نشأة البلاغة ومراحل تطورها في التراث
اعداد
أ.د.يوسف عبدالله الأنصاري
أستاذ ورئيس قسم البلاغة والنقد
جامعة ام القرى
البلاغة كغيرها من العلوم الإسلامية لم تكن وليد ساعة أو يوم وإنما مرت بمراحل عديدة حتى اكتمل نضجها حتى اكتمل نضجها وأصبحت علماً مستقلاً قائماً بذاته له قواعده وقوانينه .
النشأة والنمو
البلاغة في العصرين الجاهلي والإسلامي .
عرف العرب بالفصاحة والبلاغة وحسن البيان وقد بلغوا في الجاهلية درجة رفيعة من البلاغة والبيان وقد صوّر القرآن ذلك في آيات عديدة وقوله تعلى ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ) كما وضح القرآن شدة قوتهم في الجدال والحجاج " ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون "
ومن أكبر الدلائل على أنهم بلغوا في البلاغة درجة عالية رفيعة أن كانت معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وحجته الدالة على نبوته القرآن , حيث دعاهم إلى معارضته , وتحداهم بأن يأتوا في بلاغته الباهرة ، وهي بلا شك دعوة تدل بوضوح على تمكنهم ورسوخ قدمهم في البلاغة والبيان ، وعلى بصرهم بتمييز أقدار المعاني والألفاظ وتبيين مايجري فيها من جودة الإفهام وبلاغة التعبير .
وقد وصف الجاحظ العرب بالبلاغة والفصاحة وقدرتهم على القول في كل عرض حيث يقول ( والكلام كلامهم وهو سيد عملهم قد فاض به بيانهم وجاش به صدورهم وقد حفلت كتب الأدب كالأغاني لأبي الفرج الأصفهاني والشعر والشعراء لابن قتيبة والموشح في مآخذ العلماء على الشعراء للمزرباني بنماذج عديدة من النقد الجاهلي الذي كان بدور في أسواقهم المعروفة في الجاهلية كعكاظ ، من ذلك أن النابغة كانت كضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها فيقول فيها كلمته فتسير في الناس لا يستطيع أحد أن ينقضها . من ذلك قصته المشهورة في تفضل الأعشى على حسان بن ثابت ، وتفضيل الخنساء على بنات جنسها فثار لذلك حسان وقال له : أنا والله أشعر منك ومنها فقال له النابغة حيث تقول ماذا ؟ قال حيث أقوله :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرّق فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما
فقال له النابغة : إنك لشاعر لو أنك قللت عدد جفانك وسيوفك وقلت يلمعن في الضحى ولوقلت يبرقن لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً ، وقلت يقطرن من نجدة دما فدللت على قلة القتل ، ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم ، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن تفخر بمن ولدك ، فقام حسان منكسراً .
ومن ذلك أيضاً قصة طرفة بن العبد وهو صبي عندما سمع المتلمس ينشد قوله .
وقد أتناسى الهم عند احتضاره بناج عليه الصيعرية مكدم
الصيعرية سمة تكون في عنق الناقة لا في عنق الجمل فقال طرفة : استنوق الجمل , فضحك الناس وسارت مثلاً , ومن ذلك أن العرب عابت على النابغة الذبياني الإقواء الذي في شعره ولم يستطع أحد أن يصارحه بهذا العيب حتى دخل
يثرب مرة فأسمعوه غناء قوله :-
أمن آل مية رائح أو مغتدي عجلان ذا زاد وغير مزود
إلى قوله :
بمخضب رخص كأن بنانه عنم يكاد من اللطافة يعقد
ففطن النابغة فلم يعد إلى ذلك ، ويروي أنه حين خرج قال دخلت يثرب فوجدت في شعري صنعة فخرجت منها وأنا أشعر العرب .
وتروي كتب الأدب هذا البيت قوله .
زعم البوارح أن رحلتنا غداً وبذاك خيّرنا الغرابُ الأسود
وأنه أصلحه بقوله :- وبذاك تنعاب الغرب الأسود .
وهناك أمثلة عديدة لكننا نكتفي بهذا القدر مشيرين إلى أن العرب في جاهليتهم كانت لديهم ملكة فنية استطاعوا من خلالها معرفة الكلام وتمييز جيده من
رديئه .
ولا يخفى أن هذه الملاحظات النقدية كانت تعتمد على الذوق فهي نقد ذاتي لايقوم على التعليل والتفصيل ، وبمرور الزمن ذكر العلماء لهذه الأحكام والملاحظات النقدية تعليلات تقوم على أسس بيانية ، وتحول هذا النقد إلى نقد
بياني ينظر إلى المعاني والألفاظ على أيدي البلاغيين
البلاغة في عصر صدر الإسلام :
لاشك أن للقرآن تأثيراً عظيماً في نشأة البلاغة وتطويرهما فقد عكف العلماء على دراسته وبيان أسرار إعجازه ، واتخذوه مداراً للدرس البلاغي فاتخذوا آياته شواهد على أبواب البلاغة واعتبروها مثالاً يحتذى في جمال النظم ودقة التركيب .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وهو كما نعلم كان أفصح العرب . كما كان شديد الاهتمام والعناية بالشعر والشعراء يحرص على سماعهم والإشادة بشعرهم من ذلك قوله لحسان رضي الله عنه " قل وروح القدس يؤيدك " وقوله عندما سمع قول النابغة الجعدي .
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنبغي فوق ذلك مظهراً
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أين المرتقى ياأبا ليلى : فقال إلى الجنة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " لا فض فوك " .
وقد ظلت وفود العرب تختلف في عهد الخلفاء الراشدين إلى المدينة وتجمعهم أنديتها فيخوضون في شعراء الجاهلية والشعراء والمخضرمين وينظرون في الشعر والخطب ويجرون المفاصلات بين الشعراء والخطباء وقد كان الخلفاء يخوضون في ذلك ولهم مشاركات في النقد من ذلك ما روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه عرض لرجل معه ثوب فقال له : أتبيع الثوب ؟ فأجاب : لا عافاك الله فقال له أبوبكر : علمتم لوكنت تعلمون قل لا وعافاك الله " وقد كانت لعمر وعلي رضي الله عنهما مساهمات في النقد ، فقد كان عمر بن الخطاب من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة من ذلك قوله " الشعر علم قوم لم يكن له علم أعلم منه "
وقوله في زهير " كان لايعاظل في الكلام " أما علي رضي الله عنه فقد اشتهر بالفصاحة والبيان , وفصاحته معروفة لا تخفى على أحد ‘ وقد روى أن أعرابياً وقف على علي رضي الله عنه فقال : إن لي إليك حاجة رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك فإن قضيتها حمدت الله تعالى وشكرتك وإن لم تقضها حمدت الله تعالى وعذرتك ، فقال له علي : خطّ حاجتك في الأرض فإني أرى الضر عليك ، فكتب الإعرابي على الأرض إني فقير ، فقال علي : يا قنبرإدفع إليه حلتي الفلانية ، فلما أخذها مثل بين يديه فقال :
كسوتني حلةً تبلى محاسنها فسوف أكسوك من حلل الثنا حللاً
إن الثناء ليحيى ذكر صاحبه كالغيث يحيى نداه السهل والجبلا
لاتزهد الدهر في عرف بدأت به فكلّ عبد سيجزى بالذي فعلا
فقال عليّ ياقنبر أعطه خمسين ديناراً ، أما الحلة فلمسألتك وأما الدنانير فلأدبك ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أنزلوا الناس منازلهم .
وبهذا تبين لك أن للخلفاء معرفة بالشعر ونقده ، كما أن ملاحظاتهم النقدية كانت كالجاهلين جزئية فطرية تعتمد على الذوق دون تعليل لها .
