ثمار الأوراق



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ثمار الأوراق

ثمار الأوراق

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ثمار الأوراق

منتدى تعليمي يهتم باللغة العربية علومها وآدابها.


    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:50 am

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه
    من إملاء الإمامِ يَحْيَى بْن زِيَادٍ الفَرَّاء
    (ت: 207هـ)

    (بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
    [به الإعانة بدءا وختما، وصلّى اللّه على سيّدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم.
    حدّثنا أبو منصور نصر مولى أحمد بن رسته، قال: حدّثنا أبو الفضل يعقوب بن يوسف بن معقل النّيسابوريّ، سنه إحدى وسبعين ومائتين، قال: سمعت أبا عبد اللّه محمد بن الجهم بن هارون السّمّريّ، سنة ثمان وستين ومائتين، قال]:
    الحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه وبارك وسلّم على محمد خاتم النبيين، وعلى آله، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. وإياه نسأل التوفيق والصواب، وحسن الثواب، والعصمة من الخطايا والزّلل، في القول والعمل. قال:
    هذا كتاب فيه معاني القرآن، أملاه علينا أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء - يرحمه اللّه - عن حفظه من غير نسخة، في مجالسه أوّل النهار من أيام الثّلاثاوات والجمع في شهر رمضان، وما بعده من سنة اثنتين، وفي شهور سنة ثلاث، وشهور من سنة أربع ومائتين. قال:
    حدّثنا محمد بن الجهم، قال: حدّثنا الفرّاء، قال:
    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه
    قال: فأوّل ذلك اجتماع القرّاء وكتّاب المصاحف على حذف الألف من «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم»، [وفي فواتح الكتب، وإثباتهم الألف
    [معاني القرآن: 1/1]
    في قوله]: {فسبّح باسم ربّك العظيم} [وإنما حذفوها من «بسم اللّه الرحمن الرحيم» أول السور والكتب ] لأنها وقعت في موضع معروف لا يجهل القارئ معناه، ولا يحتاج إلى قراءته، فاستخفّ طرحها لأن من شأن العرب الإيجاز وتقليل الكثير إذا عرف معناه. وأثبتت في قوله: {فسبّح باسم ربّك} لأنها لا تلزم هذا الاسم، ولا تكثر معه ككثرتها مع اللّه تبارك وتعالى. ألا ترى أنك تقول: «بسم اللّه» عند ابتداء كلّ فعل تأخذ فيه: من مأكل أو مشرب أو ذبيحة. فخفّ عليهم الحذف لمعرفتهم به.
    وقد رأيت بعض الكتّاب تدعوه معرفته بهذا الموضع إلى أن يحذف الألف والسين من «اسم» لمعرفته بذلك، ولعلمه بأن القارئ لا يحتاج إلى علم ذلك. فلا تحذفنّ ألف «اسم» إذا أضفته إلى غير اللّه تبارك وتعالى، ولا تحذفنّها مع غير الباء من الصفات وإن كانت تلك الصفة حرفا واحدا، مثل اللام والكاف. فتقول: لاسم اللّه حلاوة في القلوب، وليس اسم كاسم اللّه فتثبت الألف في اللام وفي الكاف لأنهما لم يستعملا كما استعملت الباء في اسم اللّه. ومما كثر في كلام العرب فحذفوا منه أكثر من ذا قولهم: أيش عندك فحذفوا إعراب «أيّ» وإحدى ياءيه، وحذفت الهمزة من «شيء»، وكسرت الشين وكانت مفتوحة في كثير من الكلام لا أحصيه.
    فإن قال قائل: إنما حذفنا الألف من «بسم اللّه» لأن الباء لا يسكت عليها، فيجوز ابتداء الاسم بعدها. قيل له: فقد كتبت العرب في المصاحف واضرب لهم مثلًا بالألف والواو لا يسكت عليها في كثير من أشباهه. فهذا يبطل ما ادّعى.
    [معاني القرآن: 1/2]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:50 am

    أم الكتاب
    قوله تعالى: {الحمد للّه...}
    اجتمع القرّاء على رفع الحمد. وأمّا أهل البدو فمنهم من يقول: "الحمد للّه". ومنهم من يقول: "الحمد للّه ". ومنهم من يقول: "الحمد للّه" فيرفع الدال واللام.
    فأما من نصب فإنه يقول: "الحمد" ليس باسم إنما هو مصدر؛ يجوز لقائله أن يقول: أحمد اللّه، فإذا صلح مكان المصدر (فعل أو يفعل) جاز فيه النصب؛ من ذلك قول اللّه تبارك وتعالى: {فإذا لقيتم الّذين كفروا فضرب الرّقاب} يصلح مكانها في مثله من الكلام أن يقول: فاضربوا الرقاب. ومن ذلك قوله: {معاذ اللّه أن نّأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده}؛ يصلح أن تقول في مثله من الكلام: نعوذ باللّه. ومنه قول العرب: سقيناً لك، ورعياً لك؛ يجوز مكانه: سقاك الله، ورعاك الله.
    وأما من خفض الدال من "الحمد" فإنه قال: هذه كلمة كثرت على ألسن العرب حتى صارت كالاسم الواحد؛ فثقل عليهم أن يجتمع في اسم واحد من كلامهم ضمّةٌ بعدها كسرة، أو كسرةٌ بعدها ضمّة، ووجدوا الكسرتين قد تجتمعان في الاسم الواحد مثل إبل؛ فكسروا الدال ليكون على المثال من أسمائهم.
    [معاني القرآن: 1/3]
    وأمّا الذين رفعوا الّلام فإنهم أرادوا المثال الأكثر من أسماء العرب الذي يجتمع فيه الضمتان؛ مثل: الحلم والعقب.
    ولا تنكرنّ أن يجعل الكلمتان كالواحدة إذا كثر بهما الكلام. ومن ذلك قول العرب: "بأبا" إنما هو "بأبي" الياء من المتكلم ليست من الأب؛ فلما كثر بهما الكلام توهّموا أنهما حرف واحد فصيّروها ألفا ليكون على مثال: حبلى وسكرى؛ وما أشبهه من كلام العرب. أنشدني أبو ثروان:
    قال الجواري ما ذهبت مذهبا * وعبنني ولم أكن معيّبا
    هل أنت إلا ذاهبٌ لتلعبا * أريت إن أعطيت نهداً كعثبا
    أذاك أم نعطيك هيدًا هيدبا * أبرد في الظّلماء من مسّ الصّبا
    فقلت: لا، بل ذا كما يا بيبا * أجدر ألاّ تفضحا وتحربا
    "هل أنت إلاّ ذاهبٌ لتلعبا" ذهب بـ"ـهل" إلى معنى "ما".
    [معاني القرآن: 1/4]
    (عليهم) و(عليهم) وهما لغتان؛ لكل لغة مذهبٌ في العربية.
    فأما من رفع الهاء فإنه يقول: أصلها رفعٌ في نصبها وخفضها ورفعها؛ فأما الرفع فقولهم: "هم قالوا ذاك"، في الابتداء؛ ألا ترى أنها مرفوعة لا يجوز فتحها ولا كسرها. والنصب في قولك: "ضربهم" مرفوعة لا يجوز فتحها ولا كسرها؛ فتركت في "عليهم" على جهتها الأولى .
    وأما من قال: "عليهم" فإنه استثقل الضمّة في الهاء وقبلها ياء ساكنة، فقال: "عليهم" لكثرة دور المكنيّ في الكلام. وكذلك يفعلون بها إذا اتصلت بحرف مكسور مثل"بهم" و"بهم"، يجوز فيه الوجهان مع الكسرة والياء الساكنة. ولا تبال أن تكون الياء مفتوحا ما قبلها أو مكسورا؛ فإذا انفتح ما قبل الياء فصارت ألفاً في اللفظ لم يجز في "هم" إلا الرفع؛ مثل قوله تبارك وتعالى: {وردّوا إلى اللّه مولاهم الحقّ} ولا يجوز: "مولاهم الحقّ"، وقوله: {فبهداهم اقتده} لا يجوز "فبهداهم اقتده" .
    ومثله مما قالوا فيه بالوجهين إذا وليته ياء ساكنة أو كسرة، قوله: {وإنّه في أمّ الكتاب} و{حتّى يبعث في أمّها رسولاً} يجوز رفع الألف من "أمّ" و"أمها"وكسرها في الحرفين جميعا لمكان الياء. والكسرة مثل قوله تّبارك وتعالى: {فلأمّه السّدس}، وقول من روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أوصى امرأً بأمّه". فمن رفع قال: الرفع هو الأصل في الأمّ
    [معاني القرآن: 1/5]
    والأمّهات. ومن كسر قال: هي كثيرة المجرى في الكلام؛ فاستثقل ضمةً قبلها ياء ساكنة أو كسرة. وإنما يجوز كسر ألف "أمّ" إذا وليها كسرة أو ياء؛ فإذا انفتح ما قبلها فقلت: فلان عند أمّه، لم يجز أن تقول: عند إمّه، وكذلك إذا كان ما قبلها حرفا مضموما لم يجز كسرها؛ فتقول: اتّبعت أمّه، ولا يجوز الكسر.
    وكذلك إذا كان ما قبلها حرفا مجزوما لم يكن في الأمّ إلا ضم الألف؛ كقولك: من أمّه، وعن أمّه. ألا ترى أنك تقول: عنهم ومنهم (واضربهم). ولا تقول: عنهم ولا منهم، ولا اضربهم. فكل موضع حسن فيه كسر الهاء مثل قولهم: فيهم وأشباهها، جاز فيه كسر الألف من "أمّ" وهي قياسها. ولا يجوز أن تقول: كتب إلى إمّه ولا على إمّه؛ لأن الذي قبلها ألف في اللفظ وإنما هي ياء في الكتاب: "إلى" و"على". وكذلك: قد طالت يدا أمه بالخير. ولا يجوز أن تقول: يدا إمّه. فإن قلت: جلس بين يدي أمّه؛ جاز كسرها وضمها لأن الذي قبلها ياء. ومن ذلك أن تقول: هم ضاربو أمّهاتهم؛ برفع الألف لا يكون غيره. وتقول: ما هم بضاربي أمّهاتهم وإمّهاتهم؛ يجوز الوجهان جميعا لمكان الياء. ولا تبال أن يكون ما قبل ألف "أمّ" موصولا بها أو منقطعا منها؛ والوجهان يجوزان فيه؛ تقول: هذه أمّ زيد وإمّ زيد. وإذا ابتدأتها لم تكن إلا مرفوعة، كم كانت "هم" لا تكون إلا مرفوعة في الابتداء، فأما "هم" فلا تكسر إلا مع حرف يتصل بها لا يفرق بينه وبينها مثل" بهم".
    [معاني القرآن: 1/6]
    وقوله تعالى: {غير المغضوب عليهم...}
    بخفض "غير" لأنها نعت للذين، لا للهاء والميم من "عليهم". وإنما جاز أن تكون "غير" نعتاً لمعرفة؛ لأنها قد أضيفت إلى اسم فيه ألف ولام، وليس بمصمودٍ له ولا الأوّل أيضا بمصمود له، وهي في الكلام بمنزلة قولك: لا أمرّ إلا بالصادق غير الكاذب؛ كأنك تريد بمن يصدق ولا يكذب. ولا يجوز أن تقول: مررت بعبد الله غير الظريف إلا على التكرير؛ لأن عبد الله موقّت، و"غير" في مذهب نكرةٍ غير موقتة، ولا تكون نعتا إلا لمعرفة غير موقتة. والنصب جائز في "غير" تجعله قطعا من "عليهم". وقد يجوز أن تجعل "الذين" قبلها في موضع توقيت، وتخفض "غير" على التكرير: "صراط غير المغضوب عليهم".
    [معاني القرآن: 1/7]
    وأما قوله تعالى: {ولا الضّالّين...}
    فإن معنى "غير" معنى "لا" فلذلك ردّت عليها "ولا". هذا كما تقول: فلان غير محسن ولا مجمل؛ فإذا كانت "غير" بمعنى سوى لم يجز أن تكرّ عليها "لا"؛ ألا ترى أنه لا يجوز: عندي سوى عبد الله ولا زيد.
    وقد قال بعض من لا يعرف العربية: إن معنى "غير" في "الحمد" معنى "سوى"، وإن "لا" صلة في الكلام، واحتجّ بقول الشاعر:
    * في بئر لاحورٍ سرى وما شعر *
    وهذا [غير] جائز؛ لأن المعنى وقع على ما لا يتبين فيه عمله، فهو جحد محض. وإنما يجوز أن تجعل "لا" صلة إذا اتصلت بجحد قبلها؛ مثل قوله:
    ما كان يرضى رسول الله دينهم * والطيّبان أبو بكر ولا عمر
    فجعل"لا" صلة لمكان الجحد الذي في أوّل الكلام؛ هذا التفسير أوضح؛ أراد في بئر لا حور، "لا" الصحيحة في الجحد؛ لأنه أراد في: بئر ماء لا يحير عليه شيئاً؛ كأنك قلت: إلى غير رشد توجه وما درى. والعرب تقول: طحنت الطاحنة فما أحارت شيئا؛ أي لم يتبين لها أثر عمل.
    [معاني القرآن: 1/8]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:51 am

    [تفسير سورة البقرة]

    [من الآية 1 إلى الآية 25]
    ومن سورة (البقرة)
    قوله تعالى: {الم... ذلك الكتاب...}
    الهجاء موقوف في كل القران، وليس بجزم يسمّى جزماً، إنما هو كلام جزمه نّية الوقوف على كل حرف منه؛ فافعل ذلك بجميع الهجاء فيما قلّ أو كثر. وإنما قرأت القرّاء "آلم الله" في "آل عمران" ففتحوا الميم؛ لأن الميم كانت مجزومة لنيّة ّ الوقفة عليها، وإذا كان الحرف ينوى به الوقوف نوى بما بعده الاستئناف، فكانت القراءة "ا ل م الله " فتركت العرب همزة الألف من "الله" فصارت فتحتها في الميم لسكونها، ولو كانت الميم جزما مستحقّا للجزم لكسرت، كما في " قيل ادخل الجنة". وقد قرأها رجل من النحويين، - وهو أبو جعفر الرؤاسيّ وكان رجلا صالحا - {الم الله} بقطع الألف، والقراءة بطرح الهمزة. قال الفراء: وبلغني عن عاصم أنه قرأ بقطع الألف .
    [معاني القرآن: 1/9]
    وإذا كان الهجاء أوّل سورة فكان حرفاً واحداً؛ مثل قوله "ص" و"ن" و"ق" كان فيه وجهان في العربية؛ إن نويت به الهجاء تركته جزماً وكتبته حرفاً واحداً، وإن جعلته اسماً للسورة أو في مذهب قسم كتبته على هجائه "نون" و"صاد" و"وقاف" وكسرت الدال من صاد، والفاء من قاف، ونصبت النون الآخرة من "نون" فقلت: "نون والقلم" و"صاد والقرآن" و"قاف" لأنه قد صار كأنه أداة؛ كما قالوا رجلان، فخفضوا النون من رجلان لأن قبلها ألفاً، ونصبوا النون في "المسلمون والمسلمين" لأن قبلها ياء وواوا. وكذلك فآفعل بـ "ياسين والقرآن" فتنصب النون من "ياسين" وتجزمها . وكذلك "حم" و"طس" ولا يجوز ذلك فيما زاد على هذه الأحرف مثل "طا سين ميم" لأنها لا تشبه الأسماء، و"طس" تشبه قابيل. ولا يجوز ذلك في شيء من القرآن مثل "الم" و"المر" ونحوهما.
    وقوله تعالى: {ذلك الكتاب...}
    يصلح فيه (ذلك) من جهتين، وتصلح فيه "هذا" من جهة؛ فأما أحد الوجهين من "ذلك" فعلى معنى: هذه الحروف يا أحمد، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك. والآخر أن يكون "ذلك" على معنى يصلح فيه "هذا"؛ لأن قوله "هذا" و"ذلك" يصلحان في كل كلام إذا ذكر ثم أتبعته بأحدهما بالإخبار عنه. ألا ترى أنك تقول: قد قدم فلان؛ فيقول السامع: قد بلغنا ذلك، وقد بلغنا ذلك الخبر، فصلحت فيه "هذا"؛ لأنه قد قرب من جوابه، فصار كالحاضر الذي تشير إليه، وصلحت فيه "ذلك" لانقضائه، والمنقضي كالغائب. ولو كان شيئا قائما يرى لم يجز مكان "ذلك" "هذا"،
    [معاني القرآن: 1/10]
    ولا مكان "هذا" "ذلك" وقد قال الله جل وعز: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق} إلى قوله: {وكلّ من الأخيار} ثم قال: {هذا ذكرٌ}.
    وقال جلّ وعزّ في موضع آخر: {وعندهم قاصرات الطّرف أترابٌ} ثم قال: {هذا ما توعدون ليوم الحساب}. وقال جلّ ذكره: {وجاءت سكرة الموت بالحقّ} ثم قال: {ذلك ما كنت منه تحيد}. ولو قيل في مثله من الكلام في موضع "ذلك": "هذا" أو في موضع "هذا": "ذلك" لكان صوابا. وفي قراءة عبد الله بن مسعود "هذا فذوقوه" وفي قراءتنا" ذلكم فذوقوه".
    فأما مالا يجوز فيه "هذا" في موضع "ذلك" ولا "ذلك" في موضع "هذا" فلو رأيت رجلين تنكر أحدهما لقلت للذي تعرف: من هذا الذي معك؟ ولا يجوز هاهنا: من ذلك؟ لأنك تراه بعينه.
    وأما قوله تعالى: {هدىً لّلمتّقين...}
    فإنه رفع من وجهين ونصب من وجهين؛ إذا أردت بـ "الكتاب" أن يكون نعتًا لـ "ذلك" كان الهدى في موضع رفع لأنه خبر لـ "ذلك"؛ كأنك قلت: ذلك هدًى لا شكّ فيه. وإن جعلت {لا ريب فيه} خبره رفعت أيضا {هدىً} تجعله تابعا لموضع "لا ريب فيه"؛ كما قال الله عزّ وجلّ: {وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ} كأنه قال: وهذا كتاب، وهذا مبارك، وهذا من صفته كذا وكذا. وفيه وجه ثالث من الرفع: إن شئت رفعته على الاستئناف لتمام ما قبله، كما قرأت القرّاء "الم. تلك آيات الكتاب الحكيم. هدًى ورحمةٌ للمحسنين" بالرفع
    [معاني القرآن: 1/11]
    والنصب. وكقوله في حرف عبد الله: {أألد وأنا عجوزٌ وهذا بعلي شيخٌ} وهي في قراءتنا "شيخاً".
    فأما النصب في أحد الوجهين فأن تجعل "الكتاب" خبرا لـ "ذلك" فتنصب "هدًى" على القطع؛ لأن "هدًى" نكرة اتصلت بمعرفة. قد تمّ خبرها فنصبتها؛ لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة. وإن شئت نصبت "هدىً" على القطع من الهاء التي في "فيه"؛ كأنك قلت: لا شك فيه هاديا.
    واعلم أن "هذا" إذا كان بعده اسم فيه الألف واللام جرى على ثلاثة معان: أحدها - أن ترى الاسم الذي بعد "هذا" كما ترى "هذا" ففعله حينئذ مرفوع؛ كقولك: هذا الحمار فارهٌ. جعلت الحمار نعتاً لهذا إذا كانا حاضرين، ولا يجوز ها هنا النصب. والوجه الآخر - أن يكون ما بعد "هذا" واحدا يؤدّى عن جميع جنسه، فالفعل حينئذ منصوب؛ كقولك: ما كان من السباع غير مخوف فهذا الأسد مخوفا؛ ألا ترى أنك تخبر عن الأسد كلّها بالخوف. والمعنى الثالث - أن يكون ما بعد "هذا" واحدا لا نظير له؛ فالفعل حينئذ أيضا منصوب. وإنما نصبت الفعل لأن "هذا" ليست بصفة للأسد إنما دخلت تقريبا، وكان الخبر بطرح "هذا" أجود؛ ألا ترى أنك لو قلت: ما لا يضرّ من السباع فالأسد ضارّ، كان أبين. وأما معنى التقريب: فهذا أوّل ما أخبركم عنه، فلم يجدوا بدّا من أن
    [معاني القرآن: 1/12]
    يرفعوا هذا "بالأسد"، وخبره منتظر، فلما شغل الأسد بمرافعة "هذا" نصب فعله الذي كان يرافعه لخلوته. ومثله "والله غفور رحيم" فإذا أدخلت عليه "كان" ارتفع بها والخبر منتظر يتم به الكلام فنصبته لخلوته.
    وأما نصبهم فعل الواحد الذي لا نظير له مثل قولك: هذه الشمس ضياءً للعباد، وهذا القمر نوراً؛ فإن القمر واحد لا نظير له، فكان أيضا عن قولك "هذا" مستغنيا؛ ألا ترى أنك إذا قلت: طلع القمر، لم يذهب الوهم إلى غائب فتحتاج أن تقول "هذا" لحضوره، فارتفع بهذا ولم يكن نعتا، ونصبت خبره للحاجة إليه.
    قوله تعالى: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ...}
    انقطع معنى الختم عند قوله: {وعلى سمعهم}. ورفعت "الغشاوة" بـ "على"، ولو نصبتها بإضمار "وجعل" لكان صوابا. وزعم المفضّل أن عاصم بن أبى النّجود كان ينصبها، على مثل قوله في الجاثية: {أفرأيت من اتّخذ إلهه هواه وأضلّه اللّه على علمٍ وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً} ومعناهما واحد؛ والله أعلم. وإنما يحسن الإضمار في الكلام الذي يجتمع ويدلّ أوّله على آخره؛ كقولك: قد أصاب فلان المال، فبنى الدور والعبيد والإماء واللباس الحسن؛ فقد ترى البناء لا يقع على العبيد والإماء ولا على الدوابّ ولا على الثياب، ولكنه من صفات اليسار؛
    [معاني القرآن: 1/13]
    فحسن الإضمار لمّا عرف. ومثله في سورة الواقعة: {يطوف عليهم ولدانٌ مخلّدون. بأكوابٍ وأباريق وكأسٍ من معينٍ} ثم قال: {وفاكهةٍ ممّا يتخيّرون. ولحم طيرٍ ممّا يشتهون. وحورٍ عينٍ} فخفض بعض القراء، ورفع بعضهم الحور العين. قال الذين رفعوا: الحور العين لا يطاف بهنّ؛ فرفعوا على معنى قولهم: وعندهم حورٌ عينٌ، أو مع ذلك حور عينٌ؛ فقيل: الفاكهة واللحم لا يطاف بهما إنما يطاف بالخمر وحدها - والله أعلم - ثم أتبع آخر الكلام أوّله. وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم، وأنشدني بعض بني أسد يصف فرسه:
    علفتها تبناً وماءً بارداً * حتى شتت همّالةً عيناها
    والكتاب أعرب وأقوى في الحجة من الشعر. وأمّا ما لا يحسن فيه الضمير لقلّة اجتمّاعه، فقولك: قد أعتقت مباركا أمس وآخر اليوم يا هذا؛ وأنت تريد: واشتريت آخر اليوم؛ لأن هذا مختلف لا يعرف أنك أردت ابتعت. ولا يجوز أن تقول: ضربت فلانا وفلانا؛ وأنت تريد بالآخر: وقتلت فلانا؛ لأنه ليس هاهنا دليل. ففي هذين الوجهين ما تعرف به ما ورد عليك إن شاء الله.
    وقوله: {فما ربحت تّجارتهم...}
    ربما قال القائل: كيف تربح التجارة وإنما يربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب: ربح بيعك وخسر بيعك، فحسن القول بذلك؛ لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة، فعلم معناه. ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم. ومثله من كتاب الله: {فإذا عزم الأمر} وإنما العزيمة للرجال، ولا يجوز الضمير
    [معاني القرآن: 1/14]
    إلا في مثل هذا. فلو قال قائل: قد خسر عبدك؛ لم يجز ذلك، (إن كنت) تريد أن تجعل العبد تجارةً يربح فيه أو يوضع؛ لأنه قد يكون العبد تاجرا فيربح أو يوضع، فلا يعلم معناه إذا ربح هو من معناه إذا كان متجوراً فيه. فلو قال قائل: قد ربحت دراهمك ودنانيرك، وخسر بزّك ورقيقك؛ كان جائزا لدلالة بعضه على بعض.
    وقوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً...}
    فإنما ضرب المثل - والله أعلم - للفعل لا لأعيان الرجال، وإنما هو مثل للنفاق؛ فقال: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا؛ ولم يقل: الذين استوقدوا. وهو كما قال الله: {تدور أعينهم كالّذي يغشى عليه من الموت}. وقوله: {ما خلقكم ولا بعثكم إلاّ كنفسٍ واحدةٍ} فالمعنى - والله أعلم -: إلا كبعث نفس واحدة؛ ولو كان التشبيه للرجال لكان مجموعا كما قال: {كأنّهم خشبٌ مسنّدةٌ} أراد القيم والأجسام، وقال: {كأنّهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ} فكان مجموعا إذا أراد تشبيه أعيان الرجال؛ فأجر الكلام على هذا. وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحّدا في شعر فأجزه. وإن جاءك التشبيه للواحد مجموعا في شعر فهو أيضا يراد به الفعل فأجزه؛ كقولك: ما فعلك إلا كفعل الحمير، وما أفعالكم إلا كفعل الذّئب؛ فابن على هذا، ثم تلقي الفعل فتقول: ما فعلك إلا كالحمير وكالذّئب.
    وإنما قال الله عزّ وجلّ: {ذهب اللّه بنورهم} لأن المعنى ذهب إلى المنافقين فجمع لذلك. ولو وحّد لكان صوابا؛ كقوله: {إنّ شجرة الزّقّوم. طعام الأثيم.
    [معاني القرآن: 1/15]
    كالمهل تغلي في البطون} و"يغلي"؛ فمن أنّث ذهب إلى الشجرة، ومن ذكّر ذهب إلى المهل. ومثله قوله عز وجل: {أمنةً نعاساً تغشى طائفةً منكم} للأمنة، "ويغشى" للنعاس.
    وقوله: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون...}
    رفعن وأسماؤهن في أوّل الكلام منصوبة؛ لأن الكلام تمّ وانقضت به آية، ثمّ استؤنفت {صمٌّ بكمٌ عميٌ} في آية أخرى، فكان أقوى للاستئناف، ولو تمّ الكلام ولم تكن آية لجاز أيضا الاستئناف؛ قال الله تبارك تعالى: {جزاءً من ربّك عطاءً حساباً. ربّ السّموات والأرض وما بينهما الرّحمن} "الرحمن" يرفع ويخفض في الإعراب، وليس الذي قبله بآخر آية. فأما ما جاء في رءوس الآيات مستأنفا فكثير؛ من ذلك قول الله: {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} إلى قوله: {وذلك هو الفوز العظيم}. ثم قال جل وجهه: {التّائبون العابدون الحامدون} بالرفع في قراءتنا، وفي حرف ابن مسعود "التائبين العابدين الحامدين". وقال: {أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين.الله ربّكم} يقرأ بالرفع والنصب على ما فسّرت لك. وفي قراءة عبد الله: "صمّاً بكماً عمياً" بالنصب. ونصبه على جهتين؛ إن شئت على معنى: تركهم صمّاً بكما عميا، وإن شئت اكتفيت بأن توقع الترك عليهم في الظلمات، ثم تستأنف "صمّاً" بالذمّ لهم. والعرب تنصب بالذمّ وبالمدح؛ لأن فيه مع الأسماء مثل معنى قولهم: ويلاً له، وثواباً له، وبعداً وسقياً ورعياً.
    [معاني القرآن: 1/16]
    وقوله: {أو كصيّبٍ مّن السّماء...}
    مردود على قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً}.
    {أو كصيّبٍ}: أو كمثل صيّب، فاستغنى بذكر {الّذي استوقد ناراً} فطرح ما كان ينبغي أن يكون مع الصيّب من الأسماء، ودلّ عليه المعنى؛ لأن المثل ضرب للنفاق، فقال: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌٌ} فشبّه الظلمات بكفرهم، والبرق إذا أضاء لهم فمشوا فيه بإيمانهم، والرعد ما أتى في القرآن من التخويف. وقد قيل فيه وجه آخر؛ قيل: إن الرعد إنما ذكر مثلا لخوفهم من القتال إذا دعوا إليه. ألا ترى أنه قد قال في موضع آخر: {يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم} أي يظنّون أنهم أبداً مغلوبون.
    ثم قال: {يجعلون أصابعهم في آذانهم مّن الصّواعق حذر الموت} فنصب "حذر" على غير وقوعٍ من الفعل عليه؛ لم ترد يجعلونها حذرا، إنما هو كقولك: أعطيتك خوفاً وفرقاً. فأنت لا تعطيه الخوف، وإنما تعطيه من أجل الخوف؛ فنصبه على التفسير ليس بالفعل، كقوله جل وعز: {يدعوننا رغباً ورهباً}. وكقوله: {ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً} والمعرفة والنكرة تفسّران في هذا الموضع، وليس نصبه على طرح "من". وهو مما قد يستدل به المبتدئ للتعليم.
    وقوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم...}
    والقّراء تقرأ "يخطّف أبصارهم" بنصب الياء والخاء والتشديد. وبعضهم ينصب الياء ويخفض الخاء ويشدد الطاء فيقول: "يخطّف" وبعضهم يكسر
    [معاني القرآن: 1/17]
    الياء والخاء ويشدّد فيقول: "يخطّف". وبعضٌ من قرّاء أهل المدينة يسكّن الخاء والطاء فيجمع بين ساكنين فيقول: "يخطّف". فأما من قال: "يخطّف" فإنه نقل إعراب التاء المدغمة إلى الخاء إذ كانت منجزمة. وأما من كسر الخاء فإنه طلب كسرة الألف التي في اختطف والاختطاف؛ وقد قال فيه بعض النحويين: إنما كسرت الخاء لأنها سكنت وأسكنت التاء بعدها فالتقى ساكنان فخفضت الأوّل؛ كما قال: اضرب الرجل؛ فخفضت الباء لاستقبالها اللام. وليس الذي قالوا بشيء؛ لأن ذلك لو كان كما قالوا لقالت العرب في يمدّ: يمدّ؛ لأن الميم (كانت) ساكنة وسكنت الأولى من الدالين. ولقالوا في يعضّ: يعضّ. وأما من خفض الياء والخاء فإنه أيضا من طلبه كسرة الألف؛ لأنها كانت في ابتداء الحرف مكسورة. وأما من جمع بين الساكنين فإنه كمن بنى على التبيان؛ إلا أنه إدغام خفيّ. وفي قوله: {أم مّن لا يهدّي إلاّ أن يهدى} وفي قوله: {تأخذهم وهم يخصّمون} مثل ذلك التفسير * إلا أن حمزة الزيات قد قرأ: "تأخذهم وهم يخصمون" بتسكين الخاء، فهذا معنى سوى ذلك *
    وقوله: {كلّما أضاء لهم مّشوا فيه...}
    فيه لغتان: يقال: أضاء القمر، وضاء القمر؛ فمن قال ضاء القمر قال: يضوء ضوءا. والضّوء فيه لغتان: ضم الضاد وفتحها.
    {وإذا أظلم عليهم} فيه لغتان: أظلم الليل وظلم.
    [معاني القرآن: 1/18]
    وقوله: {ولو شاء اللّه لذهب...} المعنى - والله أعلم -: ولو شاء الله لأذهب سمعهم. ومن شأن العرب أن تقول: أذهبت بصره؛ بالألف إذا أسقطوا الباء. فإذا أظهروا الباء أسقطوا الألف من "أذهبت". وقد قرأ بعض القرّاء: "يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار" بضمّ الياء والباء في الكلام. وقرأ بعضهم: "وشجرةً تخرج من طور سيناء تنبت بالدّهن". فترى - والله أعلم - أن الذين ضمّوا على معنى الألف شبّهوا دخول الباء وخروجها من هذين الحرفين بقولهم: خذ بالخطام، وخذ الخطام، وتعلّقت بزيدٍ، وتعلّقت زيدا. فهو كثير في الكلام والشعر، ولست أستحبّ ذلك لقلّته، ومنه قوله: {آتنا غداءنا} المعنى - والله أعلم - ايتنا بغدائنا؛ فلما أسقطت الباء زادوا ألفا في فعلت، ومنه قوله عزّ وجلّ: {قال آتوني أفرغ عليه قطراً} المعنى - فيما جاء- ايتونى بقطر أفرغ عليه، ومنه قوله: {فأجاءها المخاض إلى جذع النّخلة} المعنى - والله أعلم - فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة.
    وقوله: {فأتوا بسورةٍ مّن مّثله...}
    الهاء كناية عن القرآن؛ فأتوا بسورة من مثل القرآن. {وادعوا شهداءكم} يريد آلهتكم. يقول: استغيثوا بهم؛ وهو كقولك للرجل: إذا لقيت العدوّ خاليا فادع المسلمين. ومعناه: فاستغث واستعن بالمسلمين.
    [معاني القرآن: 1/19]
    وقوله: {النّار الّتي وقودها النّاس والحجارة...}
    الناس وقودها والحجارة وقودها. وزعموا أنه كبربت يحمى، وأنه أشدّ الحجارة حرّا إذا أحميت. ثم قال: {أعدّت للكافرين} يعني النار.
    وقوله: {وأتوا به متشابهاً} اشتبه عليهم، فيما ذكر في لونه، فإذا ذاقوه عرفوا أنه غير الذي كان قبله). [معاني القرآن: 1/20]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:52 am

