جواهر البلاغة
في المعاني والبيان والبديع
تأليف
السيد احمد الهاشمي بك
مدير مدارس فؤاد الأول ـ ووليّ العهد بشيراً بمصر
بسم الله الرحمن الرحيم
حمداً لمن خصَّ سيَّد الرُّسل بكمال الفصاحة بين البَدو والحضَر وانطقهُ بجوامع
الكلم فأعجزه بُلغاء رَبيعة ومُضر, وانزل عليه الكتاب المُفحِم بتحدَّيه مصاقِع بُلغاء
الأعراب, وأتاه بحكمته أسرار البلاغة وَفَصلَ الخطاب, ومنحهُ الأسلُوب الحكيم([1]) في
جوامع كلِمه, وخصَّ «السّعادة الأبدية» لمُقتفِى آثاره وحِكَمِه, صلى الله عليه وعلى آله
وأصحابه «جواهر البلاغة» الذين نظموا لآلئ البديع في عُقود الإيجاز والإطناب, فَفُهنا
بعد اللَّكن «بجواهر الإعراب» ونطقنا «بميزان الذهب» وطرزنا سطور الطروس «بجواهر
الأدب» فصارت«المُفرد العَلم» في باب النّسب (وبعد) فإنَّ العلومَ أَرفعُ المطالب, وأنفع
المآرب, وعلم البلاغة من بينها أجلُّها شأناً, وأبينها تبيانا, إذ هو الكفيل بإيضاح حقائق
التنزيل, وإفصاح دقائق التأويل, وإظهار «دلائل الاعجاز» ورفع معالم الإيجاز,
ولاشتغالي بتدريس البيان بالمدارس الثانوية, كانت البواعث داعية الى تاليف كتاب
«جواهر البلاغة» جامعاً للمهمات من القواعد والتطبيقات ـ وأسأل المولى جل شأنه أن ينفع بهذا الكتاب, وهو المُوفّق للحق والصّواب.
المؤلف
السيد أحمد الهاشمي
تمهيد
لما وضع «علم الصرف» للنظر في أبنية الألفاظ
ووضع علم النحو للنظر في إعراب ما تركب منها
وضع «البيان([2])» للنظر في أمر هذا التركيب, وهو ثلاثة علوم:
(العلم الأول) ما يحترز به عن الخطأ في تأديه المعنى الذي يريده المتكلم لإيصاله إلى ذهن السامع, ويسمى «علم المعاني».
(العلم الثاني) ما يحترز به عن التعقيد المعنوي ـ أي عن أن يكون الكلام غير واضح الدلالة على المعنى المراد, ويسمى «علم البيان» (العلم الثالث) ما يراد به تحسين الكلام ويسمى (علم البديع) فعلم البديع تابع لهما إذ بهما يعرف التحسين الذاتي, وبه يعرف التحسين العرضي.
والكلام باعتبار «المعاني والبيان» يقال إنه:
«فصيح» من حيث اللفظ ـ لأن النظر في الفصاحة إلى مجرد اللفظ دون المعنى.
«وبليغ» من حيث اللفظ والمعنى جميعاً ـ لأن البلاغة ينظر فيها الى الجانبين([3]).
وأما باعتبار البديع فلا يقال إنه فصيح ولا بليغ, لأن البديع أمر خارجي يراد به تحسين الكلام لا غير.
إذا تقرر ذلك, وجب على طالب البيان أن يعرف قبل الشروع فيه معرفة معنى «الفصاحة والبلاغة» لأنهما محوره, واليها مرجع أبحاثه.
فهما الغاية التي يقف عندها المتكلم والكاتب, والضالة التي ينشدانها وما عقد أئمة البيان الفصول. ولا بوبوا الأبواب, إلا بغية أن يوقفوا المسترشد على تحقيقات, وملاحظات, وضوابط, اذا روعيت في خطابه. أو كتابه. بلغت الحد المطلوب من سهولة الفهم, وإيجاد الأثر المقصود في نفس السامع, واتصفت من ثم بصفة الفصاحة([4]) والبلاغة.
مقدمة([5])
(في معرفة الفصاحة والبلاغة)
الفصاحة
الفصاحة: تطلق في اللغة على معان كثيرة ـ منها البيان والظهور قال الله تعالى: (وأخي هارون هو أفصح مِنِّي لساناً) أي أبين منِّي منطقاً وأظهر منَّي قولاً.