هذه الأحكام والملاحظات هي التي استحالت على أيدي البلاغيين من أمثال الباقلاني والرماني والعسكري وعبد القاهر والسكاكي إلى قواعد بلاغية محددة تحديداً علمياً دقيقاً قصد منها الوقوف على وجه إعجاز القرآن البلاغي وتكوين الذوق الأدبي الذي يستطيع إنشاء الكلام البليغ ومعرفة جيدة ويفاضل بينه . وهنا سؤال على قدر كبير من الأهمية لِمَ لم تظفر البلاغة التعليمية بشيء من التدوين في عصر صدر الإسلام مادام أن تدوينها وتعليمها من أمور الدين أو من الأمور التي يحتاج إليها المسلم كما يحتاج إلى معرفة الحلال والحرام ؟
الجواب على ذلك : أن الصحابة والتابعين كانوا يعرفون من القواعد البلاغية التي يقوم عليها إنشاء الكلام الفني والتي كانوا يعتمدون عليها في تمييز الكلام الجيد من الرديء لأنها كانت مركوزة في طبائعهم لذلك لم يحتاجوا إلى تدوينها على حد قول بهاء الدين السبكي في كتابه عروس الأفراح 1/53 . ويعلل الزركشي صاحب كتاب البرهان في علوم القرآن عدم تدوين البلاغة في صدر الإسلام بأن القصد من إنزال القرآن الكريم تعليم الحلال والحرام وتعريف شرائع الإسلام وقواعد الإيمان ، ولم يقصد منه تعليم طرق الفصاحة ، وإنما جاءت الفصاحة لتكون معجزة ، وكانت معرفتهم بأساليب البلاغة مما لا يحتاج إلى بيان ، بخلاف استنباط الأحكام ، فلهذا تكلموا في الثاني دون الأول 2/132.
البلاغة في عصر بني أمية :-
في عصر بني أمية كثرت الملاحظات النقدية كثرة عظيمة عملت فيها بواعث وأسباب كثيرة منها تحضر العرب واستقرارهم في المدن والأمصار ، وازدهار العلوم ورقيها مما أدى إلى رقي الحياة العقلية للأمة الإسلامية .حيث أخذوا يتجادلون في جميع شؤونهم السياسية والعقدية فكان هناك الخوارج والشيعة والزبيريون والأمويون ، والمرجئة والقدرية والمعتزلة ، فكان طبيعياً أن ينمو النظر في بلاغة الكلام وأن تكثر الملاحظات البيانية المتصلة بالكلام لا في مجال الخطابة والخطباء فحسب ، بل وفي مجال الشعر والشعراء بل لعل المجال الثاني كان أكثر نشاطاً لتعلق الشعراء بالمديح وتنافسهم فيه .
وفي هذا العصر نشطت حركة النقد سواء في مجال مجالس الخلفاء والولاة أو في الأندية الأدبية كسوق المربد في البصرة وسوق الكناسة في الكوفة حيث كان الشعراء يجتمعون في هذه الأسواق لينشدوا الناس خير ماصاغوه من الشعر .
وإليك بعض الأمثلة التي توضح ذلك .
من ذلك ما يقال من أن ذا الرمة كان ينشد بسوق الكناسة في الكوفة إحدى قصائده فلما وصل إلى قوله :
إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح صاح به ابن شبرمة : أراه قد برح وكأنه لم يعجبه التعبير بقوله لم يكد ، فكف ذو الرمة ناقته بزمامها وجعل يتأخر بها ويفكر ثم عاد فأنشد .
النأي إذا غيّر المحبين لم أجد ....
ومن ذلك أيضاً أنه اجتمع الكميت ونصيب وذو الرمة ، فأنشدهما الكميت ما قال حتى بلغ قوله :
أم هل ظعائن بالعلياء نافعة وإن تكامل فيها الأنس والشنب
عقد نصيب واحدة : فقال له الكميت ماذا تحصى ؟ قال : خطأك باعدت بين الأنس والشنب .
فنصيب ينقد الكميت لأنه جمع بين أمرين لا يجتمعان في الخارج ولا في الذهن . وهو بما يعرف بمراعاة النظير .
ومن ذلك ما روي عن الحجاج حين أنشدته ليلى الأخيلية قولها :
إذا ورد الحجاج أرضاً مريضةً تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هزّ القناة ثناها
فقال لها الحجاج لا تقولي غلام ، ولكن قولي همام .
لأن لفظ الغلام يشعر بالصبوة والنزق والجهل .
ومن ذلك ما روي عن عبد الملك بن مروان حين مدحه عبد الله بن قيس الرقيات بقصيدة منها قوله.
يأتلق منها التاج فوق مفرقة على جبين كأنه الذهب
فغضب عبد الملك وقال له : قد قلت في مصعب بن الزبير :
إنما مصعب شهابه من الله تجلت عن وجهه الظلماء
فأعطيته المدح بكشف الغمم وجلاء الظلم وأعطيتني من المدح مالا فخر فيه وهو اعتدال التاج فوق جبيني الذي هو كالذهب في النضارة. ومن ذلك ما روي عن ذي الرمة حين أنشد هشام بن عبد الملك قصيدته التي مطلعها :
ما بال عينيك منها الماء ينسكب
فزجره هشام وقال له بل عينيك . فهشام عاب على ذي الرمة قوله لعدم مراعاته المقام ، وهو ما يعرف لدى البلاغيين ببراعة الاستهلال .
ولعلّ في كل ما قدمنا من الأمثلة ما يدل على أن الملاحظات البيانية في العصور القديمة جاهلية وإسلامية لم تغب عن أذهان البلاغيين حين أصّلوا قواعد البلاغة ، وهي بحق تعد الأصول الأولى لقواعدهم .
البلاغة في العصر العباسي
لا تكاد تصل إلى العصر العباسي حتى أخذت الملاحظات البلاغية تزدهر ازدهارا عظيماً وتصطبغ بصبغة علمية وقد كان لذلك أسباب عديدة منها مايعود إلى تطور النثر والشعر مع تطور الحياة العقلية والحضارية ، ومنها ما يعود إلى نشوء طائفتين من المعلمين عنيت إحداهما باللغة والشعر وهي طائفة اللغويين والنحاة ، وعنيت الأخرى بالخطابة والمناظرة وإحكام الأدلة وهي طائفة الأدباء .
كل هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى نمو البحث البلاغي وإزهاره وتطوره فكثرت الملاحظات البلاغية بدءاً بسيبويه إمام النجاة وانتهاء بإمام البلاغيين
عبد القاهر الجرجاني الذي اكتمل صرح البلاغة على يديه فوضع أصولها وأرسى قواعده حتى غدت البلاغة علماً مستقلاً .
البحث البلاغي نشأته وتطوره
بدأ التأليف في علوم البلاغة مع بداية مرحلة التأليف في العلوم الإسلامية في منتصف القرن الثاني للهجرة ، وقد مرت البلاغة عبر رحلتها الطويلة بثلاث
مراحل .
المرحلة الأولى :
مرحلة النشأة والنمو .
نزل القرآن الكريم ليكون كتاب هدية ودستور حياة يهدي للتي هي أقوم وليكون معجزة للعالمين ودليلاً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكان المسلمون في عصر صدر الإسلام يعتمدون على طبعهم الأصيل في معرفة وإدراك إعجاز القرآن ، كما كانوا يعتمدون على طبعهم وذوقهم السليم في معرفة ضروب الكلام وتفضيل شاعر على آخر .
ثم انتشر الإسلام واتسعت رقعة الدولة الإسلامية وكثر عدد الداخلين في الإسلام أخذت هذه العناصر تمتزج بالعرب امتزاجا قوياً كان له أثره الكبير على اللغة العربية حيث أخذ الذوق العربي ينحرف وبدأت الملكات تضعف والإحساس ببلاغة الكلام يقل . وفشا اللحن على الألسنة . حينئذ ظهر العلماء فقاموا بوضع قواعد النحو والصرف , يدفعهم إلى ذلك حرصهم على لغة القرآن الكريم فظهرت
لذلك كتب عديدة اهتمت بالعربية , بالإضافة إلى الإشارة إلى بعض الملاحظات البلاغية التي كانت مبثوثة في تضاعيف هذه الكتب وبذلك بدأت البلاغة رحلتها ، ومن أهم هذه الكتب :
كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 210 وقد كان أبو عبيدة من أوسع أهل البصرة علماً باللغة والأدب والنحو وأخبارها وأيامها .