    وقوله: {إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً مّا بعوضةً فما فوقها...}
    فإن قال قائل: أين الكلام الذي هذا جوابه، فإنا لا نراه في سورة البقرة؟ فذكر لنا أن اليهود لما قال الله: {مثل الّذين اتّخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً} قال أعداء الله: وما هذا من الأمثال؟ وقالوا مثل ذلك عند إنزاله: {يا أيّها النّاس ضرب مثلٌ فاستمعوا له إنّ الّذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذباباً} - إلى قوله - {ضعف الطّالب والمطلوب} لذكر الذباب والعنكبوت؛ فأنزل الله: {إنّ اللّه لا يستحى أن يضرب مثلاً مّا بعوضةً فما فوقها}. فالذي "فوقها" يريد أكبر منها، وهو العنكبوت والذباب. ولو جعلت في مثله من الكلام "فما فوقها" تريد أصغر منها لجاز ذلك. ولست أستحسنه؛ لأن البعوضة كأنها غاية في الصغر، فأحبّ إليّ أن أجعل "ما فوقها" أكبر
    [معاني القرآن: 1/20]
    منها. ألا ترى أنك تقول: يعطى من الزكاة الخمسون فما دونها. والدرهم فما فوقه؛ فيضيق الكلام أن تقول: فوقه؛ فيهما.أو دونه؛ فيهما. وأما موضع حسنها في الكلام فأن يقول القائل: إن فلانا لشريف، فيقول السامع: وفوق ذاك؛ يريد المدح. أو يقول: إنه لبخيل، فيقول الآخر: وفوق ذاك، يريد بكليهما معنى أكبر. فإذا عرفت أنت الرجل فقلت: دون ذلك؛ فكأنّك تحطّه عن غاية الشّرف أو غاية البخل. ألا ترى أنك إذا قلت: إنه لبخيلٌ وفوق ذاك، تريد فوق البخل، وفوق ذاك، وفوق الشّرف. وإذا قلت: دون ذاك، فأنت رجلٌ عرفته فأنزلته قليلا عن درجته. فلا تقولنّ: وفوق ذاك، إلا في مدح أو ذمّ.
    قال القرّاء: وأما نصبهم "بعوضة" فيكون من ثلاثة أوجه: أوّلها: أن توقع الضّرب على البعوضة، وتجعل "ما" صلةً؛ كقوله: {عمّا قليلٍ ليصبحنّ نادمين} [يريد عن قليل] المعنى - والله أعلم - إن الله لا يستحي أن يضرب بعوضة فما فوقها مثلاً.
    والوجه الآخر: أن تجعل "ما" اسما، والبعوضة صلةً فتعرّبها بتعريب "ما". وذلك جائز في "من" و"ما" لأنهما يكونان معرفة في حال ونكرة في حال؛ كما قال حسّان بن ثابت:
    فكفى بنا فضلاً على من غيرنا * حبّ النّبيء محمّدٍ إيّانا
    [معاني القرآن: 1/21]
    [قال الفرّاء: ويروى: * ...على من غيرنا *] والرفع في "بعوضة" ها هنا جائز، لأن الصلة ترفع، واسمها منصوب ومخفوض.
    وأما الوجه الثالث - وهو أحبها إليّ - فأن تجعل المعنى على: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها. والعرب إذا ألقت "بين" من كلام تصلح "إلى" في آخره نصبوا الحرفين المخفوضين اللذين خفض أحدهما بـ "بين" والآخر بـ "إلى". فيقولون: مطرنا ما زبالة فالثّعلبية، وله عشرون ما ناقةً فجملاً، وهي أحسن الناس ما قرناً فقدماً. يراد به ما بين قرنها إلى قدمها. ويجوز أن تجعل القرن والقدم معرفة، فتقول: هي حسنةٌ ما قرنها فقدمها. فإذا لم تصلح "إلى" في آخر الكلام لم يجز سقوط "بين"؛ من ذلك أن تقول: دارى ما بين الكوفة والمدينة. فلا يجوز أن تقول: دارى ما الكوفة فالمدينة؛ لأن "إلى" إنما تصلح إذا كان ما بين المدينة والكوفة كلّه من دارك، كما كان المطر آخذا ما بين زبالة إلى الثّعلبية. ولا تصلح الفاء مكان الواو فيما لا تصلح فيه "إلى"؛ كقولك: دار فلان بين الحيرة فالكوفة؛ محالٌ. وجلست بين عبد الله فزيدٍ؛ محالٌ، إلا أن يكون مقعدك آخذاً للفضاء الذي بينهما. وإنما امتنعت الفاء من الذي لا تصلح فيه "إلى"؛ لأن الفعل فيه لا يأتي فيتّصل، "وإلى"
    [معاني القرآن: 1/22]
    تحتاج إلى اسمين يكون الفعل بينهما كطرفة عينٍ، وإن قصر قدر الذي بينهما مما يوجد، فصلحت الفاء في "إلى" لأنك تقول: أخذ المطر أوّله فكذا وكذا إلى آخره. فلمّا كان الفعل كثيرا شيئا بعد شيء في المعنى كان فيه تأويلٌ من الجزاء. ومثله أنهم قالوا: إن تأتني فأنت محسنٌ. ومحال أن تقول: إن تأتني وأنت محسن؛ فرضوا بالفاء جوابا في الجزاء ولم تصلح الواو.
    قال الكسائيّ: سمعت أعرابيّا ورأى الهلال فقال: الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك. يريد ما بين إهلالك إلى سرارك؛ فجعلوا النصب الذي كان يكون في "بين" فيما بعده إذا سقطت؛ ليعلم أنّ معنى "بين" مرادٌ. وحكى الكسائيّ عن بعض العرب: الشّنق: ما خمسا إلى خمس وعشرين. يريد ما بين خمس إلى خمس وعشرين. والشّنق: ما لم تجب فيه الفريضة من الإبل. والأوقاص في البقر.
    وقوله: {ماذا أراد اللّه بهذا مثلاً يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً...}
    كأنه قال - والله أعلم - ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد يضل به هذا ويهدى به هذا. قال الله: {وما يضلّ به إلاّ الفاسقين}.
    وقوله: {كيف تكفرون باللّه
    [معاني القرآن: 1/23]
    وكنتم أمواتاً...}
    على وجه التعجّب والتوبيخ؛ لا على الاستفهام المحض؛ [أي] ويحكم كيف تكفرون! وهو كقوله: {فأين تذهبون}. وقوله: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتاً}. المعنى - والله أعلم - وقد كنتم، ولولا إضمار "قد" لم يجز مثله في الكلام. ألا ترى أنه قد قال في سورة يوسف: {إن كان قميصه قدّ من دبرٍ فكذبت}. المعنى - والله أعلم - فقد كذبت. وقولك للرجل: أصبحت كثر مالك، لا يجوز إلاّ وأنت تريد: قد كثر مالك؛ لأنهما جميعا قد كانا، فالثاني حال للأوّل، والحال لا تكون إلا بإضمار "قد" أو بإظهارها؛ ومثله في كتاب الله: "أو جاءوكم حصرت صدورهم" يريد - والله أعلم - [جاءوكم قد حصرت صدورهم]. وقد قرأ بعض القرّاء - وهو الحسن البصري - "حصرةً صدورهم". كأنه لم يعرف الوجه في أصبح عبد الله قام أو أقبل أخذ شاة، كأنّه يريد فقد أخذ شاة. وإذا كان الأوّل لم يمض لم يجز الثاني بقد، ولا بغير قد، مثل قولك: كاد قام، ولا أراد قام؛ لانّ الإرادة شيء يكون ولا يكون الفعل، ولذلك كان محالا قولك: عسى قام؛ لأن عسى وإن كان لفظها على فعل فإنها لمستقبل، فلا يجوز عسى قد قام؛ ولا عسى قام، ولا كاد قد قام؛ ولا كاد قام؛ لأن ما بعدهما لا يكون
    [معاني القرآن: 1/24]
    ماضيا؛ فإن جئت بيكون مع عسى وكاد صلح ذلك فقلت: عسى أن يكون قد ذهب، كما قال الله: {قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون}.
    وقوله: {وكنتم أمواتاً فأحياكم} يعني نطفا، وكل ما فارق الجسد من شعر أو نطفة فهو ميتة؛ والله أعلم. يقول: فأحياكم من النّطف، ثم يميتكم بعد الحياة، ثم يحييكم للبعث.
    وقوله: {ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ ...}
    الاستواء في كلام العرب على جهتين: إحداهما أن يستوي الرجل [و] ينتهي شبابه، أو يستوي عن اعوجاج، فهذان وجهان، ووجه ثالث أن تقول: كان مقبلا على فلان ثم استوى عليّ يشاتمني وإليّ سواءٌ، على معنى أقبل إلي وعليّ؛ فهذا معنى قوله: {ثمّ استوى إلى السّماء} والله أعلم. وقال ابن عباس: ثم استوى إلى السماء: صعد، وهذا كقولك للرجل: كان قائما فاستوى قاعدا، وكان قاعدا فاستوى قائما. وكلٌّ في كلام العرب جائزٌ.
    فأما قوله: {ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ} فإن السماء في معنى جمع، فقال "فسوّاهنّ" للمعنى المعروف أنهنّ سبع سموات. وكذلك الأرض يقع عليها - وهي واحدةٌ- الجمع. ويقع عليهما التوحيد وهما مجموعتان، قال الله عز وجل: {ربّ السّموات والأرض}. ثم قال: {وما بينهما} ولم يقل بينهن، فهذا دليل على ما (قلت لك).
    [معاني القرآن: 1/25]
    وقوله: {وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة...}
    فكان {عرضهم} على مذهب شخوص العالمين وسائر العالم، ولو قصد قصد الأسماء بلا شخوص جاز فيه "عرضهنّ" و"عرضها". وهي في حرف عبد الله "ثم عرضهنّ" وفي حرف أبيّ "ثم عرضها"، فإذا قلت "عرضها" جاز أن تكون للأسماء دون الشخوص وللشخوص دون الأسماء.
    وقوله: {يا ءادم أنبئهم بأسمائهم...}
    إن همزت قلت {أنبئهم} ولم يجز كسر الهاء والميم؛ لأنها همزة وليست بياء فتصير مثل "عليهم". وإن ألقيت الهمزة فأثبت الياء أو لم تثبتها جاز رفع "هم" وكسرها على ما وصفت لك في "عليهم" و"عليهم".
    وقوله: {ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا...}
    إن شئت جعلت {فتكونا} جوابا نصبا، وإن شئت عطفته على أوّل الكلام فكان جزما؛ مثل قول امرئ القيس:
    فقلت له صوّب ولا تجهدنّه * فيذرك من أخرى القطاة فتزلق
    [معاني القرآن: 1/26]
    فجزم. ومعنى الجزم كأنّه تكرير النهى، كقول القائل: لا تذهب ولا تعرض لأحد. ومعنى الجواب والنّصب لا تفعل هذا فيفعل بك مجازاةً، فلمّا عطف حرف على غير ما يشاكله وكان في أوّله حادثٌ لا يصلح في الثاني نصب. ومثله قوله: {ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم غضبي} و{لا تفتروا على اللّه كذباً فيسحتكم بعذابٍ} و{لا تميلوا كلّ الميل فتذروها كالمعلّقة}. وما كان من نفى ففيه ما في هذا، ولا يجوز الرفع في واحد من الوجهين إلا أن تريد الاستئناف؛ بخلاف المعنيين؛ كقولك للرجل: لا تركب إلى فلان فيركب إليك؛ تريد لا تركب إليه فإنه سيركب إليك، فهذا مخالف للمعنيين لأنه استئناف، وقد قال الشاعر:
    ألم تسأل الّربع القديم فينطق * وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق
    أرد: ألم تسأل الربع فإنه يخبرك عن أهله، ثم رجع إلى نفسه فأكذبها، كما قال زهير بن أبى سلمى المزنيّ:
    قف بالدّيار التي لم يعفها القدم * بلى وغيّرها الأرواح والدّيم
    فأكذب نفسه. وأمّا قوله: {ولا تطرد الّذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي} فإنّ جوابه قوله: {فتكون من الظّالمين} والفاء التي في قوله: "فتطردهم"
    [معاني القرآن: 1/27]
    جواب لقوله: "ما عليك من حسابهم من شيء" ففي قوله: "فتكون من الظّالمين" الجزم والنصب على ما فسّرت لك، وليس في قوله: "فتطردهم" إلا النصب، لأنّ الفاء فيها مردودة على محلٍّ وهو قوله: "ما عليك من حسابهم" و"عليك" لا تشا كل الفعل، فإذا كان ما قبل الفاء اسما لا فعل فيه، أو محلاّ مثل قوله: "عندك وعليك وخلفك"، أو كان فعلا ماضيا مثل: " قام وقعد" لم يكن في الجواب بالفاء إلا النصب. وجاز في قوله:
    * فيذرك من أخرى القطاة فتزلق *
    لان الذي قبل الفاء يفعل والذي بعدها يفعل، وهذا مشاكل بعضه لبعض؛ لأنه فعل مستقبل فيصلح أن يقع على آخره ما يقع على أوّله، وعلى أوّله ما يقع على آخره؛ لأنه فعل مستقبل.
    وقوله: {فتلقّى آدم من رّبّه كلماتٍ...}
    فـ {آدم} مرفوع والكلمات في موضع نصب. وقد قرأ بعض القرّاء: "فتلقّى آدم من ربّه كلماتٌ" فجعل الفعل للكلمات، والمعنى - والله أعلم - واحد؛ لأن ما لقيك فقد لقينه، وما نالك فقد نلته. وفي قراءتنا: "لا ينال عهدي الظّالمين" وفي حرف عبد الله: "لا ينال عهدي الظّالمون".
    {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإيّاي فارهبون}
    وقوله: {اذكروا نعمتي [الّتي أنعمت عليكم]...}
    المعنى لا تنسوا نعمتي، لتكن منكم على ذكر، وكذلك كل ما جاء من ذكر النعمة فإن معناه - والله أعلم - على هذا: فاحفظوا ولا تنسوا. وفي حرف عبد الله:
    [معاني القرآن: 1/28]
    "ادّكروا". وفي موضع آخر: "وتذكّروا ما فيه". ومثله في الكلام أن تقول: "اذكر مكاني من أبيك".
    وأمّا نصب الياء من "نعمتي" فإن كل ياء كانت من المتكلم ففيها لغتان: الإرسال والسّكون، والفتح، فإذا لقيتها ألفٌ ولام، اختارت العرب اللغة التي حرّكت فيها الياء وكرهوا الأخرى؛ لان اللاّم ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها، فاستقبحوا أن يقولوا: نعمتي التي، فتكون كأنها مخفوضة على غير إضافة، فأخذوا بأوثق الوجهين وأبينهما. وقد يجوز إسكانها عند الألف واللام؛ وقد قال الله: {يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم} فقرئت بإرسال الياء ونصبها، وكذلك ما كان في القرآن مما فيه ياء ثابتة ففيه الوجهان، وما لم تكن فيه الياء لم تنصب. وأمّا قوله: {فبشّر عباد. الّذين يستمعون القول}. فإن هذه بغير ياء، فلا تنصب ياؤها وهي محذوفة؛ وعلى هذا يقاس كل ما في القرآن منه. وقوله: {فما آتاني اللّه خيرٌ ممّا آتاكم} زعم الكسائيّ أن العرب تستحبّ نصب الياء عند كل ألف مهموزة سوى الألف واللام، مثل قوله: {إن أجري إلاّ على اللّه} و{إنّي أخاف اللّه}. ولم أر ذلك عند العرب؛ رأيتهم يرسلون الياء فيقولون: عندي أبوك، ولا يقولون: عندي أبوك بتحريك الياء إلا أن يتركوا الهمز فيجعلوا الفتحة في الياء في هذا ومثله. وأما قولهم: لي ألفان، وبي أخواك كفيلان،
    [معاني القرآن: 1/29]
    فإنهم ينصبون في هذين لقلتهما، [فيقولون: لي أخواك، ولي ألفان، لقلتهما] والقياس فيهما وفيما قبلهما واحد.
    وقوله: {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً...}
    وكل ما كان في القرآن من هذا قد نصب فيه الثّمن وأدخلت الباء في المبيع أو المشترى، فإن ذلك أكثر ما يأتي في الشيئين لا يكونان ثمناً معلوما مثل الدنانير والدراهم؛ فمن ذلك: اشتريت ثوبا بكساء؛ أيّهما شئت تجعله ثمناً لصاحبه؛ لأنه ليس من الأثمان، وما كان ليس من الأثمان مثل الرقيق والدّور وجميع العروض فهو على هذا. فإن جئت إلى الدراهم والدنانير وضعت الباء في الثّمن، كما قال في سورة يوسف: {وشروه بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودةٍ}؛ لأن الدراهم ثمنٌ أبدا، والباء إنما تدخل في الأثمان، فذلك قوله: {اشتروا بآيات اللّه ثمناً قليلاً}، {اشتروا الحياة الدّنيا بالآخرة}، {اشتروا الضلالة بالهدى} {والعذاب بالمغفرة}، فأدخل الباء في أي هذين شئت حتى تصير إلى الدنانير والدراهم فإنك تدخل الباء فيهن مع العروض، فإذا اشتريت أحدهما [يعني الدنانير والدراهم] بصاحبه أدخلت الباء على أيّهما شئت؛ لأن كل واحد منهما في هذا الموضع بيعٌ وثمنٌ، فإن أحببت أن تعرف فرق ما بين العروض وبين الدراهم، فإنك تعلم أن من اشترى عبدا بألف درهم معلومة، ثم وجد به عيبا فردّه لم يكن له على البائع أن يأخذ ألفه بعينه، ولكن ألفا. ولو اشترى عبدا بجارية ثم وجد به عيبا لم يرجع بجارية أخرى مثلها، فذلك دليل على أن العروض ليست بأثمان.
    [معاني القرآن: 1/30]
    وقوله: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حينٍ...}
    فإنه خاطب آدم وامرأته، ويقال أيضا: آدم وإبليس، وقال: "اهبطوا" يعنيه ويعني ذرّيته، فكأنه خاطبهم. وهو كقوله:{فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين}. المعنى - والله أعلم - أتينا بما فينا من الخلق طائعين. ومثله قول إبراهيم: "ربّنا واجعلنا مسلمين لك". ثم قال: {وأرنا مناسكناً} وفي قراءة عبد الله "وأرهم مناسكهم" فجمع قبل أن تكون ذرّيته. فهذا ومثله في الكلام مما تتبيّن به المعنى أن تقول للرجل: قد تزوّجت وولد لك فكثرتم وعززتم). [معاني القرآن: 1/31]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:52 am

    وقوله: {واتّقوا يوماً لاّ تجزي نفسٌ عن نّفسٍ شيئاً...}
    فإنه قد يعود على اليوم والليلة ذكرهما مرّة بالهاء وحدها ومرة بالصّفة فيجوز ذلك؛ كقولك: لا تجزى نفس عن نفس شيئا وتضمر الصفة، ثم
    [معاني القرآن: 1/31]
    تظهرها فتقول: لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا. وكان الكسائيّ لا يجيز إضمار الصفة في الصلات ويقول: لو أجزت إضمار الصفة ها هنا لأجزت: أنت الذي تكلمت وأنا أريد الذي تكلمت فيه. وقال غيره من أهل البصرة: لا نجيز الهاء ولا تكون، وإنما يضمر في مثل هذا الموضع الصفة. وقد أنشدني بعض العرب:
    يا ربّ يوم لو تنزّاه حول * ألفيتنى ذا عنزٍ وذا طول
    وأنشدني آخر:
    قد صبّحت صبّحها السّلام * بكبدٍ خالطها سنام
    * في ساعة يحبّها الطّعام *
    ولم يقل يحبّ فيها. وليس يدخل على الكسائيّ ما أدخل على نفسه؛ لأن الصفة في هذا الموضع والهاء متّفق معناهما، ألا ترى أنك تقول: آتيك يوم الخميس، وفي يوم الخميس، فترى المعنى واحدا، وإذا قلت: كلمتك كان غير كلّمت فيك، فلما اختلف المعنى لم يجز إضمار الهاء مكان "في" ولا إضمار " في " مكان الهاء.
    وقوله: {ولا تكونوا أوّل كافرٍ به...}
    فوحّد الكافر وقبله جمعٌ وذلك من كلام العرب فصيحٌ جيدٌ في الاسم إذا كان مشتقّاً من فعل، مثل الفاعل والمفعول؛ يراد به ولا تكونوا أوّل من يكفر فتحذف "من" ويقوم الفعل مقامها فيؤدّي الفعل عن مثل
    [معاني القرآن: 1/32]
    ما أدّت "من" عنه من التأنيث والجمع وهو في لفظ توحيدٍ. ولا يجوز في مثله من الكلام أن تقول: أنتم أفضل رجلٍ؛ ولا أنتما خير رجل؛ لأن الرجل يثنّى ويجمع ويفرد [فيعرف] واحده من جمعه، والقائم قد يكون لشيء ولمن فيؤدّى عنهما وهو موحّد؛ ألا ترى أنك قد تقول: الجيش مقبلٌ والجند منهزمٌ، فتوحّد الفعل لتوحيده، فإذا صرت إلى الأسماء قلت: الجيش رجالٌ والجند رجالٌ؛ ففي هذا تبيان؛ وقد قال الشاعر:
    وإذا هم طعموا فألأم طاعم * وإذا هم جاعوا فشرّ جياع
    فجمعه وتوحيده جائز حسنٌ.
    وقوله: {ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون...}
    إن شئت جعلت "وتكتموا" في موضع جزم؛ تريد به: ولا تلبسوا الحقّ بالباطل ولا تكتموا الحقّ، فتلقى "لا" لمجيئها في أوّل الكلام. وفي قراءة أبيّ: "ولا تكونوا أوّل كافرٍ به وتشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" فهذا دليلٌ على أنّ الجزم في قوله: {وتكتموا الحقّ} مستقيمٌ صوابٌ، ومثله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكّام} وكذلك قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تخونوا اللّه والرّسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} وإن شئت جعلت هذه الأحرف المعطوفة بالواو نصباً على ما يقول النحويّون من الصّرف؛ فإن قلت: وما الصّرف؟
    [معاني القرآن: 1/33]
    قلت: أن تأتى بالواو معطوفةً على كلامٍ في أوّله حادثةٌ لا تستقيم إعادتها على ما عطف عليها، فإذا كان كذلك فهو الصّرف؛ كقول الشاعر:
    لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله * عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
    ألا ترى أنه لا يجوز إعادة "لا" في "تأتى مثله" فلذلك سمّى صرفاً إذ كان معطوفاً ولم يستقم أن يعاد فيه الحادث الذي قبله. ومثله من الأسماء التي نصبتها العرب وهي معطوفة على مرفوع قولهم: لو تركت والأسد لأكلك، ولو خلّيت ورأيك لضللت. لمّا لم يحسن في الثاني أن تقول: لو تركت وترك رأيك لضللت؛ تهّببوا أن يعطفوا حرفاً لا يستقيم فيه ما حدث في الذي قبله. قال: فإنّ العرب تجيز الرّفع؛ لو ترك عبد الله والأسد لأكله، فهل يجوز في الأفاعيل التي نصبت بالواو على الصّرف أن تكون مردودة على ما قبلها وفيها معنى الصّرف؟ قلت: نعم؛ العرب تقول: لست لأبي إن لم أقتلك أو تذهب نفسي، ويقولون: والله لأضربنّك أو تسبقنّي في الأرض، فهذا مردودٌ على أوّل الكلام، ومعناه الصّرف؛ لأنهّ لا يجوز على الثاني إعادة الجزم بلم، ولا إعادة اليمين على والله لتسبقنّي، فتجد ذلك إذا امتحنت الكلام. والصّرف في غير "لا" كثير إلا أنا أخّرنا ذكره حتى تأتى مواضعه.
    [معاني القرآن: 1/34]
    وقوله: {وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها...}
    وقوله: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً} {وإذ فرقنا بكم البحر} يقول القائل: وأين جواب "إذ" وعلام عطفت؟ ومثلها في القرآن كثيرٌ بالواو ولا جواب معها ظاهرٌ؟ والمعنى - والله أعلم - على إضمار "واذكروا إذ أنتم" أو "إذ كنتم" فاجتزئ بقوله: "اذكروا" في أوّل الكلام، ثم جاءت "إذ" بالواو مردودةً على ذلك. ومثله من غير "إذ" قول الله: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً} وليس قبله شيء تراه ناصباً لصالح؛ فعلم بذكر النبي صلى الله عليه وسلم والمرسل إليه أنّ فيه إضمار أرسلنا، ومثله قوله: {ونوحاً إذ نادى من قبل} {وذا النّون إذ ذهب مغاضباً} {وإبراهيم إذ قال لقومه} يجرى هذا على مثل ما قال في "ص": {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق} ثم ذكر الأنبياء الذين من بعدهم بغير "واذكر" لأنّ معناهم متّفق معروفٌ، فجاز ذلك. ويستدل على أنّ "واذكروا" مضمرة مع "إذ" أنه قال: {واذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعفون في الأرض} {واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثّركم} فلو لم تكن ها هنا "واذكروا" لاستدللت على أنّها تراد؛ لأنّها قد ذكرت قبل ذلك. ولا يجوز مثل ذلك في الكلام بسقوط الواو إلاّ أن يكون معه جوابه متقدّما أو متأخّرا؛ كقولك: ذكرتك إذ احتجت إليك أو إذ احتجت ذكرتك.
    [معاني القرآن: 1/35]
    وقوله: {فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون...}
    يقال: قد كانوا في شغل من أن ينظروا، مستورين بما اكتنفهم من البحر أن يروا فرعون وغرقه، ولكنّه في الكلام كقولك: قد ضربت وأهلك ينظرون فما أتوك ولا أغاثوك؛ يقول: فهم قريبٌ بمرأىً ومسمع. ومثله في القرآن: {ألم تر إلى ربّك كيف مدّ الظّلّ}، وليس ها هنا رؤيةٌ إنمّا هو علمٌ، فرأيت يكون على مذهبين: رؤية العلم ورؤية العين؛ كما تقول: رأيت فرعون أعتى الخلق وأخبثه، ولم تره إنما هو بلغك؛ ففي هذا بيانٌ.
    وقوله: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً...}
    ثم قال في موضع آخر: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً وأتممناها بعشرٍ فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلةً}، فيقول القائل: كيف ذكر الثلاثين وأتمّها بالعشر والأربعون قد تكمل بعشرين وعشرين، أو خمسةٍ وعشرين وخمسة عشر؟ قيل: كان ذلك - والله أعلم - أنّ الثّلاثين كانت عدد شهر، فذكرت الثلاثون منفصلة لمكان الشّهر وأنّها ذو القعدة وأتممناها بعشر من ذي الحجة، كذلك قال المفسّرون. ولهذه القصّة خصّت العشر والثلاثون بالانفصال.
    وقوله: {وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلّكم تهتدون...}
    [معاني القرآن: 1/36]
    ففيه وجهان: أحدهما - أن يكون أراد {وإذ آتينا موسى الكتاب} يعني التوراة، ومحمدا صلى الله عليه وسلم {الفرقان}، {لعلّكم تهتدون}. وقوله: {وإذ آتينا موسى الكتاب} كأنّه خاطبهم فقال: قد آتيناكم علم موسى ومحمد عليهما السلام "لعلكم تهتدون"؛ لأن التوراة أنزلت جملةً ولم تنزل مفرّقة كما فرّق القرآن؛ فهذا وجه. والوجه الآخر - أن تجعل التوراة هدىً والفرقان كمثله، فيكون: ولقد آتينا موسى الهدى كما آتينا محمّدا صلى الله عليه وسلم الهدى. وكلّ ما جاءت به الأنبياء فهو هدىً ونورٌ. وإنّ العرب لتجمع بين الحرفين وإنّهما لواحدٌ إّذا اختلف لفظاهما؛ كما قال عدي بن زيد:
    وقدّمت الأديم لراهشيه * وألفى قولها كذباً ومينا
    وقولهم: بعداً وسحقاً، والبعد والسّحق واحدٌ، فهذا وجهٌ آخر. وقال بعض المفسّرين: الكتاب التّوراة، والفرقان انفراق البحر لبنى إسرائيل. وقال بعضهم: الفرقان الحلال والحرام الذي في التّوراة.
    وقوله: {المنّ والسّلوى...}
    بلغنا أن المنّ هذا الذي يسقط على الثّمام والعشر، وهو حلو كالعسل؛ وكان بعض المفسّرين يسمّيه الّترنجبين الذي نعرف. وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم
    [معاني القرآن: 1/37]
    قال: ((الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين)). وأما السّلوى فطائر كان يسقط عليهم لما أجموا المنّ شبيهٌ بهذه السّماني، ولا واحد للسّلوى.
    وقوله: {وقولوا حطّةٌ...}
    يقول - والله أعلم - قولوا: ما أمرتم به؛ أي هي حطة، فخالفوا إلى كلام بالنّبطية، فذلك قوله: {فبدّل الّذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم}.
    وبلغني أنّ ابن عباس قال: أمروا أن يقولوا: نستغفر الله؛ فإن يك كذلك فينبغي أن تكون "حطّة" منصوبة في القراءة؛ لأنك تقول: قلت لا إله إلا الله، فيقول القائل: قلت كلمةً صالحة، وإنما تكون الحكاية إذا صلح قبلها إضمار ما يرفع أو يخفض أو ينصب، فإذا ضممت ذلك كله فجعلته كلمة كان منصوبا بالقول كقولك: مررت بزيد، ثم تجعل هذه كلمةً فتقول: قلت كلاما حسنا * ثم تقول: قلت زيدٌ قائمٌ، فيقول: قلت كلاما. * وتقول: قد ضربت عمرا، فيقول أيضا: قلت كلمةً صالحة.
    فأما قول الله تبارك وتعالى: {سيقولون ثلاثةٌ رابعهم كلبهم} إلى آخر ما ذكر من العدد فهو رفعٌ لأن قبله ضمير أسمائهم؛ سيقولون: هم ثلاثة، إلى آخر الآية. وقوله: {ولا تقولوا ثلاثةٌ انتهوا خيراً لكم} رفع؛ أي قولوا: الله واحدٌ، ولا تقولوا
    [معاني القرآن: 1/38]
    الآلهة ثلاثةٌ. وقوله: {قالوا معذرةً إلى ربّكم} ففيها وجهان: إن أردت: ذلك الذي قلنا معذرةٌ إلى ربكم رفعت، وهو الوجه. وإن أردت: قلنا ما قلنا معذرةً إلى الله؛ فهذا وجه نصب. وأما قوله: {ويقولون طاعةٌ فإذا برزوا} فإن العرب لا تقوله إلاّ رفعا؛ وذلك أنّ القوم يؤمرون بالأمر يكرهونه فيقول أحدهم: سمعٌ وطاعةٌ، أي قد دخلنا أوّل هذا الدّين على أن نسمع ونطيع فيقولون: علينا ما ابتدأناكم به، ثم يخرجون فيخالفون، كما قال عز وجل: {فإذا برزوا من عندك[بيّت طائفةٌ منهم غير الذي تقول]} [أي] فإذا خرجوا من عندك بدّلوا. ولو أردت في مثله من الكلام: أي نطيع، فتكون الطاعة جوابا للأمر بعينه جاز النصب، لأنّ كلّ مصدر وقع موقع فعل ويفعل جاز نصبه، كما قال الله تبارك وتعالى: {معاذ الله أن نأخذ} [معناه والله أعلم: نعوذ بالله أن نأخذ]. ومثله في النور: {قل لا تقسموا طاعّةٌ معروفةٌ} الرفع على ليكن منكم ما يقوله أهل السّمع والطاعة. وأما قوله في النحل: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطير الأوّلين} * فهذا قول أهل الجحد؛ لأنهم قالوا لم ينزل شيئا، إنما هذا أساطير الأوّلين * وأما الذين آمنوا فإنهم أقرّوا فقالوا: أنزل ربّنا خيراً، ولو رفع خيرٌ على: الذي أنزله خيرٌ لكان صوابا، فيكون بمنزلة قوله: {يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} و{قل العفو} النّصب على الفعل: ينفقون
    [معاني القرآن: 1/39]
    العفو، والرفع على: الذي ينفقون عفو الأموال. وقوله: {قالوا سلاماً قال سلامٌ} فأما السلام (فقولٌ يقال)، فنصب لوقوع الفعل عليه، كأنّك قلت: قلت كلاماً. وأما قوله: {قال سلامٌ} فإنه جاء فيه نحن"سلامٌ" وأنتم "قومٌ منكرون". وبعض المفسرين يقول: {قالوا سلاماً قال سلامٌ} يريد سلّموا عليه فردّ عليهم، فيقول القائل: ألا كان السّلام رفعاً كلّه أو نصباً كلّه؟ قلت: السّلام على معنيين: إذا أردت به الكلام نصبته، وإذا أضمرت معه "عليكم" رفعته.فإن شئت طرحت الإضمار من أحد الحرفين وأضمرته في أحدهما، وإن شئت رفعتهما معا، وإن شئت نصبتهما جميعا. والعرب تقول إذا التقوا فقالوا سلامٌ: سلامٌ، على معنى قالوا السلام عليكم فرّد عليهم الآخرون. والنصب يجوز في إحدى القراءتين "قالوا سلاماً قال سلاماً". وأنشدني بعض بني عقيل:
    فقلنا السّلام فاتّقت من أميرها * فما كان إلاّ ومؤها بالحواجب
    فرفع السّلام؛ لأنه أراد سلّمنا عليها فاتّقت أن تردّ علينا. ويجوز أن تنصب السلام على مثل قولك: قلنا الكلام، قلنا السلام، ومثله: قرأت "الحمد" وقرأت "الحمد" إذا قلت قرأت "الحمد" أوقعت عليه الفعل، وإذا رفعت جعلته حكاية على قرأت "الحمد لله"). [معاني القرآن: 1/40]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:52 am

    وقوله: {اضرب بّعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً...}
    معناه - والله أعلم - فضرب فانفجرت، فعرف بقوله: "فانفجرت" أنه قد ضرب، فاكتفى بالجواب؛ لأنه قد أدّى عن المعنى، فكذلك قوله: {أن اضرب
    [معاني القرآن: 1/40]
    بعصاك البحر فانفلق} ومثله (في الكلام) أن تقول: أنا الذي أمرتك بالتجارة فاكتسبت الأموال، فالمعنى فتجرت فاكتسبت.
    وأما قوله: {قد علم كلّ أناسٍ مّشربهم...}
    فإن القائل يقول: وما حاجة القوم إلى أن يعلموا مشاربهم ونحن نرى الأنهار قد أجريت لقوم بالمنّ من الله والتّفضل على عباده، ولم يقل: قد علم كل أناسٍ مشربهم، لغيرهم؟ وإنما كان ذلك - والله أعلم - لأنّه حجرٌ انفجرت منه اثنتا عشرة عينا على عدد الأسباط لكل سبطٍ عين، فإذا ارتحل القوم أو شربوا ما يكفيهم عاد الحجر كما كان وذهبت العيون، فإذا احتاجوا انفجرت العيون من تلك المواضع، فأتّى كل سبطٍ عينهم التي كانوا يشربون منها.
    وأما قوله: {وفومها وعدسها وبصلها...}
    فإن الفوم فيما ذكر لغةٌ قديمة (وهى) الحنطة والخبز جميعا قد ذكرا. قال بعضهم: سمعنا (العرب من) أهل هذه اللغة يقولون: فوّموا لنا بالتشديد لا غير، يريدون اختبزوا وهي في قراءة عبد الله "وثومها" بالثاء، فكأنّه أشبه المعنيين بالصّواب؛ لأنّه مع ما يشاكله: من العدس والبصل وشبهه. والعرب تبدل الفاء بالثّاء فيقولون: جدثٌ وجدفٌ، ووقعوا في عاثور شرٍّ وعافور شرٍّ، والأثاثيّ والأثافيّ. وسمعت كثيرا من بنى أسد يسمّي (المغافير المغاثير).
    [معاني القرآن: 1/41]
    وقوله: {أتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خيرٌ...}
    أي الذي هو أقرب، من الدّنوّ، ويقال من الدّناءة. والعرب تقول: إنه لدنيّ [ولا يهمزون] يدنّي في الأمور أي يتّبع خسيسها وأصاغرها. وقد كان زهير الفرقبى يهمز: "أتستبدلون الذي هو أدنأ بالّذي هو خيرٌ" ولم نر العرب تهمز أدنى إذا كان من الخسّة، وهم في ذلك يقولون إنه لدانئٌ خبيثٌ [إذا كان ماجنا] فيهمزون. وأنشدني بعض بنى كلاب:
    باسلة الوقع سرابيلها * بيضٌ إلى دانئها الظّاهر
    يعني الدروع على خاصتها - يعني الكتيبة - إلى الخسيس منها، فقال: دانئها يريد الخسيس. وقد كنا نسمع المشيخة يقولون: ما كنت دانئاً ولقد دنات، والعرب تترك الهمزة. ولا أراهم رووه إلاّ وقد سمعوه.
    وقوله: {اهبطوا مصراً...}
    كتبت بالألف، وأسماء البلدان لا تنصرف خفّت أو ثقلت، وأسماء النساء إذا خفّ منها شيءٌ جرى إذا كان على ثلاثة أحرفٍ وأوسطها ساكنٌ مثل دعدٍ وهند
    [معاني القرآن: 1/42]
    وجمل. وإنما انصرفت إذا سمّى بها النّساء؛ لأنها تردّد وتكثر بها التّس‍مية فتخف لكثرتها، وأسماء البلدان لا تكاد تعود. فإن شئت جعلت الألف التي في "مصرا" ألفا يوقف عليها، فإذا وصلت لم تنوّن، كما كتبوا "سلاسلاً" و"قواريراً" بالألف، وأكثر القراء على ترك الإجراء فيهما. وإن شئت جعلت "مصر" غير المصر التي تعرف، يريد اهبطوا مصراً من الأمصار، فإن الذي سألتم لا يكون إلا في القرى والأمصار. والوجه الأوّل أحبّ إليّ؛ لأنها في قراءة عبد الله "اهبطوا مصر" بغير ألف، وفي قراءة أبيّ: "اهبطوا فإنّ لكم ما سألتم واسكنوا مصر" وتصديق ذلك أنها في سورة يوسف بغير ألف: {ادخلوا مصر إن شاء اللّه آمنين}. وقال الأعمش وسئل عنها فقال: هي مصر التي عليها صالح بن عليّ.
    قوله: {خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ...}
    يقول: بجدٍّ وبتأدية ما افترض عليكم فيه.
    وقوله: {فجعلناها نكالاً لّما بين يديها وما خلفها وموعظةً لّلمتّقين...}
    يعني المسخة التي مسخوها جعلت نكالا لما مضى من الذنوب ولما يعمل بعدها: ليخافوا أن يعملوا بما عمل الذين مسخوا فيمسخوا.
    وقوله: {أتتّخذنا هزواً قال...}
    وهذا في القرآن كثيرٌ بغير الفاء، وذلك لأنه جوابٌ يستغنى أوّله عن آخره بالوقفة عليه، فيقال: ماذا قال لك؟ فيقول القائل: قال كذا وكذا؛ فكأنّ حسن
    [معاني القرآن: 1/43]
    الّسكوت يجوز به طرح الفاء. وأنت تراه في رءوس الآيات - لأنها فصولٌ- حسناً؛ من ذلك: {قال فما خطبكم أيّها المرسلون. قالوا إنّا أرسلنا} والفاء حسنة مثل قوله: {فقال الملأ الّذين كفروا} ولو كان على كلمة واحدة لم تسقط العرب منه الفاء. من ذلك: قمت ففعلت، لا يقولون: قمت فعلت، ولا قلت قال، حتى يقولوا: قلت فقال، وقمت فقام؛ لأنها نسقٌ وليست باستفهام يوقف عليه؛ ألا ترى أنه: "قال" فرعون "لمن حوله ألا تستمعون. قال رب‍ّكم وربّ آبائكم الأوّلين" فيما لا أحصيه. ومثله من غير الفعل كثيرٌ في كتاب الله بالواو وبغير الواو؛ فأما الذي بالواو فقوله: {قل أؤنبّئكم بخيرٍ من ذلكم للّذين اتّقوا عند ربّهم} ثم قال بعد ذلك: {الصّابرين والصّادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار}. وقال في موضع آخر: {التّائبون العابدون الحامدون} وقال في غير هذا: {إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} ثم قال في الآية بعدها: {إنّ الّذين آمنوا} ولم يقل: وإنّ. فاعرف بما جرى تفسير ما بقى، فإنّه لا يأتي إلا على الذي أنبأتك به من الفصول أو الكلام المكتفى يأتي له جوابٌ. وأنشدني بعض العرب:
    لمّا رأيت نبطاً أنصارا * شمّرت عن ركبتي الإزارا
    * كنت لها من النّصارى جارا *
    وقوله: {لاّ فارضٌ ولا بكرٌ عوانٌ بين ذلك...}
    والعوان ليست بنعتٍ للبكر؛ لأنها ليست بهرمة ولا شابّة؛ انقطع الكلام عند قوله: {ولا بكرٌ} ثم استأنف فقال: {عوانٌ بين ذلك} والعوان يقال منه
    [معاني القرآن: 1/44]
    قد عوّنت. والفارض: قد فرضت، وبعضهم: قد فرضت (وأما البكر فلم) نسمع فيها بفعل. والبكر يكسر أوّلها إذا كانت بكرا من النّساء. والبكر مفتوح أوّله من بكارة الإبل. ثم قال "بين ذلك" و"بين" لا تصلح إلاّ مع اسمين فما زاد، وإنمّا صلحت مع "ذلك" وحده؛ لأنّه في مذهب اثنين، والفعلان قد يجمعان بـ"ذلك" و"ذاك"؛ ألا ترى أنّك تقول: أظنّ زيدا أخاك، وكان زيدٌ أخاك، فلا بدّ لكان من شيئين، ولا بدّ لأظن من شيئين، ثم يجوز أن تقول: قد كان ذاك، وأظنّ ذلك. وإنما المعنى في الاسمين اللذين ضمّهما ذلك: بين الهرم والشّباب. ولو قال في الكلام: بين هاتين، أو بين تينك، يريد الفارض والبكر كان صوابا، ولو أعيد ذكرهما (لم يظهر إلا بتثنية)؛ لأنهما اسمان ليسا بفعلين، وأنت تقول في الأفعال فتوحّد فعلهما بعدها. فتقول: إقبالك وإدبارك يشقّ عليّ، ولا تقول: أخوك وأبوك يزورني. ومما يجوز أن يقع عليه "بين" وهو واحدٌ في اللّفظ مما يؤدّى عن الاثنين فما زاد قوله: {لا نفرّق بين أحدٍ منهم} ولا يجوز: لا نفرق بين رجل منهم؛ لأنّ أحدا لا يثنّى كما يثنى الرجل ويجمع، فإن شئت جعلت أحدا في تأويل اثنين، وإن شئت في تأويل أكثر؛ من ذلك قول الله عزّ وجلّ: {فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين} وتقول: بين أيّهم المال؟ وبين من قسم المال؟
    فتجرى "من" و"أيّ" مجرى أحد، لأنّهما قد يكونان لواحد ولجمع.
    [معاني القرآن: 1/45]
    وقوله: {ادع لنا ربّك يبيّن لّنا ما لونها...}
    * الّلون مرفوعٌ؛ لأنك لم ترد أن تجعل "ما" صلةً فتقول: بيّن لنا ما لونها * ولو قرأ به قارئٌ كان صوابا، ولكنه أراد - والله أعلم -: ادع لنا ربك يبيّن لنا أي شيء لونها، ولم يصلح للفعل الوقوع على أيّ؛ لأن أصل "أيّ" تفرّق جمع من الاستفهام، ويقول القائل: بين لنا أسوداء هي أم صفراء؟ فلما لم يصلح للتّبيّن أن يقع على الاستفهام في تفرّقه لم يقع على أيّ؛ لأنها جمع ذلك المتفرّق، وكذلك ما كان في القرآن مثله، فأعمل في "ما" "وأيّ" الفعل الذي بعدهما، ولا تعمل الذي قبلهما إذا كان مشتقّاً من العلم؛ كقولك: ما أعلم أيّهم قال ذاك، ولا أعلمنّ أيّهم قال ذاك، وما أدري أيّهم ضربت، فهو في العلم والإخبار والإنباء وما أشبهها على ما وصفت لك. منه قول الله تبارك وتعالى: {وما أدراك ماهيه} {وما أدراك ما يوم الدّين} "ما" الثانية رفعٌ، فرفعتها بيوم؛ كقولك: ما أدراك أي شيء يوم الدّين، وكذلك قول الله تبارك وتعالى: {لنعلم أي الحزبين أحصى} رفعته بأحصى، وتقول إذا كان الفعل واقعا على أيّ: ما أدرى أيّهم ضربت. وإنما امتنعت من أن توقع على أي
    [معاني القرآن: 1/46]
    الفعل الذي قبلها من العلم وأشباهه؛ لأنك تجد الفعل غير واقع على أي في المعنى؛ ألا ترى أنك إذا قلت: اذهب فاعلم أيّهما قام أنك تسأل غيرهما عن حالهما فتجد الفعل واقعا على الذي أعلمك، كما أنك تقول: سل أيّهم قام، والمعنى: سل الناس أيّهم قام. ولو أوقعت الفعل على "أيّ" فقلت: اسأل أيّهم
    قام لكنت كأنك تضمر أيّاً مرّة أخرى؛ لأنك تقول: سل زيدا أيّهم قام، فإذا أوقعت الفعل على زيد فقد جاءت "أيّ" بعده. فكذلك "أيّ" إذا أوقعت عليها الفعل خرجت من معنى الاستفهام، وذلك إن أردته، جائز، تقول: لأضربنّ أيّهم يقول ذاك؛ لأنّ الضرب لا يقع على [اسم ثم يأتي بعد ذلك استفهام، وذلك لأن الضرب لا يقع على] اثنين، وأنت تقول في المسألة: سل عبد الله عن كذا، كأنك قلت: سله عن كذا، ولا يجوز ضربت عبد الله كذا وكذا إلا أن تريد صفة الضرب، فأما الأسماء فلا. وقول الله: {ثمّ لننزعنّ من كلّ شيعةٍ أيّهم أشدّ على الرّحمن عتيّاً} من نصب أيّاً أوقع عليها النزع وليس باستفهام، كأنه قال: ثم لنستخرجن العاتي الذي هو أشد. وفيها وجهان من الرفع؛ أحدهما أن تجعل الفعل مكتفيا بمن في الوقوع عليها، كما تقول: قد قتلنا من كل قوم، وأصبنا من كل طعام، ثم تستأنف أيّاً فترفعها بالذي بعدها، كما قال جلّ وعزّ: {يبتغون إلى ربّهم الوسيلة
    [معاني القرآن: 1/47]
    أيّهم أقرب} أي ينظرون أيّهم أقرب. ومثله {يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم}. وأما الوجه، الآخر فإن في قوله تعالى: {ثم لننزعنّ من كلّ شيعةٍ} لننزعن من الذين تشايعوا على هذا، ينظرون بالتشايع أيهم أشدّ وأخبث، وأيهم أشدّ على الرحمن عتيّاً، والشيعة ويتشايعون سواء في المعنى. وفيه وجه ثالث من الرفع أن تجعل {ثمّ لننزعنّ من كلّ شيعةٍ} بالنداء؛ أي لننادين {أيّهم أشدّ على الرّحمن عتيّاً} وليس هذا الوجه يريدون. ومثله مما تعرفه به قوله: {أفلم ييأس الّذين آمنوا أن لو يشاء اللّه لهدى النّاس جميعاً} فقال بعض المفسرين {أفلم ييأس الّذين آمنوا}: ألم يعلم، والمعنى - والله أعلم - أفلم ييأسوا علما بأن الله لو شاء لهدى الناس جميعا. وكذلك "لننزعنّ" يقول يريد ننزعهم بالنداء.
    وقوله: {مسلّمةٌ لا شية فيها...}
    غير مهموز؛ يقول: ليس فيها لونٌ غير الصّفرة. وقال بعضهم: هي صفراء حتى ظلفها وقرنها أصفران.
    وقوله: {فقلنا اضربوه ببعضها...}
    يقال: إنه ضرب بالفخذ اليمنى، وبعضهم يقول: ضرب بالذّنب. ثم قال الله عزّ وجلّ: {كذلك يحيي اللّه الموتى} معناه والله أعلم {اضربوه ببعضها} فيحيا {كذلك يحيي اللّه الموتى} أي اعتبروا ولا تجحدوا بالبعث، وأضمر
    [معاني القرآن: 1/48]
    فيحيا، كما قال: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} والمعنى - والله أعلم - فضرب البحر فانفلق.
    وقوله: {وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار...}
    تذكير {منه} على وجهين؛ إن شئت ذهبت به - يعني "منه" - إلى أن البعض حجرٌ، وذلك مذكر، وإن شئت جعلت البعض جمعا في المعنى فذكّرته بتذكير بعض، كما تقول للنسوة: ضربني بعضكنّ، وإن شئت أنثته هاهنا بتأنيث المعنى كما قرأت القرّاء: "ومن يقنت منكنّ للّه" "ومن تقنت" بالياء والتاء، على المعنى، وهي في قراءة أبيّ: "وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منها الأنهار"). [معاني القرآن: 1/49]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:53 am