ويقال: أفصح الصبي في منطقه. إذا بان وظهر كلامه.
وقالت العرب: أفصح الصبح. إذا أضاء, وفصح أيضا.
وأفصح الأعجمي: إذا أبان بعد أن لم يكن يُفصح ويُبين.
وفصح اللحان. إذا عبر عما في نفسه. وأظهره على وجه الصواب دون الخطأ.
والفصاحة: في اصطلاح أهل المعاني, عبارة عن الألفاظ البينة الظاهرة, المتبادرة الى الفهم, والمأنوسة الاستعمال بين الكتاب والشّعراء لمكان حسنها.
وهي تقع وصفا للكلمة, والكلام, والمتكلّم, حسبما يعتبر الكاتب اللفظة وحدها. أو مسبوكة مع أخواتها.
فصاحة الكلمة
1. خلوصها من تنافر الحروف: لتكون رقيقة عذبة. تخف على اللسان, ولا تثقل على السمع, فلفظ «أسد» أخف من لفظ «فدوكس».
2. خلوصها من الغرابة, وتكون مألوفة الاستعمال.
3. خلوصها من مخالفة القياس الصرفي, حتى لا تكون شاذة.
4. خلوصها من الكراهة في السمع([6]).
أما «تنافر الحروف»؛ فهو وصف في الكلمة يوجب ثقلها على السمع. وصعوبة أدائها باللسان: بسبب كون حروف الكلمة متقاربة المخارج ـ وهو نوعان:
1. شديد في الثقل ـ كالظش (للموضع الخشن) ونحو: همخع «لنبت ترعاه الإبل» من قول أعرابي:
* تركت ناقتي ترعى الهمخع*
2. وخفيف في الثقل ـ كالنقنقة «لصوت الضفادع» والنقاخ «للماء العذب الصافي» ونحو: مستشزرات «بمعنى مرتفعات» من قول امرئ القيس يصف شعر ابنة عمه:
غدائره مستشزراتٌ إلى العلا تضل العقاص في مُثنَّى ومرسل([7])
ولا ضابط لمعرفة الثقل والصعوبة سوى الذوق السليم, والحس الصادق الناجمين عن النظر في كلام البلغاء وممارسة أساليبهم([8])
واما غرابة الاستعمال, فهي كون الكلمة غير ظاهرة المعنى, ولا مألوفة الاستعمال عند العرب الفصحاء, لان المعول عليه في ذلك استعمالهم.
والغرابة قسمان:
القسم الاول: ما يوجب حيرة السامع في فهم المعنى المقصود من الكلمة: لترددها بين معنيين أو أكثر بلا قرينة.
وذلك في الألفاظ المشتركة «كمسّرج» من قول رؤبة بن العجاج:
ومقلةً وحاجباً مزججا وفاحماً ومرسنا مسرّجا([9]).
فلا يعلم ما أراد بقوله «مسرَّجا» حتى اختلف أئمة اللغة في تخريجة.
فقال«ابن دريد» يريد ان انفه في الاستواء والدقة كالسيف السّريجي.
وقال «ابن سيده» يريد انه في البريق واللمعان كالسراج([10]).
فلهذا يحتار السامع في فهم المعنى المقصود لتردد الكلمة بين معنيين بدون «قرينة» تعين المقصود منهما.
فلأجل هذا التردد, ولأجل أن مادة (فعل) تدل على مجرد نسبة شيء لشيء, لا على النسبة التشبيهية: كانت الكلمة غير ظاهرة الدلالة على المعنى. فصارت غريبة.
وأما مع القرينة فلا غرابة ـ كلفظة «عزَّر» في قوله تعالى: (فالذين امنوا وعزروه ونصروه) فانها مشتركة بين التعظيم والإهانة.
ولكن ذكر النصر قرينة على ارادة التعظيم.