سبب تأليفه لهذا الكتاب: تروي كتب الأدب أن الفضل بن الربيع وزير الرشيد استقدم أبا عبيدة من البصرة لحضور مجلسه, فلما حضر إلى المجلس , سأل إبراهيم بن إسماعيل الكاتب أبا عبيدة عن قوله تعالى ( طلعها كأنه رؤوس الشياطين ) وإنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عرف مثله ، وهذا لم يعرف , فقال أبو عبيدة إنما كلم الله العرب على قدر كلامهم أما سمعت قول أمريء القيس
أيقتلني والمشرفين مضاجعي ومسنونة رزق كأنياب أغوال .
وهم لم يروا الغول قط ، ولما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به, فا ستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل ، وأزمع أبو عبيدة عند ذلك أن يضع كتاباً في القرآن لمثل هذا وأشباهه . وكلمة مجاز ليس المراد بها المعنى الاصطلاحي المعروف عند البلاغيين لهذه الكلمة وإنما تعني الطريق أو المعبر .
فكتاب أبي عبيدة ليس كتاباً بلاغياً وإنما هو كتاب في التفسير حيث فسر فيه الألفاظ القرآنية بما ورد مثلها في كلام العرب , وفي معرض تفسيره لآيات القرآن الكريم نثر بعض الملاحظات البلاغية , وأشار إلى بعض مسائلها كالإيجاز والإطناب والتقديم والتأخير دون تسمية لها ، كما أشار إلى خروج بعض الأساليب الإنشائية عن دلالتها الأصلية إلى بعض المعاني كالاستفهام والأمر والنهي ، كما تحدث عن الالتفات ، والتشبيه وتعرض للمجاز العقلي من غير تسمية له وإنما أشار إلى بعض شواهد ه التي أفاد منها البلاغيون فيما بعد .
ثم جاء بعده الفراء المتوفى سنة 207 هـ ووضع كتابه معاني القرآن , والفراء هو أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء ،كان من أعلم أهل الكوفة بالنحو واللغة وفنون الأدب .
وكتاب معاني القرآن يعالج المشاكل التي عالجها أبو عبيدة غير أن ثقافته النحوية قد ظهرت في كتابه بوضوح ، فهو يشرح بعض ألفاظ القرآن وبعض الأساليب البيانية والتراكيب الإعرابية ويرد كل ذلك إلى مذاهب العرب , وقد نثر في تضاعيف هذا الكتاب بعض الملاحظات البلاغية فقد أشار إلى الإيجاز ، وأشار إلى بعض صور الإطناب وبيّن الغرض البلاغي منها ، وتحدث عن التقديم والتأخير ، ولاحظ خروج الاستفهام و الأمر والنهي عن دلالتها الأصلية إلى معان بلاغية , ووقف عند صور المجاز العقلي ومثل له من القرآن ومن كلام العرب دون تسمية له ، كما عرف التشبيه وبيّن أركانه من المشبه والمشبه به والأداة ووجه الشبه ، وعرض للمشاكلة دون تسمية لها .
ثم جاء القرن الثالث للهجرة فكثرت الفرق الإسلامية واشتد الخلاف فيما بينها ، وأخذ الإسلام وكذلك العرب يواجه بحملة تشكيك وطعن , واتجهت أنظار الطاعنين نحو القرآن ترميه باللحن وفساد النظم , فانبرى العلماء يدافعون عن العرب والإسلام , ومن بين هؤلاء المدافعين الجاحظ الذي ألف كتابه البيان والتبيين الذي دافع فيه عن العرب ضد الشعوبيين , وفي هذا الكتاب أشار إلى بعض الفنون البلاغية كالاستعارة والتشبيه والكتابة والإيجاز والإطناب .
وعرّف البيان بقوله : " اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجب دون الضمير " كما أشار إلى أن البديع من خواص العرب ، ومنه الاستعارة والتشبيه والكناية ، كما ذكر موضوعات أخرى كبراعة المطلع والمقطع والسجع والاقتباس وغير ذلك .
وهذه الفنون البلاغية التي ذكرها الجاحظ مبثوثة في تضاعيف الكتاب لاتوجد إلا بالتأمل الطويل والتصفح الكثير .
وعلى أيه حال فالجاحظ من الذين أسهموا في وضع أسس البلاغة في هذه الفترة .
ابن قتيبة :- هو أبو محمد عبد الله بن قتيبة الدينوري 276هـ وهو من تلاميذ الجاحظ والمعاصرين له , ألف كتابه مشكل القرآن رد فيه على الطاعنين في لغة القرآن وأسلوبه .
وقد تحدث فيه عن العرب وما خصهم الله به من قوة البيان ، وتحدث عن وجوه إعجاز القرآن ، كما أشار إلى المجاز والاستعارة والقلب والاختصار في الكلام والزيادة فيه ، والكناية , ومخالفة ظاهر اللفظ معناه .
ويتميز بن قتيبة عن سابقيه بأنه قد وضع لكل لون من هذه الألوان باباً يخصه ، ويحثه في ذلك بحث أدبي ليس فيه التقسيم وتحديد المصطلحات .
المبرد : هو أبو العباس محمد بن يزيد المبرد المتوفي في سنة 285هـ ألف كتابه الكامل في اللغة والأدب وقد نثر فيه كثيراً من مسائل البلاغة , وعقد فيه للتشبيه باباً بدأ فيه بعرض كثير من التشبيهات الرائعة في شعر العرب ، وقسم التشبيه إلى أربعة أقسام هي تشبيه مفرط ، مصيب , مقارب ، بعيد .
كما تحدث عن الاستعارة والكناية والالتفات والإيجاز والإطناب وغير ذلك بعد ذلك أخذت هذه الكتب تميل إلى التخصص من ذلك الكتاب البديع للشاعر الخليفة العباس عبد الله بن المعتز المتوفى سنة 296هـ وكتاب البديع له قيمة كبيرة في تاريخ البلاغة إذ كان خطوة في تطورها وتقدمها وبخاصة في ميدان علم البديع فقد استقل بذكر أنواعه وفنونه , والبديع عنده يختلف عن ما عرف لدى المتأخرين من علماء البلاغة بأنه علم يعرف به وجوه تحسين الكلام وإنما كان البديع عنده عاماً يتناول كثيراً من فنون البلاغة كالاستعارة والكناية والتشبيه والمطابقة والجناس ، وقد دعاه إلى تأليف هذا الكتاب تعريفه الناس أن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أنواع البديع .
وقد قسم كتابه إلى قسمين : الأول البديع وحصره في خمسة فنون هي : الاستعارة , التجنيس ، المطابقة , ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها ، والمذهب الكلامي .
الثاني محاسن الكلام والشعر ، وذكر أنها كثيرة لا ينبغي لعالم الإحاطة بها ، وحصرها في ثلاثة عشر فناً منها الالتفات والتعريض والكناية ، والتشبيه وتجاهل العارف والمبالغة والإفراط إلى غير ذلك .
ثم جاء بعده قدامة بن جعفر المتوفى سنة 337 هـ الذي ألف كتابه نقد الشعر بين فيه أن الذي دفعه إلى تأليف هذا الكتاب هو تقصير العلماء وقعودهم عن التأليف في النقد ووضع كتاب فيه مع أنه أهم علوم الشعر وأولاها بالعناية .
ثم لما اشتدت الخصومة النقدية بين العلماء حول بعض شعراء العربية ظهرت كتب نقدية توازن بين هؤلاء الشعراء من ذلك كتاب الموازنة لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي وزان فيه بين شعر البحتري وأبي تمام ، وكتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي على بن عبد العزيز الجرجاني 366 .
وفي هذين الكتابين إشارات كثيرة إلى بعض الفنون البلاغية كالاستعارة والتشبيه والكناية والتجنيس والمطابقة .
ثم توالت الكتب والمؤلفات التي تحمل في ثناياها مادة بلاغية ضخمة أفاد منها الإمام عبد القاهر والبلاغيون من بعده في إرساء قواعد البلاغة وبناء صرحها .
منها كتاب سر الفصاحة لابن سنان , وتلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي , وإعجاز القرآن الباقلاني , والنكت في إعجاز القرآن للرماني والعمدة لابن رشيق القيرواني وغير ذلك .
المرحلة الثانية :
مرحلة : نضج البلاغة واكتمالها
اكتمل صرح البلاغة على يدي الإمام عبد القاهر الجرجاني الذي وضع نظريتي علم المعاني وعلم البيان في كتابيه دلائل الإنجاز وأسرار البلاغة .