    وقوله: {لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ وإن هم...}
    فالأمانيّ على وجهين في المعنى، ووجهين في العربية؛ فأما في العربية فإنّ من العرب من يخفّف الياء فيقول: "إلاّ أماني وإن هم" ومنهم من يشدّد، وهو أجود الوجهين. وكذلك ما كان مثل أمنيّة، ومثل أضحيّة، وأغنيّة، ففي جمعه وجهان: التخفيف والتشديد. وإنما تشدّد لأنك تريد الأفاعيل، فتكون مشدّدة لاجتماع الياء من جمع الفعل والياء الأصلية. وأن خفّفت حذفت ياء الجمع فخففت الياء الأصلية، وهو كما يقال: القراقير والقراقر، (فمن قال الأماني بالتخفيف) فهو الذي يقول القراقر، ومن شدّد الأماني فهو الذي يقول القراقير. والأمنيّة في المعنى التلاوة، كقول الله عزّ وجلّ: {إلاّ إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته} أي في تلاوته، والأمانيّ أيضا أن يفتعل
    [معاني القرآن: 1/49]
    الرجل الأحاديث المفتعلة؛ قال بعض العرب لابن دأب وهو يحدّث الناس: أهذا شيء رويته أم شيء تمنّيته؟ يريد افتعلته، وكانت أحاديث يسمعونها من كبرائهم ليست من كتاب الله. وهذا أبين الوجهين.
    وقوله: {إلاّ أيّاماً مّعدودةً...}
    يقال: كيف جاز في الكلام: لآتينك أياما معدودة، ولم يبين عددها؟ وذلك أنهم نووا الأيام التي عبدوا فيها العجل، فقالوا: لن نعذّب في النار إلا تلك الأربعين الليلة التي عبدنا فيها العجل. فلما كان معناها مؤقّتا معلوما عندهم وصفوه بمعدودة ومعدودات، فقال الله: قل يا محمد: هل عندكم من الله عهدٌ بهذا الذي قلتم {أم تقولون على اللّه ما لا تعلمون}.
    وقوله: {أتحدّثونهم بما فتح اللّه عليكم...}
    هذا من قول اليهود لبعضهم؛ أي لا تحدّثوا المسلمين بأنكم تجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة وأنتم لا تؤمنون به، فتكون لهم الحجة عليكم. {أفلا تعقلون} قال الله: {أولا يعلمون أنّ اللّه يعلم ما يسرّون وما يعلنون} هذا جوابهم من قول الله.
    وقوله: {وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم...}
    إن شئت جعلت {هو} كناية عن الإخراج {وتخرجون فريقاً مّنكم مّن ديارهم} أي وهو محرّم عليكم؛ يريد: إخراجهم محرّم عليكم، ثم أعاد الإخراج
    [معاني القرآن: 1/50]
    مرة أخرى تكريرا على "هو" لمّا حال (بين الإخراج وبين "هو" كلامٌ)، فكان رفع الإخراج بالتكرير على "هو" وإن شئت جعلت "هو" عمادا ورفعت الإخراج بمجرم؛ كما قال الله جل وعزّ: {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر} فالمعنى - والله أعلم - ليس بمزحزحه من العذاب التّعمير؛ فإن قلت: إن العرب إنما تجعل العماد في الظّنّ لأنّه ناصب، وفي "كان" و"ليس" لأنهما يرفعان، وفي "إنّ" وأخواتها لأنهن ينصبن، ولا ينبغي للواو وهي لا تنصب ولا ترفع ولا تخفض أن يكون لها عمادٌ، قلت: لم يوضع العماد على أن يكون لنصب أو لرفع أو لخفض، إنما وضع في كل موضع يبتدأ فيه بالاسم قبل الفعل، فإذا رأيت الواو في موضع تطلب الاسم دون الفعل صلح في ذلك العماد؛ كقولك: أتيت زيدا وأبوه قائم، فقبيحٌ أن تقول: أتيت زيدا وقائم أبوه، وأتيت زيدا ويقوم أبوه؛ لأنّ الواو تطلب الأب، فلما بدأت بالفعل وإنما تطلب الواو الاسم أدخلوا لها "هو" لأنّه اسمٌ . قال الفرّاء: سمعت بعض العرب يقول: كان مرّة وهو ينفع النّاس أحسابهم. وأنشدني بعض العرب:
    [معاني القرآن: 1/51]
    فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيته * على العيس في آباطها عرقٌ يبس
    بأنّ السّلامي الذي بضريّةٍ * أمير الحمى قد باع حقّي بني عبس
    بثوبٍ ودينارٍ وشاةٍ ودرهمٍ * فهل هو مرفوعٌ بما ها هنا رأس
    فجعل مع "هل" العماد وهي لا ترفع ولا تنصب؛ لأن هل تطلب الأسماء أكثر من طلبها فاعلا؛ قال: وكذلك "ما" و"أمّا"، تقول: ما هو بذاهب أحدٌ، وأمّا هو فذاهبٌ زيد، لقبح أمّا ذاهب فزيد.
    وقوله: {بلى من كسب سيّئةً...}
    وضعت {بلى} لكل إقرار في أوّله جحد، ووضعت "نعم" للاستفهام الذي لا جحد فيه، فـ"بلى" بمنزلة "نعم" إلا أنها لا تكون إلاّ لما في أوّله جحد؛ قال الله تبارك وتعالى: {فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقاً قالوا نعم} فـ"بلى" لا تصلح في هذا الموضع. وأما الجحد فقوله: {ألم يأتكم نذيرٌ. قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ} ولا تصلح ها هنا "نعم" أداة؛ وذلك أن الاستفهام يحتاج إلى جواب بـ "نعم" و"لا" ما لم يكن فيه جحدٌ، فإذا دخل الجحد في الاستفهام لم يستقم أن تقول فيه "نعم" فتكون كأنك مقرٌّ بالجحد وبالفعل الذي بعده؛ ألا ترى أنّك لو قلت لقائل قال لك: أما لك مالٌ؟ فلو قلت "نعم" كنت مقرّاً بالكلمة بطرح الاستفهام وحده، كأنك قلت "نعم" مالي مالٌ، فأرادوا أن يرجعوا عن الجحد ويقرّوا بما
    [معاني القرآن: 1/52]
    بعده فاختاروا "بلى" لأنّ أصلها كان رجوعا محضاً عن الجحد إذا قالوا: ما قال عبد الله بل زيدٌ، فكانت "بل" كلمة عطف ورجوع لا يصلح الوقوف عليها، فزادوا فيها ألفا يصلح فيها الوقوف عليه، ويكون رجوعا عن الجحد فقط، وإقرارا بالفعل الذي بعد الجحد، فقالوا: "بلى"، فدلّت على معنى الإقرار والإنعام، ودل لفظ "بل" على الرجوع عن الجحد فقط.
    وقوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه...}
    رفعت {تعبدون} لأنّ دخول "أن" يصلح فيها، فلمّا حذف الناصب رفعت، كما قال الله: {أفغير اللّه تأمرونّي أعبد} (قرأ الآية) وكما قال: {ولا تمنن تستكثر} وفي قراءة عبد الله "ولا تمنن أن تستكثر" فهذا وجهٌ من الرفع، فلما لم تأت بالناصب رفعت. وفي قراءة أبيّ: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا"، ومعناها الجزم بالنهى، وليست بجواب لليمين. ألا ترى أنه قد قال: {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ} فأمروا، والأمر لا يكون جوابا لليمين؛ لا يكون في الكلام أن تقول: واللّه قم، ولا أن تقول: والله لا تقم. ويدلّ على أنه نهىٌ وجزمٌ أنه قال: {وقولوا للنّاس حسناً} كما تقول: أفعلوا ولا تفعلوا، أو لا تفعلوا وافعلوا. وإن شئت جعلت
    [معاني القرآن: 1/53]
    {لا تعبدون} جوابا لليمين؛ لأنّ أخذ الميثاق يمينٌ، فتقول: لا يعبدون، ولا تعبدون، والمعنى واحد. وإنّما جاز أن تقول لا يعبدون ولا تعبدون وهم غيّبٌ كما قال: {قل للّذين كفروا سيغلبون} و"ستغلبون" بالياء والتاء؛ "سيغلبون" بالياء على لفظ الغيب، والتّاء على المعنى؛ لأنه إذا أتاهم أو لقيهم صاروا مخاطبين. وكذلك قولك: استحلفت عبد الله ليقومنّ؛ لغيبته، واستحلفته لتقومنّ (لأني) قد كنت خاطبته. ويجوز في هذا استحلفت عبد الله لأقومنّ؛ أي قلت له احلف لأقومنّ، كقولك: قل لأقومنّ. فإذا قلت: استحلفت فأوقعت فعلك على مستحلفٍ جاز فعله أن يكون بالياء والتاء والألف، وإذا كان هو حالفا وليس معه مستحلف كان بالياء وبالألف ولم يكن بالتاء؛ من ذلك حلف عبد الله ليقومنّ فلم يقم، وحلف عبد الله لأقومنّ؛ لأنهّ كقولك قال لأقومنّ، ولم يجز بالتّاء؛ لأنه لا يكون مخاطبا لنفسه؛ لأنّ التاء لا تكون إلاّ لرجل تخاطبه، فلما
    لم يكن مستحلفٌ سقط الخطاب. وقوله: {قالوا تقاسموا باللّه لنبيّننّه وأهله} فيها ثلاثة أوجهٍ: "لتبيّتنّه" و"ليبيّتنّه" و"لنبيّتنّه" بالتاء والياء والنون. إذا جعلت "تقاسموا" على وجه فعلوا، فإذا جعلتها في موضع جزمٍ قلت: تقاسموا لتبيتنه ولنبيتنه، ولم يجز بالياء، ألا ترى أنكّ تقول للرجل: احلف لتقومنّ، أو احلف لأقومنّ، كما تقول: قل لأقومنّ. ولا يجوز أن تقول للرّجل احلف ليقومنّ، فيصير كأنّه لآخر، فهذا ما في اليمين.
    [معاني القرآن: 1/54]
    وقوله: {ولمّا جاءهم كتابٌ مّن عند اللّه مصدّقٌ...}
    [إن شئت] رفعت المصدّق ونويت أن يكون نعتاً للكتاب لأنّه نكرةٌ، ولو نصبته على أن تجعل المصدّق فعلا للكتاب لكان صوابا. وفي قراءة عبد الله في آل عمران: "ثمّ جاءكم رسولٌ مصدّقاً" فجعله فعلا. وإذا كانت النكرة قد وصلت بشيء سوى نعتها ثم جاء النّعت، فالنّصب على الفعل أمكن منه إذا كانت نكرة غير موصولةٍ، وذلك لأنّ صلة النكرة تصير كالموقّتة لها، ألا ترى أنك إذا قلت: مررت برجل في دارك، أو بعبدٍ لك في دارك، فكأنّك قلت: بعبدك أو بسايس دابّتك، فقس على هذا؛ وقد قال بعض الشعراء:
    لو كان حيّ ناجياً لنجا * من يومه المزلّم الأعصم
    فنصب ولم يصل النّكرة بشيء وهو جائزٌ. فأما قوله: {وهذا كتابٌ مصدّقٌ لساناً عربيّاً} فإنّ نصب الّلسان على وجهين؛ أحدهما أن تضمر شيئا يقع عليه المصدّق، كأنك قلت: وهذا يصدّق التوراة والإنجيل {لساناً عربيّاً} (لأنّ التوراة والإنجيل لم يكونا عربيّين) فصار اللسان العربيّ مفسّرا. وأما الوجه الآخر فعلى ما فسّرت
    [معاني القرآن: 1/55]
    لك لما وصلت الكتاب بالمصدّق أخرجت "لساناً" ممّا في "مصدّق" من الرّاجع من ذكره. ولو كان الّلسان مرفوعا لكان صواباً؛ على أنه نعتٌ وإن طال.
    وقوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم...}
    معناه - والله أعلم - باعوا به أنفسهم. وللعرب في شروا واشتروا مذهبان، فالأكثر منهما أن يكون شروا: باعوا، واشتروا: ابتاعوا، وربمّا جعلوهما جميعا في معنى باعوا، وكذلك البيع؛ يقال: بعت الثوب. على معنى أخرجته من يدي، وبعته: اشتريته، وهذه اللّغة في تميم وربيعة. سمعت أبا ثروان يقول لرجل: بع لي تمرا بدرهم. يريد اشتر لي؛ وأنشدني بعض ربيعة:
    ويأتيك بالأخبار من لم تبع له * بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد
    على معنى لم تشتر له بتاتا؛ قال الفرّاء: والبتات الزاد. وقوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم} "أن يكفروا" في موضع خفض ورفع؛ فأما الخفض فأن تردّه على الهاء التي في "به" على التكرير على كلامين كأنّك قلت اشتروا أنفسهم بالكفر. وأما الرفع فأن يكون مكرورا أيضا على موضع "ما" التي تلي "بئس". ولا يجوز أن يكون رفعاً على قولك بئس الرجل عبد الله، وكان الكسائيّ يقول ذلك. قال الفراء: وبئس لا يليها مرفوعٌ موقّت ولا منصوبٌ موقّت، ولها
    [معاني القرآن: 1/56]
    وجهان؛ فإذا وصلتها بنكرة قد تكون معرفةً بحدوث ألفٍ ولام فيها نصبت تلك النكرة، كقولك: بئس رجلاً عمرو، ونعم رجلاً عمرو، وإذا أوليتها معرفة فلتكن غير موقّتة، في سبيل النكرة، ألا ترى أنك ترفع فتقول: نعم الرجل عمرو، وبئس الرجل عمرو، فإن أضفت النكرة إلى نكرة رفعت ونصبت، كقولك: نعم غلام سفر زيدٌ، وغلام سفر زيدٌ وإن أضفت إلى المعرفة شيئا رفعت، فقلت: نعم سائس الخيل زيدٌ، ولا يجوز النّصب إلا أن يضطرّ إليه شاعرٌ، لأنهم حين أضافوا إلى النكرة رفعوا، فهم إذا أضافوا إلى المعرفة أحرى ألاّ ينصبوا. وإذا أوليت نعم وبئس من النكرات مالا يكون معرفةً مثل "مثل" و"أي" كان الكلام فاسدا؛ خطأٌ أن تقول: نعم مثلك زيدٌ، ونعم أي رجل زيد؛ لأن هذين لا يكونان مفسّرين، ألا ترى أنك لا تقول: [لله] درّك من أي رجل، كما تقول: للّه درّك من رجل. ولا يصلح أن تولي نعم وبئس "الذي" ولا "من" ولا "ما" إلا أن تنوي بهما الاكتفاء دون أن أتى بعد ذلك اسمٌ مرفوع. من ذلك قولك: بئسما صنعت، فهذه مكتفية، وساء ما صنعت. ولا يجوز ساء ما صنيعك. وقد أجازه الكسائي في كتابه على هذا المذهب. قال الفراء: ولا نعرف ما جهته، وقال: أرادت العرب أن تجعل "ما" بمنزلة الرجل حرفا تامّاً، ثم أضمروا لصنعت "ما" كأنّه قال: بئسما ما صنعت، فهذا قوله وأنا أجيزه.
    فإذا جعلت "نعم" (صلة لما) بمنزلة قولك "كلّما" و"إنّما" كانت بمنزلة "حبّذا" فرفعت بها الأسماء؛ من ذلك قول الله عز وجل: {إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي} رفعت "هي" بـ "نعمّا" ولا تأنيث في "نعم"
    [معاني القرآن: 1/57]
    ولا تثنية إذا جعلت "ما" صلة لها فتصير "ما" مع " نعم" بمنزلة "ذا" من "حبّذا" ألا ترى أنّ "حبذا" لا يدخلها تأنيث ولا جمعٌ. ولو جعلت "ما" على جهة الحشو كما تقول: عما قليلٍ آتيك، جاز فيه التأنيث والجمع، فقلت: بئسما رجلين أنتما، وبئست ما جاريةً جاريتك. وسمعت العرب تقول في "نعم" المكتفية بما: بئسما تزويجٌ ولا مهر، فيرفعون التزويج بـ "بئسما".
    وقوله: {بغياً أن ينزّل اللّه من فضله...}
    موضع "أن" جزاءٌ، وكان الكسائي يقول في "أن": هي في موضع خفض، وإنما هي جزاءٌ.
    إذا كان الجزاء لم يقع عليه شيء قبله (وكان) ينوي بها الاستقبال كسرت "إن" وجزمت بها فقلت: أكرمك إن تأتني. فإن كانت ماضية قلت: أكرمك أن تأتيني. وأبين من ذلك أن تقول: أكرمك أن أتيتني؛ كذلك قال الشاعر:
    أتجزع أن بان الخليط المودّع * وحبل الصّفا من عزّة المتقطّع
    يريد أتجزع بأن، أو لأن كان ذلك. ولو أراد الاستقبال ومحض الجزاء لكسر "إن" وجزم بها، كقول الله جلّ ثناؤه: {فلعلّك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا} فقرأها القرّاء بالكسر، ولو قرئت بفتح "أن" على معنى [إذ لم يؤمنوا] ولأن لم يؤمنوا، ومن أن لم يؤمنوا [لكان صوابا] وتأويل "أن" في موضع نصب، لأنها إنما كانت أداة بمنزلة "إذ" فهي في موضع نصب إذا ألقيت الخافض وتمّ
    [معاني القرآن: 1/58]
    ما قبلها، فإذا جعلت لها الفعل أو أوقعته عليها أو أحدثت لها خافضا فهي في موضع ما يصيبها من الرفع والنصب والخفض.
    وقوله: {فلمّا جاءهم مّا عرفوا كفروا به...}
    وقبلها " ولمّا". وليس للأولى جوابٌ، فإن الأولى صار جوابها كأنه في الفاء التي في الثانية، وصارت {كفروا به} كافية من جوابهما جميعا. ومثله في الكلام: ما هو إلاّ أن أتاني عبد الله فلما قعد أوسعت له وأكرمته. ومثله قوله: {فإمّا يأتينّكم منّي هدىً فمن تبع هداي} في البقرة {فمن اتّبع هداي} في "طه" اكتفى بجوابٍ واحد لهما جميعا {فلا خوفٌ عليهم} في البقرة {فلا يضلّ ولا يشقى} في "طه". وصارت الفاء في قوله: {فمن تبع} كأنها جواب لـ"إمّا"، ألا ترى أنّ الواو لا تصلح في موضع الفاء، فذلك دليلٌ على أن الفاء جواب وليست بنسقٍ.
    وقوله: {فقليلاً مّا يؤمنون...}
    يقول القائل: هل كان لهم قليلٌ من الإيمان أو كثيرٌ؟ ففيه وجهان من العربية: أحدهما - ألاّ يكونوا آمنوا قليلا ولا كثيرا. ومثله مما تقوله العرب بالقلّة على أن ينفوا الفعل كلّه قولهم: قلّ ما رأيت مثل هذا قطّ. وحكى الكسائي عن العرب: مررت ببلادٍ قلّ ما تنبت إلاّ البصل والكرّاث. أي ما تنبت
    [معاني القرآن: 1/59]
    إلاّ هذين. وكذلك قول العرب: ما أكاد أبرح منزلي؛ وليس يبرحه وقد يكون أن يبرحه قليلا. والوجه الآخر - أن يكونوا يصدقون بالشيء قليلا ويكفرون بما سواه: بالنبي صلى الله عليه وسلم فيكونون كافرين؛ وذلك أنه يقال: من خلقكم؟ ومن رزقكم؟ فيقولون الله تبارك وتعالى. ويكفرون بما سواه: بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآيات الله، فذلك قوله: {قليلاً ما يؤمنون}. وكذلك قال المفسرون في قول الله: {وما يؤمن أكثرهم باللّه إلاّ وهم مشركون} على هذا التفسير.
    وقوله: {فباءوا بغضبٍ على غضبٍ...}
    لا يكون (باءوا) مفردةً حتى توصل بالباء. فيقال: باء بإثم يبوء بوءاً. وقوله: {بغضبٍ على غضبٍ} أن الله غضب على اليهود في قولهم: {يد اللّه مغلولةٌ غلّت أيديهم}. ثم غضب عليهم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة، فذلك قوله: {فباءوا بغضبٍ على غضبٍ}.
    وقوله: {ويكفرون بما وراءه...}
    يريد سواه، وذلك كثيرٌ في العربية أن يتكلّم الرجل بالكلام الحسن فيقول السّامع: ليس وراء هذا الكلام شيء، أي ليس عنده شيء سواه.
    وقوله: {فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل...}
    يقول القائل: إنما "تقتلون" للمستقبل فكيف قال: "من قبل"؟ ونحن لا نجيز في الكلام أنا أضربك أمس، وذلك جائز إذا أردت بتفعلون الماضي،
    [معاني القرآن: 1/60]
    ألا ترى أنّك تعنّف الرجل بما سلف من فعله فتقول: ويحك لم تكذب! لم تبغّض نفسك إلى الناس! ومثله قول الله: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان}. ولم يقل ما تلت الشياطين، وذلك عربيّ كثير في الكلام؛ أنشدني بعض العرب:
    إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمةٌ * ولم تجدي من أن تقرّي بها بدّا
    فالجزاء للمستقبل، والولادة كلها قد مضت، وذلك أن المعنى معروفٌ؛ ومثله في الكلام: إذا نظرت في سير عمر رحمه الله لم يسئ؛ المعنى لم تجده أساء؛ فلما كان أمر عمر لا يشك في مضيّه لم يقع في الوهم أنه مستقبل؛ فلذلك صلحت "من قبل". مع قوله: {فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل} وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة، إنما قتل الأنبياء أسلافهم الذين مضوا فتولّوهم على ذلك ورضوا به فنسب القتل إليهم). [معاني القرآن: 1/61]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:53 am

    وقوله: {سمعنا وعصينا...}
    معناه سمعنا قولك وعصينا أمرك.
    وقوله: {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم...}
    فإنه أراد: حبّ العجل، ومثل هذا مما تحذفه العرب كثيرٌ؛ قال الله: {واسأل القرية التي كنّا فيها والعير التي أقبلنا فيها} والمعنى سل أهل القرية وأهل العير؛ وأنشدني المفضّل:
    [معاني القرآن: 1/61]
    حسبت بغام راحلتي عناقاً * وما هي ويب غيرك بالعناق
    ومعناه: بغام عناق؛ ومثله من كتاب الله: {ولكنّ البرّ من آمن باللّه} معناه والله أعلم: ولكنّ البرّ برّ من فعل هذه الأفاعيل التي وصف الله. والعرب قد تقول: إذا سرّك أن تنظر إلى السّخاء فانظر إلى هرم أو إلى حاتم. وأنشدني بعضهم:
    يقولون جاهد يا جميل بغزوةٍ * وإنّ جهاداً طيّءٌ وقتالها
    يجزئ ذكر الاسم من فعله إذا كان معروفا بسخاء أو شجاعة وأشباه ذلك.
    وقوله: {قل إن كانت لكم الدّار الآخرة عند اللّه خالصةً مّن دون النّاس فتمنّوا الموت...}
    يقول: إن كان الأمر على ما تقولون من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهوديا أو نصرانيا {فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين} فأبوا، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يقوله أحد إلا غصّ بريقه". ثم إنه وصفهم فقال: {ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياةٍ ومن الّذين أشركوا} معناه والله أعلم: وأحرص من الذين أشركوا على الحياة. ومثله أن تقول: هذا أسخى
    [معاني القرآن: 1/62]
    النّاس ومن هرم. لأن التأويل للأوّل هو أسخى من الناس ومن هرم؛ ثمّ إنه وصف المجوس فقال: {يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنةٍ} وذلك أن تحيتهم فيما بينهم: (زه هزار سال). فهذا تفسيره: عش ألف سنة.
    وأما قوله: {قل من كان عدوّاً لّجبريل فإنّه نزّله...}
    [يعني القران] {على قلبك} [هذا أمرٌ] أمر الله به محمدا صلى الله عليه وسلم فقال: قل لهم لما قالوا عدوّنا جبريل وأخبره الله بذلك، فقال: {قل من كان عدوّاً لّجبريل فإنّه نزّله على قلبك} يعني قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فلو كان في هذا الموضع "على قلبي" وهو يعني محمداً صلى الله عليه وسلم لكان صوابا. ومثله في الكلام: لا تقل للقوم إن الخير عندي، وعندك؛ أمّا عندك فجاز؛ لأنه كالخطاب، وأمّا عندي فهو قول المتكلم بعينه. يأتي هذا من تأويل قوله: "ستغلبون" و"سيغلبون" بالتاء والياء.
    وقوله: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان...}
    (كما تقول في ملك سليمان). تصلح "في" و"على" في مثل هذا الموضع؛ تقول: أتيته في عهد سليمان وعلى عهده سواء.
    [معاني القرآن: 1/63]
    وقوله: {وما أنزل على الملكين...}
    الفرّاء يقرءون "الملكين" من الملائكة. وكان ابن عباس يقول: "الملكين" من الملوك.
    وقوله: {فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به...}
    أما السّحر فمن عمل الشياطين، فيتعلمون من الملكين كلاما إذا قيل أخّذ به الرجل عن امرأته. ثم قال: ومن قول الملكين إذا تعلّم منهما ذلك: لا تكفر. {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر، فيتعلّمون} ليست بجواب لقوله: {وما يعلّمان} إنما هي مردودة على قوله: {يعلّمون النّاس السّحر} فيتعلّمون ما يضرهم ولا ينفعهم؛ فهذا وجه. ويكون "فيتعلّمون" متصلة بقوله: {إنّما نحن فتنةٌ} فيأبون فيتعلّمون ما يضرّهم، وكأنه أجود الوجهين في العربية. والله أعلم). [معاني القرآن: 1/64]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:54 am

    وقوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها...}
    (أو ننسئها - أو ننسها) عامة القرّاء يجعلونه من النسيان، وفي قراءة عبد الله: "ما ننسك من آيةٍ أو ننسخها نجئ بمثلها أو خيرٍ منها" وفي قراءة سالم مولى أبي حذيفة: "ما ننسخ من آيةٍ أو ننسكها"، فهذا يقوّي النّسيان. والنّسخ أن يعمل بالآية ثم تنزل الأخرى فيعمل بها وتترك الأولى. والنّسيان ها هنا على وجهين: أحدهما - على الترك؛ نتركها فلا ننسخها كما قال الله جل ذكره: {نسوا اللّه فنسيهم} يريد تركوه فتركهم. والوجه الآخر - من النّسيان الذي
    [معاني القرآن: 1/64]
    ينسى، كما قال الله: {واذكر ربّك إذا نسيت} وكان بعضهم يقرأ: "أو ننسأها" يهمز يريد نؤخرها من النّسيئة؛ وكلٌّ حسن. حدثنا الفرّاء قال: وحدثني قيس عن هشام بن عروة بإسناد برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يقرأ فقال: "يرحم الله هذا، هذا أذكرني آياتٍ قد كنت أنسيتهنّ".
    وقوله: {ولقد علموا لمن اشتراه...}
    {من} في موضع رفع وهي جزاء؛ لأن العرب إذا أحدثت على الجزاء هذه اللام صيّروا فعله على جهة فعل. ولا يكادون يجعلونه على يفعل كراهة أن يحدث على الجزاء حادث وهو مجزوم؛ ألا ترى أنهم يقولون: سل عمّا شئت، وتقول: لا آتيك ما عشت، ولا يقولون ما تعش؛ لأن "ما" في تأويل جزاءٍ
    [معاني القرآن: 1/65]
    وقد وقع ما قبلها عليها، فصرفوا الفعل إلى فعل؛ لأن الحزم لا يستبين في فعل، فصيّروا حدوث اللام - وإن كانت لا تعرّب شيئا - كالذي يعرّب، ثم صيّروا جواب الجزاء بما تلقى به اليمين - يريد تستقبل به - إمّا بلامٍ، وإما بـ "لا" وإما بـ "إنّ" وإمّا بـ "ما" فتقول في "ما": لئن أتيتني ما ذلك لك بضائع، وفي "إنّ": لئن أتيتني إنّ ذلك لمشكور لك - قال الفراء: لا يكتب لئن إلا بالياء ليفرق بينها وبين لأن - وفي "لا": "لئن أخرجوا لا يخرجون معهم" وفي اللام {ولئن نصروهم ليولّنّ الأدبار} وإنما صيّروا جواب الجزاء كجواب اليمين لأن اللام التي دخلت في قوله: {ولقد علموا لمن اشتراه} وفي قوله: {لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ} وفي قوله: {لئن أخرجوا} إنما هي لام اليمين؛ كان موضعها في آخر الكلام، فلمّا صارت في أوله صارت كاليمين، فلقيت بما يلقى به اليمين، وإن أظهرت الفعل بعدها على يفعل جاز ذلك وجزمته؛ فقلت: لئن تقم لا يقم إليك، وقال الشاعر:
    لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم * ليعلم ربّي أنّ بيتي واسع
    [معاني القرآن: 1/66]
    وأنشدني بعض بني عقيل:
    لئن كان ما حدّثته اليوم صادقاً * أصم في نهار القيظ للشّمس باديا
    وأركب حماراً بين سرجٍ وفروةٍ * وأعر من الخاتام صغرى شماليا
    فألقى جواب اليمين من الفعل، وكان الوجه في الكلام أن يقول: لئن كان كذا لآتينك، وتوهم إلغاء اللام كما قال الآخر:
    فلا يدعني قومي صريحاً لحرّةٍ * لئن كنت مقتولاً ويسلم عامر
    فاللام في "لئن" ملغاة، ولكنها كثرت في الكلام حتى صارت بمنزلة " إن"، ألا ترى أن الشاعر قد قال:
    فلئن قومٌ أصابوا غرّةً * وأصبنا من زمانٍ رققا
    للقد كانوا لدى أزماننا * لصنيعين لبأسٍ وتقى
    [معاني القرآن: 1/67]
    فأدخل على "لقد" لاما أخرى لكثرة ما تلزم العرب اللام في "لقد" حتى صارت كأنها منها. وأنشدني بعض بنى أسد:
    لددتهم النّصيحة كلّ لدٍّ * فمجّوا النّصح ثم ثنوا فقاءوا
    فلا واللّه لا يلفى لما بي * ولا للما بهم أبداً دواء
    ومثله قول الشاعر:
    كما ما امرؤٌ في معشرٍ غير رهطه * ضعيف الكلام شخصه متضائل
    قال: "كما" ثم زاد معها "ما" أخرى لكثرة "كما" في الكلام فصارت كأنها منها. وقال الأعشى:
    لئن منيت بنا عن غبّ معركةٍ * لا تلفنا من دماء القوم ننتفل
    فجزم "لا تلفنا" والوجه الرفع كما قال الله: {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم} ولكنه لمّا جاء بعد حرفٍ ينوي به الجزم صيّر جزما جوابا للمجزوم وهو في معنى رفع. وأنشدني القاسم بن معنٍ (عن العرب):
    [معاني القرآن: 1/68]
    حلفت له إن تدلج اللّيل لا يزل * أمامك بيتٌ من بيوتي سائر
    والمعنى حلفت له لا يزال أمامك بيتٌ، فلما جاء بعد المجزوم صيّر جوابا للجزم. ومثله في العربية: آتيك كي (إن تحدثني بحديث أسمعه منك، فلما جاء بعد المجزوم جزم).
    قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا...}
    هو من الإرعاء والمراعاة، (وفي) قراءة عبد الله "لا تقولوا راعونا" وذلك أنها كلمة باليهودية شتم، فلمّا سمعت اليهود أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: يا نبيّ الله راعنا، اغتنموها فقالوا: قد كنا نسبّه في أنفسنا فنحن الآن قد أمكننا أن نظهر له السّبّ، فجعلوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: راعنا، ويضحك بعضهم إلى بعض، ففطن لها رجلٌ من الأنصار، فقال لهم: والله لا يتكلم بها رجل
    [معاني القرآن: 1/69]
    إلا ضربت عنقه، فأنزل الله {لا تقولوا راعنا} ينهى المسلمين عنها؛ إذ كانت سبّاً عند اليهود. وقد قرأها الحسن البصريّ: "لا تقولوا راعناً" بالتنوين، يقول: لا تقولوا حمقا، وينصب بالقول؛ كما تقول: قالوا خيرا وقالوا شرّا.
    وقوله: {وقولوا انظرنا} أي انتظرنا. و(أنظرنا): أخّرنا، (قال الله): {[قال] أنظرني إلى يوم يبعثون} يريد أخّرني، وفي سورة الحديد {[يوم يقول المنافقون والمنافقات] للّذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم} خفيفة الألف على معنى الانتظار. وقرأها حمزة الزيّات: "للّذين آمنوا أنظرونا" على معنى التأخير.
    وقوله: {مّا يودّ الّذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين...}
    معناه: ومن المشركين، ولو كانت "المشركون" رفعاً مردودةً على "الّذين كفروا" كان صوابا [تريد ما يودّ الذين كفروا ولا المشركون]، ومثلها في المائدة: {[يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا الّذين اتّخذوا دينكم هزواً ولعباً] من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء}، قرئت بالوجهين: [والكفار، والكفار]، وهي في قراءة عبد الله: "ومن الكفّار أولياء". وكذلك قوله:
    [معاني القرآن: 1/70]
    {لم يكن الّذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} في موضع خفض على قوله: {من أهل الكتاب}: ومن المشركين، ولو كانت رفعا كان صوابا؛ تردّ على الذين كفروا.
    وقوله: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم...}
    (أم) (في المعنى) تكون ردّا على الاستفهام على جهتين؛ إحداهما: أن تفرّق معنى "أيّ" والأخرى أن يستفهم بها. فتكون على جهة النسق، والذي ينوى بها الابتداء إلاّ أنه ابتداء متّصلٌ بكلام. فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلامٌ، ثم استفهمت لم يكن إلاّ بالألف أو بهل؛ ومن ذلك قول الله: {الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين. أم يقولون افتراه}، فجاءت "أم" وليس قبلها استفهام، فهذا دليل على أنها استفهامٌ مبتدأ على كلامٍ قد سبقه. وأمّا قوله: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم} فإن شئت جعلته على مثل هذا، وإن شئت قلت: قبله استفهام فردّ عليه؛ وهو قول الله: {ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير}. وكذلك قوله: {ما لنا لا نرى رجالاً كنّا نعدّهم مّن الأشرار. اتّخذناهم سخريًّا أم زاغت عنهم الأبصار} فإن شئت جعلته استفهاما مبتدأ قد سبقه كلامٌ، وإن شئت جعلته مردودا على قوله: {مالنا لا نرى رجالاً} وقد قرأ بعض
    [معاني القرآن: 1/71]
    القرّاء: "أتّخذناهم سخريّاً" يستفهم في "أتّخذناهم سخريّاً" بقطع الألف لينسّق عليه "أم" لأن أكثر ما تجيء مع الألف؛ وكلٌّ صواب. ومثله: {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي} ثم قال: {أم أنا خيرٌ من هذا} والتفسير فيهما واحد. وربّما جعلت العرب "أم" إذا سبقها استفهام لا تصلح أي فيه على جهة بل؛ فيقولون: هل لك قبلنا حق أم أنت رجلٌ معروفٌ بالظّلم.
    يريدون: بل أنت رجلٌ معروف بالظّلم؛ وقال الشاعر:
    فواللّه ما أدري أسلمى تغوّلت * أم النّوم أم كلٌّ إليّ حبيبٌ
    معناه [بل كلّ إليّ حبيب].
    وكذلك تفعل العرب في "أو" فيجعلونها نسقاً مفرّقة لمعنى ما صلحت فيه "أحدٌ"، و"إحدى" كقولك: اضرب أحدهما زيدا أو عمرا، فإذا وقعت في كلام لا يراد به أحدٌ وإن صلحت جعلوها على جهة بل؛ كقولك في الكلام: اذهب إلى فلانٍ أو دع ذلك فلا تبرح اليوم. فقد دلّك هذا على أن الرجل قد رجع عن أمره الأوّل وجعل "أو" في معنى "بل"؛ ومنه قول الله: {وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون} وأنشدني بعض العرب:
    بدت مثل قرن الشّمس في رونق الضّحى * وصورتها أو أنت في العين أملح
    يريد: بل أنت.
    [معاني القرآن: 1/72]
    وقوله: {فقد ضلّ سواء السّبيل...}
    و "سواء" في هذا الموضع قصد، وقد تكون "سواء" في مذهب غير؛ كقولك للرجل: أتيت سواءك.
    وقوله: {كفّاراً...}
    ها هنا انقطع الكلام، ثم قال: (حسداً) كالمفسّر لم ينصب على أنه نعتٌ للكفار، إنما هو كقولك للرجل: هو يريد بك الشر حسدا وبغيا.
    وقوله:{مّن عند أنفسهم...}
    من قبل أنفسهم لم يؤمروا به في كتبهم.
    وقوله: {وقالوا لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً أو نصارى...}
    يريد يهوديّا، فحذف الياء الزائدة ورجع إلى الفعل من اليهوديّة. وهي في قراءة أبيّ وعبد الله: "إلاّ من كان يهوديا أو نصرانيّا" وقد يكون أن تجعل اليهود جمعاً واحده هائد (ممدود، وهو مثل حائل ممدود) - من النوق - وحول، وعائط وعوط وعيط وعوطط.
    [معاني القرآن: 1/73]
    وقوله: {أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلاّ خائفين...}
    هذه الرّوم كانوا غزوا بيت المقدس فقتلوا وحرّقوا وخرّبوا المسجد. وإنما أظهر الله عليهم المسلمين في زمن عمر - رحمه الله - فبنوه، (ولم) تكن الروم تدخله إلا مستخفين، لو علم بهم لقتلوا.
    وقوله: {لّهم في الدّنيا خزيٌ...}
    يقال: إن مدينتهم الأولى أظهر الله عليها المسلمين فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا الذراري والنساء، فذلك الخزي.
    وقوله: {ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ...}
    يقول فيما وعد الله المسلمين من فتح الروم، ولم يكن بعد.
    وقوله: {كلٌّ لّه قانتون...}
    يريد مطيعون، وهذه خاصّة لأهل الطاعة ليست بعامّة.
    وقوله: {فإنّما يقول له كن فيكون...}
    رفعٌ ولا يكون نصبا، إنما هي مرودة على "يقول" [فإنما يقول فيكون]. وكذلك قوله: {ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ} رفعٌ لا غير. وأمّا التي في النحل: {إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نّقول له كن فيكون} فإنها نصب،
    [معاني القرآن: 1/74]
    وكذلك التي في "يس" نصبٌ؛ لأنّها مردوةٌ على فعل قد نصب بأن، وأكثر القرّاء على رفعهما. والرفع صوابٌ، وذلك أن تجعل الكلام مكتفيا عند قوله: {إذا أردناه أن نّقول له كن} فقد تمّ الكلام، ثم قال: فسيكون ما أراد الله. وإنّه لأحبّ الوجهين إليّ، وإن كان الكسائيّ لا يجيز الرفع فيهما ويذهب إلى النّسق.
    وقوله: {تشابهت قلوبهم...}
    يقول: تشابهت قلوبهم في اتفاقهم على الكفر. فجعله اشتباها. ولا يجوز تشّابهت بالتثقيل؛ لأنّه لا يستقيم دخول تاءين زائدتين في تفاعلت ولا في أشباهها. وإنما يجوز الإدغام إذا قلت في الاستقبال: تتشابه (عن قليل) فتدغم التاء الثانية عند الشين.
    وقوله: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم...}
    قرأها ابن عباس [وأبو جعفر] محمد بن عليّ بن الحسين جزما، وقرأها بعض أهل المدينة جزما، وجاء التفسير بذلك، [إلا أنّ التفسير] على فتح التاء على النهي. والقرّاء [بعد] على رفعها على الخبر: ولست تسئل، وفي قراءة أبيّ "وما تسأل" وفي قراءة عبد الله: "ولن تسأل" وهما شاهدان للرفع.
    وقوله: {ولا يقبل منها عدلٌ...}
    يقال: فديةٌ). [معاني القرآن: 1/75]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:54 am

    وقوله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ...}
    يقال: أمره بخلالٍ عشرٍ من السّنّة؛ خمسٌ في الرأس، وخمس في الجسد؛ فأما اللاتي في الرأس فالفرق، وقصّ الشّارب، والاستنشاق، والمضمضة، والسّواك. وأما اللاتي في الجسد فالختان، وحلق العانة، وتقليم الأظافر، ونتف الرفغين يعني الإبطين. قال الفرّاء: * ويقال للواحد رفغ * والاستنجاء.
    {فأتمّهنّ}: عمل بهنّ؛ فقال الله تبارك وتعالى: {إنّي جاعلك للنّاس إماماً}: يهتدى بهديك ويستنّ بك، فقال: ربّ {ومن ذرّيّتي} على المسئلة.
    وقوله: {لا ينال عهدي الظّالمين...}
    يقول: لا يكون للمسلمين إمام مشرك. وفي قراءة عبد الله: "لا ينال عهدي الظّالمون". وقد فسّر هذا لأن ما نالك فقد نلته، كما تقول: نلت خيرك، ونالني خيرك.
    وقوله: {وإذ جعلنا البيت مثابةً لّلنّاس...}
    يثوبون إليه - من المثابة والمثاب - أراد: من كل مكان. والمثابة في كلام العرب كالواحد؛ مثل المقام والمقامة.
    [معاني القرآن: 1/76]
    وقوله: {وأمناً...}
    يقال: إن من جنى جناية أو أصاب حدّا ثم عاذ بالحرم لم يقم عليه حدّه حتى يخرج من الحرم، ويؤمر بألاّ يخالط ولا يبايع، وأن يضيّق عليه (حتى يخرج) ليقام عليه الحدّ، فذلك أمنه. ومنّ جنى من أهل الحرم جناية أو أصاب حدّا أقيم عليه في الحرم.
    وقوله:{واتّخذوا من مّقام إبراهيم مصلًّى...}
    وقد قرأت القرّاء بمعنى الجزم [والتفسير مع أصحاب الجزم]، ومن قرأ "واتّخذوا" ففتح الخاء كان خبرا؛ يقول: جعلناه مثابة لهم واتخذوه مصلى، وكلّ صواب إن شاء الله.
    وقوله: {أن طهّرا بيتي...}
    يريد: من الأصنام ألاّ تعلّق فيه.
    وقوله: {للطّائفين والعاكفين...}
    يعني أهله {والرّكّع السّجود} يعني أهل الإسلام.
    [معاني القرآن: 1/77]
    وقوله: {ومن كفر..}
    من قول الله تبارك وتعالى: {فأمتّعه} على الخبر. وفي قراءة أبيّ "ومن كفر فنمتّعه قليلاً ثمّ نضطرّه إلى عذاب النار" (فهذا وجه). وكان ابن عباس يجعلها متّصلة بمسألة إبراهيم صلى الله عليه على معنى: ربّ "ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطرّه" (منصوبة موصولة). يريد ثم اضطرره؛ فإذا تركت التضعيف نصبت، وجاز في هذا المذهب كسر الراء في لغة الذين يقولون مدّه. وقرأ يحيى بن وثّاب: "فإمتعه قليلا ثم إضطرّه" بكسر الألف كما تقول: أنا أعلم ذلك.
    وقوله: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل...}
    يقال هي أساس البيت. واحدتها قاعدة، ومن النساء اللواتي قد قعدن عن المحيض قاعد بغير هاء. ويقال لامرأة الرجل قعيدته.
    وقوله:{ربّنا تقبّل منّا...}
    يريد: يقولان ربنا. وهي في قراءة عبد الله "ويقولان ربنا".
    [معاني القرآن: 1/78]
    وقوله: {وأرنا مناسكنا...}
    وفي قراءة عبد الله: "وأرهم مناسكهم" ذهب إلى الذّرّيّة. "وأرنا" ضمّهم إلى نفسه، فصاروا كالمتكلّمين عن أنفسهم؛ يدلّك على ذلك قوله: {وابعث فيهم رسولا} رجع إلى الذّرّيّة خاصّة.
    وقوله: {إلاّ من سفه نفسه...}
    العرب توقع سفه على (نفسه) وهي معرفة. وكذلك قوله: {بطرت معيشتها} وهي من المعرفة كالنكرة، لأنه مفسّر، والمفسّر في أكثر الكلام نكرة؛ كقولك: ضقت به ذرعا، وقوله: {فإن طبن لكم عن شيء مّنه نفساً} فالفعل للذرع؛ لأنك تقول: ضاق ذرعي به، فلمّا جعلت الضيق مسندا إليك فقلت: ضقت جاء الّذرع مفسرا لأن الضيق فيه؛ كما تقول: هو أوسعكم دارا. دخلت الدار لتدلّ على أن السعة فيها لا في الرّجل؛ وكذلك قولهم: قد وجعت بطنك، ووثقت رأيك - أو - وفقت، [قال أبو عبد الله: أكثر ظنّي وثقت بالثاء] إنما الفعل للأمر، فلمّا أسند الفعل إلى الرجل صلح النصب فيما عاد بذكره على التفسير؛ ولذلك لا يجوز تقديمه، فلا يقال: رأيه سفه زيدٌ، كما لا يجور دارا أنت أوسعهم؛ لأنه وإن كان معرفة فإنه في تأويل نكرة، ويصيبه النصب في موضع نصب النكرة ولا يجاوزه.
    [معاني القرآن: 1/79]
    وقوله: {ووصّى بها إبراهيم بنيه...}
    في مصاحف أهل المدينة "وأوصى" وكلاهما صوابٌ كثيرٌ في الكلام.
    وقوله: {ويعقوب...}
    أي ويعقوب وصّى بهذا أيضا. وفي إحدى القراءتين قراءة عبد الله أو قراءة أبيّ: "أن يا بنيّ إن الله اصطفى لكم الدين" يوقع وصى على "أن" يريد وصّاهم "بأن" وليس في قراءتنا "أن"، وكلّ صواب. فمن ألقاها قال: الوصيّة قول، وكلّ كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول أن، وجاز إلقاء أن؛ كما قال الله عزّ وجلّ في النساء: {يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظّ الأنثيين} لأن الوصيّة كالقول؛ وأنشدني الكسائي:
    إني سأبدي لك فيما أبدي * لي شجنان شجن بنجد
    * وشجن لي ببلاد السند *
    لأن الإبداء في المعنى بلسانه؛ ومثله قول الله عزّ وجلّ: {وعد اللّه الّذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرةً} لأن العدة قول. فعلى هذا يبنى ما ورد من نحوه.
    وقول النحويّين: إنما أراد: أن فألقيت ليس بشيء؛ لأن هذا لو كان لجاز إلقاؤها مع ما يكون في معنى القول وغيره.
    [معاني القرآن: 1/80]
    وإذا كان الموضع فيه ما يكون معناه معنى القول ثم ظهرت فيه أن فهي منصوبة الألف. وإذا لم يكن ذلك الحرف يرجع إلى معنى القول سقطت أن من الكلام.
    فأمّا الذي يأتي بمعنى القول فتظهر فيه أن مفتوحة فقول الله تبارك وتعالى: {إنّا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك} جاءت أن مفتوحة؛ لأن الرسالة قول. وكذلك قوله: {فانطلقوا وهم يتخافتون. أن لا يدخلنا} والتخافت قول. وكذلك كلّ ما كان في القرآن. وهو كثير. منه قول الله {وآخر دعواهم أن الحمد للّه}. ومثله: {فأذّن مؤذّنٌ بينهم أن لعنة اللّه [على الظّالمين]} الأذان قول، والدعوى قول في الأصل.
    وأمّا ما ليس فيه معنى القول فلم تدخله أن فقول الله {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربّهم ربّنا أبصرنا} فلمّا لم يكن في "أبصرنا" كلام يدلّ على القول أضمرت القول فأسقطت أن؛ لأن ما بعد القول حكاية لا تحدث معها أن. ومنه قول الله {والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم}. معناه: يقولون أخرجوا. ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا}. معناه يقولان "ربّنا تقبّل منّا" وهو كثير. فقس بهذا ما ورد عليك.
    [معاني القرآن: 1/81]
    [وقوله:... قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون ].
    قرأت القرّاء "نعبد إلهك وإله آبائك"، وبعضهم قرأ "وإله أبيك" واحدا. وكأن الذي قال: أبيك (ظنّ أن العمّ لا يجوز في الآباء) فقال "وإله أبيك إبراهيم"، ثم عدّد بعد الأب العّم. والعرب تجعل الأعمام كالآباء، وأهل الأمّ كالأخوال. وذلك كثير في كلامهم.
    وقوله: {قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً...}
    أمر الله محمدا صلى الله عليه وسلم. فإن نصبتها بـ "نكون" كان صوابا؛ وإن نصبتها بفعل مضمر كان صوابا؛ كقولك بل نتّبع "ملّة إبراهيم"، وإنما أمر الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم فقال "قل بل ملّة إبراهيم".
    وقوله: {لا نفرّق بين أحدٍ مّنهم...}
    يقول لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى.
    وقوله: {صبغة اللّه...}
    نصب، مردودة على الملّة، وإنما قيل "صبغة الله" لأن بعض النصارى كانوا إذا ولد المولود جعلوه في ماء لهم يجعلون ذلك تطهيرا له كالختانة. وكذلك
    [معاني القرآن: 1/82]
    هي في إحدى القراءتين. قل "صبغة اللّه" وهي الختانة، اختتن إبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال: "صبغة اللّه" يأمر بها محمدا صلى الله عليه وسلم فجرت الصبغة على الختانة لصبغهم الغلمان في الماء، ولو رفعت الصبغة والملل‍ّة كان صوابا كما تقول العرب: جدّك لاكدّك، وجدّك لا كدّك. فمن رفع أراد: هي ملّة إبراهيم، هي صبغة الله، هو جدّك . ومن نصب أضمر مثل الذي قلت لك من الفعل). [معاني القرآن: 1/83]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:54 am

    وقوله: {وكذلك جعلناكم أمّةً وسطاً...}
    يعني عدلا {لّتكونوا شهداء على النّاس} يقال: إن كلّ نبيّ يأتي يوم القيامة فيقول: بلّغت، فتقول أمّته: لا، فيكذّبون الأنبياء، (ثم يجاء بأمّة محمد صلى الله عليه وسلم فيصدّقون الأنبياء ونبيّهم)، ثم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيصدّق أمّته، فذلك قوله تبارك وتعالى: {لّتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيداً}، ومنه قول الله: {فكيف إذا جئنا من كل أمّةٍ بشهيدٍ [وجئنا بك على هؤلاء شهيدا]}.
    وقوله: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم...}
    أسند الإيمان إلى الأحياء من المؤمنين، والمعنى فيمن مات من المسلمين قبل أن تحوّل القبلة. فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف بصلاة إخواننا الذين ماتوا على القبلة الأولى؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: {وما كان اللّه ليضيع
    [معاني القرآن: 1/83]
    إيمانكم} يريد إيمانهم لأنهم داخلون معهم في الملّة، وهو كقولك للقوم: قد قتلناكم وهزمناكم، تريد: قتلنا منكم، فتواجههم بالقتل وهم أحياء.
    وقوله: {فولّوا وجوهكم شطره...}
    يريد: نحوه وتلقاءه، ومثله في الكلام: ولّ وجهك شطره، وتلقاءه، وتجاهه.
    وقوله: {ولئن أتيت الّذين أوتوا الكتاب بكلّ آيةٍ مّا تبعوا قبلتك...}
    أجيبت (لئن) بما يجاب به لو. ولو في المعنى ماضية، ولئن مستقبلة، ولكن الفعل ظهر فيهما بفعل فأجيبتا بجواب واحدٍ، وشبّهت كلّ واحدة بصاحبتها. والجواب في الكلام في (لئن) بالمستقبل مثل قولك: لئن قمت لأقومنّ، ولئن أحسنت لتكرمنّ، ولئن أسأت لا يحسن إليك. وتجيب لو بالماضي فتقول: لو قمت لقمت، ولا تقول: لو قمت لأقومنّ. فهذا الذي عليه يعمل، فإذا أجيبت لو بجواب لئن فالذي قلت لك من لفظ فعليهما بالمضيّ، ألا ترى أنك تقول: لو قمت، ولئن قمت، ولا تكاد ترى (تفعل تأتى) بعدهما، وهي جائزة، فلذلك قال {ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرّاً لظلّوا} فأجاب (لئن) بجواب (لو)، وأجاب (لو) بجواب (لئن) فقال {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير} الآية.
    [معاني القرآن: 1/84]
    قوله: {وإنّ فريقاً مّنهم ليكتمون الحقّ وهم يعلمون... الحقّ من رّبّك...}
    المعنى أنهم لا يؤمنون بأن القبلة التي صرف إليها محمد صلى الله عليه وسلم قبلة إبراهيم صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء، ثم استأنف (الحقّ) فقال: يا محمد هو {الحقّ من رّبّك}، إنها قبلة إبراهيم {فلا تكوننّ من الممترين}: فلا تشكّنّ في ذلك. والممتري: الشاكّ.
    وقوله: {ولكلٍّ وجهةٌ...}
    يعني قبلة {هو مولّيها}: مستقبلها، الفعل لكلٍّ، يريد: مولٍّ وجهه إليها. والتولية في هذا الموضع إقبال، وفي {يولّوكم الأدبار}، {ثمّ ولّيتم مدبرين} انصراف. وهو كقولك في الكلام: انصرف إليّ، أي أقبل إليّ، وانصرف إلى أهلك أي اذهب إلى أهلك. وقد قرأ ابن عباس وغيره "هو مولاّها"، وكذلك قرأ أبو جعفر محمد بن عليّ، فجعل الفعل واقعا عليه. والمعنى واحد. والله أعلم.
    وقوله: {أين ما تكونوا...}
    إذا رأيت حروف الاستفهام قد وصلت بـ (ما)، مثل قوله: أينما، ومتى ما، وأيّ ما، وحيث ما، وكيف ما، و{أيّاًما تدعوا} كانت جزاء ولم تكن استفهاما. فإذا لم توصل بـ (ما) كان الأغلب عليها الاستفهام، وجاز فيها الجزاء.
    [معاني القرآن: 1/85]
    فإذا كانت جزاء جزمت الفعلين: الفعل الذي مع أينما وأخواتها، وجوابه؛ كقوله: {أين ما تكونوا يأت بكم اللّه} فإن أدخلت الفاء في الجواب رفعت الجواب؛ فقلت في مثله من الكلام: أينما تكن فآتيك. كذلك قول الله - تبارك وتعالى - {ومن كفر فأمتّعه}.
    فإذا كانت استفهاما رفعت الفعل الذي يلي أين وكيف، ثم تجزم الفعل الثاني؛ ليكون جوابا للاستفهام، بمعنى الجزاء؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {هل أدلّكم على تجارةٍ تنجيكم من عذابٍ أليم} ثم أجاب الاستفهام بالجزم؛ فقال - تبارك وتعالى - {يغفر لكم ذنوبكم}.
    فإذا أدخلت في جواب الاستفهام فاءً نصبت كما قال الله - تبارك وتعالى - {لولا أًخّرتني إلى أجلٍ قريبٍ فأًصّدّق} فنصب.
    فإذا جئت إلى العطوف التي تكون في الجزاء وقد أجبته بالفاء كان لك في العطف ثلاثة أوجه؛ إن شئت رفعت العطف؛ مثل قولك: إن تأتني فإني أهل ذاك، وتؤجر وتحمد، وهو وجه الكلام. وإن شئت جزمت، وتجعله كالمردود على موضع الفاء. والرفع على ما بعد الفاء. وقد قرأت القرّاء "من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم". رفع وجزم . وكذلك {إن تبدوا الصّدقات
    [معاني القرآن: 1/86]
    فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لّكم ويكفّر} جزم ورفع. ولو نصبت على ما تنصب عليه عطوف الجزاء إذا استغنى لأصبت؛ كما قال الشاعر:
    فإن يهلك النعمان تعر مطّيةٌ * وتخبأ في جوف العياب قطوعها
    وإن جزمت عطفا بعد ما نصبت تردّه على الأوّل، كان صوابا؛ كما قال بعد هذا البيت:
    وتنحط حصانٌ آخر اللّيل نحطةً * تقصّم منها - أو تكاد - ضلوعها
    وهو كثير في الشعر والكلام. وأكثر ما يكون النصب في العطوف إذا لم تكن في جواب الجزاء الفاء، فإذا كانت الفاء فهو الرفع والجزم.
    وإذا أجبت الاستفهام بالفاء فنصبت فانصب العطوف، وإن جزمتها فصواب. من ذلك قوله في المنافقين {لولا أخّرتني إلى أجلٍ قريبٍ فأصّدّق وأكن" رددت "وأكن" على موضع الفاء؛ لانها في محلّ جزمٍ؛ إذ كان الفعل إذا وقع موقعها بغير الفاء جزم. والنصب على أن تردّه على ما بعدها، فتقول: "وأكون" وهي في قراءة عبد الله بن مسعود "وأكون" بالواو، وقد قرأ بها بعض القرّاء. قال: وأرى ذلك صوابا؛ لأن الواو ربما حذفت من الكتاب
    [معاني القرآن: 1/87]
    وهي تراد؛ لكثرة ما تنقص وتزاد في الكلام؛ ألا ترى أنهم يكتبون "الرحمن" وسليمن بطرح الألف والقراءة بإثباتها؛ فلهذا جازت. وقد أسقطت الواو من قوله: {سندع الزّبانية} ومن قوله: {ويدع الإنسان بالشّرّ} الآية، والقراءة على نيّة إثبات الواو. وأسقطوا من الأيكة ألفين فكتبوها في موضع ليكة، وهي في موضع آخر الأيكة، والقرّاء على التمام، فهذا شاهد على جواز "وأكون من الصّالحين".
    وقال بعض الشعراء:
    فأبلوني بليّتكم لعلّي * أصلكم وأستدرج نويّا
    فجزم (وأستدرج). فإن شئت رددته إلى موضع الفاء المضمرة في لعلّى، وإن شئت جعلته في موضع رفع فسكّنت الجيم لكثرة توالى الحركات. وقد قرأ بعض القراء "لا يحزنهم الفزع الأكبر" بالجزم وهم ينوون الرفع، وقرءوا "أنلزمكموها وأنتم لها كارهون" والرفع أحبّ إليّ من الجزم.
    [معاني القرآن: 1/88]
    وقوله: {لئلاّ يكون للنّاس عليكم حجّةٌ إلاّ الّذين ظلموا منهم...}
    يقول القائل: كيف استثنى الذين ظلموا في هذا الموضع؟ ولعلهم توهّموا أن ما بعد إلاّ يخالف ما قبلها؛ فإن كان ما قبل إلاّ فاعلا كان الذي بعدها خارجا من الفعل الذي ذكر، وإن كان قد نفى عما قبلها الفعل ثبت لما بعد إلا؛ كما تقول: ذهب الناس إلاّ زيدا، فزيد خارج من الذهاب، ولم يذهب الناس إلا زيد، فزيد ذاهب، والذهاب مثبت لزيد.
    فقوله: {إلاّ الّذين ظلموا} [معناه: إلا الذين ظلموا منهم]، فلا حجّة لهم {فلا تخشوهم} وهو كما تقول في الكلام: الناس كلّهم [لك] حامدون إلا الظالم لك المعتدي عليك، فإن ذلك لا يعتدّ بعداوته ولا بتركه الحمد لموضع العداوة. وكذلك الظالم لا حجّة له. وقد سمّي ظالما.
    وقد قال بعض النحويين: إلا في هذا الموضع بمنزلة الواو؛ كأنه قال: {لئلاّ يكون للنّاس عليكم حجّةٌ} ولا للذين ظلموا. فهذا صواب في التفسير، خطأ في العربية؛ إنما تكون إلا بمنزلة الواو إذا عطفتها على استثناء قبلها، فهنالك تصير بمنزلة الواو؛ كقولك: لي على فلان ألف إلا عشرة إلا مائة، تريد بـ (إلاّ) الثانية أن ترجع على الألف، كأنك أغفلت المائة فاستدركتها فقلت: اللهمّ
    [معاني القرآن: 1/89]
    إلا مائة. فالمعنى له عليّ ألف ومائة، وأن تقول: ذهب الناس إلا أخاك، اللهمّ إلا أباك. فتستثنى الثاني، تريد: إلا أباك وإلا أخاك؛ كما قال الشاعر:
    ما بالمدينة دار غير واحدةٍ * دار الخليفة إلا دار مروانا
    كأنه أراد: ما بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان.
    وقوله: {ولكلٍّ وجهةٌ...}
    العرب تقول: هذا أمر ليس له وجهة، وليس له جهة، وليس له وجه؛ وسمعتهم يقولون: وجّه الحجر، جهةٌ مّاله، ووجهة مّاله، ووجهٌ مّاله. ويقولون: ضعه غير هذه الوضعة، والضّعة، والضعة. ومعناه: وجّه الحجر فله جهة؛ وهو مثل، أصله في البناء يقولون: إذا رأيت الحجر في البناء لم يقع موقعه فأدره فإنك ستقع على جهته. ولو نصبوا على قوله: وجّهه جهته لكان صوابا.
    وقوله: {واخشوني...}
    أثبتت فيها الياء ولم تثبت في غيرها، وكلّ ذلك صواب، وإنما استجازوا حذف الياء لأن كسرة النون تدلّ عليها، وليست تهيّب العرب حذف الياء من آخر الكلام إذا كان ما قبلها مكسورا، من ذلك "ربّي أكرمن - و- أهانن" في سورة "الفجر" وقوله: {أتمدّونن بمالٍ} ومن غير النون "المناد" و"الداع" وهو كثير، يكتفى من الياء بكسرة ما قبلها، ومن الواو بضمّة ما قبلها؛ مثل قوله:
    [معاني القرآن: 1/90]
    {سندع الزّبانية - ويدع الإنسان} وما أشبهه، وقد تسقط العرب الواو وهي واو جماع، اكتفي بالضمّة قبلها فقالوا في ضربوا: قد ضرب، وفي قالوا: قد قال ذلك، وهي في هوازن وعليا قيس؛ أنشدني بعضهم:
    إذا ما شاء ضرّوا من أرادوا * ولا يألو لهم أحد ضرارا
    وأنشدني الكسائي:
    متى تقول خلت من أهلها الدار * كأنهم بجناحى طائر طاروا
    وأنشدني بعضهم:
    فلو أن الأطبّا كان عندي * وكان مع الأطباء الأساة
    وتفعل ذلك في ياء التأنيث؛ كقول عنترة:
    إن العدوّ لهم إليك وسيلة * إن يأخذوك تكحّلي وتخضّب
    يحذفون (ياء التأنيث) وهي دليل على الأنثى اكتفاء بالكسرة.
    [معاني القرآن: 1/91]
    وقوله: {كما أرسلنا فيكم...}
    جواب لقوله: {فاذكروني أذكركم}: كما أرسلنا، فهذا جواب (مقدّم ومؤخّر).
    وفيها وجه آخر: تجعلها من صلة ما قبلها لقوله: {أذكركم} ألا ترى أنه قد جعل لقوله: {اذكروني} جوابا مجزوما، (فكان في ذلك دليل) على أن الكاف التي في (كما) لما قبلها؛ لأنك تقول في الكلام: كما أحسنت فأحسن. ولا تحتاج إلى أن تشترط لـ (أحسن)؛ لأن الكاف شرط، معناه افعل كما فعلت. وهو في العربية أنفذ من الوجه الأوّل مما جاء به التفسير؛ وهو صواب بمنزلة جزاء يكون له جوابان؛ مثل قولك: إذا أتاك فلان فأته ترضه. فقد صارت (فأته) و(ترضه) جوابين.
    وقوله: {واشكروا لي...}
    العرب لا تكاد تقول: شكرتك، إنما تقول: شكرت لك، ونصحت لك. ولا يقولون: نصحتك، وربما قيلتا؛ قال بعض الشعراء:
    هم جمعوا بؤسي ونعمي عليكم * فهلاّ شكرت القوم إذ لم تقاتل
    وقال النابغة:
    نصحت بني عوفٍ فلم يتقبّلوا * رسولي ولم تنجح لديهم وسائلي
    [معاني القرآن: 1/92]
    وقوله: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه أمواتٌ...}
    رفع بإضمار مكني من أسمائهم؛ كقولك: لا تقولوا: هم أموات بل هم أحياء. ولا يجوز في الأموات النصب؛ لأن القول لا يقع على الأسماء إذا أضمرت وصوفها أو أظهرت؛ كما لا يجوز قلت عبد الله قائما، فكذلك لا يجوز نصب الأموات؛ لأنك مضمر لأسمائهم، إنما يجوز النصب فيما قبله القول إذا كان الاسم في معنى قولٍ؛ من ذلك: قلت خيرا، وقلت شرّا. فترى الخير والشرّ منصوبين؛ لأنهما قول، فكأنك قلت: قلت كلاما حسنا أو قبيحا. وتقول: قلت لك خيرا، وقلت لك خير، فيجوز، إن جعلت الخير قولا نصبته كأنك قلت: قلت لك كلاما، فإذا رفعته فليس بالقول، إنما هو بمنزلة قولك: قلت لك مال.
    فابن على ذا ما ورد عليك؛ من المرفوع قوله: {سيقولون ثلاثةٌ رابعهم كلبهم} و"خمسةٌ" و"سبعةٌ"، لا يكون نصبا؛ لأنه إخبار عنهم فيه أسماء مضمرة؛ كقولك: هم ثلاثة، وهم خمسة. وأمّا قوله - تبارك وتعالى -: {ويقولون طاعةٌ} فإنه رفع على غير هذا المذهب. وذلك أن العرب كانوا يقال لهم: لا بدّ لكم من الغزو في الشتاء والصيف، فيقولون: سمع وطاعة؛ معناه: منّا السمع والطاعة، فجرى الكلام على الرفع. ولو نصب على: نسمع سمعا ونطيع طاعة كان صوابا.
    وكذلك قوله تبارك وتعالى في سورة محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم: {فأولى لهم طاعةٌ وقولٌ معروف}. عيّرهم وتهدّدهم بقوله: "فأولى لهم"، ثم ذكر ما يقولون فقال: يقولون إذا أمروا "طاعة". "فإذا عزم الأمر" نكلوا
    [معاني القرآن: 1/93]
    وكذبوا فلم يفعلوا. فقال الله تبارك وتعالى: {فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم}، وربما قال بعضهم: إنما رفعت الطاعة بقوله: لهم طاعة، وليس ذلك بشيء. والله أعلم. ويقال أيضا: "وذكر فيها القتال" و"طاعة" فأضمر الواو، وليس ذلك عندنا من مذاهب العرب، فإن يك موافقا للتفسير فهو صواب.
    وقوله: {ولنبلونّكم بشيءٍ مّن الخوف والجوع ونقصٍ مّن الأموال والأنفس والثّمرات...}
    ولم يقل (بأشياء) لاختلافها. وذلك أن من تدلّ على أن لكل صنفٍ منها شيئا مضمرا: بشيء من الخوف وشيء من كذا، ولو كان بأشياء لكان صوابا.
    وقوله: {قالوا إنّا للّه...}
    لم تكسر العرب (إنا) إلا في هذا الموضع مع اللام في التوجّع خاصّة. فإذا لم يقولوا (للّه) فتحوا فقالوا: إنا لزيد محبّون، وإنا لربّنا حامدون عابدون. وإنما كسرت في {إنّا للّه} لأنها استعملت فصارت كالحرف الواحد، فأشير إلى النون بالكسر لكسرة اللام التي في "للّه"؛ كما قالوا: هالك وكافر، كسرت الكاف
    [معاني القرآن: 1/94]
    من كافر لكسرة الألف؛ لأنه حرف واحد، فصارت "إنا للّه" كالحرف الواحد لكثرة استعمالهم إياها، كما قالوا: الحمد للّه). [معاني القرآن: 1/95]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:55 am