القسم الثاني: ما يعاب استعماله لاحتياج الى تتبع اللغات وكثرة البحث والتفتيش في المعاجم «قواميس متن اللغة المطولة»:
«أ» فمنه ما يعثر فيها على تفسير بعد كدّ. وبحث ـ نحو: تكأكأتم «بمعنى اجتمعتم» من قول عيسى بن عمرو النَّحوي:
مالكم تكأكأتم([11]) عليّ, كتكأكئكم على ذي جنة([12]) إفر نقعوا عنّي([13])ـ ونحو (مشمخر) في قول: بشر بن عوانة. يصف الأسد:
فخر مدرَّجاً بدم كأني هدمت به بناء مشمخرا
«ب» ومنه ما لم يعثر على تفسيره نحو (جحلنجع) من قول ابي الهميسع
من طمحة صبيرهاجحلنجع([14]) لم يحضها الجدول بالتنوع
واما (مخالفة القياس) فهو كون الكلمة شاذَّة غير جارية على القانون الصرفي المستنبط من كلام العرب؛ بأن تكون على خلاف ما ثبت فيها عن العرف العربي الصحيح([15]) مثل (الأجلل) في قول أبي النجم:
ألحمد لله العلي الأجلل الواحد الفرد القديم الأوَّل
فإن القياس (الأجل) بالادغام، و لا مسوّغ لفكّه وكقطع همزة وصل «اثنين» في قول جميل:
ألا لا أرى إثنين أحسن شيمةً على حدثان الدَّهر منَّى ومن جمل([16])
ويستثنى من ذلك ما ثبت استعماله لدى العرب مخالفاً للقياس ولكنه فصيح.
لهذا لم يخرج عن الفصاحة لفظتا (المشرق والمغرب) بكسر الراء, والقياس فتحها فيهما, وكذا لفظتا (المُدهُن والمنخُل) والقياس فيهما مِفْعَل بكسر الميم وفتح العين ـ وكذا نحو قولهم (عَوِر) والقياس عارَ: لتحرك الواو وانفتاح ما قبلها.
واما (الكراهة في السمع) فهو كون الكلمة وحشية, تأنفها الطباع وتمجها الاسماع, وتنبو عنه, كما ينبو عن سماع الأصوات المنكرة.
(كالجرشى ـ للنفس) في قول أبي الطيب المتنبي يمدح سيف الدولة
مبارك الإسم أغرُّ اللقب كريم الجرشَّى شريف النَّسب
وملخَّص القول ـ أن فصاحة الكلمة تكون بسلامتها من تنافر الحروف ومن الغرابة. ومن مخالفة القياس. ومن الابتذال. والضعف.
فاذا لصق بالكلمة عيب من هذه العيوب السابقة وجب نبذها واطراحها.
تطبيق (1)
ما الذي أخل بفصاحة الكلمات فيما يأتي:
قال يحيى بن يعمر: لرجل حاكمته امراته اليه «أئن سالتك ثمن شكرها وشبرك, اخذت تطلها وتضهلها([17]).
وقال بعض أمراء العرب, وقد اعتلت أمّه, فكتب رقاعاً وطرحها في المسجد الجامع بمدينة السلام: صين امرؤ وَرَعَا, دعا لامراة انقحلة([18]) مقسئنة([19]) قد منيت بأكل الطرموق([20]) فأصابها من أجله الاستمصال([21]) بأن يمن الله عليها بالاطرعشاش([22]) والابرغشاش أسمع جعجعة([23]) ـ ولا أرى طحنا ـ الاسفنط([24]) ـ حرام ـ وهذا الخنشليل([25]) صقيل, والفدوكس مفترس([26]).
يوم عصبصب وهلوف, ملأ السجسج طلا ([27]).
أمنَّا أن تصرّع عن سماحٍ وللآمال في يدك اصطراع([28])
وقال الفرزدق:
واذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم خُضعَ الرَّقاب نواكس الأبصار([29])
و قال أبو تمّام:
قد قلت لمّا اطلخمَّ الأمر وانبعثت عشواء تاليةً غيساً دهاريسا([30])
وقال شمر:
واحمق ممن يكرع الماء قال لي دع الخمر واشرب من نقاخ مُبّرد([31])
يظل بموماة ويمسى بغيرها جحيشا ويعرورى ظهور المسالك([32])
فلا يبرم الأمر الذي هو حالل ولا يُحللُ الأمر الذي هو يبرم([33])
مقابل في ذرا الاذواء منصبه عيصاً فعيصاً وقدموساً فقدموسا
وقال أبو تمام:
نعم متاع الدنيا حباك به أورع لا جيدر ولا جبس
وقال امرؤ القيس:
رب جفنة([34]) مثعنجرة, وطعنة مسحنفرة, وخطبة مستحضرة وقصيدة محبّرة, تبقى
غداً بأنقرة ـ أكلت العرين, وشربت الصّمادح([35]) إني اذا أنشدت لاحبنطى ([36]) نزل بزيد داهية خنفقيق([37]) وحل به عنقفير. لم يجدمنها مخلصاً. رأيت ماء نقاخا([38]) ينباع([39]) من سفح جبل شامخ. إخال أنك مصوون([40])ـ البعاق([41]) ملأ الجردحل
فان يك بعض الناس سيفا لدولة ففي الناس بوقاتٌ لها وطبولُ([42])
نقيُّ تقيُّ لم يكثر غنيمة بنكهة ذي القربى ولا بحقلّد
إن بني للئام زهده مالي في صدورهم من مودده([43])
رمتني ميّ بالهوى رمى ممضغ من الوحش لوطٌ لم تعقه الأوالس([44])
بعينين نجلاوين لم يجر فيهما ضمان وجيدٍ حلى الدرّ شامس([45])
علمي الى علمك كالقرارة في المثعنجر([46]).