فلعبد القاهر مكانة عظيمة في تاريخ البلاغة حيث دوت شهرته في الآفاق وذلك لما امتاز به عن سابقيه بأنه جمع ما تفرق قبله من علوم البلاغة, واستطاع بذكائه وثاقب نظره وضع قواعد البلاغة وبناء صرحها على أساس متين من الأصول والقوانين التي استقرت بشكل متكامل وفي إطار شامل مدعماً ذلك بالشواهد والأمثلة الكثيرة التي ساقها في بيان عذب وأسلوب بليغ ، فلم يكتف عبد القاهر في كتابيه بتعقيد القواعد وتقنينها , بل حرص مع ذلك على ضرب الأمثلة حتى تتضح فنون البلاغة حق الوضوح وتتمثل في الأذهان خير تمثل .
فعبد القاهر هو مؤسس البلاغة الذي وضع أصولها وأرسى قواعدها ولم يحدث بعده أي تغيير يذكر في علم المعاني والبيان لأنه استطاع أن يستنبط من ملاحظات البلاغيين قبله كل القواعد البلاغية فيهما .
ولقد فتن البلاغيون بعبد القاهر وعلمه الغزير فراحوا يرددون كلامه ويقفون عنده ولا يتجاوزنه ، وأصبح لكتابيه مكانة مرموقة جعلت كل من جاء بعده يعتمد عليها ويقتبس من مسائلها ويدور في فلكها لا يحيد عنها .
وعلى كل يعد كتابا عبد القاهر كتابين عظيمين حيث أصبحت فنون البلاغة فيهما ذات كيان خاص , بعد أن كانت قبلها مبعثرة في كتب اللغة والأدب والنقد وإعجاز القرآن ، وقد ضمنهما مؤلفهما علماً دقيقاً غزيراً ,بنى بهما للبلاغة صرحاً عالياً , وأصبح بسببهما إماماً عظيماً .
ثم جاء بعبد القاهر جارالله محمود بن عمر الزمخشري 538 الذي قام بدراسة ما كتبه عبدا لقاهر في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة واستطاع أن يهضم مافيهما , ويتمثلهما خير تمثيل , وأن يطبق ذلك كله في كتابه الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، الذي اهتم فيه بيان الأسرار البلاغية في القرآن , وبإظهار إعجازه عن طريق بيان وفاء دلالته على المراد مع مراعاته مقتضيات الأحوال , ويكشف ما فيه من خصائص التصوير ولطائف التعبير في البيان القرآني .
وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يعد من كتب التفسير فإنه يعد في الوقت ذاته من كتب البلاغة لأنه مليء بمسائلها ولطائفها .
المرحلة الثالثة
مرحلة التقنين والتعقيــــد :
تبدأ هذه المرحلة بظهور أبي يعقوب يوسف السكاكي المتوفى سنة 626هـ الذي اهتم بالفلسفة والمنطق , فقام بتقنين قواعد البلاغة مستعيناً في ذلك بقدراته المنطقية على التعليل والتعريف والتفريع والتقسيم ، وبذلك تحولت البلاغة على يديه إلى مجرد قواعد وقوانين صيغت في قوالب منطقية جافة باعدت بينها وبين وظيفتها من إرهاف الحس وإمتاع النفس وتربية الذوق وتنمية الملكات .
وقبل السكاكي ظهر فخر الدين الرازي فهو من أوائل من اتجهوا إلى الاختصار والتخليص فهو يعد مرحلة انتقالية , حيث اهتم بإدخال المنطق والفلسفة في علوم البلاغة , حيث قام بتلخيص كتابي عبد القاهر في كتابه نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز .
وشهرة السكاكي تعود إلى القسم الثالث من كتابه مفتاح العلوم الذي جعله لعلم المعاني وعلم البيان وملحقاتها من الفصاحة والبلاغة ، والمحسنات اللفظية والمعنوية , وقد نال هذا الكتاب شهرة فائقة في ميدان البلاغة حيث فتن به العلماء إلي حد جعلهم ينسون أنفسهم وينكرون ملكاتهم , ولهذا ظلوا قروناً عديدة- ابتداء من القرن السابع الهجري والى القرن الماضي - عاكفين على دراسته وشرحه وتلخيصه حتى لكأنه لم يؤلف في البلاغة كتاباً غيره , فاستأثر باهتمامهم وعنايتهم, وقد أخذ رجال هذه المدرسة وعلماؤها يعمدون في دراساتهم البلاغية على النظريات والتقسيمات والقواعد والتعريفات التي أصبحنا نراها شائعة في مصنفاتهم من الشروخ والحواشي والتقارير ونحوها التي صنفت على هدي كتاب السكاكي والقزويني .
فمن الذين قاموا بشرح مفتاح العلوم للسكاكي عدد كبير من العلماء منهم قطب الدين الشيرازي 710هـ في كتاب سماه مفتاح المفتاح ، ومظفر الخلخالي 745 هـ في كتابه شرح المفتاح ، والسيد الشريف الجرجاني 816هـ وابن كمال باشا 940هـ ألف شرح المفتاح .
وممن عنوا بتلخيصه :
بدر الدين مالك 668هـ أختصره في كتاب المصباح في المعاني والبيان والبديع , وجلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني 739هـ سماه تلخيص المفتاح , وعبد الرحمن الشيرازي 756هـ في كتابه الفوائد الغياثية , ولعل أشهر هذه الشروح وأوسعها شهرة بين العلماء في المشرق كتاب تلخيص المفتاح للقزويني , وهذا الكتاب بدوره حظي لدى العلماء باهتمام بالغ فمنهم من شرحه ومن لخصه ، ومنهم من نظمه .
فممن شرحه بهاء الدين السبكي في كتابه عروس الأفراح في شرج تلخيص المفتاح , وابن يعقوب المغربي 1110 في كتابه مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح ، والخلخالي في كتابه مفتاح تلخيص المفتاح ، وسعد الدين التفتازاني وضع له شرحين المختصر والمطول , وممن نظمه شعراً جلال الدين السيوطي المتوفي سنة 911 هـ في كتابه عقود الجمان ، وعبد الرحمن الأخضري سمي نظمه الجوهر المكنون في الثلاثة فنون ، وغيرهم كثير ، ولاتزال خزائن الكتب والمخطوطات تضم في جنباتها عدداً كبيراً من الكتب التي دارت حول شرح مفتاح العلوم أو حول كتاب التلخيص للقزويني .
فكل من جاء بعد السكاكي سار على نهجه ونسج على منواله لأنها لاتخرج عن كونها ترديدا وتكراراً لمادته ، فهي محاولات قصد بها الإيضاح والتبسيط عن طريق الإيجاز والتلخيص, وإذا هي من حيث لا يدري أصابها قد زادت المفتاح صعوبة على صعوبة .
ولا شك أن هذه الشروح والتلخيصات والمنظومات تدل على عناية أصحابها منذ عصر السكاكي وما بعده بالمناقشات العلمية والمماحكات اللفظية دون العناية بتربية الذوق ففقدت البلاغة بذلك هدفها الرئيس .
وعلى أية حال هذه الكتب التي صنفها العلماء أرادوا بها خدمة البلاغة والنقد إلا أنها عجزت عن أن تعلم نقداً أو بلاغة , وهي بلا شك دالة على عناية أصحابها بمسائل العلم وتوسيع القول فيه , وإن كانوا في الوقت نفسه عاجزين على القدرة على التجديد والابتكار .
وإذا أردنا أن نقارن ما كانت عليه البلاغة العربية في عصورها الزاهية وخاصة في عصر عبد القاهر وبين ما صارت إليه في العصور المتأخرة نرى أن البلاغة قد ازدهرت واكتمل صرحها وتوهجت شعلتها على أيدي علمائها الأوائل الذين قاموا بإحيائها وإرساء معالمها , ثم نرى كيف جفت وذبلت وخبت شعلتها على أيدي علماء البلاغة المتأخرين على يد السكاكي ومن سار على نهجه واحتذى حذوه .
وقد ظل هذا حال البلاغة تزداد مع الأيام ضعفاً وبعدا عن هدفها المنشود حتى قيض لها من علماء العرب في العصر الحديث من قام بإحيائها فأعاد للبلاغة وجهها الناصع الناضر .
