مقامات الحريري..درة أدبية فريدة
مجدي إبراهيم - باحث في التراثفي القرن الرابع الهجري- أي في العصر العباسي- ولد فن «المقامة» على يد بديع الزمان الهمذاني، وهو الذي اختار لفظ «مقامة» لحكاياته التي كان يمليها في مسجد نيسابور، ثم ظهر الحريري في القرن الخامس الهجري وكتب مقاماته في أواخر هذا القرن فنالت شهرة عريضة، وأعجب بها كثير من الأدباء أكثر من مقامات الهمذاني.
هذا وقد عُرف لفظ «مقامة» في العصر الجاهلي، وجاءت الكلمة بمعني المجلس،وبمعنى الجماعة الجالسين في المجلس، قال زهير بن أبي سلمى:
وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجوههم 0087_opt.jpeg
وأندية ينتابها القولُ والفعلُ
وإذا مارجعنا إلى العصر العباسي، سنجد كلمة «مقامة» استعملت في المعنى الأدبي، ووردت بمعنى الحديث الأدبي المكتوب، وللدلالة على الحديث الذي يلقي في المجلس، وبهذا المعنى استخدمها بديع الزمان الهمذاني في المقامة الوعظية، إذ رأى عيسى بن هاشم شخصًا يلقي حديثًا في المجلس فقال لبعض الجالسين: من هذا؟ فقال الرجل: - غريب قد طرأ لا أعرف شخصه، فأصبر عليه إلى آخر مقامته، واستعمل هذا اللفظ في حديث السائلين الذي يُلقى في جماعة في شكل قصصي يهتم بالإسلوب، ويتخذ راوية وبطلًا، ويرىالبعض أن القصة الحديثة نشأت متأثرة بـ المقامة، وهو رأي وجيه، فكثير من المقامات تنطوي على عنصر قصصي أو مسرحي، ولا نستطيع أن نطبق هذا جميع المقامات، ولكن: من هو الحريري؟
هو: أبو محمد القاسم بن علي محمد بن عثمان الحريري البصري الحرامي، ولد سنة 446 هـ بضاحية من ضواحي البصرة تسمى المشان وعاش فيها طفلًا، فلما كبر وشب تحول عنها إلى البصرة ونزل بحي بني حرام، لذا سمي بـ الحرامي.. أما كلمة الحريري، فنسبة إلى عمله، أي أنه يصنع الحرير ويبيعه، عكف الحريري على العلم والأدب، وتزوج وأنجب ثلاثة أولاد وكان يتردد على بغداد في ضيافة الخليفة المستظهر، وفي ضيافة الوزراء الذين أعجبوا به ونال عندهم حضوة كبيرة، كان الحريري متمسكًا بدينه، وكان مع علمه وفصاحته قذرًا في نفسه وصورته ولست وهيأته،وكان قصيرًا دميمًا بخيلًا بدأ كتابة مقاماته في سنة 495، وأتمها في سنة 504، وقد كتب خمسين مقامة واتخذ له رواية وبطلًا، أما الرواية أبوزيد السروجي، فقد اختلف مؤرخو الأدب في حقيقته، فرأى بعضهم أنه شخصية خيالية من اختراعه، ورأى البعض أنه شخصية واقعية، ونسب بعضهم إلى الحريري قوله: «أبوزيد السروجي نسبة إلى السروج، كان شيخًا شحاذًا بليغًا، ومكنيًا فصيحًا (متسولًا عن طريق الأدب)، ومعنى هذا أن إبا زيد شخصية حقيقية رآها الحريري، وقال بعضهم إنه كن بصريًا نحويًا صحب الحريري ورؤى عنه الواسطي كتاب «ملحمة الإعراب» الحريري، وتذكر الروايات أن الحريري صنع أول مقامة سماها ««المقامة الحرامية» ثم ذهب إلى بغداد وعرضها على الكبار فأعجبوا بها وشجعوه على أن يضم إليها غيرها، فكتب أربعين مقامة، وحسده البعض عليها وأنكروا أنها من عمله وتحدوه أن يصنع مقامة مثلها فعجز عن ذلك، وعاد إلى البصرة، وأتمها خمسين.. وحينئذ اعترفوا بفضله وعرفوا أنها من صنعه.
