في الرجل ما ينبغي أن يتحلى به من الرحمة والإنصاف، والابتعاد عن الظلم بعدم تعميم سبل البغي والظلم على الزوجة التي صلح له أمرها، وأذعنت له بالطاعة بعد نشوزها وإعراضها بعد أن سلك معها السبل التي أباح القرآن الكريم له أن يتخذها سلاحا ناجعا لإصلاح زوجته حفاظا لها من الفساد، ولبيته من الدمار والضياع.
ولو قيل "فلا تبغوا عليهن بسبيل" لكان النهي عن البغي متجها إلى سبيل من هذه السبل التي أباحها القرآن للرجل أن يتخذها وسائل لإصلاح شأن زوجته، أما ما عليه النظم القرآني فدال على عدم تعميم سبل البغي على النساء وطرق الإضرار بهن سواء كان بالتوبيخ اللساني والأذى الفعلي أو غيره.
--------------------
ويقول تعالى ]وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيبا....[ (النساء 43) , وتكررت هذة الآية في المائدة ( الآية 6).
ذكر علماؤنا رحمهم الله لنصب "صعيدا" في هذه الآية الكريمة رأيين: أولهما: أنه مفعول به لقوله "تيمموا" أي: أقصدوا، والثاني: أنه منصوب بنزع الخافض أي بصعيد(46)، وفي إيضاح هذا يقول الشهاب " صعيدا مفعول به، وقيل: إنه منصوب بنزع الخافض أي بصعيد "(47) .
الصعيد: وجه الأرض ترابا كان أو غيره(48)، فيشمل التراب والرمل والحجارة .
ونزع الخافض في هذه الآية الكريمة - والله أعلم - يشير إلى امتنان الله على هذه الأمة برفع الحرج عنها في أن يتيمموا بأي صعيد ترابا أو رملا أو حجرا شريطة أن يكون طاهرا لم تلوثه نجاسة ولا قذر.
ولو قيل "بصعيد" فإن الباء بما فيها من معنى الملابسة والإلصاق توحي بأنهم متلبسون بالأرض، وملتصقون بها، وهذا دال قطعا على عدم نظافة مظهرهم الخارجي لالتصاق الغبار وما علق على الأرض من أوساخ بملابسهم الخارجية، أما ما عليه البيان القرآني في قوله تعالى "فتيمموا صعيدا طيبا" بإسقاط حرف الجر فدال على عظيم امتنان الله برفع الحرج عن المسلمين بالتيمم بأي صعيد كـان، مـع مـا فيـه من الدلالـة علـى نظافـة المظهر الخارجـي لأن المؤمن حين يتيمم للطهارة أوالوضوء يضرب الأرض بيديه ثم يمسح وجهه وكفيه فتتحقق له طهارة البدن ونظافة المظهر.
وتأمل بلاغة القرآن في إيثاره للتعبير بالصعيد دون غيره " ليصرف المسلمين عن هوس أن يتطلبوا التراب أو الرمل مما تحت وجه الأرض غلوا في تحقيق طهارته "(49) .
--------------------
سورة الأعراف:
يقول تعالى على لسان إبليس اللعين]قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم[ (اآية16) .
للعلماء في نصب " صراطك " ثلاثة أوجه: أولها: أنه منصوب بنزع الخافض تقديره "على صراطك"، قاله الزجاج وشبهه بقول العرب: ضرب زيد الظهر والبطن أي على الظهر والبطن، وإسقاط حرف الجر لا ينقاس في مثل هذا لا يقال: قعدت الخشبة تريد: قعدت على الخشبة، الثاني: أنه منصوب على الظرف والتقدير: لأقعدن لهم في صراطك، وهذا تخريج ضعيف لأن صراطك ظرف مكان مختص، والظرف المكاني المختص لا يصل إليه الفعل بنفسه بل بحرف الظرفية "في" تقول: صليت في المسجد، ونمت في السوق، ولا تقول صليت المسجد ، ونمت السوق، وما جاء على خلاف ذلك شاذ أو ضرورة، الثالث: أنه مفعول به لأن الفعل قبله وإن كان قاصرا فقد ضُمِّن معنى فعل متعد، والتقدير: لألزمن صراطك المستقيم بقعودي عليه(50).
في هذه الآية الكريمة دل حذف حرف الجر وإيصال الفعل "أقعدن" إلى الصراط على رغبة إبليس - اللعين - الأكيدة وحرصه الشديد على الاستيلاء والاستحواذ على الصراط الموصل إلى الله تعالى ليسد على بني آدم جميع السبل الموصلة إليه مبالغة منه في إغوائهم جميعا حتى لكأن التعبير يوحي بأنه قد سدَّ عليهم منافذ الهداية وسبل الحق والخير كأنه عدو يعترض الطريق ليقطعه على المارة، ولو قيل "على صراطك" لدل على استيلاء إبليس على بعض الطريق لا كلها، وعلى بيان هيئة قعود إبليس على الصراط في استعلاء وتكبر مما يفوت عليه حرصه على إغواء ذرية آدم عليه السلام.
--------------------
ويقول تعالى ] ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح...[ (الأعراف 150 ) .