اعداد
أ.د.يوسف عبدالله الأنصاري
أستاذ ورئيس قسم البلاغة والنقد
جامعة ام القرى
البلاغة كغيرها من العلوم الإسلامية لم تكن وليد ساعة أو يوم وإنما مرت بمراحل عديدة حتى اكتمل نضجها حتى اكتمل نضجها وأصبحت علماً مستقلاً قائماً بذاته له قواعده وقوانينه .
النشأة والنمو
البلاغة في العصرين الجاهلي والإسلامي .
عرف العرب بالفصاحة والبلاغة وحسن البيان وقد بلغوا في الجاهلية درجة رفيعة من البلاغة والبيان وقد صوّر القرآن ذلك في آيات عديدة وقوله تعلى ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ) كما وضح القرآن شدة قوتهم في الجدال والحجاج " ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون "
ومن أكبر الدلائل على أنهم بلغوا في البلاغة درجة عالية رفيعة أن كانت معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وحجته الدالة على نبوته القرآن , حيث دعاهم إلى معارضته , وتحداهم بأن يأتوا في بلاغته الباهرة ، وهي بلا شك دعوة تدل بوضوح على تمكنهم ورسوخ قدمهم في البلاغة والبيان ، وعلى بصرهم بتمييز أقدار المعاني والألفاظ وتبيين مايجري فيها من جودة الإفهام وبلاغة التعبير .
وقد وصف الجاحظ العرب بالبلاغة والفصاحة وقدرتهم على القول في كل عرض حيث يقول ( والكلام كلامهم وهو سيد عملهم قد فاض به بيانهم وجاش به صدورهم وقد حفلت كتب الأدب كالأغاني لأبي الفرج الأصفهاني والشعر والشعراء لابن قتيبة والموشح في مآخذ العلماء على الشعراء للمزرباني بنماذج عديدة من النقد الجاهلي الذي كان بدور في أسواقهم المعروفة في الجاهلية كعكاظ ، من ذلك أن النابغة كانت كضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها فيقول فيها كلمته فتسير في الناس لا يستطيع أحد أن ينقضها . من ذلك قصته المشهورة في تفضل الأعشى على حسان بن ثابت ، وتفضيل الخنساء على بنات جنسها فثار لذلك حسان وقال له : أنا والله أشعر منك ومنها فقال له النابغة حيث تقول ماذا ؟ قال حيث أقوله :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرّق فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما
فقال له النابغة : إنك لشاعر لو أنك قللت عدد جفانك وسيوفك وقلت يلمعن في الضحى ولوقلت يبرقن لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً ، وقلت يقطرن من نجدة دما فدللت على قلة القتل ، ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم ، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن تفخر بمن ولدك ، فقام حسان منكسراً .
ومن ذلك أيضاً قصة طرفة بن العبد وهو صبي عندما سمع المتلمس ينشد قوله .
وقد أتناسى الهم عند احتضاره بناج عليه الصيعرية مكدم
الصيعرية سمة تكون في عنق الناقة لا في عنق الجمل فقال طرفة : استنوق الجمل , فضحك الناس وسارت مثلاً , ومن ذلك أن العرب عابت على النابغة الذبياني الإقواء الذي في شعره ولم يستطع أحد أن يصارحه بهذا العيب حتى دخل
يثرب مرة فأسمعوه غناء قوله :-
أمن آل مية رائح أو مغتدي عجلان ذا زاد وغير مزود
إلى قوله :
بمخضب رخص كأن بنانه عنم يكاد من اللطافة يعقد
ففطن النابغة فلم يعد إلى ذلك ، ويروي أنه حين خرج قال دخلت يثرب فوجدت في شعري صنعة فخرجت منها وأنا أشعر العرب .
وتروي كتب الأدب هذا البيت قوله .
زعم البوارح أن رحلتنا غداً وبذاك خيّرنا الغرابُ الأسود
وأنه أصلحه بقوله :- وبذاك تنعاب الغرب الأسود .
وهناك أمثلة عديدة لكننا نكتفي بهذا القدر مشيرين إلى أن العرب في جاهليتهم كانت لديهم ملكة فنية استطاعوا من خلالها معرفة الكلام وتمييز جيده من
رديئه .
ولا يخفى أن هذه الملاحظات النقدية كانت تعتمد على الذوق فهي نقد ذاتي لايقوم على التعليل والتفصيل ، وبمرور الزمن ذكر العلماء لهذه الأحكام والملاحظات النقدية تعليلات تقوم على أسس بيانية ، وتحول هذا النقد إلى نقد
بياني ينظر إلى المعاني والألفاظ على أيدي البلاغيين
البلاغة في عصر صدر الإسلام :
لاشك أن للقرآن تأثيراً عظيماً في نشأة البلاغة وتطويرهما فقد عكف العلماء على دراسته وبيان أسرار إعجازه ، واتخذوه مداراً للدرس البلاغي فاتخذوا آياته شواهد على أبواب البلاغة واعتبروها مثالاً يحتذى في جمال النظم ودقة التركيب .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وهو كما نعلم كان أفصح العرب . كما كان شديد الاهتمام والعناية بالشعر والشعراء يحرص على سماعهم والإشادة بشعرهم من ذلك قوله لحسان رضي الله عنه " قل وروح القدس يؤيدك " وقوله عندما سمع قول النابغة الجعدي .
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنبغي فوق ذلك مظهراً
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أين المرتقى ياأبا ليلى : فقال إلى الجنة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " لا فض فوك " .
وقد ظلت وفود العرب تختلف في عهد الخلفاء الراشدين إلى المدينة وتجمعهم أنديتها فيخوضون في شعراء الجاهلية والشعراء والمخضرمين وينظرون في الشعر والخطب ويجرون المفاصلات بين الشعراء والخطباء وقد كان الخلفاء يخوضون في ذلك ولهم مشاركات في النقد من ذلك ما روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه عرض لرجل معه ثوب فقال له : أتبيع الثوب ؟ فأجاب : لا عافاك الله فقال له أبوبكر : علمتم لوكنت تعلمون قل لا وعافاك الله " وقد كانت لعمر وعلي رضي الله عنهما مساهمات في النقد ، فقد كان عمر بن الخطاب من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة من ذلك قوله " الشعر علم قوم لم يكن له علم أعلم منه "
وقوله في زهير " كان لايعاظل في الكلام " أما علي رضي الله عنه فقد اشتهر بالفصاحة والبيان , وفصاحته معروفة لا تخفى على أحد ‘ وقد روى أن أعرابياً وقف على علي رضي الله عنه فقال : إن لي إليك حاجة رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك فإن قضيتها حمدت الله تعالى وشكرتك وإن لم تقضها حمدت الله تعالى وعذرتك ، فقال له علي : خطّ حاجتك في الأرض فإني أرى الضر عليك ، فكتب الإعرابي على الأرض إني فقير ، فقال علي : يا قنبرإدفع إليه حلتي الفلانية ، فلما أخذها مثل بين يديه فقال :
كسوتني حلةً تبلى محاسنها فسوف أكسوك من حلل الثنا حللاً
إن الثناء ليحيى ذكر صاحبه كالغيث يحيى نداه السهل والجبلا
لاتزهد الدهر في عرف بدأت به فكلّ عبد سيجزى بالذي فعلا
فقال عليّ ياقنبر أعطه خمسين ديناراً ، أما الحلة فلمسألتك وأما الدنانير فلأدبك ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أنزلوا الناس منازلهم .
وبهذا تبين لك أن للخلفاء معرفة بالشعر ونقده ، كما أن ملاحظاتهم النقدية كانت كالجاهلين جزئية فطرية تعتمد على الذوق دون تعليل لها .