ونالت المقامات شهرة واسعة وتداولها الناس وأشاد بها الحكام والأدباء، ويقول ابن خلكان: «واشتملت المقامات على شيء كثير من كلام العرب من لغاتها وأمثالها ورموز أسرارها، ومن عرفها حق معرفتها استدل بها على فضل هذا الرجل وكثرة إطلاعه وغزارة مادته« وكان فخورًا بمقاماته معبجًا بها.. ونجده يكشف عن اعتقاده بتفوقه على بديع الزمان الهمذاني، حيث يقول على لسان بطله:
إن يكن الإسكندري قبلي
فالطل قد يبدو أمام الوبل
والفضل للوابل لا للطل
والاسكندري هو بطل مقامات بديع الزمان، وأبوزيد بطل مقامات الحريري، فهو يرى أن مقامات بديع الزمان كالطل الذي يسبق المطر، وأن مقامات الحريري كالمطر الغرير، فمقاماته أعظم وإن سبقتها مقامات الهمذاني.
وللحريري مؤلفات عدة، منها درة الغواص في أوهام الخواص، ملحة الأعراب، شرح الملحة، وله ديوان شعر، أما أشهر أعماله فهي المقامات.
ظروف نشأة المقامات
الحريري هو أول من صنع مقامته الأولى متأثرًا بشيخ من المكدين رآه في المسجد يسأل الناس ويزعم أن الروم أسروا ابنه، فعمل المقامة الحرامية واشتهرت في الناس، فلما طالعها الوزير أنو شروان أعجب بها وكلف أبا محمدالحريري أن يزيد عليها غيرها وكان أنو شروان كريمًا، وقد مدحه الحريري وأورد شعرًا في مدح أنو شروان.. وهكذا يضتح أن الحريري أنشأ المقامة الحرامية، ثم شجعه بعض الرؤساء على أن يضم إلى هذه المقامة غيرها ففعل.
ولا خلافه في أن الحريري كتب خمسين مقامة، ويبدو أنه قصد بهذا العدد أن يضاهي مقامات بديع الزمان- فقد حفظ لنا من مقامات بديع الزمان خمسون مقامة- غير أنه لم يراع ترتيبًا بين مقاماته.
أما الحريري فقد راعى نوعًا من الترتيب في أولى مقاماته في آخرها، ولم يضع مقامته «الحرامية» في صدر مقاماته، مع أنها أول مقامة أنشأها، وإنما جلعها المقامة الثامنة والأربعين بين مقاماته، والحقيقة أنه لا قيمة لوضعها في هذا الموضوع، فنحن لا نلحظ ترتيبًا بين مقاماته من الثانية إلى الثامنة والأربعين، وإنما نرى الترتيب وحسن التخطيط في صدر مقاماته وفي آخرها، وقد بدأ بالمقامة الصنعائية، لأنه يروي أن صنعاء أول بلدة صنعت بعد الطوفان، وفي المقامة الأولى نرى الحارث بن همام (راوي المقامات) يخرج إلى صنعاء اليمن ويدخل ناديًا رحبًا، فيرى شخصًا يعظ الناس ويملك إعجابهم ويحصل على هباتهم ثم ينصرف ويتبعه الحارث بن همام، ويدخل الرجل مغارة فيتبعه الحارث فيراه مجالسًا تلميذًا له يحتسيان الخمر، ويلومه الحارث لمخالفة ظاهره لباطنه، ويسأل تلميذه: من هذا الرجل؟ فيقول التلميذ: هذا أبوزيد السروجي، وأن هذا أول تعرف له به، وهذا مناسب لبداية المقامات، وتتوالى المقامات حتى الثامنة والأربعين لا رابطة بينها ولا ترتيب كما يقول الدكتور أحمدأمين مصطفى في كتابه «الحريري صاحب المقامات» ثم يحسن الحريري خاتمة مقاماته، حيث نرى شيخًا ضعيفًا يحضر ابنه وينبهه إلى قرب ارتحال أبيه، وأن ابنه ولي عهده، ويغض من قيمة المعايش الأربعة: الإمارة، التجارة، الزراعة، والصناعة.. ويشيد بحرفة ساسان، ويعني بها الكدية، ويرد الإبن مؤيدًا أباه ويدعو له بطول البقاء ويعده بالاقتداء به... وهذه المقامة مناسبة في وضعها بين المقامات، وهي تمهيد لنهاية أبي زيد السروجي.