    وقوله: {فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما...}
    كان المسلمون قد كرهوا الطواف بين الصفا والمروة؛ لصنمين كانا عليهما، فكرهوا أن يكون ذلك تعظيما للصنمين، فأنزل الله تبارك وتعالى: {إنّ الصّفا والمروة من شعائر اللّه فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما} وقد قرأها بعضهم "ألاّ يطّوف" وهذا يكون على وجهين؛ أحدهما أن تجعل "لا" مع "أن" صلة على معنى الإلغاء؛ كما قال: {ما منعك ألاّ تسجد إذ أمرتك} والمعنى: ما منعك أن تسجد. والوجه الآخر أن تجعل الطواف بينهما يرخّص في تركه. والأوّل المعمول به.
    وقوله: {ومن تطوّع خيراً...}
    تنصب على (جهة فعل). وأصحاب عبد الله وحمزة "ومن يطّوّع"؛ لأنها في مصحف عبد الله "يتطوع".
    وقوله: {أولائك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللاّعنون...}
    قال ابن عباس: "اللاعنون" كلّ شيء على وجه الأرض إلا الثقلين. [و] قال عبد الله بن مسعود: إذا تلا عن الرجلان فلعن أحدهما صاحبه وليس أحدهما
    [معاني القرآن: 1/95]
    مستحقّ اللعن رجعت اللعنة على المستحقّ لها، فإن لم يستحقّها واحد منهما رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله تبارك وتعالى. فجعل اللعنة من المتلاعنين من الناس على ما فسّر.
    وقوله: {إن الّذين كفروا وماتوا وهم كفّارٌ أولئك عليهم لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين...}
    فـ "الملائكة والناس" في موضع خفض؛ تضاف اللعنة إليهم على معنى: عليهم لعنة الله ولعنة الملائكة ولعنة الناس. وقرأها الحسن "لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعون" وهو جائز في العربية وإن كان مخالفا للكتاب. وذلك أن قولك (عليهم لعنة اللّه) كقولك يلعنهم الله ويلعنهم الملائكة والناس. والعرب تقول: عجبت من ظلمك نفسك، فينصبون النفس؛ لأن تأويل الكاف رفع. ويقولون: عجبت من غلبتك نفسك، فيرفعون النفس؛ لأن تأويل الكاف نصب. فابن على ذا ما ورد عليك.
    ومن ذلك قول العرب: عجبت من تساقط البيوت بعضها على بعض، وبعضها على بعض. فمن رفع ردّ البعض إلى تأويل البيوت؛ لأنها رفع؛ ألا ترى أن المعنى: عجبت من أن تساقطت بعضها على بعض. ومن خفض أجراه على لفظ البيوت، كأنه قال: من تساقط بعضها على بعض.
    وأجود ما يكون فيه الرفع أن يكون الأوّل الذي في تأويل رفع أو نصب قد كنى عنه؛ مثل قولك: عجبت من تساقطها. فتقول ها هنا: عجبت من
    [معاني القرآن: 1/96]
    تساقطها بعضها على بعض؛ لأن الخفض إذا كنيت عنه قبح أن ينعت بظاهر، فردّ إلى المعنى الذي يكون رفعا في الظاهر، والخفض جائز. وتعمل فيما تأويله النصب بمثل هذا فتقول: عجبت من إدخالهم بعضهم في إثر بعض؛ تؤثر النصب في (بعضهم)، ويجوز الخفض.
    وقوله: {وتصريف الرّياح...}
    تأتى مرّة جنوبا، ومرّة شمالا، وقبولا، ودبورا. فذلك تصريفها.
    وقوله: {ومن النّاس من يتّخذ من دون اللّه أنداداً يحبّونهم كحبّ اللّه...}
    يريد - والله أعلم - يحبّون الأنداد، كما يحبّ المؤمنون الله. ثم قال: {والّذين آمنوا أشدّ حبّاً للّه} من أولئك لأنداد.
    وقوله: {ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب...}
    يوقع "يرى" على "أن القوة لله وأن الله" وجوابه متروك. والله أعلم. (وقوله): {ولو أنّ قرآناً سيّرت به الجبال أو قطّعت} وترك الجواب في القرآن كثير؛ لأن معاني الجنة والنار مكرر معروف. وإن شئت كسرت إنّ وإنّ وأوقعت "يرى" على "إذ" في المعنى. وفتح أنّ وأنّ مع الياء أحسن من كسرها.
    ومن قرأ "ولو ترى الّذين ظلموا" بالتاء كان وجه الكلام أن يقول "إن القوة..." بالكسر "وإن..."؛ لأن "ترى" قد وقعت على (الذين ظلموا)
    [معاني القرآن: 1/97]
    فاستؤنفت "إن - (وإنّ)" ولو فتحتهما على تكرير الرّؤية من "ترى" ومن "يرى" لكان صوابا؛ كأنه قال: "ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب" يرون {أنّ القوّة للّه جميعاً}.
    وقوله: {أولو كان آباؤهم...}
    تنصب هذه الواو؛ لأنها ولو عطفٍ أدخلت عليها ألف الاستفهام، وليست بـ (أو) التي واوها ساكنة؛ لأن الألف من أو لا يجوز إسقاطها، وألف الاستفهام تسقط؛ فتقول: ولو كان، أو لو كان إذا استفهمت.
    وإنما عيّرهم الله بهذا لما قالوا {بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا} قال الله تبارك وتعالى: يا محمد قل {أولو كان آباؤهم} فقال "آباؤهم" لغيبتهم، ولو كانت "آباؤكم" لجاز؛ لأن الأمر بالقول يقع مخاطبا؛ مثل قولك: قل لزيد يقم، وقل له قم. ومثله {أولو كان الشّيطان يدعوهم}، {أولم يسيروا}.
    ومن سكّن الواو من قوله: {أو آباؤنا الأوّلون} في الواقعة وأشباه ذلك في القرآن، جعلها "أو" التي تثبت الواحد من الاثنين. وهذه الواو في فتحها بمنزلة قوله: {أثمّ إذا ما وقع} دخلت ألف الاستفهام على "ثمّ" وكذلك "أفلم يسيروا".
    [معاني القرآن: 1/98]
    وقوله: {ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق...}
    أضاف المثل إلى الذين كفروا، ثم شبّههم بالراعي. ولم يقل: كالغنم. والمعنى - والله أعلم - مثل الذين كفروا (كمثل البهائم) التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت، فلو قال لها: ارعي أو اشربي، لم تدر ما يقول لها. فكذلك مثل الذين كفروا فيما يأتيهم من القرآن وإنذار الرسول. فأضيف التشبيه إلى الراعي، والمعنى - والله أعلم - في المرعي. وهو ظاهر في كلام العرب أن يقولوا: فلان يخافك كخوف الأسد، والمعنى: كخوفه الأسد؛ لأن الأسد هو المعروف بأنه المخوف. وقال الشاعر:
    لقد خفت حتى ما تزيد مخافتي * على وعلٍ في ذى المطارة عاقل
    والمعنى: حتى ما تزيد مخافة وعلٍ على مخافتي. وقال الآخر:
    كانت فريضة ما تقول كما * كان الزناء فريضة الرّجم
    والمعنى: كما كان الرجم فريضة الزناء. فيتهاون الشاعر بوضع الكلمة على صحّتها لاتّضاح المعنى عند العرب. وأنشدني بعضهم:
    إن سراجا لكريم مفخره * تحلى به العين إذا ما تجهره
    والعين لا تحلى به، إنما يحلى هو بها.
    [معاني القرآن: 1/99]
    وفيها معنىً آخر: تضيف المثل إلى (الذين كفروا)، وإضافته في المعنى إلى الوعظ؛ كقولك مثل وعظ الذين كفروا وواعظهم كمثل الناعق؛ كما تقول: إذا لقيت فلانا فسلّم عليه تسليم الأمير. وإنما تريد به: كما تسلّم على الأمير. وقال الشاعر:
    فلست مسلّما ما دمت حيّاً * على زيدٍ بتسليم الأمير
    وكلٌّ صواب.
    وقوله: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون...}
    رفع؛ وهو وجه الكلام؛ لأنه مستأنف خبرٍ، يدلّ عليه قوله: {فهم لا يعقلون} كما تقول في الكلام: هو أصمّ فلا يسمع، وهو أخرس فلا يتكلّم. ولو نصب على الشتمّ مثل الحروف في أوّل سورة البقرة في قراءة عبد الله "وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون صمّاً بكماً عمياً" لجاز.
    وقوله: {إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير...}
    نصب لوقوع "حرّم" عليها. وذلك أن قولك "إنّما" على وجهين: أحدهما أن تجعل "إنّما" حرفا واحدا، ثم تعمل الأفعال التي تكون بعدها [في] الأسماء، فإن كانت رافعة رفعت، وإن كانت ناصبة نصبت؛ فقلت: إنما دخلت دارك، وإنما أعجبتني دارك، وإنّما مالي مالك. فهذا حرف واحد.
    [معاني القرآن: 1/100]
    وأمّا الوجه الآخر فأن بجعل "ما" منفصلة من (إنّ) فيكون "ما" على معنى الذي، فإذا كانت كذلك وصلتها بما يوصل به الذي، ثم يرفع الاسم الذي يأتي بعد الصلة؛ كقولك إنّ ما أخذت مالك، إن ما ركبت دابّتك. تريد: إن الذي ركبت دابتك، وإن الذي أخذت مالك. فأجرهما على هذا.
    وهو في التنزيل في غير ما موضع؛ من ذلك قوله تبارك وتعالى: {إنّما الل‍ّه إلهٌ واحدٌ}، {إنّما أنت نذيرٌ} فهذه حرف واحد، هي وإنّ، لأن "الذي" لا تحسن في موضع "ما".
    وأمّا التي في مذهب (الذي) فقوله: {إنّما صنعوا كيد ساحرٍ} معناه: إن الذي صنعوا كيد ساحرٍ. ولو قرأ قارئ "إنما صنعوا كيد ساحرٍ" نصبا كان صوابا إذا جعل إنّ وما حرفا واحدا. وقوله: {إنّما اتّخذتم من دون اللّه أوثاناً مودّة بينكم} قد نصب المودّة قوم، ورفعها آخرون على الوجهين اللذين فسّرت لك. وفي قراءة عبد الله "إنما مودّة بينكم في الحياة الدنيا" فهذه حجّة لمن رفع المودّة؛ لأنها مستأنفة لم يوقع الاتّخاذ عليها، فهو بمنزلة قولك: إن الذي صنعتموه ليس بنافع، مودّة بينكم ثم تنقطع بعد. فإن شئت رفعت المودّة بـ "بين"؛ وإن شئت أضمرت لها اسما قبلها يرفعها؛ كقوله "سورةٌ أنزلناها" وكقوله: {لم يلبثوا إلاّ ساعةً من نهارٍ بلاغٌ فهل يهلك}.
    [معاني القرآن: 1/101]
    فإذا رأيت "إنّما" في آخرها اسم من الناس وأشباههم ممّا يقع عليه "من" فلا تجعلنّ "ما" فيه على جهة (الذي)؛ لأن العرب لا تكاد تجعل "ما" للناس. من ذلك: إنّما ضربت أخاك، ولا تقل: أخوك؛ لأن "ما" لا تكون للناس.
    فإذا كان الاسم بعد "إنّما" وصلتها من غير الناس جاز فيه لك الوجهان؛ فقلت: إنّما سكنت دارك. وإن شئت: دارك.
    وقد تجعل العرب "ما" في بعض الكلام للناس، وليس بالكثير. وفي قراءة عبد الله "والنّهار إذا تجلّى والذّكر والأنثى" وفي قراءتنا "وما خلق الذّكر والأنثى" فمن جعل "ما خلق" للذكر والأنثى جاز أن يخفض "الذكر والأنثى": كأنه قال والذي خلق: الذكر والأنثى. ومن نصب "الذكر" جعل "ما" و"خلق" كقوله: وخلقه الذكر والأنثى، يوقع خلق عليه. والخفض فيه على قراءة عبد الله حسن، والنصب أكثر.
    ولو رفعت "إنّما حرّم عليكم الميتة" كان وجها. وقد قرأ بعضهم: "إنما حرّم عليكم المّيتة" ولا يجوز هاهنا إلا رفع الميتة والدم؛ لأنك إن جعلت "إنّما"حرفا واحدا رفعت الميتة والدم؛ لأنه فعل لم يسمّ فاعله، وإن جعلت "ما" على جهة (الذي) رفعت الميتة والدم؛ لأنه خبر لـ"ما".
    وقوله: {وما أهلّ به لغير اللّه...}
    الإهلال: ما نودي به لغير الله على الذباح [وقوله] {فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ} [(غير) في هذا الموضع حال للمضطرّ؛ كأنك قلت: فمن اضطرّ لا باغيا
    [معاني القرآن: 1/102]
    ولا عاديا] فهو له حلال. والنصب ها هنا بمنزلة قوله: {أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم غير محلّي الصّيد} ومثله {إلاّ أن يؤذن لكم إلى طعامٍ غير ناظرين إناه} و"غير" ها هنا لا؛ تصلح "لا" في موضعها؛ لأنّ "لا" تصلح في موضع غير. وإذا رأيت "غير" يصلح "لا" في موضعها فهي مخالفة "لغير" التي لا تصلح "لا" في موضعها.
    ولا تحلّ الميتة للمضطرّ إذا عدا على الناس بسيفه، أو كان في سبيل من سبل المعاصي. ويقال: إنه لا ينبغي لآكلها أن يشبع منها، ولا أن يتزوّد منها شيئا. إنما رخّص له فيما يمسك نفسه.
    قوله: {فما أصبرهم على النّار...}
    فيه وجهان: أحدهما معناه: فما الذي صبّرهم على النار؟. والوجه الآخر: فما أجرأهم على النار! قال الكسائيّ: سألني قاضى اليمن وهو بمكّة، فقال: اختصم إليّ رجلان من العرب، فحلف أحدهما على حقّ صاحبه، فقال له: ما أصبرك على الله! وفي هذه أن يراد بها: ما أصبرك على عذاب الله، ثم تلقى العذاب فيكون كلاما؛ كما تقول: ما أشبه سخاءك بحاتم). [معاني القرآن: 1/103]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:55 am

    وقوله: {لّيس البرّ أن تولّوا وجوهكم...}
    إن شئت رفعت "البرّ" وجعلت "أن تولوا" في موضع نصب. وإن شئت نصبته وجعلت "أن تولّوا" في موضع رفع؛ كما قال: {فكان عاقبتهما أنّهما في النّار}
    [معاني القرآن: 1/103]
    في كثير من القرآن. وفي إحدى القراءتين "ليس البرّ بأن"، فلذلك اخترنا الرفع في "البرّ"، والمعنى في قوله: {ليس البرّ بأن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} أي ليس البرّ كله في توجّهكم إلى الصلاة واختلاف القبلتين {ولكنّ البرّ من آمن باللّه} ثم وصف ما وصف إلى آخر الآية. وهي من صفات الأنبياء لا لغيرهم.
    وأمّا قوله: {ولكنّ البرّ من آمن باللّه} فإنه من كلام العرب أن يقولوا: إنما البرّ الصادق الذي يصل رحمه، ويخفى صدقته فيجعل الاسم خبرا للفعل والفعل خبراً للاسم؛ لأنه أمر معروف المعنى.
    فأمّا الفعل الذي جعل خبرا للاسم فقوله: {ولا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيراً لهم} فـ (هو) كناية عن البخل. فهذا لمن جعل "الذين" في موضع نصبٍ وقرأها "تحسبنّ" بالتاء. ومن قرأ بياء جعل "الذين" في موضع رفع، وجعل (هو) عمادا للبخل المضمر، فاكتفى بما ظهر في "يبخلون" من ذكر البخل؛ ومثله في الكلام:
    هم الملوك وأبناء الملوك لهم * والآخذون به والساسة الأول
    قوله: به يريد: بالملك، وقال آخر:
    إذا نهي السفيه جرى إليه * وخالف والسفيه إلى خلاف
    يريد إلى السفه.
    [معاني القرآن: 1/104]
    وأما الأفعال التي جعلت أخبارا للناس فقول الشاعر:
    لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى * ولكنما الفتان كلّ فتىً ندي
    فجعل "أن" خبرا للفتيان.
    وقوله: {من آمن باللّه} (من) في موضع رفع، وما بعدها صلة لها، حتى ينتهي إلى قوله: {والموفون بعهدهم} فتردّ "الموفون" على "من" و"والموفون" من صفة "من" كأنه: من آمن ومن فعل وأوفى. ونصبت "الصابرين"؛ لأنها من صفة "من" وإنما نصبت لأنها من صفة اسم واحد، فكأنه ذهب به إلى المدح؛ والعرب تعترض من صفات الواحد إذا تطاولت بالمدح أو الذمّ فيرفعون إذا كان الاسم رفعا، وينصبون بعض المدح فكأنهم ينوون إخراج المنصوب بمدحٍ مجدّدٍ غير متبع لأوّل الكلام؛ من ذلك قول الشاعر:
    لا يبعدن قومى الذين هم * سمّ العداة وآفة الجزر
    النازلين بكلّ معتركٍ * والطيّبين معاقد الأزر
    وربما رفعوا (النازلون) و(الطيبون)، وربما نصبوهما على المدح، والرفع على أن يتبع آخر الكلام أوّله. وقال بعض الشعراء:
    إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم
    وذا الرأي حين تغمّ الأمور * بذات الصليل وذات الّلجم
    [معاني القرآن: 1/105]
    فنصب (ليث الكتيبة) و(ذا الرأي) على المدح والاسم قبلهما مخفوض؛ لأنه من صفة واحدٍ، فلو كان الليث غير الملك لم يكن إلا تابعا؛ كما تقول مررت بالرجل والمرأة، وأشباهه. قال: وأنشدني بعضهم:
    فليت التي فيها النجوم تواضعت * على كل غثّ منهم وسمين
    غيوث الحيا في كل محلٍ ولزبةٍ * أسود الشّرى يحمين كلّ عرين
    فنصب. ونرى أنّ قوله: {لكن الرّاسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصّلاة والمؤتون الزّكاة} أنّ نصب "المقيمين" على أنه نعت للراسخين، فطال نعته ونصب على ما فسّرت لك. وفي قراءة عبد الله "والمقيمون - والمؤتون" وفي قراءة أبيّ "والمقيمين" ولم يجتمع في قراءتنا وفي قراءة أبيّ إلا على صوابٍ. والله أعلم.
    حدّثنا الفرّاء: قال: وقد حدثني أبو معاوية الصرير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها سئلت عن قوله: {إنّ هذان لساحران} وعن قوله: {إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والصّابئون} وعن قوله: {والمقيمين الصّلاة والمؤتون الزّكاة} فقالت: يا بن أخي هذا كان خطأ من الكاتب.
    [معاني القرآن: 1/106]
    وقال فيه الكسائيّ "والمقيمين" موضعه خفض يردّ على قوله: {بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}: ويؤمنون بالمقيمين الصلاة هم والمؤتون الزكاة. قال: وهو بمنزلة قوله: {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} وكان النحويّون يقولون "المقيمين" مردودة على {بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك... إلى المقيمين} وبعضهم "لكن الراسخون في العلم منهم" ومن "المقيمين" وبعضهم "من قبلك" ومن قبل "المقيمين".
    وإنما امتنع من مذهب المدح - يعني الكسائيّ - الذي فسّرت لك لأنه قال: لا ينصب الممدوح إلا عند تمام الكلام، ولم يتمم الكلام في سورة النساء. ألا ترى أنك حين قلت "لكن الراسخون في العلم منهم - إلى قوله "والمقيمين - والمؤتون" كأنك منتظر لخبره وخبره في قوله: {أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً} والكلام أكثره على ما وصف الكسائيّ. ولكن العرب إذا تطاولت الصفة جعلوا الكلام في الناقص وفي التامّ كالواحد؛ ألا ترى أنهم قالوا في الشعر:
    حتى إذا قملت بطونكم * ورأيتم أبناءكم شبّوا
    وقلبتم ظهر المجنّ لنا * إنّ اللئيم العاجز الخبّ
    فجعل جواب (حتى إذا) بالواو، وكان ينبغي ألا يكون فيه واو، فاجتزئ بالإتباع ولا خبر بعد ذلك. وهذا أشدّ ما وصفت لك.
    [معاني القرآن: 1/107]
    ومثله في قوله: {حتّى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها} ومثله وفي قوله: {فلمّا أسلما وتلّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم} جعل بالواو. وفي قراءة عبد الله "فلمّا جهّزهم بجهازهم وجعل السّقاية" وفي قراءتنا بغير واو. وكلٌّ عربيّ حسن.
    وقد قال بعضهم: "وآتى المال على حبه ذوي القربى - والصابرين" فنصب الصابرين على إيقاع الفعل عليهم. والوجه أن يكون نصبا على نيّة المدح؛ لأنه من صفة شيء واحد. والعرب تقول في النكرات كما يقولونه في المعرفة فيقولون: مررت برجل جميل وشابّاً بعد، ومررت برجل عاقل وشرمحاً طوالا؛ وينشدون قوله:
    ويأوي إلى نسوةٍ بائساتٍ * وشعثاً مراضيع مثل السّعالي
    (وشعثٍ) فيجعلونها خفضا بإتباعها أوّل الكلام، ونصبا على نية ذمّ في هذا الموضع.
    وقوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى...}
    فإنه نزل في حيّين من العرب كان لأحدهما طول على الآخر في الكثرة والشرف، فكانوا يتزوّجون نساءهم بغير مهور، فقتل الأوضع من الحيّين من
    [معاني القرآن: 1/108]
    الشريف قتلى، فأقسم الشريف ليقتلنّ الذكر بالأنثى والحرّ بالعبد وأن يضاعفوا الجراحات، فأنزل الله تبارك وتعالى هذا على نبيّه، ثم نسخه قوله: {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس} إلى آخر الآية. فالأولى منسوخة لا يحكم بها.
    وأما قوله: {فاتّباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسانٍ} فإنه رفع. وهو بمنزلة الأمر في الظاهر؛ كما تقول: من لقي العدوّ فصبرا واحتسابا. فهذا نصب؛ ورفعه جائز. وقوله تبارك وتعالى: {فاتّباعٌ بالمعروف} رفع ونصبه جائز. وإنما كان الرفع فيه وجه الكلام؛ لأنها عامّة فيمن فعل ويراد بها من لم يفعل. فكأنه قال: فالأمر فيها على هذا، فيرفع. وينصب الفعل إذا كان أمرا عند الشيء يقع ليس بدائم؛ مثل قولك للرجل: إذا أخذت في عملك فجدّاً جدّاً وسيرا سيرا. نصبت لأنك لم تنو به العموم فيصير كالشيء الواجب على من أتاه وفعله؛ ومثله قوله: {ومن قتله منكم متعمّداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم} ومثله {فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ} ومثله في القرآن كثير، رفع كله؛ لأنها عامّة. فكأنه قال: من فعل هذا فعليه هذا.
    وأمّا قوله: {فضرب الرّقاب} فإنه حثّهم على القتل إذا لقوا العدوّ؛ ولم يكن الحثّ كالشيء الذي يجب بفعلٍ قبله؛ فلذلك نصب، وهو بمنزلة قولك: إذا لقيتم العدوّ فتهليلا وتكبيرا وصدقا عند تلك الوقعة (- قال الفرّاء: ذلك وتلك لغة قريشٍ، وتميم تقول ذاك وتيك الوقعة -) كأنه حثّ لهم، وليس بالمفروض عليهم أن يكبّروا، وليس شيء من هذا إلا نصبه جائز
    [معاني القرآن: 1/109]
    على أن توقع عليه الأمر؛ فليصم ثلاثة أيّامٍ، فليمسك إمساكا بالمعروف أو يسرّح تسريحا بإحسانٍ.
    وقوله: {ولكم في القصاص حياةٌ...}
    يقول: إذا علم الجاني أنه يقتصّ منه: إن قتل قتل انتهى عن القتل فحيى. فذلك قوله: "حياة".
    وقوله: {كتب عليكم...}
    معناه في كلّ القرآن: فرض عليكم.
    وقوله: {الوصيّة للوالدين والأقربين...}
    كان الرجل يوصى بما أحبّ من ماله لمن شاء من وارثٍ أو غيره، فنسختها آية المواريث. فلا وصية لوارثٍ، والوصيّة في الثلث لا يجاوز، وكانوا قبل هذا يوصى بماله كلّه وبما أحبّ منه.
    و "الوصيّة" مرفوعة بـ "كتب"، وإن شئت جعلت "كتب" في مذهب قيل فترفع الوصية باللام في "الوالدين" كقوله تبارك وتعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظّ الأنثيين}.
    [معاني القرآن: 1/110]
    وقوله: {فمن خاف من مّوصٍ جنفاً...}
    والعرب تقول: وصيّتك وأوصيتك، وفي إحدى القراءتين "وأوصى بها إبراهيم" بالألف. والجنف: الجور. {فأصلح بينهم} وإنما ذكر الموصي وحده فإنه أنما قال "بينهم" يريد أهل المواريث وأهل الوصايا؛ فلذلك قال "بينهم" ولم يذكرهم؛ لأن المعنى يدلّ على أن الصلح إنما يكون في الورثة والموصى لهم.
    وقوله: {كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم...}
    يقال: ما كتب على الذين قبلنا، ونحن نرى النصارى يصومون أكثر من صيامنا وفي غير شهرنا،؟ حدّثنا الفرّاء قال: وحدثني محمد بن أبان القرشي عن أبى أميّة الطنافسيّ عن الشّعبيّ أنه قال: لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشكّ فيه فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان. وذلك أن النصارى فرض عليهم شهر رمضان كما فرض علينا، فحوّلوه إلى الفصل. وذلك أنهم كانوا ربما صاموه في القيظ فعدّوه ثلاثين يوما، ثم جاء بعدهم قرن منهم فأخذوا بالثقة في أنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الآخر يستّن سنّة الأوّل حتى صارت إلى خمسين. فذلك قوله: {كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم}.
    [معاني القرآن: 1/111]
    وقوله: {أيّاماً مّعدوداتٍ...}
    نصبت على أن كلّ ما لم تسمّ فاعله إذا كان فيها اسمان أحدهما غير صاحبه رفعت واحدا ونصبت الآخر؛ كما تقول: أعطي عبد الله المال. ولا تبال أكان المنصوب معرفة أو نكرة. فإن كان الآخر نعتا للأوّل وكانا ظاهرين رفعتهما جميعا فقلت: ضرب عبد الله الظريف، رفعته؛ لأنه عبد الله. وإن كان نكرة نصبته فقلت: ضرب عبد الله راكبا ومظلوما وماشيا وراكبا.
    قوله: {فعدّةٌ مّن أيّامٍ أخر...}
    رفع على ما فسرت لك في قوله "فاتباع بالمعروف" ولو كانت نصبا كان صوابا.
    وقوله: {وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ...}
    يقال: وعلى الذين يطيقون الصوم ولا يصومون أن يطعم مسكينا مكان كل يومٍ يفطره. ويقال: على الذين يطيقونه الفدية يريد الفداء، ثم نسخ هذا فقال تبارك وتعالى: {وأن تصوموا خيرٌ لّكم} من الإطعام.
    وقوله: {شهر رمضان...}
    رفع مستأنف أي: ولكم "شهر رمضان" {الّذي أنزل فيه القرآن} وقرأ الحسن نصبا على التكرير "وان تصوموا" شهر رمضان "خير لكم" والرفع أجود.
    [معاني القرآن: 1/112]
    وقد تكون نصبا من قوله "كتب عليكم الصيام" شهر رمضان" توقع الصيام عليه: أن تصوموا شهر رمضان.
    وقوله: {فمن شهد منكم الشّهر فليصمه} دليل على نسخ الإطعام. يقول: من كان سالما ليس بمريض أو مقيما ليس بمسافر فليصم {ومن كان مريضاً أو على سفرٍ} قضى ذلك. {يريد اللّه بكم اليسر} في الإفطار في السفر {ولا يريد بكم العسر} الصوم فيه.
    وقوله: {ولتكملوا العدّة...}
    في قضاء ما أفطرتم. وهذه اللام في قوله "ولتكملوا العدّة" لام كى لو ألقيت كان صوابا. والعرب تدخلها في كلامها على إضمار فعلٍ بعدها. ولا تكون شرطا للفعل الذي قبلها وفيها الواو. ألا ترى أنك تقول: جئتك لتحسن إليّ، ولا تقول جئتك ولتحسن إليّ. فإذا قلته فأنت تريد: ولتحسن إليّ جئتك. وهو في القرآن كثير. منه قوله: {ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة} ومنه قوله: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السّموات والأرض وليكون من الموقنين} لو لم تكن فيه الواو كان شرطا، على قولك: أريناه ملكوت السموات ليكون. فإذا كانت الواو فيها فلها فعل مضمر بعدها {وليكون من الموقنين} أريناه. ومنه (في غير) اللام قوله: {إنّا زيّنّا السّماء الدّنيا بزينةٍ الكواكب} ثم قال "وحفظاً" لو لم تكن الواو كان الحفظ منصوبا بـ "زينا". فإذا كانت فيه الواو وليس قبله شيء ينسق عليه
    [معاني القرآن: 1/113]
    فهو دليل على أنه منصوب بفعلٍ مضمرٍ بعد الحفظ؛ كقولك في الكلام: قد أتاك أخوك ومكرما لك، فإنما ينصب المكرم على أن تضمر أتاك بعده.
    وقوله: {وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ...}
    قال المشركون للنبيّ صلى الله عليه وسلم: كيف يكون ربّنا قريبا يسمع دعاءنا، وأنت تخبرنا أن بيننا وبينه سبع سموات غلظ كلّ سماءٍ مسيرة خمسمائة عامٍ وبينهما مثل ذلك؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: {وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ} أسمع ما يدعون {فليستجيبوا لي} يقال: إنها التلبية.
    وقوله: {أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم...}
    وفي قراءة عبد الله "فلا رفوث ولا فسوق" وهو الجماع فيما ذكروا؛ رفعته بـ "أحل لكم"؛ لأنك لم تسمّ فاعله.
    وقوله: {فالآن باشروهنّ...}
    يقول: عند الرّخصة التي نزلت ولم تكن قبل ذلك لهم. وقوله: {وابتغوا ما كتب اللّه لكم وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم} يقال: الولد، ويقال: "اتبعوا" بالعين. وسئل عنهما ابن عباس فقال: سواء.
    وقوله: {حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود...}
    [معاني القرآن: 1/114]
    فقال رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أهو الخيط الأبيض والخيط الأسود؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك لعريض القفا؛ هو الليل من النهار".
    وقوله: {وتدلوا بها إلى الحكّام} وفي قراءة أبيّ "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تدلوا بها إلى الحكّام" فهذا مثل قوله: {ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ} معناه: ولا تكتموا. وإن شئت جعلته إذا ألقيت منه "لا" نصبا على الصرف؛ كما تقول: لا تسرق وتصدّق. معناه: لا تجمع بين هذين كذا وكذا؛ وقال الشاعر:
    لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله * عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
    والجزم في هذا البيت جائز أي لا تفعلن واحدا من هذين). [معاني القرآن: 1/115]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:55 am

    وقوله: {يسألونك عن الأهلّة...}
    سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نقصان القمر وزيادته ما هو؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: ذلك لمواقيت حجكم وعمرتكم وحلّ ديونكم وانقضاء عدد نسائكم.
    وقوله: {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى وأتوا البيوت من أبوابها...}
    وذلك أن أهل الجاهلية - ألا قريشا ومن ولدته قريش من العرب - كان الرجل منهم إذا أحرم في غير أشهر الحج في بيت مدرٍ أو شعرٍ أو خباءٍ نقب في بيته
    [معاني القرآن: 1/115]
    نقبا من مؤخّره فخرج منه ودخل ولم يخرج من الباب، وإن كان من أهل الأخبية والفساطيط خرج من مؤخّره ودخل منه. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم ورجل محرم يراه، دخل من باب حائطٍ فاتّبعه ذلك الرجل، فقال له: تنحّ عني. قال: ولم؟ قال دخلت من الباب وأنت محرم. قال: إني قد رضيت بسنّتك وهديك. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أحمس" قال: فإذا كنت أحمس فإني أحمس. فوفّق الله الرجل، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وأتوا البيوت من أبوابها واتّقوا اللّه لعلّكم تفلحون}.
    وقوله: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم...}
    فهذا وجه قد قرأت به العامّة. وقرأ أصحاب عبد الله "ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه، فإن قتلوكم فاقتلوهم" والمعنى هاهنا: فإن بدءوكم بالقتل فاقتلوهم. والعرب تقول: قد قتل بنو فلان إذا قتل منهم الواحد. فعلى هذا قراءة أصحاب عبد الله. وكلّ حسن.
    وقوله: {فإن انتهوا} فلم يبدءوكم {فلا عدوان} على الذين انتهوا، إنما العدوان على من ظلم: على من بدأكم ولم ينته.
    فإن قال قائل: أرأيت قوله: {فلا عدوان إلاّ على الظّالمين} أعدوانٌ هو وقد أباحه الله لهم؟ قلنا: ليس بعدوان في المعنى، إنما هو لفظ على مثل ما سبق قبله؛
    [معاني القرآن: 1/116]
    ألا ترى أنه قال: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} فالعدوان من المشركين في اللفظ ظلم في المعنى، والعدوان الذي أباحه الله وأمر به المسلمين إنما هو قصاص. فلا يكون القصاص ظلما، وإن كان لفظه واحدا. ومثله قول الله تبارك وتعالى: {وجزاء سيّئةٍ سيّئةٌ مثلها} وليست من الله على مثل معناها من المسيء؛ لأنها جزاء.
    وقوله: {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه...}
    وفي قراءة عبد الله "وأتمّوا الحجّ والعمرة إلى البيت للّه" فلو قرأ قارئ "والعمرة لله" فرفع العمرة لأن المعتمر إذا أتى البيت فطاف به وبين الصفا والمروة حلّ من عمرته. والحج يأتي فيه عرفاتٍ وجميع المناسك؛ وذلك قوله: {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه} يقول: أتموا العمرة إلى البيت في الحج إلى أقصى مناسكه.
    {فإن أحصرتم} العرب تقول للذي يمنعه من الوصول إلى إتمام حجّه أو عمرته خوف أو مرض، وكل ما لم يكن مقهورا كالحبس والسّجن (يقال للمريض): قد
    [معاني القرآن: 1/117]
    أحصر، وفي الحبس والقهر: قد حصر. فهذا فرق بينهما. ولو نويت في قهر السلطان أنها علّة مانعة ولم تذهب إلى فعل الفاعل جاز لك أن تقول: قد أحصر الرجل. ولو قلت في المرض وشبهه: إن المرض قد حصره أو الخوف، جاز أن تقول: حصرتم. وقوله "وسيّدا وحصورا" [يقال] إنه المحصر عن النساء؛ لأنها علّة وليس بمحبوسٍ. فعلى هذا فابن.
    وقوله: {فما استيسر من الهدي...}
    "ما" في موضع رفع؛ لأن أكثر ما جاء من أشباهه في القرآن مرفوع. ولو نصبت على قولك: أهدوا "ما استيسر".
    وتفسير الهدى في هذا الموضع بدنة أو بقرة أو شاة.
    {فمن لم يجد} الهدى صام ثلاثة أيامٍ يكون آخرها يوم عرفة، واليومان في العشر، فأمّا السبعة فيصومها إذا رجع في طريقه، وإن شاء إذا وصل إلى أهله و"السبعة" فيها الخفض على الإتباع للثلاثة. وإن نصبتها فجائز على فعل مجدّد؛ كما تقول في الكلام: لا بدّ من لقاء أخيك وزيدٍ وزيدا.
    وقوله: {ذلك لمن لّم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} يقول: ذلك لمن كان من الغرباء من غير أهل مكّة، فأمّا أهل مكة فليس ذلك عليهم. و"ذلك" في موضع رفع. وعلى تصلح في موضع اللام؛ أي ذلك على الغرباء.
    [معاني القرآن: 1/118]
    وقوله: {الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ} معناه: وقت الحج هذه الأشهر. فهي وإن كانت "فى" تصلح فيها فلا يقال إلاّ بالرفع، كذلك كلام العرب، يقولون: البرد شهران، والحرّ شهران، لا ينصبون؛ لأنه مقدار الحج. ومثله قوله: {ولسليمان الرّيح غدوّها شهرٌ ورواحها شهرٌ} ولو كانت الأشهر أو الشهر معروفة على هذا المعنى لصلح فيه النصب. ووجه الكلام الرفع؛ لأن الاسم إذا كان في معنى صفةٍ أو محلّ قوي إذا أسند إلى شيء؛ ألا ترى أن العرب يقولون: هو رجل دونك وهو رجل دونٌ، فيرفعون إذا أفردوا، وينصبون إذا أضافوا. ومن كلامهم المسلمون جانبٌ، والكفّار جانب، فإذا قالوا: المسلمون جانب صاحبهم نصبوا. وذلك أن الصاحب يدلّ على محلّ كما تقول: نحو صاحبهم، وقرب صاحبهم. فإذا سقط الصاحب لم تجده محلاّ تقيده قرب شيء أو بعده.
    والأشهر المعلومات شوّالٌ وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. والأشهر الحرم المحرّم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. وإنما جاز أن يقال له أشهر وإنما هما شهران وعشر من ثالثٍ؛ لأن العرب إذا كان الوقت لشيء يكون فيه الحج وشبهه جعلوه في التسمية للثلاثة والاثنين، كما قال الله تبارك وتعالى: {واذكروا اللّه في أيّامٍ معدوداتٍ فمن تعجّل في يومين} وإنما يتعجّل في يومٍ ونصف، وكذلك هو في اليوم الثالث من أيام التشريق وليس منها شيء تامّ، وكذلك تقول العرب: له اليوم يومان منذ لم أره، وإنما هو يوم وبعض آخر، وهذا ليس بجائزٍ في غير المواقيت، لأن العرب قد تفعل الفعل في أقلّ من الساعة، ثم يوقعونه على اليوم وعلى
    [معاني القرآن: 1/119]
    العام والليالي والأيام، فيقال: زرته العام، وأتيتك اليوم، وقتل فلان ليالي الحجّاج أمير، لأنه لا يراد أوّل الوقت وآخره، فلم يذهب به على معنى العدد كله، وإنما يراد به (إذ ذاك الحين).
    وأما قوله: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال} يقال: إن الرفث الجماع، والفسوق السباب، والجدال المماراة {في الحجّ} فالقراء على نصب ذلك كله بالتبرئة إلا مجاهدا فإنه رفع الرفث والفسوق ونصب الجدال. وكلّ ذلك جائز. فمن نصب أتبع آخر الكلام أوّله، ومن رفع بعضا ونصب بعضا فلان التبرئة فيها وجهان: الرفع بالنون، والنصب بحذف النون. ولو نصب الفسوق والجدال بالنون لجاز ذلك في غير القرآن؛ لأن العرب إذا بدأت بالتبرئة فنصبوها لم تنصب بنونٍ، فإذا عطفوا عليها بـ "لا" كان فيها وجهان، إن شئت جعلت "لا" معلّقة يجوز حذفها فنصبت على هذه النية بالنون؛ لأن "لا" في معنى صلةٍ، وإن نويت بها الابتداء كانت كصاحبتها، ولم تكن معلّقة فتنصب بلا نونٍ؛ قال في ذلك الشاعر:
    رأت إبلى برمل جدود أ[ن] لا * مقيل لها ولا شرباً نقوعا
    فنوّن في الشرب، ونوى بـ "لا" الحذف؛ كما قال الآخر:
    فلا أب وابنا مثل مروان وابنه * إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا
    [معاني القرآن: 1/120]
    وهو في مذهبه بمنزلة المدعوّ تقول: يا عمرو والصّلت أقبلا. فتجعل الصلت تابعا لعمرٍو وفيه الألف واللام؛ لأنك نويت به أن يتبعه بلا نيّة "يا" في الألف واللام. فإن نويتها قلت: يا زيد ويأيها الصّلت أقبلا. فإن حذفت "يأيها" وأنت تريدها نصبت؛ كقول الله عز وجل: {يا جبال أوّبي معه والطّير} نصب الطير على جهتين: على نيّة النداء المجدّد له إذ لم يستقم دعاؤه بما دعيت به الجبال، وإن شئت أوقعت عليه فعلا: وسخرنا له "الطير" فتكون النية على سخرنا. فهو في ذلك متبع؛ كقول الشاعر:
    ورأيت زوجك في الوغى * متقلّدا سيفا ورمحا
    وإن شئت رفعت بعض التبرئة ونصبت بعضا، وليس من قراءة القراء ولكنه يأتي في الأشعار؛ قال أميّة:
    فلا لغوٌ ولا تأثيم فيها * وما فاهوا به لهم مقيم
    وقال الآخر:
    ذاكم - وجدّكم - الصّغار بعينه * لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب
    [معاني القرآن: 1/121]
    وقبله:
    وإذا تكون شديدةٌ أدعى لها * وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
    وقوله: {فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكراً...}
    كانت العرب إذا حجّوا في جاهلّيتهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل، فذكر أحدهم أباه بأحسن أفاعيله: اللهمّ كان يصل الرحم، ويقري الضيف. فأنزل الله تبارك وتعالى: {فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكراً} فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبهم.
    وقوله: {فمن النّاس من يقول ربّنا آتنا في الدّنيا...}
    كان أهل الجاهلية يسألون المال والإبل والغنم فأنزل الله: "منهم من يسأل الدنيا فليس له في الآخرة خلاق" يعني نصيبا). [معاني القرآن: 1/122]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:56 am