هذه الأحكام والملاحظات هي التي استحالت على أيدي البلاغيين من أمثال الباقلاني والرماني والعسكري وعبد القاهر والسكاكي إلى قواعد بلاغية محددة تحديداً علمياً دقيقاً قصد منها الوقوف على وجه إعجاز القرآن البلاغي وتكوين الذوق الأدبي الذي يستطيع إنشاء الكلام البليغ ومعرفة جيدة ويفاضل بينه . وهنا سؤال على قدر كبير من الأهمية لِمَ لم تظفر البلاغة التعليمية بشيء من التدوين في عصر صدر الإسلام مادام أن تدوينها وتعليمها من أمور الدين أو من الأمور التي يحتاج إليها المسلم كما يحتاج إلى معرفة الحلال والحرام ؟
الجواب على ذلك : أن الصحابة والتابعين كانوا يعرفون من القواعد البلاغية التي يقوم عليها إنشاء الكلام الفني والتي كانوا يعتمدون عليها في تمييز الكلام الجيد من الرديء لأنها كانت مركوزة في طبائعهم لذلك لم يحتاجوا إلى تدوينها على حد قول بهاء الدين السبكي في كتابه عروس الأفراح 1/53 . ويعلل الزركشي صاحب كتاب البرهان في علوم القرآن عدم تدوين البلاغة في صدر الإسلام بأن القصد من إنزال القرآن الكريم تعليم الحلال والحرام وتعريف شرائع الإسلام وقواعد الإيمان ، ولم يقصد منه تعليم طرق الفصاحة ، وإنما جاءت الفصاحة لتكون معجزة ، وكانت معرفتهم بأساليب البلاغة مما لا يحتاج إلى بيان ، بخلاف استنباط الأحكام ، فلهذا تكلموا في الثاني دون الأول 2/132.
البلاغة في عصر بني أمية :-
في عصر بني أمية كثرت الملاحظات النقدية كثرة عظيمة عملت فيها بواعث وأسباب كثيرة منها تحضر العرب واستقرارهم في المدن والأمصار ، وازدهار العلوم ورقيها مما أدى إلى رقي الحياة العقلية للأمة الإسلامية .حيث أخذوا يتجادلون في جميع شؤونهم السياسية والعقدية فكان هناك الخوارج والشيعة والزبيريون والأمويون ، والمرجئة والقدرية والمعتزلة ، فكان طبيعياً أن ينمو النظر في بلاغة الكلام وأن تكثر الملاحظات البيانية المتصلة بالكلام لا في مجال الخطابة والخطباء فحسب ، بل وفي مجال الشعر والشعراء بل لعل المجال الثاني كان أكثر نشاطاً لتعلق الشعراء بالمديح وتنافسهم فيه .
وفي هذا العصر نشطت حركة النقد سواء في مجال مجالس الخلفاء والولاة أو في الأندية الأدبية كسوق المربد في البصرة وسوق الكناسة في الكوفة حيث كان الشعراء يجتمعون في هذه الأسواق لينشدوا الناس خير ماصاغوه من الشعر .
وإليك بعض الأمثلة التي توضح ذلك .
من ذلك ما يقال من أن ذا الرمة كان ينشد بسوق الكناسة في الكوفة إحدى قصائده فلما وصل إلى قوله :
إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح صاح به ابن شبرمة : أراه قد برح وكأنه لم يعجبه التعبير بقوله لم يكد ، فكف ذو الرمة ناقته بزمامها وجعل يتأخر بها ويفكر ثم عاد فأنشد .
النأي إذا غيّر المحبين لم أجد ....
ومن ذلك أيضاً أنه اجتمع الكميت ونصيب وذو الرمة ، فأنشدهما الكميت ما قال حتى بلغ قوله :
أم هل ظعائن بالعلياء نافعة وإن تكامل فيها الأنس والشنب
عقد نصيب واحدة : فقال له الكميت ماذا تحصى ؟ قال : خطأك باعدت بين الأنس والشنب .
فنصيب ينقد الكميت لأنه جمع بين أمرين لا يجتمعان في الخارج ولا في الذهن . وهو بما يعرف بمراعاة النظير .
ومن ذلك ما روي عن الحجاج حين أنشدته ليلى الأخيلية قولها :
إذا ورد الحجاج أرضاً مريضةً تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هزّ القناة ثناها
فقال لها الحجاج لا تقولي غلام ، ولكن قولي همام .
لأن لفظ الغلام يشعر بالصبوة والنزق والجهل .
ومن ذلك ما روي عن عبد الملك بن مروان حين مدحه عبد الله بن قيس الرقيات بقصيدة منها قوله.
يأتلق منها التاج فوق مفرقة على جبين كأنه الذهب
فغضب عبد الملك وقال له : قد قلت في مصعب بن الزبير :
إنما مصعب شهابه من الله تجلت عن وجهه الظلماء
فأعطيته المدح بكشف الغمم وجلاء الظلم وأعطيتني من المدح مالا فخر فيه وهو اعتدال التاج فوق جبيني الذي هو كالذهب في النضارة. ومن ذلك ما روي عن ذي الرمة حين أنشد هشام بن عبد الملك قصيدته التي مطلعها :
ما بال عينيك منها الماء ينسكب
فزجره هشام وقال له بل عينيك . فهشام عاب على ذي الرمة قوله لعدم مراعاته المقام ، وهو ما يعرف لدى البلاغيين ببراعة الاستهلال .
ولعلّ في كل ما قدمنا من الأمثلة ما يدل على أن الملاحظات البيانية في العصور القديمة جاهلية وإسلامية لم تغب عن أذهان البلاغيين حين أصّلوا قواعد البلاغة ، وهي بحق تعد الأصول الأولى لقواعدهم .
البلاغة في العصر العباسي
لا تكاد تصل إلى العصر العباسي حتى أخذت الملاحظات البلاغية تزدهر ازدهارا عظيماً وتصطبغ بصبغة علمية وقد كان لذلك أسباب عديدة منها مايعود إلى تطور النثر والشعر مع تطور الحياة العقلية والحضارية ، ومنها ما يعود إلى نشوء طائفتين من المعلمين عنيت إحداهما باللغة والشعر وهي طائفة اللغويين والنحاة ، وعنيت الأخرى بالخطابة والمناظرة وإحكام الأدلة وهي طائفة الأدباء .
كل هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى نمو البحث البلاغي وإزهاره وتطوره فكثرت الملاحظات البلاغية بدءاً بسيبويه إمام النجاة وانتهاء بإمام البلاغيين
عبد القاهر الجرجاني الذي اكتمل صرح البلاغة على يديه فوضع أصولها وأرسى قواعده حتى غدت البلاغة علماً مستقلاً .
البحث البلاغي نشأته وتطوره
بدأ التأليف في علوم البلاغة مع بداية مرحلة التأليف في العلوم الإسلامية في منتصف القرن الثاني للهجرة ، وقد مرت البلاغة عبر رحلتها الطويلة بثلاث
مراحل .
المرحلة الأولى :
مرحلة النشأة والنمو .
نزل القرآن الكريم ليكون كتاب هدية ودستور حياة يهدي للتي هي أقوم وليكون معجزة للعالمين ودليلاً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكان المسلمون في عصر صدر الإسلام يعتمدون على طبعهم الأصيل في معرفة وإدراك إعجاز القرآن ، كما كانوا يعتمدون على طبعهم وذوقهم السليم في معرفة ضروب الكلام وتفضيل شاعر على آخر .
ثم انتشر الإسلام واتسعت رقعة الدولة الإسلامية وكثر عدد الداخلين في الإسلام أخذت هذه العناصر تمتزج بالعرب امتزاجا قوياً كان له أثره الكبير على اللغة العربية حيث أخذ الذوق العربي ينحرف وبدأت الملكات تضعف والإحساس ببلاغة الكلام يقل . وفشا اللحن على الألسنة . حينئذ ظهر العلماء فقاموا بوضع قواعد النحو والصرف , يدفعهم إلى ذلك حرصهم على لغة القرآن الكريم فظهرت
لذلك كتب عديدة اهتمت بالعربية , بالإضافة إلى الإشارة إلى بعض الملاحظات البلاغية التي كانت مبثوثة في تضاعيف هذه الكتب وبذلك بدأت البلاغة رحلتها ، ومن أهم هذه الكتب :
كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 210 وقد كان أبو عبيدة من أوسع أهل البصرة علماً باللغة والأدب والنحو وأخبارها وأيامها .