ذهب العلماء في نصب "أمر" في قوله تعالى ] أعجلتم أمر ربكم [ إلى أنه منصوب على المفعول به بعد حذف الخافض وتضمين الفعل معنى الفعل سبق , وفي هذا الصدد يقول السمين الحلبي " أنه منصوب على المفعول بعد إسقاط الخافض وتضمين الفعل معنى ما يتعدى بنفسه "(51) ، ويقول الشهاب " لما كان تعدِّي "عجل" بعن لا بنفسه لأنه يقال: عجل عن الأمر إذا تركه غير تام، ونقيضه تمَّ عليه وأُعجله عنه غيره، جعلوه هنا مضمنا معنى سبق فعدي تعديته " (52) .
أما الطاهر بن عاشور فذكر في نصبه وجهين أحدهما أنه منصوب بتضمين الفعل معنى سبق، والثاني أنه منصوب على نزع الخافض، وإليك قوله " وعجل أكثر ما يستعمل قاصرا بمعنى فعل العجلة أي السرعة، وقد يتعدى إلى المعمول "بعن" فيقال: عجل عن كذا بمعنى لم يتمه بعد أن شرع فيه، وضده تم على الأمر إذا شرع فيه فأتمه، ويستعمل عجل مضمنا معنى سبق فعدى بنفسه على اعتبار هذا المعنى، وهو استعمال كثير.
ومعنى "عجل" هنا يجوز أن يكون بمعنى لم يتم، وتكون تعديته إلى المفعول على نزع الخافض " (53).
أشعر إسقاط حرف الجر عن سرعة بني إسرائيل وعجلتهم في ترك وعد ربهم من المحافظة على الشريعة وانتظار رجوع موسى عليه السلام، فلم يتموا ذلك واستعجلوا فبدلوا وغيروا(54)،ولو ذكر حرف الجر هنا لما دل على هذا المعنى بل نراه بما فيه من معنى المجاوزة والانصراف يدل على أنهم متباعدون عن أمر ربهم منصرفون عنه.
-------------------
ويقول تعالى ] واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا...[ (تلاعراف 155) .
اتفقت أقوال العلماء على نصب "قومه" في هذه الآية الكريمة بنزع الخافض، والتقدير: اختار موسى من قومه، يقول أبو عبيدة " مجازه اختار موسـى من قومـه، ولكن بعض العرب يجتازون فيحذفون "من" قال العجاج: تحت التي اختار له الله الشجر " (55) .
ويقول الأنباري " قومه، وسبعين، منصوبان مفعولان باختار، إلا أنه تعدى إلى سبعين من غير تقدير حذف حرف الجر، وتعدى إلى قومه بتقدير حذف حرف الجر، والتقدير فيه، واختار موسى من قومه سبعين رجلا، فحذف حرف الجر فتعدى الفعل إليه " (56) .
ويقول الزمخشري " أي من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل كقوله: منا الذي اختير الرجال سماحة "(57) ، ويقول أبو حيان " اختار افتعل من الخير، وهو التخير والانتقاء، واختار من الأفعال التي تعدت إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بواسطة حرف الجر ، وهي مقصورة على السماع، وهي اختار، واستغفر، وأمر، وكنى، ودعا، وزوج، وصدق، ثم يحذف حرف الجر ويتعدى إليه الفعل، فيقول:اخترت زيدا من الرجال، واخترت زيدا الرجال، قال الشاعر:
اخترتك الناس إذارثت خلائقهم واعتلَّ من كان يرجى عنده السؤل" (58)
لا شك أن ما ذكره علماؤنا رحمهم الله لا غبار عليه من حيث الصحة لكنه ليس سوى مجرد تصحيح للمعنى وتعليل للحذف، وهو ما ينبغي علينا أن نتجاوزه للبحث عن أسرار نزع الخافض في هذه الآية الكريمة.
حذف حرف الجر يدل على أن موسى عليه السلام قد اجتهد في البحث والتنقيب في قومه فلم يجد فيهم خيارا سوى هؤلاء السبعين، ولو قيل: اختار موسى من قومه سبعين رجلا لدل على أن في القوم خيارا كثيرين وأن اختيار موسى عليه السلام قد وقع على هؤلاء السبعين رجلا، ويضيف بعض الباحثين قائلا " أرى - والله أعلم بما نزل - أن إسقاط حرف الجر قصد منه النعي على بني إسرائيل لكثرة تمردهم وعصيانهم، ودوام مخالفتهم لنبيهم، حتى كأنه لم يجد فيهم خيارا غير هؤلاء السبعين، فهم القوم كل القوم في ميزان الطاعة والصلاح، وفي ذلك ما فيه من التلميح بكثرة العاصيـن، وقلـة الصالحيـن فيهـم، ولا عجـب أن يقصـد القـرآن إلـى ذلك، بعد آيات تحدثت عما صنعه بنو إسرائيل بموسى وعبادتهم العجل من دون الله "(59) .
أرأيت بلاغة القرآن كيف دل إسقاط حرف الجر على النعي على بني إسرائيل لكثرة عصيانهم ودوام مخالفتهم لنبيهم موسى عليه السلام، ومعاناته في البحث عن الصالحين منهم فلم يجد خيارا فيهم سوى هؤلاء السبعين، ولو ذكر حرف الجر لدل أن في القوم خياراً كثيرين، وأن موسى قد اختار منهم هؤلاء السبعين وليس هذا هو مراد القرآن والله أعلم بمراده.
فقل لي بربك أي إعجاز هذا ؟ وأي نظم ذلك الذي يحذف الحرف أو يزيده حين يقتضي السياق حذفه أو زيادته* فيشيع في جوانب النص كل تلك الدلالات والإيحاءات بما لا تنهض به الكلمات، وتعجز عنه الجمل الطوال؟ ألا إنه تنزيل من حكيم حميد(60).