    وقوله: {واذكروا اللّه في أيّامٍ مّعدوداتٍ...}
    هي العشر [و] المعلومات: أيام التشريق كلها، يوم النحر وثلاثة أيام التشريق. فمن المفسرين من يجعل المعدودات أيام التشريق أيضا، وأما المعلومات فإنهم
    [معاني القرآن: 1/122]
    يجعلونها يوم النحر ويومين من أيام التشريق؛ لأن الذبح إنما يكون في هذه الثلاثة الأيام، ومنهم من يجعل الذبح في آخر أيام التشريق فيقع عليها المعدودات والمعلومات فلا تدخل فيها العشر.
    وقوله: {لمن اتّقى...}
    يقول: قتل الصيد في الحرم.
    وقوله: {ويشهد اللّه على ما في قلبه...}
    كان ذلك رجلا يعجب النبي صلى الله عليه وسلم حديثه، ويعلمه أنه معه ويحلف على ذلك فيقول: (الله يعلم). فذلك قوله "ويشهد الله" أي ويستشهد الله. وقد تقرأ "ويشهد اللّه" رفع "على ما في قلبه".
    وقوله: {وهو ألدّ الخصام...}
    يقال للرجل: هو ألدّ من قوم لدّ، والمرأة لدّاء ونسوة لدّ، وقال الشاعر:
    اللدّ أقران الرجال اللدّ * ثم أردّي بهم من يردي
    ويقال: ما كنت ألدّ فقد لددت، وأنت تلدّ. فإذا غلبت الرجل في الخصومة (قلت: لددته) فأنا ألدّه لدّاً.
    [معاني القرآن: 1/123]
    وقول الله تبارك وتعالى: {ويهلك الحرث والنّسل} نصبت، ومنهم من يرفع "ويهلك" رفع لا يردّه على "ليفسد" ولكنه يجعله مردودا على قوله: {ومن الناس من يعجبك قوله...ويهلك} والوجه الأوّل أحسن.
    وقوله: {واللّه لا يحبّ الفساد...}
    من العرب من يقول: فسد الشيء فسودا، مثل قولهم: ذهب ذهوبا وذهابا، وكسد كسودا وكسادا.
    وقوله: {ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان...}
    أي لا تتبعوا آثاره؛ فإنها معصية.
    وقوله: {هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم اللّه في ظللٍ مّن الغمام والملائكة...}
    رفع مردود على (الله) تبارك وتعالى، وقد خفضها بعض أهل المدينة. يريد "في ظللٍ من الغمام وفي الملائكة". والرفع أجود؛ لأنها في قراءة عبد الله "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظللٍ من الغمام".
    وقوله: {سل بني إسرائيل...}
    لا تهمز في شيء من القرآن؛ لأنها لو همزت كانت "اسأل" بألفٍ. وإنما (ترك همزها) في الأمر خاصّة؛ لأنها كثيرة الدّور في الكلام؛ فلذلك ترك همزه كما
    [معاني القرآن: 1/124]
    قالوا: كل، وخذ، فلم يهمزوا في الأمر، وهمزوه في النهي وما سواه. وقد تهمزه العرب. فأمّا في القرآن فقد جاء بترك الهمز. وكان حمزة الزّيات يهمز الأمر إذا كانت فيه الفاء أو الواو؛ مثل قوله: {واسأل القرية التي كنّا فيها} ومثل قوله: {فاسأل الّذين يقرءون الكتاب} ولست أشتهي ذلك؛ لأنها لو كانت مهموزة لكتبت فيها الألف كما كتبوها في قوله: {فاضرب لهم طريقاً}، {واضرب لهم مثلاً} بالألف.
    وقوله: {كم آتيناهم...}
    معناه: جئناهم به [من آية]. والعرب تقول: أتيتك بآيةٍ، فإذا ألقوا الباء قالوا: آتيتك آية؛ كما جاء في الكهف "آتنا غداءنا" والمعنى: ايتنا بغدائنا.
    وقوله: {زيّن للّذين كفروا الحياة الدّنيا...}
    ولم يقل "زينت" وذلك جائز، وإنّما ذكّر الفعل والاسم مؤنث؛ لأنه مشتّق من فعل في مذهب مصدر. فمن أنّث أخرج الكلام على اللفظ، ومن ذكّر ذهب إلى تذكير المصدر. ومثله {فمن جاءه موعظةٌ من ربّه فانتهى} و{قد جاءكم بصائر من ربّكم}، {وأخذ الّذين ظلموا الصّيحة} على ما فسّرت لك. فأمّا في الأسماء الموضوعة فلا تكاد العرب تذكّر فعل مؤنّثٍ إلا في الشعر لضرورته.
    [معاني القرآن: 1/125]
    وقد يكون الاسم غير مخلوقٍ من فعلٍ، ويكون فيه معنى تأنيثٍ وهو مذكّر فيجوز فيه تأنيث الفعل وتذكيره على اللفظ مرّة وعلى المعنى مرّة؛ من ذلك قوله عزّ وجلّ: {وكذّب به قومك وهو الحق} ولم يقل "كذّبت" ولو قيلت لكان صوابا؛ كما قال {كذّبت قوم نوحٍ} و{كذّبت قوم لوطٍ} ذهب إلى تأنيث الأمّة، ومثله من الكلام في الشعر كثير؛ منه قول الشاعر:
    فإن كلاباً هذه عشر أبطنٍ * وأنت برئ من قبائلها العشر
    وكان ينبغي أن يقول: عشرة أبطنٍ؛ لأن البطن ذكر، ولكنه في هذا الموضع في معنى قبيلة، فأنّث لتأنيث القبيلة في المعنى. وكذلك قول الآخر:
    وقائع في مضرٍ تسعة * وفي وائلٍ كانت العاشره
    فقال: تسعة، وكان ينبغي له أن يقول: تسع؛ لأن الوقعة أنثى، ولكنه ذهب إلى الأيام؛ لأن العرب تقول في معنى الوقائع: الأيام؛ فيقال هو عالم بأيّام العرب، يريد وقائعها. فأمّا قول الله تبارك وتعالى: {وجمع الشّمس والقمر} فإنه أريد به - والله أعلم -: جمع الضياءان. وليس قولهم: إنما ذكّر فعل الشمس لأن الوقوف لا يحسن في الشمس حتى يكون معها القمر بشيء، ولو كان هذا على ما قيل لقالوا: الشمس جمع والقمر. ومثل هذا غير جائزٍ، وإن شئت ذكّرته؛
    [معاني القرآن: 1/126]
    لأن الشمس اسم مؤنث ليس فيها هاء تدلّ على التأنيث، والعرب ربما ذكّرت فعل المؤنث إذا سقطت منه علامات التأنيث. قال الفرّاء: أنشدني بعضهم:
    فهي أحوى من الربعي خاذلة * والعين بالإثمد الحاري مكحول
    ولم يقل: مكحولة والعين أنثى للعلة التي أنبأتك بها. قال: وأنشدني بعضهم:
    فلا مزنةٌ ودقت ودقها * ولا أرض أبقل إبقالها
    قال: وأنشدني يونس - يعني النحويّ البصريّ - عن العرب قول الأعشى:
    إلى رجلٍ منهم أسيفٍ كأنما * يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضبا
    وأمّا قوله: {السّماء منفطرٌ به} فإن شئت جعلت السماء مؤنثة بمنزلة العين فلمّا لم يكن فيها هاء مما يدلّ على التأنيث ذكّر فعلها كما فعل بالعين والأرض في البيتين.
    [معاني القرآن: 1/127]
    ومن العرب من يذكّر السماء؛ لأنه جمع كأن واحدته سماوة أو سماءة. قال: وأنشدني بعضهم:
    فلو رفع السماء إليه قوما * لحقنا بالسماء مع السحاب
    فإن قال قائل: أرأيت الفعل إذا جاء بعد المصادر المؤنثة أيجوز تذكيره بعد الأسماء كما جاز قبلها؟ قلت: ذلك قبيح وهو جائز. وإنما قبح لأن الفعل إذا أتى بعد الاسم كان فيه مكنّى من الاسم فاستقبحوا أن يضمروا مذكّرا قبله مؤنث، والذين استجازوا ذلك قالوا: يذهب به إلى المعنى، وهو في التقديم والتأخير سواء؛ قال الشاعر:
    فإن تعهدي لامرئ لمّة * فإن الحوادث أزرى بها
    ولم يقل: أزرين بها ولا أزرت بها. والحوادث جمع ولكنه ذهب بها إلى معنى الحدثان. وكذلك قال الآخر:
    هنيئا لسعدٍ ما اقتضى بعد وقعتي * بناقة سعدٍ والعشيّة بارد
    كأن العشية في معنى العشي؛ ألا ترى قول الله {أن سبّحوا بكرةً وعشيّاً} وقال الآخر:
    إن السماحة والشجاعة ضمّنا * قبرا بمرو على الطريق الواضح
    [معاني القرآن: 1/128]
    ولم يقل: ضمنتا، والسماحة والشجاعة مؤنثتان للهاء التي فيهما. قال: فهل يجوز أن تذهب بالحدثان إلى الحوادث فتؤنّث فعله قبله فتقول أهلكتنا الحدثان؟ قلت نعم؛ أنشدني الكسائي:
    ألا هلك الشهاب المستنير * ومدرهنا الكميّ إذا نغير
    وحمّال المئين إذا ألمّت * بنا الحدثان والأنف النصور
    فهذا كافٍ مما يحتاج إليه من هذا النوع. وأما قوله: {وإنّ لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه} ولم يقل "بطونها" والأنعام هي مؤنثة؛ لأنه ذهب به إلى النعم والنعم ذكر وإنما جاز أن تذهب به إلى واحدها لأن الواحد يأتي في المعنى على معنى الجمع؛ كما قال الشاعر:
    إذا رأيت أنجما من الأسد * جبهته أو الخرات والكتد
    بال سهيلٌ في الفضيخ ففسد * وطاب ألبان اللقاح فبرد
    ألا ترى أن اللبن جمع يكفى من الألبان. وقد كان الكسائيّ يذهب بتذكير الأنعام إلى مثل قول الشاعر:
    ولا تذهبن عيناك في كل شرمح * طوالٍ فإن الأقصرين أمازره
    [معاني القرآن: 1/129]
    ولم يقل: أمازرهم، فذكّر وهو يريد أمازر ما ذكرنا. ولو كان كذلك لجاز أن تقول هو أحسنكم وأجمله، ولكنه ذهب إلى أن هذا الجنس يظهر مع نكرةٍ غير مؤقّتة يضمر فيها مثل معنى النكرة؛ فلذلك قالت العرب: هو أحسن الرجلين وأجمله؛ لأن ضمير الواحد يصلح في معنى الكلام أن تقول هو أحسن رجل في الاثنين، وكذلك قولك هي أحسن النساء وأجمله. من قال وأجمله قال: أجمل شيء في النساء، ومن قال: وأجملهن أخرجه على اللفظ؛ واحتجّ بقول الشاعر:
    * مثل الفراخ نتقت حواصله *
    ولم يقل حواصلها. وإنما ذكّر لأن الفراخ جمع لم يبن على واحده، فجاز أن يذهب بالجمع إلى الواحد. قال الفرّاء: أنشدني المفضّل:
    ألا إن جيراني العشية رائح * دعتهم دواعٍ من هوى ومنازح
    فقال: رائح ولم يقل رائحون؛ لأن الجيران قد خرج مخرج الواحد من الجمع إذ لم يبن جمعه على واحده.
    فلو قلت: الصالحون فإن ذلك لم يجز، لأن الجمع منه قد بني على صورة واحده. وكذلك الصالحات نقول، ذاك غير جائز؛ لأن صورة الواحدة في الجمع قد ذهب عنه توهّم الواحدة. ألا ترى أن العرب تقول: عندي عشرون صالحون فيرفعون ويقولون عندي عشرون جيادا فينصبون الجياد؛ لأنها لم تبن على واحدها، فذهب بها إلى الواحد ولم يفعل ذلك بالصالحين؛ قال عنترة:
    فيها اثنتان وأربعون حلوبةً * سوداً كخافية العراب الأسحم
    [معاني القرآن: 1/130]
    فقال: سودا ولم يقل: سود وهي من نعت الاثنتين والأربعين؛ للعلة التي أخبرتك بها. وقد قرأ بعض القرّاء "زيّن للذين كفروا الحياة الدنيا" ويقال إنه مجاهد فقط.
    وقوله: {وما اختلف فيه إلاّ الّذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم فهدى اللّه الّذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه...}
    ففيها معنيان؛ أحدهما أن تجعل اختلافهم كفر بعضهم بكتاب بعضٍ {فهدى اللّه الّذين آمنوا} للإيمان بما أنزل كلّه وهو حقّ. والوجه الآخر أن تذهب باختلافهم إلى التبديل كما بدّلت التوراة. ثم قال {فهدى اللّه الّذين آمنوا} به للحق مما اختلفوا فيه. وجاز أن تكون اللام في الاختلاف ومن في الحق كما قال الله تعالى: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق} والمعنى - والله أعلم - كمثل المنعوق به؛ لأنه وصفهم فقال تبارك وتعالى: {صمّ بكم عمى} كمثل البهائم، وقال الشاعر:
    كانت فريضة ما تقول كما * كان الزناء فريضة الرجم
    وإنما الرجم فريضة الزناء، وقال:
    إن سراجا لكريم مفخره * تحلى به العين إذا ما تجهره
    [معاني القرآن: 1/131]
    والعين لا تحلى إنما يحلى بها سراج، لأنك تقول: حليت بعيني، ولا تقول حليت عيني بك إلاّ في الشعر.
    وقوله: {أم حسبتم...}
    استفهم بأم في ابتداءٍ ليس قبله ألف فيكون أم ردّاً عليه، فهذا مما أعلمتك أنه يجوز إذا كان قبله كلام يتّصل به. ولو كان ابتداء ليس قبله كلام؛ كقولك للرجل: أعندك خير؟ لم يجز ها هنا أن تقول: أم عندك خير. ولو قلت: أنت رجل لا تنصف أم لك سلطان تدلّ به، لجاز ذلك؛ إذ تقدّمه كلام فاتّصل به.
    وقوله: {أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مّثل الّذين خلوا من قبلكم} [معناه: أظننتم أن تدخلوا الجنة ولم يصبكم مثل ما أصاب الذين قبلكم] فتختبروا. ومثله: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} وكذلك في التوبة {أم حسبتم أن تتركوا ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم}.
    وقوله: {وزلزلوا حتّى يقول الرّسول...}
    قرأها القرّاء بالنصب إلا مجاهدا وبعض أهل المدينة فإنهما رفعاها. ولها وجهان في العربية: نصب، ورفع. فأمّا النصب فلأن الفعل الذي قبلها مما يتطاول كالترداد. فإذا كان الفعل على ذلك المعنى نصب بعده بحتّى وهو
    [معاني القرآن: 1/132]
    في المعنى ماضٍ. فإذا كان الفعل الذي قبل حتى لا يتطاول وهو ماضٍ رفع الفعل بعد حتّى إذا كان ماضيا.
    فأمّا الفعل الذي يتطاول وهو ماضٍ فقولك: جعل فلان يديم النظر حتى يعرفك؛ ألا ترى أن إدامة النظر تطول. فإذا طال ما قبل حتّى ذهب بما بعدها إلى النصب إن كان ماضيا بتطاوله. قال: وأنشدني [بعض العرب وهو] المفضّل:
    مطوت بهم حتّى تكلّ غزاتهم * وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان
    فنصب (تكلّ) والفعل الذي أدّاه قبل حتّى ماض؛ لأنّ المطو بالإبل يتطاول حتى تكلّ عنه. ويدلّك على أنه ماض أنك تقول: مطوت بهم حتى كلّت غزاتهم. فبحسن فعل مكان يفعل تعرف الماضي من المستقبل. ولا يحسن مكان المستقبل فعل؛ ألا ترى أنك لا تقول: أضرب زيدا حتى أقرّ، لأنك تريد: حتى يكون ذلك منه.
    وإنما رفع مجاهد لأنّ فعل يحسن في مثله من الكلام؛ كقولك: زلزلوا حتى قال الرسول. وقد كان الكسائيّ قرأ بالرفع دهرا ثم رجع إلى النصب. وهي في قراءة عبد الله: "وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول الرسول" وهو دليل على معنى النصب.
    [معاني القرآن: 1/133]
    ولحتى ثلاثة معان في يفعل، وثلاثة معان في الأسماء. فإذا رأيت قبلها فعل ماضيا وبعدها يفعل في معنى مضي وليس ما قبل (حتّى يفعل) يطول فارفع يفعل بعدها؛ كقولك جئت حتى أكون معك قريبا. وكان أكثر النحويين ينصبون الفعل بعد حتّى وإن كان ماضيا إذا كان لغير الأوّل، فيقولون: سرت حتى يدخلها زيد، فزعم الكسائيّ أنه سمع العرب تقول: سرنا حتى تطلع لنا الشمس بزبالة، فرفع والفعل للشمس، وسمع: إنا لجلوس فما نشعر حتى يسقط حجر بيننا، رفعا. قال: وأنشدني الكسائي:
    وقد خضن الهجير وعمن حتى * يفرّج ذاك عنهنّ المساء
    وأنشد (قول الآخر):
    وننكر يوم الروع ألوان خيلنا * من الطعن حتى نحسب الجون أشقرا
    فنصب ها هنا؛ لأنّ الإنكار يتطاول. وهو الوجه الثاني من باب حتى.
    وذلك أن يكون ما قبل حتى وما بعدها ماضيين، وهما مما يتطاول، فيكون يفعل فيه وهو ماضٍ في المعنى أحسن من فعل، فنصب وهو ماضٍ لحسن يفعل فيه. قال الكسائيّ: سمعت العرب تقول: إنّ البعير ليهرم حتى يجعل إذا شرب الماء مجّه. وهو أمر قد مضى، و(يجعل) فيه أحسن من (جعل). وإنما حسنت
    [معاني القرآن: 1/134]
    لأنها صفة تكون في الواحد على معنى الجميع، معناه: إنّ هذا ليكون كثيراً في الإبل. ومثله: إنّ الرجل ليتعظّم حتى يمرّ فلا يسلم على الناس. فتنصب (يمرّ) لحسن يفعل فيه وهو ماضٍ؛ وأنشدني أبو ثروان:
    أحبّ لحبّها السودان حتى * أحبّ لحبّها سود الكلاب
    ولو رفع لمضيه في المعنى لكان صوابا. وقد أنشدنيه بعض بني أسد رفعا. فإذا أدخلت فيه "لا" اعتدل فيه الرفع والنصب؛ كقولك: إنّ الرجل ليصادقك حتى لا يكتمك سرّا، ترفع لدخول "لا" إذا كان المعنى ماضيا. والنصب مع دخول لا جائز.
    ومثله ما يرفع وينصب إذ دخلت "لا" في قول الله تبارك وتعالى: {وحسبوا ألاّ تكون فتنة} رفعا ونصبا. ومثله: "أفلا يرون ألاّ يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرّا ولا نفعا" ينصبان ويرفعان، وإذا ألقيت منه "لا" لم يقولوه إلاّ نصبا؛ وذلك أنّ "ليس" تصلح مكان "لا" فيمن رفع بحتّى وفيمن رفع بـ "أن"؛ ألا ترى أنك تقول: إنه ليؤاخيك حتى ليس يكتمك شيئا، وتقول في "أن": حسبت أن لست تذهب فتخلّفت. وكلّ موضع حسنت فيه "ليس" مكان "لا" فافعل به هذا: الرفع مرّة، والنصب مرّة. ولو رفع الفعل
    [معاني القرآن: 1/135]
    في "أن" بغير "لا" لكان صوابا؛ كقولك حسبت أن تقول ذاك؛ لأنّ الهاء تحسن في "أن" فتقول حسبت أنه يقول ذاك؛ وأنشدني القاسم بن معنٍ:
    إني زعيم يا نويـ * قة إن نجوت من الزواح
    وسلمت من عرض الحتو * ف من الغدوّ إلي الرواح
    أن تهبطين بلاد قو * م يرتعون من الطلاح
    فرفع (أن تهبطين) ولم يقل: أن تهبطي.
    فإذا كانت "لا" لا تصلح مكانها "ليس" في "حتى" ولا في "أن" فليس إلا النصب، مثل قولك: لا أبرح حتى لا أحكم أمرك. ومثله في "أن": أردت أن لا تقول ذاك. لا يجوز ههنا الرفع.
    والوجه الثالث في يفعل من "حتى" أن يكون ما بعد "حتى" مستقبلا، - ولا تبال كيف كان الذي قبلها - فتنصب؛ كقول الله جل وعز {لن نبرح عليه عاكفين حتّى يرجع إلينا موسى}، و{فلن أبرح الأرض حتّى يأذن لي أبي} وهو كثير في القرآن.
    وأمّا الأوجه الثلاثة في الأسماء فإن ترى بعد حتى اسما وليس قبلها شيء يشاكله يصلح عطف ما بعد حتّى عليه، أو أن ترى بعدها اسما وليس قبلها شيء.
    [معاني القرآن: 1/136]
    فالحرف بعد حتّى مخفوض في الوجهين؛ من ذلك قول الله تبارك وتعالى: {تمتّعوا حتى حينٍ} و{سلامٌ هي حتّى مطلع الفجر} لا يكونان إلا خفضا؛ لأنه ليس قبلهما اسم يعطف عليه ما بعد حتى، فذهب بحتى إلى معنى "إلى". والعرب تقول: أضمنه حتى الأربعاء أو الخميس، خفضا لا غير، وأضمن القوم حتى الأربعاء. والمعنى: أن أضمن القوم في الأربعاء؛ لأنّ الأربعاء يوم من الأيام، وليس بمشاكل للقوم فيعطف عليهم.
    والوجه الثاني أن يكون ما قبل حتى من الأسماء عددا يكثر ثم يأتي بعد ذلك الاسم الواحد أو القليل من الأسماء. فإذا كان كذلك فانظر إلى ما بعد حتى؛ فإن كانت الأسماء التي بعدها قد وقع عليها من الخفض والرفع والنصب ما قد وقع على ما قبل حتى ففيها وجهان: الخفض والإتباع لما قبل حتى؛ من ذلك: قد ضرب القوم حتى كبيرهم، وحتى كبيرهم، وهو مفعول به، في الوجهين قد أصابه الضرب. وذلك أنّ إلى قد تحسن فيما قد أصابه الفعل، وفيما لم يصبه؛ من ذلك أن تقول: أعتق عبيدك حتى أكرمهم عليك. تريد: وأعتق أكرمهم عليك، فهذا مما يحسن فيه إلى، وقد أصابه الفعل. وتقول فيما لا يحسن فيه أن يصيب الفعل ما بعد حتى: الأيام تصام كلها حتى يوم الفطر وأيام التشريق. معناه يمسك عن هذه الأيام فلا تصام. وقد حسنت فيها إلى.
    والوجه الثالث أن يكون ما بعد حتى لم يصبه شيء مما أصاب ما قبل حتّى؛ فذلك خفض لا يجوز غيره؛ كقولك: هو يصوم النهار حتى الليل، لا يكون الليل إلا خفضا، وأكلت السمكة حتى رأسها، إذا لم يؤكل الرأس لم يكن إلا خفضا.
    [معاني القرآن: 1/137]
    وأمّا قول الشاعر:
    فيا عجبا حتى كليب تسبّني * كأنّ أباها نهشل أو مجاشع
    فإنّ الرفع فيه جيّد وإن لم يكن قبله اسم؛ لأنّ الأسماء التي تصلح بعد حتى منفردة إنما تأتى من المواقيت؛ كقولك: أقم حتى الليل. ولا تقول أضرب حتى زيدٍ؛ لأنه ليس بوقت؛ فلذلك لم يحسن إفراد زيد وأشباهه، فرفع بفعله، فكأنه قال: يا عجبا أتسّبني اللئام حتى يسبني كليبيّ. فكأنه عطفه على نيّة أسماء قبله. والذين خفضوا توهموا في كليبٍ ما توهموا في المواقيت، وجعلوا الفعل كأنه مستأنف بعد كليبٍ، كأنه قال: قد انتهى بي الأمر إلى كليبٍ، فسكت، ثم قال: تسبني.
    وقوله: {يسألونك ماذا ينفقون...}
    تجعل "ما" في موضع نصب وتوقع عليها "ينفقون"، ولا تنصبها بـ (يسألونك) لأنّ المعنى: يسألونك أي شيء ينفقون. وإن شئت رفعتها من وجهين؛ أحدهما أن تجعل "ذا" اسما يرفع ما، كأنك قلت: ما الذي ينفقون. والعرب قد تذهب بهذا وذا إلى معنى الذي؛ فيقولون: ومن ذا يقول ذاك؟ في معنى: من الذي يقول ذاك؟ وأنشدوا:
    عدس ما لعبّادٍ عليك إمارة * أمنت وهذا تحملين طليق
    [معاني القرآن: 1/138]
    كأنه قال: والذي تحملين طليق. والرفع الآخر أن تجعل كلّ استفهام أوقعت عليه فعلا بعده رفعا؛ لأنّ الفعل لا يجوز تقديمه قبل الاستفهام، فجعلوه بمنزلة الذي؛ إذ لم يعمل فيه الفعل الذي يكون بعدها. ألا ترى أنك تقول: الذي ضربت أخوك، فيكون الذي في موضع رفع بالأخ، ولا يقع الفعل الذي يليها عليها. فإذا نويت ذلك رفعت قوله: {قل العفو كذلك}؛ كما قال الشاعر:
    ألا تسألان المرء ماذا يحاول * أنحبٌ فيقضى أم ضلالٌ وباطل
    رفع النحب؛ لأنه نوى أن يجعل "ما" في موضع رفع. ولو قال: أنحبا فيقضى أم ضلالا وباطلا كان أبين في كلام العرب. وأكثر العرب تقول: وأيّهم لم أضرب وأيّهم إلاّ قد ضربت رفع؛ للعلّة من الاستئناف من حروف الاستفهام وألاّ يسبقها شيء.
    ومما يشبه الاستفهام مما يرفع إذا تأخّر عنه الفعل الذي يقع عليه قولهم: كلّ الناس ضربت. وذلك أن في (كلّ) مثل معنى هل أحدٌ [إلاّ] ضربت، ومثل معنى أي رجل لم أضرب، وأيّ بلدة لم أدخل؛ ألا ترى أنك إذا قلت: كلّ الناس ضربت؛ كان فيها معنى: ما منهم أحد إلا قد ضربت، ومعنى أيهم لم أضرب. وأنشدني أبو ثروان:
    وقالوا تعرّفها المنازل ممن منىً * وما كلّ من يغشى منىً أنا عارف
    [معاني القرآن: 1/139]
    رفعا، ولم أسمع أحدا نصب كل. قال: وأنشدونا:
    وما كلّ من يظّنّني أنا معتب * وما كلّ ما يروى عليّ أقول
    ولا تتوهّم أنهم رفعوه بالفعل الذي سبق إليه؛ لأنهم قد أنشدونا:
    قد علقت أمّ الخيار تدّعي * عليّ ذنبا كلّه لم أصنع
    رفعا. وأنشدني أبو الجراح:
    أرجزا تريد أم قريضا * أم هكذا بينهما تعريضا
    * كلاهما أجد مستريضا *
    فرفع كلاّ وبعدها (أجد)؛ لأن المعنى: ما منهما واحد إلا أجده هيّنا مستريضا. ويدلّك على أن فيه ضمير جحد قول الشاعر:
    فكلهم جاشاك إلا وجدته * كعين الكذوب جهدها واحتفالها
    [معاني القرآن: 1/140]
    وقوله: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه...}
    وهي في قراءة عبد الله "عن قتال فيه" فخفضته على نيّة (عن) مضمرة. {قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل اللّه} ففي الصدّ وجهان: إن شئت جعلته مردودا على الكبير، تريد: قل القتال فيه كبير وصدّ عن سبيل الله وكفر به. وإن شئت جعلت الصدّ كبيرا؛ تريد: قل القتال فيه كبير؛ وكبير الصدّ عن سبيل الله والكفر به.
    {والمسجد الحرام} مخفوض بقوله: يسألونك عن القتال وعن المسجد. فقال الله تبارك وتعالى: {وإخراج أهله} أهل المسجد {منه أكبر عند اللّه} من القتال في الشهر الحرام. ثم فسّر فقال تبارك وتعالى: {والفتنة} - يريد الشرك - أشدّ من القتال فيه). [معاني القرآن: 1/141]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:56 am