«المقامة الخمسون»
ثم تأتي المقامة الخمسون، وفيها يقصد الحارث بن همام مسجد البصرة فيرى فيه شخصًا ذا أطمار بالية فيقصد تجاهه، فإذا هو أبوزيد السروجي، ويشيد السروجي بأهل البصرة، ويعلن الندم والتوبة، وأنه لا يبغى أعطيتهم وإنما يبغي أدعيتهم، وتدعو الجماعة له وتقدم له الهبات، وينصرف السروجي ويتبعه الحارث بن همام، ويختليان، ويؤكد السروجي الندم والتوبة ثم يودعه وينطلق، ويتتبع الحارث أخباره ويخبره الركبان أن أبا زيد لبس الصوف وصار عابدًا وأظهر الكرامات، ويرسل إليه الحارث بن همام ويحضره وهو ينشد شعرًا روحيًا، ويصلي الحارث خلف أبي زيد ويطلب وصيته فيوصيه ويودعه وداع فراق، وهكذا أجاد الحريري في بداية المقامات ومهد للخاتمة، ثم خاتمة مناسبة، وأما بديع الزمان فلم يرسم لمقاماته بداية ولا خاتمة.
العقدة والحل
في كثير من مقامات الحريري تبرز العقدة المثيرة للتطلع ومعرفة النهاية، وغالبًا ما يأتي الحل نابعًا من نفسية البطل وما عرف عنه من صفات واخلاق، وفي بعض المقامات حكاية تثير الانتباه وتبعث التطلع ولكن النهاية تأتي ساذجة لا تشبع التطلع، وفي المقامة الصورية يخرج الحارث بن همام ويلقي فتية يصفهم بأنهم كمصابيح الليل ويسأل عن وجهتهم فيعرف أنهم متوجهون لحضور حفل عرس ويصحبهم إلى دار رفيعة البناء ويرون هناك شخصًا على قطيفة فوق دكة لطيفة، ويبرز أبوزيد ليلقي خطبة الزواج، وهنا أحداث مشوقة، ويأتي الحريري بأوصاف تزيد التطلع، كوصفه الفتيان بأنهم كمصابيح الليل ووصف الدار والشخص الجالس على القطيفة ولكن الحكاية تنتهي بالخطبة التي يلقيها أبوزيد ثم ينصرف، وقد تتعدد الأحداث وتتوالى في ترابط وإثارة كما في المقامة الوبرية، وغالبًا ما يأتي الحل نابعًا من نفسية البطل وما عرف عنه من صفات وأخلاق كما نرى في المقامة الواسطية، وتتعدد الحلول التي تعتمد على ذكاء البطل وخداعه كما في المقامة الرحبية، وقد يأتي الحل معتمدًا على سذاجة العوام كما في المقامة الحجرية، ويأتي فجائيًا كما في المقاملة البكرية، أو قدريًا لا بد لأبي زيد فيه كما في المقامة العمانية، وفي المقامة الزبيدية اعتمد الحل على القانون الشرعي.
ملامح مسرحية
والمدهش أن بعض مقامات الحريري تصلح أن تكون مسرحية فكاهية من فصل واحد، وتحوي الحوار الشائق، وفيها العقدة، وإن كانت ساذجة- منها الحل النابع من الحدث.
المقامة البرقعيدية: يتظاهر فيها أبوزيد بالعمي، ويعطي من مخلاته رقاعًا مكتوبة لألوان الأصباع لامرأته العجوز.. وفيها أشعار مؤثرة.
المقامة الإسكندرية: عن امرأة تزوجها رجل محتال باع أساس بيتها بزعم أن صناعته كسدت، واستطاع أن يقنع القاضي بفقره ونجح في أن يفرض له القاضي صدقات!
المقامة المعرية: وفيها يدخل أبوزيد إلى قاضي معرة النعمان ومعه غلام وسيم، ويدعّى الشيخ أن الغلام اغتصب مملوكة له كان قد طلب استخدامها فأخدمه إياها بلا عوض، ولكنه اغتصبها، ويفيض في وصف المملوكة التي اتضح أنها إبرة استعارها الغلام واستعملها فكسرها!
المقامة الزبيدية: وهي تصلح أن تكون مسرحية من فصلين، ففي سوق العبيد يعرض أبوزيد غلامًا للبيع ويفيض في مدحه، ويعلن العبد أنه يوسف، ويشتري الحارث الغلام، ويقبض أبوزيد الثمن وينصرف ثم يعلن الغلام أنه حر ويتنازعان ويذهبان إلى القاضي، ويعلن الغلام أنه أنذر الرجل وقال له: «أنا حر كيوسف \»، ويحكم القاضي بحرية الغلام.
المقامة الحجرية: ويظهر أبوزيد حجامًا، ويحضر فتى يريد الحجامة، ولكنه مفلس ويطلب إمهاله حتى اليسر، ويرفض الحجام، ويشكو الغلام للناس، ويذم الحجام فيعطفون عليه ويقدمون له المال، ثم يتضح أن الغلام ابنه.