سبب تأليفه لهذا الكتاب: تروي كتب الأدب أن الفضل بن الربيع وزير الرشيد استقدم أبا عبيدة من البصرة لحضور مجلسه, فلما حضر إلى المجلس , سأل إبراهيم بن إسماعيل الكاتب أبا عبيدة عن قوله تعالى ( طلعها كأنه رؤوس الشياطين ) وإنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عرف مثله ، وهذا لم يعرف , فقال أبو عبيدة إنما كلم الله العرب على قدر كلامهم أما سمعت قول أمريء القيس
أيقتلني والمشرفين مضاجعي ومسنونة رزق كأنياب أغوال .
وهم لم يروا الغول قط ، ولما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به, فا ستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل ، وأزمع أبو عبيدة عند ذلك أن يضع كتاباً في القرآن لمثل هذا وأشباهه . وكلمة مجاز ليس المراد بها المعنى الاصطلاحي المعروف عند البلاغيين لهذه الكلمة وإنما تعني الطريق أو المعبر .
فكتاب أبي عبيدة ليس كتاباً بلاغياً وإنما هو كتاب في التفسير حيث فسر فيه الألفاظ القرآنية بما ورد مثلها في كلام العرب , وفي معرض تفسيره لآيات القرآن الكريم نثر بعض الملاحظات البلاغية , وأشار إلى بعض مسائلها كالإيجاز والإطناب والتقديم والتأخير دون تسمية لها ، كما أشار إلى خروج بعض الأساليب الإنشائية عن دلالتها الأصلية إلى بعض المعاني كالاستفهام والأمر والنهي ، كما تحدث عن الالتفات ، والتشبيه وتعرض للمجاز العقلي من غير تسمية له وإنما أشار إلى بعض شواهد ه التي أفاد منها البلاغيون فيما بعد .
ثم جاء بعده الفراء المتوفى سنة 207 هـ ووضع كتابه معاني القرآن , والفراء هو أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء ،كان من أعلم أهل الكوفة بالنحو واللغة وفنون الأدب .
وكتاب معاني القرآن يعالج المشاكل التي عالجها أبو عبيدة غير أن ثقافته النحوية قد ظهرت في كتابه بوضوح ، فهو يشرح بعض ألفاظ القرآن وبعض الأساليب البيانية والتراكيب الإعرابية ويرد كل ذلك إلى مذاهب العرب , وقد نثر في تضاعيف هذا الكتاب بعض الملاحظات البلاغية فقد أشار إلى الإيجاز ، وأشار إلى بعض صور الإطناب وبيّن الغرض البلاغي منها ، وتحدث عن التقديم والتأخير ، ولاحظ خروج الاستفهام و الأمر والنهي عن دلالتها الأصلية إلى معان بلاغية , ووقف عند صور المجاز العقلي ومثل له من القرآن ومن كلام العرب دون تسمية له ، كما عرف التشبيه وبيّن أركانه من المشبه والمشبه به والأداة ووجه الشبه ، وعرض للمشاكلة دون تسمية لها .
ثم جاء القرن الثالث للهجرة فكثرت الفرق الإسلامية واشتد الخلاف فيما بينها ، وأخذ الإسلام وكذلك العرب يواجه بحملة تشكيك وطعن , واتجهت أنظار الطاعنين نحو القرآن ترميه باللحن وفساد النظم , فانبرى العلماء يدافعون عن العرب والإسلام , ومن بين هؤلاء المدافعين الجاحظ الذي ألف كتابه البيان والتبيين الذي دافع فيه عن العرب ضد الشعوبيين , وفي هذا الكتاب أشار إلى بعض الفنون البلاغية كالاستعارة والتشبيه والكتابة والإيجاز والإطناب .
وعرّف البيان بقوله : " اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجب دون الضمير " كما أشار إلى أن البديع من خواص العرب ، ومنه الاستعارة والتشبيه والكناية ، كما ذكر موضوعات أخرى كبراعة المطلع والمقطع والسجع والاقتباس وغير ذلك .
وهذه الفنون البلاغية التي ذكرها الجاحظ مبثوثة في تضاعيف الكتاب لاتوجد إلا بالتأمل الطويل والتصفح الكثير .
وعلى أيه حال فالجاحظ من الذين أسهموا في وضع أسس البلاغة في هذه الفترة .
ابن قتيبة :- هو أبو محمد عبد الله بن قتيبة الدينوري 276هـ وهو من تلاميذ الجاحظ والمعاصرين له , ألف كتابه مشكل القرآن رد فيه على الطاعنين في لغة القرآن وأسلوبه .
وقد تحدث فيه عن العرب وما خصهم الله به من قوة البيان ، وتحدث عن وجوه إعجاز القرآن ، كما أشار إلى المجاز والاستعارة والقلب والاختصار في الكلام والزيادة فيه ، والكناية , ومخالفة ظاهر اللفظ معناه .
ويتميز بن قتيبة عن سابقيه بأنه قد وضع لكل لون من هذه الألوان باباً يخصه ، ويحثه في ذلك بحث أدبي ليس فيه التقسيم وتحديد المصطلحات .
المبرد : هو أبو العباس محمد بن يزيد المبرد المتوفي في سنة 285هـ ألف كتابه الكامل في اللغة والأدب وقد نثر فيه كثيراً من مسائل البلاغة , وعقد فيه للتشبيه باباً بدأ فيه بعرض كثير من التشبيهات الرائعة في شعر العرب ، وقسم التشبيه إلى أربعة أقسام هي تشبيه مفرط ، مصيب , مقارب ، بعيد .
كما تحدث عن الاستعارة والكناية والالتفات والإيجاز والإطناب وغير ذلك بعد ذلك أخذت هذه الكتب تميل إلى التخصص من ذلك الكتاب البديع للشاعر الخليفة العباس عبد الله بن المعتز المتوفى سنة 296هـ وكتاب البديع له قيمة كبيرة في تاريخ البلاغة إذ كان خطوة في تطورها وتقدمها وبخاصة في ميدان علم البديع فقد استقل بذكر أنواعه وفنونه , والبديع عنده يختلف عن ما عرف لدى المتأخرين من علماء البلاغة بأنه علم يعرف به وجوه تحسين الكلام وإنما كان البديع عنده عاماً يتناول كثيراً من فنون البلاغة كالاستعارة والكناية والتشبيه والمطابقة والجناس ، وقد دعاه إلى تأليف هذا الكتاب تعريفه الناس أن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أنواع البديع .
وقد قسم كتابه إلى قسمين : الأول البديع وحصره في خمسة فنون هي : الاستعارة , التجنيس ، المطابقة , ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها ، والمذهب الكلامي .
الثاني محاسن الكلام والشعر ، وذكر أنها كثيرة لا ينبغي لعالم الإحاطة بها ، وحصرها في ثلاثة عشر فناً منها الالتفات والتعريض والكناية ، والتشبيه وتجاهل العارف والمبالغة والإفراط إلى غير ذلك .
ثم جاء بعده قدامة بن جعفر المتوفى سنة 337 هـ الذي ألف كتابه نقد الشعر بين فيه أن الذي دفعه إلى تأليف هذا الكتاب هو تقصير العلماء وقعودهم عن التأليف في النقد ووضع كتاب فيه مع أنه أهم علوم الشعر وأولاها بالعناية .
ثم لما اشتدت الخصومة النقدية بين العلماء حول بعض شعراء العربية ظهرت كتب نقدية توازن بين هؤلاء الشعراء من ذلك كتاب الموازنة لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي وزان فيه بين شعر البحتري وأبي تمام ، وكتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي على بن عبد العزيز الجرجاني 366 .
وفي هذين الكتابين إشارات كثيرة إلى بعض الفنون البلاغية كالاستعارة والتشبيه والكناية والتجنيس والمطابقة .
ثم توالت الكتب والمؤلفات التي تحمل في ثناياها مادة بلاغية ضخمة أفاد منها الإمام عبد القاهر والبلاغيون من بعده في إرساء قواعد البلاغة وبناء صرحها .
منها كتاب سر الفصاحة لابن سنان , وتلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي , وإعجاز القرآن الباقلاني , والنكت في إعجاز القرآن للرماني والعمدة لابن رشيق القيرواني وغير ذلك .
المرحلة الثانية :
مرحلة : نضج البلاغة واكتمالها
اكتمل صرح البلاغة على يدي الإمام عبد القاهر الجرجاني الذي وضع نظريتي علم المعاني وعلم البيان في كتابيه دلائل الإنجاز وأسرار البلاغة .