    قوله: {قل العفو...}
    وجه الكلام فيه النصب، يريد: قل ينفقون العفو. وهو فضل المال [قد] نسخته الزكاة [تقول: قد عفا].
    وقوله: {ويسألونك عن اليتامى...}
    يقال للغلام يتم ييتم يتماً ويتماً. قال: وحكي لي يتم ييتم.
    {وإن تخالطوهم فإخوانكم} ترفع الإخوان على الضمير (فهم)؛ كأنك قلت (فهم إخوانكم) ولو نصبته كان صوابا؛ يريد: فإخوانكم تخالطون، ومثله {فإن
    [معاني القرآن: 1/141]
    لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} ولو نصبت ههنا على إضمار فعل (ادعوهم إخوانكم ومواليكم). وفي قراءة عبد الله "إن تغذّبهم فعبادك" وفي قراءتنا "فإنّهم عبادك" وإنما يرفع من ذا ما كان اسما يحسن فيه "هو" مع المرفوع. فإذا لم يحسن فيه "هو" أجريته على ما قبله؛ فقلت: إن اشتريت طعاما فجيّدا، أي فاشتر الجّيد، وإن لبست ثيابا فالبياض؛ تنصب لأن "هو" لا يحسن ههنا، والمعنى في هذين ههنا مخالف للأوّل؛ ألا ترى أنك تجد القوم إخوانا وإن جحدوا، ولا تجد كلّ ما يلبس بياضا، ولا كلّ ما يشترى جيّدا. فإن نويت أن ما ولي شراءه فجيّد رفعت إذا كان الرجل قد عرف بجودة الشراء وبلبوس البياض. وكذلك قول الله {فإن خفتم فرجالا} نصب؛ لأنه شيء ليس بدائم، ولا يصلح فيه "هو" ألا ترى أن المعنى: إن خفتم أن تصلّوا قياما فصلّوا رجالا أو ركبانا [رجالا يعني: رجّالة] فنصبا لأنهما حالان للفعل لا يصلحان خبرا.
    {واللّه يعلم المفسد من المصلح} المعنى في مثله من الكلام: الله يعلم أيّهم يفسد وأيّهم يصلح. فلو وضعت أيّا أو من مكان الأوّل رفعته، فقلت: أنا أعلم أيّهم قام من القاعد، قال [الفرّاء] سمعت العرب تقول: ما يعرف أي من أيّ. وذلك أن (أيّ) و(من) استفهامان، والمفسد خبر. ومثله ما أبالى قيامك أو قعودك، ولو جعلت في الكلام استفهاما بطل الفعل عنه فقلت: ما أبالي أقائم أنت أم قاعد. ولو ألقيت الاستفهام اتّصل الفعل بما قبله فانتصب. والاستفهام كله منقطع مما قبله لخلقة الابتداء به.
    [معاني القرآن: 1/142]
    وقوله: {ولو شاء اللّه لأعنتكم...}
    يقال: قد عنت الرجل عنتا، وأعنته الله إعناتا.
    وقوله: {ولا تنكحوا المشركات...}
    يريد: لا تزوّجوا. والقرّاء على هذا. ولو كانت: ولا تنكحوا المشركات أي لا تزوّجوهن المسلمين كان صوابا. ويقال: نكحها نكحا ونكاحا.
    وقوله: {ولو أعجبتكم...}
    كقوله: وإن أعجبتكم. ولو وإن متقاربان في المعنى. ولذلك جاز أن يجازى لو بجواب إن، إن بجواب لو في قوله: {ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلّوا من بعده يكفرون}. وقوله: "فرأوه" يعني بالهاء الزّرع.
    وقوله: {حتّى يطهرن...}
    بالياء. وهي في قراءة عبد الله إن شاء الله "يتطهرن" بالتاء، والقرّاء بعد يقرءون "حتى يطهرن، ويطّهّرن" [يطهرن]: ينقطع عنهن الدم، ويتطهرن: يغتسلن بالماء. وهو أحبّ الوجهين إلينا: يطّهّرن.
    {فأتوهنّ من حيث أمركم اللّه} ولم يقل: في حيث، وهو الفرج. وإنما قال: من حيث كما تقول للرجل: ايت زيدا من مأتاه من الوجه الذي يؤتى منه. فلو ظهر الفرج ولم يكن عنه قلت في الكلام: ايت المرأة في فرجها. {فأتوهنّ من حيث أمركم اللّه} يقال: ايت الفرج من حيث شئت.
    [معاني القرآن: 1/143]
    وقوله: {فأتوا حرثكم أنّى شئتم...}
    [أي] كيف شئتم. حدّثنا محمد بن الجهم، قال حدّثنا الفرّاء قال حدثني شيخ عن ميمون بن مهران قال قلت لابن عباس: إن اليهود تزعم أن الرجل إذا أتى امرأته من ورائها في قبلها خرج الولد أحول. قال فقال ابن عباس: كذبت يهود {نساؤكم حرثٌ لّكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم} يقول: ايت الفرج من حيث شئت.
    وقوله: {ولا تجعلوا اللّه عرضةً لأيمانكم أن تبرّوا...}
    يقول: لا تجعلوا الحلف بالله مانعا معترضا {أن تبرّوا وتتّقوا وتصلحوا بين النّاس} يقول: لا يمتنعنّ أحدكم أن يبرّ ليمين إن حلف عليها، ولكن ليكفّر يمينه ويأت الذي هو خير.
    وقوله: {لاّ يؤاخذكم اللّه بالّلغو في أيمانكم...}
    فيه قولان. يقال: هو ممّا جرى في الكلام من قولهم: لا والله، وبلى والله. والقول الآخر: الأيمان أربع. فيمينان فيهما الكفّارة والاستغفار، وهو قولك: والله لا أفعل، ثم تفعل، ووالله لأفعلنّ ثم لا تفعل. ففي هاتين الكفارة والاستغفار [لأن الفعل فيهما مستقبل]. واللتان فيهما الاستغفار ولا كفّارة فيهما قولك: والله ما فعلت وقد فعلت، وقولك: والله لقد فعلت ولم تفعل. فيقال هاتان لغو؛ إذ لم تكن فيهما كفّارة. وكان القول الأوّل - وهو قول عائشة: إن اللغو ما يجرى في الكلام على غير عقد - أشبه بكلام العرب.
    [معاني القرآن: 1/144]
    وقوله: {تربّص أربعة أشهرٍ...}
    التربّص إلى الأربعة. وعليه القرّاء. ولو قيل في مثله من الكلام: تربّصٌ أربعة أشهر كان صوابا كما قرءوا "أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبةٍ يتيما ذا مقربة" وكما قال {ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتا} والمعنى تكفتهم أحياء وأمواتا. ولو قيل في مثله من الكلام: كفات أحياءٍ وأمواتٍ كان صوابا. ولو قيل: تربصٌ: أربعة أشهر كما يقال في الكلام: بيني وبينك سير طويل: شهر أو شهران؛ تجعل السير هو الشهر، والتربّص هو الأربعة. ومثله {فشهادة أحدهم أربع شهادات} وأربع شهادات. ومثله {فجزاء مثل ما قتل من النعم} فمن رفع (مثل) فإنه أراد: فجزاؤه مثل ما قتل. قال: وكذلك رأيتها في مصحف عبد الله "فجزاؤه" بالهاء، ومن نصب (مثل) أراد: فعليه أن يجزي مثل ما قتل من النّعم.
    {فإن فاءوا} يقال: قد فاءوا يفيئون فيئا وفيوءا. والفيء: أن يرجع إلى أهله فيجامع.
    وقوله: {وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ...}
    وفي قراءة عبد الله "بردتهن".
    وقوله: {إلاّ أن يخافا ألاّ يقيما حدود اللّه...}
    وفي قراءة عبد الله "إلا أن تخافوا" فقرأها حمزة على هذا المعنى "ألا أن يخافا" ولا يعجبني ذلك. وقرأها بعض أهل المدينة كما قرأها حمزة. وهي في قراءة أبّي
    [معاني القرآن: 1/145]
    "إلا أن يظنّا ألاّ يقيما حدود الله" والخوف والظنّ متقاربان في كلام العرب. من ذلك أن الرجل يقول: قد خرج عبدك بغير إذنك، فتقول أنت: قد ظننت ذاك، وخفت ذاك، والمعنى واحد. وقال الشاعر:
    أتاني كلام عن نصيب بقوله * وما خفت يا سلاّم أنك عائبي
    وقال الآخر:
    إذا مت فادفنّي إلى جنب كرمة * تروّي عظامي بعد موتى عروقها
    [ولا تدفننّي في الفلاة فإنني * أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها]
    والخوف في هذا الموضع كالظنّ. رفع "أذوقها" كما رفعوا {وحسبوا ألا تكون فتنة} وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم "أمرت بالسواك حتى خفت لأدردنّ" كما تقول: ظنّ ليذهبنّ.
    وما ما قال حمزة فإنه إن كان أراد اعتبار قراءة عبد الله فلم يصبه - والله أعلم - لأن الخوف إنما وقع على (أن) وحدها إذ قال: ألا يخافوا أن لا، وحمزة قد أوقع الخوف على الرجل والمرأة وعلى أن؛ ألا ترى أن اسمهما في الخوف مرفوع بما لم يسمّ فاعله. فلو أراد ألاّ يخاف على هذا، أو يخافا بذا، أو من ذا، فيكون على غير
    [معاني القرآن: 1/146]
    اعتبار قول عبد الله [كان] جائزا؛ كما تقول للرجل: تخاف لأنك خبيث، وبأنك، وعلى أنك....
    وقوله: {فإن خفتم ألاّ يقيما حدود اللّه فلا جناح عليهما} يقال كيف قال: فلا جناح عليهما، وإنما الجناح - فيما يذهب إليه الناس - على الزوج لأنه أخذ ما أعطى؟ ففي ذلك وجهان:
    أن يراد الزوج دون المرأة، وإن كانا قد ذكرا جميعا؛ في سورة الرحمن {يخرج منهما اللّؤلؤ والمرجان} وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح لا من العذب. ومنه "نسيا حوتهما" وإنما الناسي صاحب موسى وحده. ومثله في الكلام أن تقول: عندي دابّتان أركبهما وأستقى عليهما، وإنما يركب إحداهما ويستقى على الأخرى؛ وقد يمكن أن يكونا جميعا تركبان ويستقى عليهما. وهذا من سعة العربية التي يحتجّ بسعتها. ومثله من كتاب الله {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله} فيستقيم في الكلام أن تقول: قد جعل الله لنا ليلا ونهارا نتعيّش فيهما وننام فيهما. وإن شئت ذهبت بالنوم إلى الليل وبالتعيّش إلى النهار.
    والوجه الآخر أن يشتركا جميعا في ألاّ يكون عليهما جناح؛ إذ كانت تعطي ما قد نفى عن الزوج فيه الإثم، أشركت فيه لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم احتاجت هي إلى مثل ذلك. ومثله قول الله تبارك وتعالى: {فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه} وإنما موضع طرح الإثم في المتعجّل، فجعل
    [معاني القرآن: 1/147]
    للمتأخّر - وهو الذي لم يقصّر - مثل ما جعل على المقصّر. ومثله في الكلام قولك: إن تصدّقت سرّاً فحسن [وإن تصدّقت جهرا فحسن].
    وفي قوله: {ومن تأخّر فلا إثم عليه} وجه آخر؛ وذلك أن يريد: لا يقولنّ هذا المتعجل للمتأخر: أنت مقصّر، ولا المتأخّر للمتعجل مثل ذلك، فيكون قوله: {فلا إثم عليه} أي فلا يؤثّمنّ أحدهما صاحبه.
    وقوله: {فلا جناح عليهما أن يتراجعا} يريد: فلا جناح عليهما في أن يتراجعا، (أن) في موضع نصب إذا نزعت الصفة، كأنك قلت: فلا جناح عليهما أن يراجعها، قال وكان الكسائيّ يقول: موضعه خفض. قال الفرّاء: ولا أعرف ذلك.
    وقوله: {إن ظنّا أن يقيما} (أن) في موضع نصب لوقوع الظنّ عليها.
    وقوله: {ولا تمسكوهنّ ضراراً لّتعتدوا...}
    كان الرجل منهم إذا طلّق امرأته فهو أحقّ برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثانية. وكان إذا أراد أن يضرّ بها تركها حتى تحيض الحيضة الثالثة ثم يراجعها، ويفعل ذلك في التطليقة الثانية. فتطويله لرجعتها هو الضرار بها.
    وقوله: {فلا تعضلوهنّ...}
    يقول: فلا تضيّقوا عليهنّ أن يراجعن أزواجهنّ بمهر جديد إذا بانت إحداهنّ من زوجها، وكانت هذه أخت معقل، أرادت أن تزوّج زوجها الأوّل بعدما انقضت عدّتها فقال معقل لها: وجهي من وجهك حرام إن راجعته، فأنزل الله عز وجل: {فلا تعضلوهنّ أن ينكحن أزواجهنّ}.
    [معاني القرآن: 1/148]
    وقوله: {ذلك يوعظ به} ولم يقل: ذلكم، وكلاهما صواب. وإنما جاز أن يخاطب القوم "بذلك" لأنه حرف قد كثر في الكلام حتى توهّم بالكاف أنها (من الحرف) وليست بخطاب. ومن قال "ذلك" جعل الكاف منصوبة وإن خاطب امرأة أو امرأتين أو نسوة. ومن قال "ذلكم" أسقط التوهّم، فقال إذا خاطب الواحد: ما فعل ذلك الرجل، وذلك الرجلان، وأولئك الرجال. [و] يقاس على هذا ما ورد. ولا يجوز أن تقول في سائر الأسماء إذا خاطبت إلا بإخراج المخاطب في الاثنين والجميع والمؤنّث؛ كقولك للمرأة: غلامك فعل ذلك؛ لا يجوز نصب الكاف ولا توحيدها في الغلام؛ لأن الكاف ههنا لا يتوهّم أنها من الغلام. ويجوز أن تقول: غلامك فعل ذاك وذاك، على ما فسّرت لك: من الذهاب بالكاف إلى أنها من الاسم). [معاني القرآن: 1/149]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:56 am

    وقوله: {الرّضاعة...}
    القرّاء تقرأ بفتح الراء. وزعم الكسائيّ أن من العرب من يقول: الرضاعة بالكسر. فإن كانت فهي بمنزلة الوكالة والوكالة، والدّلالة والدّلالة، ومهرت الشيء مهارة ومهارة؛ والرّضاع والرّضاع فيه مثل ذلك إلا أن فتح الراء أكثر، ومثله الحصاد والحصاد.
    وقوله: {لا تضارّ والدةٌ بولدها} يريد: لا تضارّر، وهو في موضع جزم. والكسر فيه جائز "لا تضارّ والدة" ولا يجوز رفع الراء على نيّة الجزم، ولكن نرفعه على
    [معاني القرآن: 1/149]
    الخبر. وأمّا قوله: {وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئا} فقد يجوز أن يكون رفعا على نيّة الجزم؛ لأن الراء الأوّلى مرفوعة في الأصل، فجاز رفع الثانية عليها، ولم يجز (لا تضارّ) بالرفع لأن الراء إن كانت تفاعل فهي مفتوحة، وإن كانت تفاعل فهي مكسورة. فليس يأتيها الرفع إلا أن تكون في معنى رفع. وقد قرأ عمر بن الخطّاب "ولا يضار كاتب ولا شهيد".
    ومعنى {لا تضارّ والدةٌ بولدها} يقول: لا ينزعنّ ولدها منها وهي صحيحة لها لبن فيدفع إلى غيرها. {ولا مولودٌ لّه بولده} يعني الزوج. يقول: إذا أرضعت صبيّها وألفها وعرفها فلا تضارّنّ الزوج في دفع ولده إليه.
    وقوله: {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن...}
    يقال: كيف صار الخبر عن النساء ولا خبر للأزواج، وكان ينبغي أن يكون الخبر عن (الذين)؟ فذلك جائز إذا ذكرت أسماء ثم ذكرت أسماء مضافة إليها فيها معنى الخبر أن تترك الأوّل ويكون الخبر عن المضاف إليه. فهذا من ذلك؛ لأن المعنى - والله أعلم - إنما أريد به: ومن مات عنها زوجها تربصت. فترك الأوّل بلا خبر، وقصد الثاني؛ لأن فيه الخبر والمعنى. قال: وأنشدني بعضهم:
    بني أسد إنّ ابن قيس وقتله * بغير دم دار المذلّة حلّت
    فألقى (ابن قيس) وأخبر عن قتله أنه ذلّ. ومثله:
    لعلّي إن مالت بي الرّيح ميلة * على ابن أبي ذبّان أن يتندّما
    [معاني القرآن: 1/150]
    فقال: لعلّي ثم قال: أن يتندما؛ لأن المعنى: لعلّ ابن أبي ذبّان أن يتندّم إن مالت بي الريح. ومثله قوله: {والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا وصيّةً لأزواجهم} إلا أن الهاء من قوله: {وصيّة لأزواجهم} رجعت على (الذين) فكان الإعراب فيها أبين؛ لأن العائد من الذّكر قد يكون خبرا؛ كقولك: عبد الله ضربته.
    وقال: {وعشراً} ولم يقل: "عشرة" وذلك أن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي والأيام غلّبوا عليه الليالي حتى إنهم ليقولون: قد صمنا عشرا من شهر رمضان لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام. فإذا أظهروا مع العدد تفسيره كانت الإناث بطرح الهاء، والدّكران بالهاء؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {سخّرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيامٍ حسوما} فأدخل الهاء في الأيام حين ظهرت، ولم تدخل في الليالي حين ظهرن. وإن جعلت العدد غير متّصل بالأيام كما يتّصل الخافض بما بعده غلّبت الليالي أيضا على الأيّام. فإن اختلطا فكانت ليالي وأيام غلّبت التأنيث، فقلت: مضى له سبع، ثم تقول بعد: أيام فيها برد شديد. وأمّا المختلط فقول الشاعر:
    أقامت ثلاثا بين يوم وليلة * وكان النكير أن تضيف وتجارا
    فقال: ثلاثا وفيها أيام. وأنت تقول: عندي ثلاثة بين غلام وجارية، ولا يجوز هاهنا ثلاث؛ لأن الليالي من الأيام تغلب الأيام. ومثل ذلك في الكلام أن تقول:
    [معاني القرآن: 1/151]
    عندي عشر من الإبل وإن عنيت أجمالا، وعشر من الغنم والبقر. وكل جمع كان واحدته بالهاء وجمعه بطرح الهاء، مثل البقر واحدته بقرة، فتقول: عندي عشر من البقر وإن نويت ذكرانا. فإذا اختلطا وكان المفسّر من النوعين قبل صاحبة أجريت العدد فقلت: عندي خمس عشرة ناقة وجملا، فأنّثت لأنك بدأت بالناقة فغلّبتها. وإن بدأت بالجمل قلت: عندي خمسة عشر جملا وناقة. فإن قلت: بين ناقة وجمل فلم تكن مفسّرة غلّبت التأنيث، ولم تبال أبدأت بالجمل أو بالناقة؛ فقلت: عندي خمس عشرة بين جمل وناقة. ولا يجوز أن تقول: عندي خمس عشرة أمة وعبدا، ولا بين أمة وعبد إلاّ بالتذكير؛ لأن الذكران من غير ما ذكرت لك لا يجتزأ منها بالإناث، ولأن الذكر منها موسوم بغير سمة الأنثى، والغنم والبقر يقع على ذكرها وأنثاها شاة وبقرة، فيجوز تأنيث المذكّر لهذه الهاء التي لزمت المذكّر والمؤنّث.
    وقوله: {من خطبة النّساء} الخطبة مصدر بمنزلة الخطب، وهو مثل قولك: إنه لحسن القعدة والجلسة؛ يريد القعود والجلوس، والخطبة مثل الرسالة التي لها أوّل وآخر، قال: سمعت بعض العرب [يقول]: اللهم ارفع عنا هذه الضغطة، كأنه ذهب إلى أن لها أوّلا وآخرا، ولو أراد مرّة لقال: الضغطة، ولو أراد الفعل لقال الضغطة؛ كما قال المشية. وسمعت آخر يقول: غلبني [فلان] على قطعةٍ لي من أرضي؛ يريد أرضا مفروزة مثل القطعة لم تقسم، فإذا أردت أنها قطعة من شيء [قطع منه] قلت: قطعة.
    وقوله: {أو أكننتم} للعرب في أكننت الشيء إذا سترته لغتان: كننته وأكننته، قال: وأنشدوني قول الشاعر:
    ثلاثٌ من ثلاث قدامياتٍ * من اللاتي تكنّ من الصقيع
    [معاني القرآن: 1/152]
    وبعضهم [يرويه] تكنّ من أكننت. وأمّا قوله: "لؤلؤ مكنون" و"بيض مكنون" فكأنه مذهب للشيء يصان، وإحداهما قريبة من الأخرى.
    وقوله: {ولكن لاّ تواعدوهنّ سرّاً} يقول: لا يصفنّ أحدكم نفسه في عدّتها بالرغبة في النكاح والإكثار منه. حدّثنا محمد بن الجهم قال حدّثنا الفرّاء قال حدثني حبّان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: السرّ في هذا الموضع النكاح. وأنشد عنه بيت امرئ القيس:
    ألا زعمت بسباسة اليوم أنني * كبرت وألاّ يشهد السرّ أمثالي
    قال الفرّاء: ويرى أنه مما كنى الله عنه قال: "أو جاء احد منكم من الغائط".
    قوله: {ومتّعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره...}
    بالرفع. ولو نصب كان صوابا على تكرير الفعل على النيّة، أي ليعط الموسع قدره، والمقتر قدره. وهو مثل قول العرب: أخذت صدقاتهم، لكل أربعين شاةً شاة؛ ولو نصبت الشاة الآخرة كان صوابا.
    [معاني القرآن: 1/153]
    وقوله: {متاعاً بالمعروف} منصوب خارجا من القدر؛ لأنه نكرة والقدر معرفة. وإن شئت كان خارجا من قوله "ومتّعوهنّ" متاعاً ومتعة.
    فأمّا {حقّاً} فإنه نصب من نيّة الخبر لا أنه من نعت المتاع. وهو كقولك في الكلام: عبد الله في الدار حقاً. إنما نصب الحق من نيّة كلام المخبر؛ كأنه قال: أخبركم خبرا حقا، وبذلك حقا؛ وقبيح أن تجعله تابعا للمعرفات أو للنكرات؛ لأن الحق والباطل لا يكونان في أنفس الأسماء؛ إنما يأتي بالأخبار. من ذلك أن تقول: لي عليك المال حقّا، وقبيح أن تقول: لي عليك المال الحق، أو: لي عليك مال حقّ، إلا أن تذهب به إلى أنه حقّ لي عليك، فتخرجه مخرج المال لا على مذهب الخبر.
    وكل ما كان في القرآن مما فيه من نكرات الحق أو معرفته أو ما كان في معنى الحق فوجه الكلام فيه النصب؛ مثل قوله "وعد الحق" و"وعد الصدق" ومثل قوله: {إليه مرجعكم جميعا وعد اللّه حقاً} هذا على تفسير الأوّل. وأمّا قوله: {هنالك الولاية للّه الحقّ} فالنصب في الحقّ جائز؛ يريد حقّا، أي أخبركم أن ذلك حقّ. وإن شئت خفضت الحقّ، تجعله من صفة الله تبارك وتعالى. وإن شئت رفعته فتجعله من صفة الولاية. وكذلك قوله: {وردّوا إلى اللّه مولاهم الحقّ} تجعله من صفة الله عز وجلّ. ولو نصبت كان صوابا، ولو رفع على نيّة الاستئناف كان صوابا؛ كما قال {الحقّ من ربّك
    [معاني القرآن: 1/154]
    فلا تكوننّ من الممترين} وأنت قائل إذا سمعت رجلا يحدث: [حقّا أي] قلت حقا، والحقّ، أي ذلك الحقّ. وأمّا قوله في ص {قال فالحقّ والحقّ أقول} فإن الفرّاء قد رفعت الأوّل ونصبته. وروي عن مجاهد وابن عباس أنهما رفعا الأوّل وقالا تفسيره: الحقّ مني، وأقول الحق؛ فينصبان الثاني بـ "أقول". ونصبهما جميعا كثير منهم؛ فجعلوا الأوّل على معنى: والحقّ "لأملأنّ جهنّم" وينصب الثاني بوقوع القول عليه. وقوله: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحقّ} رفعه حمزة والكسائيّ، وجعلا الحق هو الله تبارك وتعالى، لأنها في حرف عبد الله " ذلك عيسى بن مريم قال اللّه" كقولك: كلمة الله، فيجعلون (قال) بمنزلة القول؛ كما قالوا: العاب والعيب. وقد نصبه قوم يريدون: ذلك عيسى ابن مريم قولا حقّا.
    وقوله: {وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ...}
    تماسّوهن وتمسّوهن واحد، وهو الجماع؛ المماسّة والمسّ.
    وإنما قال {إلاّ أن يعفون} بالنون لأنه فعل النسوة، وفعل النسوة بالنون في كل حال. يقال: هنّ يضربن، ولم يضربن، ولن يضربن؛ لأنك لو أسقطت النون منهن للنصب أو الجزم لم يستبن لهنّ تأنيث. وإنّما قالت العرب "لن يعفوا" للقوم، و"لن يعفوا" للرجلين لأنهم زادوا للاثنين في الفعل ألفا ونونا، فإذا أسقطوا نون الاثنين للجزم أو للنصب دلّت الألف على الاثنين. وكذلك واو يفعلون تدلّ على الجمع إذا أسقطت النون جزما أو نصبا. {أو يعفو الّذي بيده عقدة النّكاح} وهو الزوج.
    [معاني القرآن: 1/155]
    وقوله: {حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى...}
    في قراءة عبد الله "وعلى الصلاة الوسطى" فلذلك آثرت القرّاء الخفض، ولو نصب على الحثّ عليها بفعل مضمر لكان وجها حسنا. وهو كقولك في الكلام: عليك بقرابتك والأمّ، فخصّها بالبرّ.
    وقوله: {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّةً...}
    وهي في قراءة عبد الله: "كتب عليهم الوصية لأزواجهم" وفي قراءة أبيّ: "يتوفون منكم ويذرون أزواجا فمتاع لأزواجهم" فهذه حجّة لرفع الوصيّة. وقد نصبها قوم منهم حمزة على إضمار فعل كأنه أمر؛ أي ليوصوا لأزواجهم وصيّة. ولا يكون نصبا في إيقاع "ويذرون" عليه.
    {غير إخراجٍ} يقول: من غير أن تخرجوهن؛ ومثله في الكلام: أتيتك رغبة إليك. ومثله: {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوءٍٍ} لو ألقيت "من" لقلت: غير سوء. والسوء ههنا البرص. حدّثنا محمد بن الجهم، قال حدّثنا الفرّاء، قال حدثنا شريك عن يزيد بن زياد عن مقسم عن ابن عباس أنه قال: من غير برص. قال الفراء كأنه قال: تخرج بيضاء غير برصاء). [معاني القرآن: 1/156]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:57 am

    وقوله: {مّن ذا الّذي يقرض اللّه قرضاً حسناً فيضاعفه له...}
    تقرأ بالرفع والنصب. فمن رفع جعل الفاء منسوقة على صلة (الذي)، ومن نصب أخرجها من الصلة وجعلها جوابا لـ (من)؛ لأنها استفهام، والذي في الحديد مثلها.
    وقوله: {ابعث لنا ملكاً نّقاتل في سبيل اللّه...}
    (نقاتل) مجزومة لا يجوز رفعها. فإن قرئت بالياء "يقاتل" جاز رفعها وجزمها. فأمّا الجزم فعلى المجازاة بالأمر، وأمّا الرفع فإن تجعل (يقاتل) صلة للملك؛ كأنك قلت: ابعث لنا الذي يقاتل.
    فإذا رأيت بعد الأمر اسما نكرة بعده فعل يرجع بذكره أو يصلح في ذلك الفعل إضمار الاسم، جاز فيه الرفع والجزم؛ تقول في الكلام: علّمني علما أنتفع به، كأنك قلت: علمني الذي أنتفع به، وإن جزمت (أنتفع) على أن تجعلها شرطا للأمر وكأنك لم تذكر العلم جاز ذلك. فإن ألقيت "به" لم يكن إلا جزما؛ لأن الضمير لا يجوز في (انتفع)؛ ألا ترى أنك لا تقول: علّمني علما انتفعه.
    فإن قلت: فهلاّ رفعت وأنت تريد إضمار (به)؟
    قلت: لا يجوز إضمار حرفين، فلذلك لم يجز في قوله (نقاتل) إلا الجزم. ومثله {اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم} لا يجوز إلا الجزم لأن "يخل" لم يعد بذكر الأرض. ولو كان "أرضا تخل لكم" جاز الرفع والجزم؛ كما قال: {ربّنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم} وكما قال الله تبارك وتعالى: {خذ من أموالهم
    [معاني القرآن: 1/157]
    صدقة تطهّرهم وتزكّيهم} ولو كان جزما كان صوابا؛ لأن في قراءة عبد الله "أنزل علينا مائدة من السماء تكن لنا عيدا" وفي قراءتنا بالواو "تكون".
    ومنه ما يكون الجزم فيه أحسن؛ وذلك بأن يكون الفعل الذي قد يجزم ويرفع في آية، والاسم الذي يكون الفعل صلة له في الآية التي قبله، فيحسن الجزم لانقطاع الاسم من صلته؛ من ذلك: {فهب لي من لدنك وليّاً. يرثني} جزمه يحيى ابن وثّاب والأعمش - ورفعه حمزة "يرثني" لهذه العلّة، وبعض القراء رفعه أيضا - لمّا كانت (وليا) رأس آية انقطع منها قوله (يرثني)، فحسن الجزم. ومن ذلك قوله: {وابعث في المدائن حاشرين. يأتوك} على الجزم. ولو كانت رفعا على صلة "الحاشرين" قلت: يأتوك.
    فإذا كان الاسم الذي بعده فعل معرفةً يرجع بذكره، مما جاز في نكرته وجهان جزمت فقلت: ابعث إليّ أخاك يصب خبرا، لم يكن إلا جزما؛ لأن الأخ معرفة والمعرفة لا توصل. ومنه قوله: {أرسله معنا غداً يرتع ويلعب} الهاء معرفة و"غدا" معرفة فليس فيه إلا الجزم، ومثل قوله: {قاتلوهم يعذّبهم الله} جزم لا غير.
    ومن هذا نوع إذا كان بعد معرفته فعلٌ لها جاز فيه الرفع والجزم؛ مثل قوله: {فذروها تأكل في أرض الله} وقوله: {ذرهم يأكلوا} ولو كان رفعا لكان صوابا؛ كما قال تبارك وتعالى: {ثمّ ذرهم في خوضهم يلعبون} ولم يقل: يلعبوا. فأمّا رفعه فأن تجعل "يلعبون" في موضع نصب كأنك قلت في الكلام: ذرهم
    [معاني القرآن: 1/158]
    لاعبين. وكذلك دعهم وخلّهم واتركهم. وكلّ فعل صلح أن يقع على اسم معرفة وعلى فعله ففيه هذان الوجهان، والجزم فيه وجه الكلام؛ لأن الشرط يحسن فيه، ولأن الأمر فيه سهل، ألا ترى أنك تقول: قل له فليقم معك. فإن رأيت الفعل الثاني يحسن فيه محنة الأمر ففيه الوجهان بمذهب كالواحد، وفي إحدى القراءتين: "ذرهم يأكلون ويتمتّعون ويلهيهم الأمل".
    وفيه وجه آخر يحسن في الفعل الأوّل. من ذلك: أوصه يأت زيدا، أو مره، أو أرسل إليه. فهذا يذهب إلى مذهب القول، ويكون جزمه على شبيه بأمر ينوى له مجدّدا. وإنما يجزم على أنه شرط لأوّله. من ذلك قولك: مر عبد الله يذهب معنا؛ ألا ترى أن القول يصلح أن يوضع في موضع (مر)، وقال الله تبارك وتعالى: {قل للّذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيّام الله} فـ "يغفروا" في موضع جزم، والتأويل - والله أعلم -: قل للذين آمنوا اغفروا، على أنه شرط للأمر فيه تأويل الحكاية. ومثله: {قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} فتجزمه بالشرط "قل"، وقال قوم: بنيّه الأمر في هذه الحروف: من القول والأمر والوصيّة. قيل لهم: إن كان جزم على الحكاية فينبغي لكم أن تقولوا للرجل في وجهه: قلت لك تقم، وينبغي أن تقول: أمرتك تذهب معنا، فهذا دليل على أنه شرط للأمر.
    فإن قلت: فقد قال الشاعر:
    فلا تستطل منّي بقائي ومدّتي * ولكن يكن للخير فيك نصيب
    [معاني القرآن: 1/159]
    قلت: هذا مجزوم بنيّة الأمر؛ لأن أوّل الكلام نهي، وقوله (ولكن) نسق وليست بجواب. فأراد: ولكن ليكن للخير فيك نصيب. ومثله قول الآخر:
    من كان لا يزعم أنى شاعر * فيدن مني تنهه المزاجر
    فجعل الفاء جوابا للجزاء، وضّمن (فيدن) لاما يجزم [بها]. وقال الآخر:
    فقلت ادعي وأدع فإنّ أندى * لصوتٍ أن ينادي داعيان
    أراد: ولأدع. وفي قوله (وأدع) طرف من الجزاء وإن كان أمرا قد نسق أوّله على آخره. وهو مثل قول الله عزّ وجلّ: {اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} والله أعلم. وأما قوله: {ذروني أقتل موسى وليدع ربّه} فليس تأويل جزاء، إنما هو أمر محض؛ لأن إلقاء الواو وردّه إلى الجزاء (لا يحسن فليس إلى الجزاء)؛ ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول ذروني أقتله يدع؛ كما حسن "اتّبعوا سبيلنا تحمل خطاياكم". والعرب لا تجازي بالنهي كما تجازي بالأمر. وذلك أن النهي يأتي بالجحد، ولم تجاز العرب بشيء من الجحود. وإنما يجيبونه بالفاء. وألحقوا النهي إذا كان بلا، بليس وما وأخواتهن من الجحود. فإذا رأيت نهيا بعد اسمه فعل فارفع ذلك الفعل. فتقول: لا تدعنّه يضربه، ولا تتركه يضربك. جعلوه رفعا إذ لم يكن آخره يشاكل أوّله؛ إذ كان في أوّله جحد وليس في آخره جحد. فلو قلت: لا تدعه لا يؤذك جاز الجزم والرفع؛ إذ كان أوّله كآخره؛ كما تقول في الأمر: دعه ينام، ودعه ينم؛ إذ كان لا جحد فيهما. فإذا أمرت ثم جعلت في الفعل (لا) رفعت؛ لاختلافهما
    [معاني القرآن: 1/160]
    أيضا، فقلت: ايتنا لا نسيء إليك؛ كقول الله تبارك وتعالى: {وأمر أهلك بالصّلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا} [لمّا كان] أوّل الكلام أمرا وآخره نهيا فيه (لا) فاختلفا، جعلت (لا) على معنى ليس فرفعت. ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {فقاتل في سبيل الله لا تكلّف إلاّ نفسك} وقوله: {يا أيّها الّذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم} رفع، ومنه قوله: {فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه} ترفع، ولو نويت الجزاء لجاز في قياس النحو. وقد قرأ يحيى بن وثّاب وحمزة: "فاضرب لهم طريقا في البحر يبساً لا تخف دركا ولا تخشى" بالجزاء المحض.
    فإن قلت: فكيف أثبتت الياء في (تخشى)؟ قلت: في ذلك ثلاثة أوجه؛ إن شئت استأنفت "ولا تخشى" بعد الجزم، وإن شئت جعلت (تخشى) في موضع جزم وإن كانت فيها الياء؛ لأن من العرب من يفعل ذلك؛ قال بعض بني عبس:
    ألم يأتيك والأنباء تنمي * بما لاقت لبون بني زياد
    فأثبتت الياء في (يأتيك) وهي في موضع جزم؛ لأنه رآها ساكنة، فتركها على سكونا؛ كما تفعل بسائر الحروف. وأنشدني بعض بني حنيفة:
    قال لها من تحتها وما استوى * هزّي إليك الجذع يجنيك الجنى
    [معاني القرآن: 1/161]
    وكان ينبغي أن تقول: يجنك. وأنشدني بعضهم في الواو:
    هجوت زبّان ثم جئت معتذرا * من سبّ زبّان لم تهجو ولم تدع
    والوجه الثالث أن يكون الياء صلة لفتحة الشين؛ كما قال امرؤ القيس:
    * ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي *
    فهذه الياء ليست بلام الفعل؛ هي صلة لكسرة اللام؛ كما توصل القوافي بإعراب رويّها؛ مثل قول الأعشى:
    * بانت سعاد وأمسى حبلها انقطاعا *
    وقول الآخر:
    * أمن أمّ أوفى دمنةٌ لم تكلمي *
    وقد يكون جزم الثاني إذا كانت فيه (لا) على نيّة النهي وفيه معنىً من الجزاء؛ كما كان في قوله: {ولنحمل خطاياكم} طرف من الجزاء وهو أمر. فمن ذلك قول الله تبارك وتعالى: {يا أيّها النّمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده} المعنى والله أعلم: إن؟ تدخلن حطّمتنّ، وهو نهي محض؛ لأنه لو كان جزاء لم تدخله النون الشديدة ولا الخفيفة؛ ألا ترى أنك لا تقول: إن تضربني أضربنّك إلا في ضرورة شعر؛ كقوله:
    فمهما تشأ منه فزارة تعطكم * ومهما تشأ منه فزارة تمنعا
    [معاني القرآن: 1/162]
    وقوله: {وما لنا ألاّ نقاتل...}
    جاءت (أن) في موضع، وأسقطت من آخر؛ فقال في موضع آخر: {وما لكم لا تؤمنون بالله والرّسول يدعوكم} وقال في موضع آخر: {وما لنا ألاّ نتوكّل على الله} فمن ألقى (أن) فالكلمة على جهة العربيّة التي لا علة فيها، والفعل في موضع نصب؛ كقول الله - عزّ وجل -: {فما للّذين كفروا قبلك مهطعين} وكقوله: {فما لكم في المنافقين فئتين} فهذا وجه الكلام في قولك: مالك؟ وما بالك؟ وما شأنك: أن تنصب فعلها إذا كان اسما، وترفعه إذا كان فعلا أوّله الياء أو التاء أو النون أو الألف؛ كقول الشاعر:
    * مالك ترغين ولا ترغو الخلف *
    الخلفة: التي في بطنها ولدها.
    وأما إذا قال (أن) فإنه مما ذهب إلى المعنى الذي يحتمل دخول (أن)؛ ألا ترى أن قولك للرجل: مالك لا تصلي في الجماعة؟ بمعنى ما يمنعك أن تصلي، فأدخلت (أن) في (مالك) إذ وافق معناها معنى المنع. والدليل على ذلك قول الله عزّ وجلّ: {ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك} وفي موضع آخر: {مالك ألاّ تكون مع
    [معاني القرآن: 1/163]
    الساجدين} وقصة إبليس واحدة، فقال فيه بلفظين ومعناهما واحد وإن اختلفا. ومثله ما حمل على معنى هو مخالف لصاحبه في اللفظ قول الشاعر:
    يقول إذا اقلولى عليها وأقردت * ألا هل أخو عيشٍ لذيذ بدائم
    فأدخل الباء في (هل) وهي استفهام، وإنما تدخل الباء في ما الجحد؛ كقولك: ما أنت بقائل. فلمّا كانت النيّة في (هل) يراد بها الجحد أدخلت لها الباء. ومثله قوله في قراءة عبد الله "كيف يكون للمشركين عهدٌ": ليس للمشركين. وكذلك قول الشاعر:
    فاذهب فأيّ فتىً في الناس أحرزه * من يومه ظلمٌ دعج ولا جبل
    (رد عليه بلا) كأن معنى أي فتى في الناس أحرزه معناه: ليس يحرز الفتى من يومه ظلم دعج ولا جبل. وقال الكسائي: سمعت العرب تقول: أين كنت لتنجو مني! لأن المعنى: ما كنت لتنجو مني، فأدخل اللام في (أين) لأن معناها جحد: ما كنت لتنجو مني. وقال الشاعر:
    فهذي سيوف يا صديّ بن مالك * كثير ولكن أين بالسيف ضارب
    [معاني القرآن: 1/164]
    أراد: ليس بالسيف ضارب، ولو لم يرد (ليس) لم يجز الكلمة؛ لأن الباء من صلة (ضارب) ولا تقدّم صلة اسم قبله؛ ألا ترى أنك لا تقول: ضربت بالجارية كفيلا، حتى تقول: ضربت كفيلا بالجارية. وجاز أن تقول: ليس بالجارية كفيل؛ لأن (ليس) نظيرة لـ (ما)؛ لأنها لا ينبغي لها أن ترفع الاسم كما أن (ما) لا ترفعه.
    وقال الكسائي في إدخالهم (أن) في (مالك): هو بمنزلة قوله: "مالكم في ألا تقاتلوا" ولو كان ذلك على ما قال لجاز في الكلام أن تقول: مالك أن قمت، ومالك أنك قائم؛ لأنك تقول: في قيامك، ماضيا ومستقبلا، وذلك غير جائز؛ لأن المنع إنما يأتي بالاستقبال؛ تقول: منعتك أن تقوم، ولا تقول: منعتك أن قمت. فلذلك جاءت في (مالك) في المستقبل ولم تأت في دائم ولا ماض. فذلك شاهد على اتفاق معنى مالك وما منعك. وقد قال بعض النحويين: هي مما أضمرت فيه الواو، حذفت من نحو قولك في الكلام: مالك ولأن تذهب إلى فلان؟ فألقى الواو منها؛ لأن (أن) حرف ليس بمتمكن في الأسماء.
    فيقال: أتجيز أن أقول: مالك أن تقوم، ولا أجيز: مالك القيام [فقال]: لأن القيام اسم صحيح و(أن) اسم ليس بالصحيح. واحتجّ بقول العرب: إياك أن تتكلم، وزعم أن المعنى إياك وأن تتكلم. فردّ ذلك عليه أن العرب تقول: إياك بالباطل أن تنطق، فلو كانت الواو مضمرة في (أن) لم يجز لما بعد الواو من الأفاعيل أن تقع على ما قبلها؛ ألا ترى أنه غير جائز أن تقول: ضربتك بالجارية وأنت كفيل، تريد: وأنت كفيل بالجارية، وأنك تقول: رأيتك وإيّانا تريد، ولا يجوز رأيتك إيّانا وتريد؛ قال الشاعر:
    فبح بالسرائر في أهلها * وإيّاك في غيرهم أن تبوحا
    [معاني القرآن: 1/165]
    فجاز أن يقع الفعل بعد (أن) على قوله (في غيرهم)، فدلّ ذلك على أن إضمار الواو في (أن) لا يجوز.
    وأمّا قول الشاعر: * فإياك المحاين أن تحينا *
    فإنه حذّره فقال: إياك، ثم نوى الوقفة، ثم استأنف (المحاين) بأمر آخر، كأنه قال: احذر المحاين، ولو أراد مثل قوله: (إيّاك والباطل) لم يجز إلقاء الواو؛ لأنه اسم أتبع اسما في نصبه، فكان بمنزلة قوله في [غير] الأمر: أنت ورأيك وكلّ ثوب وثمنه، فكما لم يجز أنت رأيك، أو كلّ ثوب ثمنه فكذلك لا يجوز: (إيّاك الباطل) وأنت تريد: إيّاك والباطل.
    وقوله: {فشربوا منه إلاّ قليلاً مّنهم...}
    وفي إحدى القراءتين: "إلا قليلٌ منهم".
    والوجه في (إلاّ) أن ينصب ما بعدها إذا كان ما قبلها لا جحد فيه، فإذا كان ما قبل إلاّ فيه جحد جعلت ما بعدها تابعا لما قبلها؛ معرفة كان أو نكرة. فأمّا المعرفة فقولك: ما ذهب الناس إلا زيد. وأمّا النكرة فقولك: ما فيها أحدٌ إلاّ غلامك، لم يأت هذا عن العرب إلا بإتباع ما بعد إلا ما قبلها. وقال الله تبارك تعالى: {ما فعلوه إلاّ قليل منهم} لأن في (فعلوه) اسما معرفة، فكان الرفع الوجه في الجحد الذي ينفي الفعل عنهم، ويثبته لما بعد إلاّ. وهي في قراءة أبيّ "ما فعلوه إلا قليلا" كأنه نفى الفعل وجعل ما بعد إلاّ كالمنقطع عن أوّل الكلام؛ كقولك: ما قام القوم، اللهم إلاّ رجلا.
    [معاني القرآن: 1/166]
    فإذا نويت الانقطاع نصبت وإذا نويت الاتّصال رفعت. ومثله قوله: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس} فهذا على هذا المعنى، ومثله: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقيّةٍ ينهون عن الفساد في الأرض} ثم قال: {إلا قليلا ممن أنجينا منهم} فأوّل الكلام - وإن كان استفهاما - جحد؛ لأن لولا بمنزلة هلاّ؛ ألا ترى أنك إذا قلت للرجل: (هلاّ قمت) أنّ معناه: لم تقم. ولو كان ما بعد (إلاّ) في هاتين الآيتين رفعا على نيّة الوصل لكان صوابا؛ مثل قوله: {لو كان فيهما آلهة إلاّ اللّه لفسدتا} فهذا نيّة وصل؛ لأنه غير جائز أن يوقف على ما قبل (إلا).
    وإذا لم تر قبل (إلا) اسما فأعمل ما قبلها فيما بعدها. فتقول: (ما قام إلا زيد) رفعت (زيدا) لإعمالك (قام)؛ إذ لم تجد (قام) اسما بعدها. وكذلك: ما ضربت إلا أخاك، وما مررت إلا بأخيك.
    وإذا كان الذي قبل (إلا) نكرة مع جحد فإنك تتبع ما بعد إلا ما قبلها؛ كقولك: ما عندي أحد إلاّ أخوك. فإن قدّمت إلاّ نصبت الذي كنت ترفعه؛ فقلت: ما أتاني ألا أخوك أحد. وذلك أن (إلاّ) كانت مسوقة على ما قبلها فاتّبعه، فلما قدّمت فمنع أن يتبع شيئا هو بعدها فاختاروا الاستثناء. ومثله قول الشاعر:
    لميّة موحشاً طللٌ * يلوح كأنه خلل
    [معاني القرآن: 1/167]
    المعنى: لمية طلل موحش، فصلح رفعه لأنه أتبع الطلل، فلمّا قدّم لم يجز أن يتبع الطلل وهو قبله. وقد يجوز رفعه عل أن تجعله كالاسم يكون الطلل ترجمة عنه؛ كما تقول: عندي خراسانيّةٌ جاريةٌ، والوجه النصب في خراسانية. ومن العرب من يرفع ما تقدّم في إلاّ على هذا التفسير. قال: وأنشدونا:
    بالثنى أسفل من جمّاء ليس له * إلاّ بنيه وإلا عرسه شيع
    وينشد: إلا بنوه وإلاّ عرسه. وأنشد أبو ثروان:
    ما كان منذ تركنا أهل أسمنةٍ * إلا الوجيف لها رعىٌ ولا علف
    ورفع غيره. وقال ذو الرّمة:
    مقزّعٌ أطلس الأطمار ليس له * إلا الضراء وإلا صيدها نشب
    ورفعه على أنه بنى كلامه على: ليس له إلا الضراء وإلا صيدها، ثم ذكر في آخر الكلام (نشب) ويبيّنه أن تجعل موضعه في أوّل الكلام.
    {كم مّن فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةًً} وفي قراءة أبيّ "كأيّن من فئةٍ قليلة غلبت" وهما لغتان. وكذلك {وكأيّن من نبي} هي لغات كلّها معناهنّ معنى كم. فإذا ألقيت (من) كان في الاسم النكرة النصب والخفض. من ذلك قول العرب: كم رجلٍ كريم قد رأيت، وكم جيشا جرّارا قد هزمت. فهذان وجهان، ينصبان ويخفضان والفعل في المعنى واقع. فإن كان الفعل ليس بواقع وكان للاسم جاز النصب أيضا
    [معاني القرآن: 1/168]
    والخفض. وجاز أن تعمل الفعل فترفع به النكرة، فتقول: كم رجلٌ كريمٌ قد أتاني، ترفعه بفعله، وتعمل فيه الفعل إن كان واقعا عليه؛ فتقول: كم جيشا جرّارا قد هزمت، نصبته بهزمت. وأنشدوا قول الشاعر:
    كم عمّة لك يا جرير وخالة * فدعاء قد حلبت عليّ عشاري
    رفعا ونصبا وخفضا، فمن نصب قال: كان أصل كم الاستفهام، وما بعدها من النكرة مفسّر كتفسير العدد، فتركناها في الخبر على جهتها وما كانت عليه في الاستفهام؛ فنصبنا ما بعد (كم) من النكرات؛ كما تقول: عندي كذا وكذا درهما، ومن خفض قال: طالت صحبة من للنكرة في كم، فلمّا حذفناها أعملنا إرادتها، فخفضنا، كما قالت العرب إذا قيل لأحدهم: كيف أصبحت؟ قال: خيرٍ عافاك الله، فخفض، يريد: بخير. وأمّا من رفع فأعمل الفعل الآخر، [و] نوى تقديم الفعل كأنه قال: كم قد أتاني رجل كريم. وقال امرؤ القيس:
    تبوص وكم من دونها من مفازةٍ * وكم أرض جدب دونها ولصوص
    فرفع على نيّة تقديم الفعل. وإنما جعلت الفعل مقدّما في النية لأن النكرات لا تسبق أفاعيلها؛ ألا ترى أنك تقول: ما عندي شيء، ولا تقول ما شيء عندي). [معاني القرآن: 1/169]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:57 am

    وقوله: {ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم...}
    وإدخال العرب (إلى) في هذا الموضع على جهة التعجّب؛ كما تقول للرجل: أما ترى إلى هذا! والمعنى - والله أعلم -: هل رأيت مثل هذا أو رأيت هكذا! والدليل على ذلك أنه قال: {أو كالّذي مرّ على قريةٍ} فكأنه قال: هل رأيت كمثل الذي حاجّ إبراهيم في ربه {أو كالّذي مرّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها} وهذا في جهته بمنزلة ما أخبرتك به في مالك وما منعك. ومثله قول الله تبارك وتعالى: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون. سيقولون للّه} ثم قال تبارك وتعالى: {قل من ربّ السموات السّبع وربّ العرش العظيم. سيقولون لله} فجعل اللام جوابا وليست في أوّل الكلام. وذلك أنك إذا قلت: من صاحب هذه الدار؟ فقال لك القائل: هي لزيد، فقد أجابك بما تريد. فقوله: زيدٌ ولزيدٍ سواء في المعنى. فقال: أنشدني بعض بني عامر:
    فأعلم أنني سأكون رمساً * إذا سار النواجع لا يسير
    فقال السائرون لمن حفرتم * فقال المخبرون لهم: وزير
    ومثله في الكلام أن يقول لك الرجل: كيف أصبحت؟ فتقول أنت: صالح، بالرفع، ولو أجبته على نفس كلمته لقلت: صالحا. فكفاك إخبارك عن حالك من أن تلزم كلمته. ومثله قول الله تبارك وتعالى: {ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم ولكن
    [معاني القرآن: 1/170]
    رسول الله} وإذا نصبت أردت: ولكن كان رسول الله، وإذا رفعت أخبرت، فكفاك الخبر مما قبله. وقوله: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء} رفع وهو أوجه من النصب، لأنه لو نصب لكان على: ولكن أحسبهم أحياء؛ فطرح الشكّ من هذا الموضع أجود. ولو كان نصبا كان صوابا كما تقول: لا تظننه كاذبا، بل اظننه صادقا. وقال الله تبارك وتعالى: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوّي بنانه} إن شئت جعلت نصب قادرين من هذا التأويل، كأنه في مثله من الكلام قول القائل: أتحسب أن لن أزورك؟ بل سريعا إن شاء الله، كأنه قال: بلى فاحسبني زائرك. وإن كان الفعل قد وقع على (أن لن نجمع) فإنه في التأويل واقع على الأسماء. وأنشدني بعض بني فقعس:
    أجدّك لن ترى بثعيلبات * ولا بيدان ناجيةً ذمولا
    ولا متداركٍ والشمس طفلٌ * ببعض نواشغ الوادي حمولا
    فقال: ولا متداركٍ، فدلّ ذلك على أنه أراد ما أنت براءٍ بثعيلبات كذا ولا بمتداركٍ. وقد يقول بعض النحويّين: إنا نصبنا (قادرين) على أنها صرفت عن نقدر، وليس ذلك بشيء، ولكنه قد يكون فيه وجه آخر سوى ما فسّرت لك: يكون خارجا من (نجمع) كأنه في الكلام قول القائل: أتحسب أن لن أضربك؟ بلى قادرا على قتلك، كأنه قال: بلى أضربك قادراً على أكثر من ضربك.
    [معاني القرآن: 1/171]
    وقوله: {كم لبثت} وقد جرى الكلام بالإدغام للثاء؛ لقيت التاء وهي مجزومة. وفي قراءة عبد الله (اتّختّم العجل) (وإني عتّ بربي وربكم) فأدغمت الذال أيضا عند التاء. وذلك أنهما متناسبتان في قرب المخرج، والثاء والذال مخرجهما ثقيل، فأنزل الإدغام بهما لثقلهما؛ ألا ترى أن مخرجهما من طرف اللسان. وكذلك الظاء تشاركهن في الثقل. فما أتاك من هذه الثلاثة الأحرف فأدغم. وليس تركك الإدغام بخطأ، إنما هو استثقال. والطاء والدال يدغمان عند التاء أيضا إذا أسكنتا؛ كقوله: {أحطت بما لم تحط به} تخرج الطاء في اللفظ تاء، وهو أقرب إلى التاء من الأحرف الأول، تجد ذلك إذا امتجنت مخرجيهما.
    وقوله: {لم يتسنّه} جاء التفسير: لم يتغير [بمرور السنين عليه، مأخوذ من السنة]، وتكون الهاء من أصله [من قولك: بعته مسانهة، تثبت وصلا ووقفا. ومن وصله بغير هاء جعله من المساناة؛ لأن لام سنة تعتقب عليها الهاء والواو]، وتكون زائدةً صلةً بمنزلة قوله: {فبهداهم اقتده} فمن جعل الهاء زائدة جعل فعّلت منه تسنيت؛ ألا ترى أنك تجمع السنة سنوات فيكون تفعّلت على صحة، ومن قال في [تصغير] السنة سنينة وإن كان ذلك قليلا جاز أن يكون تسنيت تفعّلت أبدلت النون بالياء لمّا كثرت النونات، كما قالوا تظنّيت وأصله الظن. وقد قالوا هو مأخوذ من قوله: {من حمإٍ مسنون} يريد: متغيّر. فإن يكن كذلك فهو أيضا مما أبدلت نونه ياء. ونرى أن معناه مأخوذ من السنة؛ أي لم تغيّره السنون. والله أعلم. حدّثنا محمد بن الجهم، قال حدّثنا الفراء، قال حدثني سفيان بن عيينة رفعه إلى زيد
    [معاني القرآن: 1/172]
    ابن ثابت قال: كتب في حجر ننشزها ولم يتسن وانظر إلى زيد بن ثابت فنقط على الشين والزاي أربعا وكتب (يتسنه) بالهاء. وإن شئت قرأتها في الوصل على وجهين: تثبت الهاء وتجزمها، وإن شئت حذفتها؛ أنشدني بعضهم:
    فليست بسنهاء ولا رجّبيّة * ولكن عرايا في السنين الجوائح
    والرجّبيّة: التي تكاد تسقط فيعمد حولها بالحجارة. والسنهاء: النخلة القديمة. فهذه قوّة لمن أظهر الهاء إذا وصل.
    وقوله: {ولنجعلك آيةً للنّاس} إنما أدخلت فيه الواو لنيّة فعل بعدها مضمر؛ كأنه قال: ولنجعلك آية فعلنا ذلك. وهو كثير في القرآن. وقوله: {آيةً للنّاس} حين بعث أسود اللحية والرأس وبنو بنيه شيب، فكان آية لذلك.
    وقوله: {ننشزها} قرأها زيد بن ثابت كذلك، والإنشاز نقلها إلى موضعها. وقرأها ابن عباس "ننشرها". إنشارها: إحياؤها. واحتجّ بقوله: {ثم إذا شاء أنشره} وقرأ الحسن - فيما بلغنا - (ننشرها) ذهب إلى النشر والطيّ. والوجه أن تقول: أنشر الله الموتى فنشروا إذا حيوا، كما قال الأعشى:
    * يا عجبا للميت الناشر *
    وسمعت بعض بني الحارث يقول: كان به جرب فنشر، أي عاد وحيي. وقوله: "فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شيء قدير" جزمها ابن عبّاس، وهي في قراءة
    [معاني القرآن: 1/173]
    أبيّ وعبد الله جميعا: "قيل له اعلم" واحتجّ ابن عباس فقال: أهو خير من إبراهيم وأفقه؟ فقد قيل له: {واعلم أنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ} والعامّة تقرأ: "أعلم أن الله" وهو وجه حسن؛ لأن المعنى كقول الرجل عند القدرة تتبين له من أمر الله: (أشهد أن لا إله إلا الله) والوجه الآخر أيضا بيّن.
    وقوله: {فصرهنّ إليك} ضمّ الصاد العامّة. وكان أصحاب عبد الله يكسرون الصاد. وهما لغتان. فأمّا الضمّ فكثير، وأما الكسر ففي هذيل وسليم. وأنشدني الكسائيّ عن بعض بني سليم:
    وفرعٍ يصير الجيد وحفٍ كأنه * على الليت قنوان الكروم الدوالح
    ويفسّر معناه: قطّعهن، ويقال: وجّههن. ولم نجد قطّعهنّ معروفة من هذين الوجهين، ولكني أرى - والله أعلم - أنها إن كانت من ذلك أنها من صريت تصري، قدّمت ياؤها كما قالوا: عثت وعثيت، وقال الشاعر:
    صرت نظرة لو صادفت جوز دارع * غدا والعواصي من دم الجوف تنعر
    والعرب تقول: بات يصري في حوضه إذا استقى ثم قطع واستقى؛ فلعله من ذلك . وقال الشاعر:
    يقولون إن الشأم يقتل أهله * فمن لي إن لم آته بخلود
    تعرّب آبائي فهلاّ صراهم * من الموت أن لم يذهبوا وجدودي). [معاني القرآن: 1/174]
    وقوله: {أيودّ أحدكم أن تكون له جنّةٌ مّن نّخيلٍ وأعنابٍ...}
    ثم قال بعد ذلك {وأصابه الكبر} ثم قال {فأصابها إعصارٌ فيه نارٌ فاحترقت} فيقول القائل: فهل يجوز في الكلام أن يقول: أتودّ أنّ تصيب مالا فضاع، والمعنى: فيضيع؟ قلت: نعم ذلك جائز في وددت؛ لأن العرب تلقاها مرّة بـ (أن) ومرّة بـ (لو) فيقولون: لوددت لو ذهبت عنا، [و] وددت أن تذهب عنا، فلمّا صلحت بلو وبأن ومعناهما جميعا الاستقبال استجازوا أن يردّوا فعل بتأويل لو، على يفعل مع أن. فلذلك قال: فأصابها، وهي في مذهبه بمنزلة لو؛ إذ ضارعت إن بمعنى الجزاء فوضعت في مواضعها، وأجيبت إن بجواب لو، ولو بجواب إن؛ قال الله تبارك وتعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ ولأمةٌ مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} والمعنى - والله أعلم -: وإن أعجبتكم؛ ثم قال{ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا [من بعده يكفرون]} فأجيبت لئن بإجابة لو ومعناهما مستقبل. ولذلك قال في قراءة أبيّ "ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلوا" ردّه على تأويل: ودّوا أن تفعلوا. فإذا رفعت (فيميلون) رددت على تأويل لو؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {ودّوا لو تدهن فيدهنون} وقال أيضا {وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} وربما جمعت العرب بينهما جميعا؛ قال الله تبارك وتعالى: {وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا} وهو مثل جمع العرب بين ما وإن وهما جحد؛ قال الشاعر:
    [معاني القرآن: 1/175]
    قد يكسب المال الهدان الجافي * بغير لا عصفٍ ولا اصطراف
    وقال آخر:
    ما إن رأينا مثلهن لمعشر* سود الرءوس فوالج وفيول
    وذلك لاختلاف اللفظين يجعل أحدهما لغوا. ومثله قول الشاعر:
    من النفر اللاء الذين إذا هم * تهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
    ألا ترى أنه قال: اللاء الذين، ومعناهما الذين، استجيز جمعهما لاختلاف لفظهما، ولو اتفقا لم يجز. لا يجوز ما ما قام زيد، ولا مررت بالذين الذين يطوفون. وأمّا قول الشاعر:
    كماما امرؤٌ في معشرٍ غير رهطه * ضعيف الكلام شخصه متضائل
    فإنما استجازوا الجمع بين ما وبين [ما] لأن الأولى وصلت بالكاف، - كأنها كانت هي والكاف اسماً واحدا - ولم توصل الثانية، واستحسن الجمع بينهما. وهو في قول الله {كلاّ لا وزر} كانت لا موصولةً، وجاءت الأخرى مفردة فحسن اقترانهما. فإذا قال القائل: (ما ما قلت بحسنٍ) جاز ذلك على غير عيب؛ لأنه
    [معاني القرآن: 1/176]
    يجعل ما الأولى جحدا والثانية في مذهب الذي. [وكذلك لو قال: من من عندك؟ جاز؛ لأنه جعل من الأول استفهاما، والثاني على مذهب الذي]. فإذا اختلف معنى الحرفين جاز الجمع بينهما.
    وأمّا قول الشاعر:
    * كم نعمةٍ كانت لهاكم كم وكم *
    إنما هذا تكرير حرف، لو وقعت على الأوّل أجزأك من الثاني. وهو كقولك للرجل: نعم نعم، تكررها، أو قولك: اعجل اعجل، تشديدا للمعنى. وليس هذا من البابين الأولين في شيء. وقال الشاعر:
    هلاّ سألت جموع كنـ * دة يوم ولّوا أين أينا
    وأمّا قوله: (لم أره منذ يوم يوم) فإنه ينوى بالثاني غير اليوم الأوّل، إنما هو في المعنى: لم أره منذ يوم تعلم. وأمّا قوله:
    نحمي حقيقتنا وبعـ * ض القوم يسقط بين بينا
    فإنه أراد: يسقط هو لا بين هؤلاء ولا بين هؤلاء. فكان اجتماعهما في هذا الموضع بمنزلة قولهم: هو جاري بيت بيت، ولقيته كفّة كفّة؛ لأن الكفّتين واحدة منك وواحدة منه. وكذلك هو جاري بيت بيت منها: بيتي وبيته لصيقان.
    [معاني القرآن: 1/177]
    قال: كيف قال قوله: {فإن لّم يصبها وابلٌ فطلٌّ...}
    وهذا الأمر قد مضى؟ قيل: أضمرت (كان) فصلح الكلام. ومثله أن تقول: قد أعتقت عبدين، فإن لم أعتق اثنين فواحدا بقيمتهما، والمعنى إلاّ أكن؛ لأنه ماض فلا بدّ من إضمار كان؛ لأن الكلام جزاء. ومثله قول الشاعر:
    إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمةٌ * ولم تجدي من أن تقرّى بها بدّا
    وقوله: {ولستم بآخذيه إلاّ أن تغمضوا فيه...}
    فتحت (أن) بعد إلاّ وهي في مذهب جزاء. وإنما فتحتها لأن إلا قد وقعت عليها بمعنى خفضٍ يصلح. فإذا رأيت (أن) في الجزاء قد أصابها معنى خفضٍ أو نصب أو رفع انفتحت. فهذا من ذلك. والمعنى - والله أعلم - ولستم بآخذيه إلا على إغماض، أو بإغماض، أو عن إغماضٍ، صفة غير معلومة. ويدلك على أنه جزاء أنك تجد المعنى: أو أغمضتم بعض الإغماض أخذتموه. ومثله قوله: {إلا أن يخافا ألاّ يقيما حدود الله} ومثله {إلاّ أن يعفون} هذا كلّه جزاء، وقوله: {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله} ألا ترى أن المعنى: لا تقل إني فاعل إلا ومعها إن شاء الله؛ فلمّا قطعتها (إلا) عن معنى الابتداء، مع ما فيها من نيّة الخافض فتحت. ولو لم تكن فيها (إلاّ) تركت على كسرتها؛ من ذلك أن تقول: أحسن إن قبل منك . فإن أدخلت (إلاّ) قلت: أحسن إلا ألاّ يقبل منك. فمثله
    [معاني القرآن: 1/178]
    قوله: {وأن تعفوا أقرب للتقوى}، {وأن تصوموا خير لكم} هو جزاء، المعنى: إن تصوموا فهو خير لكم. فلما أن صارت (أن) مرفوعة بـ (خير) صار لها ما يرافعها إن فتحت وخرجت من حدّ الجزاء. والناصب كذلك.
    ومثله من الجزاء الذي إذا وقع عليه خافض أو رافع أو ناصب ذهب عنه الجزم قولك: اضربه من كان، ولا آتيك ما عشت. فمن وما في موضع جزاء، والفعل فيهما مرفوع في المعنى؛ لأنّ كان والفعل الذي قبله قد وقعا على (من) و(ما) فتغيّر عن الجزم ولم يخرج من تأويل الجزاء؛ قال الشاعر:
    فلست مقاتلا أبداً قريشا * مصيبا رغم ذلك من أصابا
    في تأويل رفع لوقوع مصيب على من.
    ومثله قول الله عزّ وجلّ: {وللّه على الناس حجّ البيت من استطاع} إن جعلت (من) مردودة على خفض (الناس) فهو من هذا، و(استطاع) في موضع رفع، وإن نويت الاستئناف بمن كانت جزاء، وكان الفعل بعدها جزما، واكتفيت بما جاء قبله من جوابه. وكذلك تقول في الكلام: أيّهم يقم فاضرب، فإن قدّمت الضرب
    [معاني القرآن: 1/179]
    فأوقعته على أي قلت اضرب أيّهم يقوم؛ قال بعض العرب: فأيّهم ما أخذها ركب على أيهم يريد. ومنه قول الشاعر:
    فإني لآتيكم تشكّر ما مضى * من الأمر واستيجاب ما كان في غد
    لأنه لا يجوز لو لم يكن جزاء أن تقول: كان في غد؛ لأن (كان) إنما خلقت للماضي إلاّ في الجزاء فإنها تصلح للمستقبل. كأنه قال: استيجاب أي شيء كان في غد.
    ومثل إن في الجزاء في انصرافها عن الكسر إلى الفتح إذا أصابها رافع قول العرب: (قلت إنك قائم) فإنّ مكسورة بعد القول في كل تصرّفه. فإذا وضعت مكان القول شيئا في معناه مما قد يحدث خفضا أو رفعا أو نصبا فتحت أنّ، فقلت: ناديت أنك قائم، ودعوت، وصحت وهتفت. وذلك أنك تقول: ناديت زيدا، ودعوت زيدا، وناديت بزيد، (وهتفت بزيد) فتجد هذه الحروف تنفرد بزيد وحده؛ والقول لا يصلح فيه أن تقول: قلت زيدا، ولا قلت بزيد. فنفذت الحكاية في القول ولم تنفذ في النداء؛ لاكتفائه بالأسماء. إلا أن يضطرّ شاعر إلى كسر إنّ في النداء وأشباهه، فيجوز له؛ كقوله:
    إني سأبدي لك فيما أبدي * لي شجنان شجنٌ بنجد
    * وشجن لي ببلاد الهند *
    [معاني القرآن: 1/180]
    لو ظهرت إنّ في هذا الموضع لكان الوجه فتحها. وفي القياس أن تكسر؛ لأن رفع الشجنين دليل على إرادة القول، ويلزم من فتح أنّ لو ظهرت أن تقول: لي شجنين شجنا بنجد.
    فإذا رأيت القول قد وقع على شيء في المعنى كانت أنّ مفتوحة. من ذلك أن تقول: قلت لك ما قلت أنك ظالم؛ لأنّ ما في موضع نصب. وكذلك قلت: زيد صالح أنه صالح؛ لأن قولك (قلت زيد قائم) في موضع نصب. فلو أردت أن تكون أنّ مردودة على الكلمة التي قبلها كسرت فقلت: قلت ما قلت: إن أباك قائم، (وهي الكلمة التي قبلها) وإذا فتحت فهي سواها. قول الله تبارك وتعالى: {فلينظر الإنسان إلى طعامه أنّا} وإنا، قد قرئ بهما. فمن فتح نوى أن يجعل أنّ في موضع خفض، ويجعلها تفسيراً للطعام وسببه؛ كأنه قال: إلى صبّنا الماء وإنباتنا ما أنبتنا. ومن كسر نوى الانقطاع من النظر عن إنّا؛ كأنه قال: فلينظر الإنسان إلى طعامه، ثم أخبر بالاستئناف). [معاني القرآن: 1/181]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:58 am

    وقوله: {لا يسألون النّاس إلحافاً...}
    ولا غير إلحاف. ومثله قولك في الكلام: قلّما رأيت مثل هذا الرجل؛ ولعلّك لم تر قليلا ولا كثيرا من أشباهه.
    [معاني القرآن: 1/181]
    وقوله: {الّذين يأكلون الرّبا...}
    أي في الدنيا {لا يقومون} في الآخرة {إلاّ كما يقوم الّذي يتخبّطه الشّيطان من المسّ} والمسّ: الجنون، يقال رجل ممسوس.
    وقوله: {وذروا ما بقي من الرّبا...}
    يقول القائل: ما هذا الربا الذي له بقيّة، فإن البقيّة لا تكون إلاّ من شيء قد مضى؟ وذلك أن ثقيفا كانت تربي على قوم من قريش، فصولحوا على أن يكون ما لهم على قريش من الربا لا يحطّ، وما على ثقيف من الربا موضوع عنهم. فلمّا حلّ الأجل على قريش، وطلب منهم الحقّ نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مّؤمنين} فهذه تفسير البقيّة. وأمروا بأخذ رءوس الأموال فلم يجدوها متيسّرة، فأبوا أن يحطّوا الربا ويؤخّروا رءوس الأموال، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ وأن تصّدّقوا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون}. {وإن كان ذو عسرة} من قريش {فنظرة} يا ثقيف (إلى ميسرة) وكانوا محتاجين، فقال - تبارك وتعالى -: {وأن تصدّقوا} برءوس الأموال {خير لكم}.
    [معاني القرآن: 1/182]
    وقوله: {واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى اللّه...}
    حدّثنا محمد بن الجهم عن الفرّاء قال: حدثني أبو بكر عيّاش عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس قال: آخر آية نزل بها جبريل صلى الله عليه وسلم {واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى اللّه}هذه، ثم قال: ضعها في رأس الثمانين والمائتين من البقرة.
    وقوله: {إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مّسمًّى...}
    هذا الأمر ليس بفريضة، إنما هو أدب ورحمة من الله تبارك وتعالى. فإن كتب فحسن، وإن لم يكتب فلا بأس. وهو مثل قوله: {وإذا حللتم فاصطادوا} أي فقد أبيح لكم الصيد. وكذلك قوله: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} ليس الانتشار والابتغاء بفريضة بعد الجمعة، إنما هو إذن. وقوله: {ولا يأب كاتبٌ أن يكتب كما علّمه اللّه} أمر الكاتب ألاّ يأبى لقلّة الكتّاب كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وقوله: {فليكتب وليملل الّذي عليه الحقّ} فأمر الذي عليه الدين بأن يملّ لأنه المشهود عليه.
    ثم قال {فإن كان الّذي عليه الحقّ سفيهاً} يعني جاهلا {أو ضعيفاً} صغيرا أو امرأة {أو لا يستطيع أن يملّ هو} يكون عييّا بالإملاء {فليملل وليّه}يعني صاحب الدين. فإن شئت جعلت الهاء للذي ولي الدين، وإن شئت جعلتها للمطلوب. كلّ ذلك جائز.
    [معاني القرآن: 1/183]
    ثم قال تبارك وتعالى: {فإن لّم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان} أي فليكن رجل وامرأتان؛ فرفع بالردّ على الكون. وإن شئت قلت: فهو رجل وامرأتان. ولو كانا نصبا أي فإن لم يكونا رجلين فاستشهدوا رجلا وامرأتين. وأكثر ما أتى في القرآن من هذا بالرفع، فجرى هذا معه.
    وقوله: {ممّن ترضون من الشّهداء أن تضلّ إحداهما} بفتح أن، وتكسر. فمن كسرها نوى بها الابتداء فجعلها منقطعة مما قبلها. ومن فتحها فها أيضا على سبيل الجزاء إلا أنه نوى أن يكون فيه تقديم وتأخير. فصار الجزاء وجوابه كالكلمة الواحدة. ومعناه - والله أعلم - استشهدوا امرأتين مكان الرجل كيما تذكّر الذاكرة الناسية إن نسيت؛ فلمّا تقدّم الجزاء اتّصل بما قبله، وصار جوابه مردودا عليه. ومثله في الكلام قولك: (إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيعطى) فالذي يعجبك الإعطاء إن يسأل، ولا يعجبك المسألة ولا الافتقار. ومثله: استظهرت بخمسة أجمال أن يسقط مسلم فأحمله، إنما استظهرت بها لتحمل الساقط، لا لأن يسقط مسلم. فهذا دليل على التقديم والتأخير.
    ومثله في كتاب الله {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدّمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا} ألا ترى أن المعنى: لولا أن يقولوا إن أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم: هلاّ أرسلت إلينا رسولا. فهذا مذهب بيّن.
    [معاني القرآن: 1/184]
    وقوله: {ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا} إلى الحاكم. {إلاّ أن تكون تجارةً حاضرةً} ترفع وتنصب. فإن شئت جعلت {تديرونها} في موضع نصب فيكون لكان مرفوع ومنصوب. وإن شئت جعلت "تديرونها" في موضع رفع. وذلك أنه جائز في النكرات أن تكون أفعالها تابعة لأسمائها؛ لأنك تقول: إن كان أحد صالح ففلان، ثم تلقى (أحدا) فتقول: إن كان صالح ففلان، وهو غير موقّت فصلح نعته مكان اسمه؛ إذ كانا جميعا غير معلومين، ولم يصلح ذلك في المعرفة؛ لأن المعرفة موقّتة معلومة، وفعلها غير موافق للفظها ولا لمعناها.
    فإن قلت: فهل يجوز أن تقول: كان أخوك القاتل، فترفع؛ لأن الفعل معرفة والاسم معرفة فترفعا للاتفاق إذا كانا معرفة كما ارتفعا للاتفاق في النكرة؟
    قلت: لا يجوز ذلك من قبل أن نعت المعرفة دليل عليها إذا حصّلت، ونعت النكرة متّصل بها كصلة الذي. وقد أنشدني المفضّل الضبّيّ:
    أفاطم إني هالك فتبيّني * ولا تجزعي كلّ النساء يئيم
    ولا أنبأن بأنّ وجهك شانه * خموشٌ وإن كان الحميم الحميم
    [معاني القرآن: 1/185]
    فرفعهما. وإنما رفع الحميم الثاني لأنه تشديد للأول. ولو لم يكن في الكلام الحميم لرفع الأول. ومثله في الكلام: ما كنا بشيء حين كنت، تريد حين صرت وجئت، فتكتفى (كان) بالاسم.
    ومما يرفع من النكرات قوله: {وإن كان ذو عسرةٍ} وفي قراءة عبد الله وأبيّ "وإن كان ذا عسرة" فهما جائزان؛ إذا نصبت أضمرت في كان اسما؛ كقول الشاعر:
    لله قومي أي قوم لحرّة * إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا! ‍‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍
    وقال آخر:
    أعينيّ هلاّ تبكيان عفاقا * إذا كان طعنا بينهم وعناقا
    وإنما احتاجوا إلى ضمير الاسم في (كان) مع المنصوب؛ لأنه بنية (كان) على أن يكون لها مرفوع ومنصوب، فوجدوا (كان) يحتمل صاحبا مرفوعا فأضمروه مجهولا. وقوله: {فإن كنّ نساء فوق اثنتين} فقد أظهرت الأسماء. فلو قال: فإن كان نساء جاز الرفع والنصب. ومثله {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} ومثله {إلا أن
    [معاني القرآن: 1/186]
    يكون ميتة أو دما مسفوحا} ومن قال (تكون ميتة) جاز فيه الرفع والنصب. وقلت (تكون) لتأنيث الميتة، وقوله: {إنها إن تك مثقال حبة من خردل} فإن قلت: إن المثقال ذكر فكيف قال (تكن)؟ قلت: لأن المثقال أضيف إلى الحبّة وفيها المعنى؛ كأنه قال: إنها إن تك حبّة؛ وقال الشاعر:
    على قبضة مرجوّة ظهر كفّه * فلا المرء مستحىٍ ولا هو طاعم
    لأنه ذهب إلى الكفّ؛ ومثله قول الآخر:
    وتشرق بالقول الذي قد أذعته * كما شرقت صدر القناة من الدم
    وقوله:
    أبا عرو لا تبعد فكلّ ابن حرّة * ستدعوه داعي موتة فيجيب
    فأنّث فعل الداعي وهو ذكر؛ لأنه ذهب إلى الموتة. وقال الآخر:
    قد صرّح السير عن كتمان وابتذلت * وقع المحاجن بالمهريّة الذّقن
    فأنث فعل الوقع وهو ذكر؛ لأنه ذهب إلى المحاجن. وقوله: {ولا يضارّ كاتبٌ ولا شهيدٌ} أي لا يدع كاتب وهو مشغول، ولا شهيد.
    [معاني القرآن: 1/187]
    وقوله: {فرهانٌ مّقبوضةٌ...}
    وقرأ مجاهد "فرهن" على جمع الرهان كما قال "كلوا من ثمره" لجمع الثمار. وقوله: {ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه} [وأجاز قوم (قلبه) بالنصب] فإن يكن حقا فهو من جهة قولك: سفهت رأيك وأثمت قلبك.
    وقوله: {غفرانك ربّنا...}
    مصدر وقع في موضع أمر فنصب. ومثله: الصلاة الصلاة. وجميع الأسماء من المصادر وغيرها إذا نويت الأمر نصبت. فأمّا الأسماء فقولك: اللّه اللّه يا قوم؛ ولو رفع على قولك: هو الله، فيكون خبرا وفيه تأويل الأمر لجاز؛ أنشدني بعضهم:
    إن قوما منهم عمير وأشبا * ه عمير ومنهم السفّاح
    لجديرون بالوفاء إذا قا * ل أخو النجدة السلاح السلاح
    ومثله أن تقول: يا هؤلاء الليل فبادروا، أنت تريد: هذا الليل فبادروا. ومن نصب الليل أعمل فيه فعلا مضمرا قبله. ولو قيل: غفرانك ربّنا لجاز.
    وقوله: {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها}.
    الوسع اسم في مثل معنى الوجد والجهد. ومن قال في مثل الوجد: الوجد، وفي مثل الجهد: الجهد قال في مثله من الكلام: "لا يكلف الله نفسا إلاّ وسعها". ولو قيل: وسعها لكان جائزا، ولم نسمعه.
    [معاني القرآن: 1/188]
    وقوله: {ربّنا ولا تحمل علينا إصراً} والإصر: العهد كذلك، قال في آل عمران {وأخذتم على ذلكم إصري} والإصر هاهنا: الإثم إثم العقد إذا ضيّعوا، كما شدّد على بني إسرائيل.
    وقد قرأت القرّاء "فأذنوا بحربٍ من الله" يقول: فاعلموا أنتم به. وقرأ قوم: فآذنوا أي فأعلموا.
    وقال ابن عباس: "فإن لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة" وقال: قد يوجد الكاتب ولا توجد الصحيفة ولا الدواة). [معاني القرآن: 1/189]
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ) Empty رد: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه للفراء (ت: 207هـ)

    مُساهمة من طرف أحمد الإثنين أغسطس 26, 2013 1:58 am

    [تفسير سورة آل عمران]

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 15, 2024 3:31 am