فلعبد القاهر مكانة عظيمة في تاريخ البلاغة حيث دوت شهرته في الآفاق وذلك لما امتاز به عن سابقيه بأنه جمع ما تفرق قبله من علوم البلاغة, واستطاع بذكائه وثاقب نظره وضع قواعد البلاغة وبناء صرحها على أساس متين من الأصول والقوانين التي استقرت بشكل متكامل وفي إطار شامل مدعماً ذلك بالشواهد والأمثلة الكثيرة التي ساقها في بيان عذب وأسلوب بليغ ، فلم يكتف عبد القاهر في كتابيه بتعقيد القواعد وتقنينها , بل حرص مع ذلك على ضرب الأمثلة حتى تتضح فنون البلاغة حق الوضوح وتتمثل في الأذهان خير تمثل .
فعبد القاهر هو مؤسس البلاغة الذي وضع أصولها وأرسى قواعدها ولم يحدث بعده أي تغيير يذكر في علم المعاني والبيان لأنه استطاع أن يستنبط من ملاحظات البلاغيين قبله كل القواعد البلاغية فيهما .
ولقد فتن البلاغيون بعبد القاهر وعلمه الغزير فراحوا يرددون كلامه ويقفون عنده ولا يتجاوزنه ، وأصبح لكتابيه مكانة مرموقة جعلت كل من جاء بعده يعتمد عليها ويقتبس من مسائلها ويدور في فلكها لا يحيد عنها .
وعلى كل يعد كتابا عبد القاهر كتابين عظيمين حيث أصبحت فنون البلاغة فيهما ذات كيان خاص , بعد أن كانت قبلها مبعثرة في كتب اللغة والأدب والنقد وإعجاز القرآن ، وقد ضمنهما مؤلفهما علماً دقيقاً غزيراً ,بنى بهما للبلاغة صرحاً عالياً , وأصبح بسببهما إماماً عظيماً .
ثم جاء بعبد القاهر جارالله محمود بن عمر الزمخشري 538 الذي قام بدراسة ما كتبه عبدا لقاهر في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة واستطاع أن يهضم مافيهما , ويتمثلهما خير تمثيل , وأن يطبق ذلك كله في كتابه الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، الذي اهتم فيه بيان الأسرار البلاغية في القرآن , وبإظهار إعجازه عن طريق بيان وفاء دلالته على المراد مع مراعاته مقتضيات الأحوال , ويكشف ما فيه من خصائص التصوير ولطائف التعبير في البيان القرآني .
وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يعد من كتب التفسير فإنه يعد في الوقت ذاته من كتب البلاغة لأنه مليء بمسائلها ولطائفها .
المرحلة الثالثة
مرحلة التقنين والتعقيــــد :
تبدأ هذه المرحلة بظهور أبي يعقوب يوسف السكاكي المتوفى سنة 626هـ الذي اهتم بالفلسفة والمنطق , فقام بتقنين قواعد البلاغة مستعيناً في ذلك بقدراته المنطقية على التعليل والتعريف والتفريع والتقسيم ، وبذلك تحولت البلاغة على يديه إلى مجرد قواعد وقوانين صيغت في قوالب منطقية جافة باعدت بينها وبين وظيفتها من إرهاف الحس وإمتاع النفس وتربية الذوق وتنمية الملكات .
وقبل السكاكي ظهر فخر الدين الرازي فهو من أوائل من اتجهوا إلى الاختصار والتخليص فهو يعد مرحلة انتقالية , حيث اهتم بإدخال المنطق والفلسفة في علوم البلاغة , حيث قام بتلخيص كتابي عبد القاهر في كتابه نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز .
وشهرة السكاكي تعود إلى القسم الثالث من كتابه مفتاح العلوم الذي جعله لعلم المعاني وعلم البيان وملحقاتها من الفصاحة والبلاغة ، والمحسنات اللفظية والمعنوية , وقد نال هذا الكتاب شهرة فائقة في ميدان البلاغة حيث فتن به العلماء إلي حد جعلهم ينسون أنفسهم وينكرون ملكاتهم , ولهذا ظلوا قروناً عديدة- ابتداء من القرن السابع الهجري والى القرن الماضي - عاكفين على دراسته وشرحه وتلخيصه حتى لكأنه لم يؤلف في البلاغة كتاباً غيره , فاستأثر باهتمامهم وعنايتهم, وقد أخذ رجال هذه المدرسة وعلماؤها يعمدون في دراساتهم البلاغية على النظريات والتقسيمات والقواعد والتعريفات التي أصبحنا نراها شائعة في مصنفاتهم من الشروخ والحواشي والتقارير ونحوها التي صنفت على هدي كتاب السكاكي والقزويني .
فمن الذين قاموا بشرح مفتاح العلوم للسكاكي عدد كبير من العلماء منهم قطب الدين الشيرازي 710هـ في كتاب سماه مفتاح المفتاح ، ومظفر الخلخالي 745 هـ في كتابه شرح المفتاح ، والسيد الشريف الجرجاني 816هـ وابن كمال باشا 940هـ ألف شرح المفتاح .
وممن عنوا بتلخيصه :
بدر الدين مالك 668هـ أختصره في كتاب المصباح في المعاني والبيان والبديع , وجلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني 739هـ سماه تلخيص المفتاح , وعبد الرحمن الشيرازي 756هـ في كتابه الفوائد الغياثية , ولعل أشهر هذه الشروح وأوسعها شهرة بين العلماء في المشرق كتاب تلخيص المفتاح للقزويني , وهذا الكتاب بدوره حظي لدى العلماء باهتمام بالغ فمنهم من شرحه ومن لخصه ، ومنهم من نظمه .
فممن شرحه بهاء الدين السبكي في كتابه عروس الأفراح في شرج تلخيص المفتاح , وابن يعقوب المغربي 1110 في كتابه مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح ، والخلخالي في كتابه مفتاح تلخيص المفتاح ، وسعد الدين التفتازاني وضع له شرحين المختصر والمطول , وممن نظمه شعراً جلال الدين السيوطي المتوفي سنة 911 هـ في كتابه عقود الجمان ، وعبد الرحمن الأخضري سمي نظمه الجوهر المكنون في الثلاثة فنون ، وغيرهم كثير ، ولاتزال خزائن الكتب والمخطوطات تضم في جنباتها عدداً كبيراً من الكتب التي دارت حول شرح مفتاح العلوم أو حول كتاب التلخيص للقزويني .
فكل من جاء بعد السكاكي سار على نهجه ونسج على منواله لأنها لاتخرج عن كونها ترديدا وتكراراً لمادته ، فهي محاولات قصد بها الإيضاح والتبسيط عن طريق الإيجاز والتلخيص, وإذا هي من حيث لا يدري أصابها قد زادت المفتاح صعوبة على صعوبة .
ولا شك أن هذه الشروح والتلخيصات والمنظومات تدل على عناية أصحابها منذ عصر السكاكي وما بعده بالمناقشات العلمية والمماحكات اللفظية دون العناية بتربية الذوق ففقدت البلاغة بذلك هدفها الرئيس .
وعلى أية حال هذه الكتب التي صنفها العلماء أرادوا بها خدمة البلاغة والنقد إلا أنها عجزت عن أن تعلم نقداً أو بلاغة , وهي بلا شك دالة على عناية أصحابها بمسائل العلم وتوسيع القول فيه , وإن كانوا في الوقت نفسه عاجزين على القدرة على التجديد والابتكار .
وإذا أردنا أن نقارن ما كانت عليه البلاغة العربية في عصورها الزاهية وخاصة في عصر عبد القاهر وبين ما صارت إليه في العصور المتأخرة نرى أن البلاغة قد ازدهرت واكتمل صرحها وتوهجت شعلتها على أيدي علمائها الأوائل الذين قاموا بإحيائها وإرساء معالمها , ثم نرى كيف جفت وذبلت وخبت شعلتها على أيدي علماء البلاغة المتأخرين على يد السكاكي ومن سار على نهجه واحتذى حذوه .
وقد ظل هذا حال البلاغة تزداد مع الأيام ضعفاً وبعدا عن هدفها المنشود حتى قيض لها من علماء العرب في العصر الحديث من قام بإحيائها فأعاد للبلاغة وجهها الناصع الناضر .