أنّ بعضاً من القريض هراءٌ ليس شيئا وبعضه إحكام
فيه ما يجلب البراعة والفهـ م وفيه ما يجلب البرسامُ([47])
ومن الناس من تجوز عليهم شعراء كأنها الخاز بازُ([48])
تمرين (1)
1. فرِّق بين التنافر في الكلمة, وفي الكلام, واذكر السبب؟
2. اذكر مثالا للتعقيد اللفظي, وبين سبب هذا التعقيد, ثم ازله؟
3. قد يلازم تنافر الحروف الغرابة, وقد تنفرد الغرابة عن التنافر. وضح ذلك بامثلة مبتكرة؟
4. كل كلام بليغ يكون فصيحا ولا عكس. اشرح هذه العبارة واستشهد عليها بما يحضرك؟
تمرين (ب)
ميِّز الكلام الفصيح من غير الفصيح في كل ما يأتي, وبين السبب:
(1) كلما قربت النفس من المال شبراً, بعدت عن الفضيلة ميلا.
(2) شكت امرأة صمعمعة الرأس([49]), متعثكلة الشعر, درد بيساحلَّت بها.
(3) نم وإن لم أنم كراى كراكا شاهدت الدمع, ان ذاك كذاكا
(4) فأصبحت بعد خطِّ بهجتها كاز قفراً رسومها ([50]) قلما.
(5) وازورَّ([51]) مَن كان لهُ زائراً وعاف عافى العُرف عرِفانَه.
(6) وأكرمُ من غَمام عند مَحل فتىً يَحيِى بمدحته الكراما. ([52])
(7) أشكوك كُوكك، كي ينفكَّ عن كنفي ولا ينيخ على الركَّاب كَلكله. ([53])
(8) سأل كوفيٌّ خياطاً عن فرس ومُهر فقدَهُما فقال:
«يا ذا النِّصاح ([54])– وذات السَّمِّ الطاعن بها في غير وغى لنير عِداً:
هل رأيت الخيفانة القبَّاء، يتبعها الحسن المُرهف.
(9) كتب أحدهم لصديقه يقول:
«يا أحبَّ صواحبي وأعزَزهم علىّ، يؤلمني أن أُصبح مقَصوباً عنك هذا الإقصاي، وانت، منِِّى بمنزلة الروح من الجسد».
تمرين
(1) أيّ أجزاء هذين البيتين غير فصيح:
(أ) أصبحتُ كالثوب اللّبيس قد أخلقت جدَّاتُه منه فعاد مذالا.
(ب) رمتني ميّ بالهوى رمىَ مَمضغ من الوحش أو لوطٍ لم تعقهُ الأوالس.
تطبيق
ما الذي أخلّ بفصاحة الكلمات فيما يلي:
وكل إثنين إلى افتراق
لأنت أسودُ في عيني منَ الظُّلم([55])
إتسعَ الفتقُّ على الرَّافِع([56])
غداتئذٍ أو هالك في الهوالك([57])
أنّى أجودُ لأقوامِ وان ضنُنوا
من طول إملالٍ وظهرٍ مُملِلٍ([58])
يا نفسُ صبراً كل حيٍ لاق
أبعد بعدتَ بياضاً لا بياض له
لا نَسبَ اليومَ ولاَ خُلَّة
فأيقنتَ أنّى عند ذلك ثائِر
مهلاً أعَازلَ قد جَرَّبتِ من خَلقي
تشكو الوَجى من أظلَلٍ وأظلّل
(1) وقال ابن جحدر:
هَمَرجَلةٌ خُلُقها شَبـظَمُ([59])
بها مِن وَحَى الجِنِّ زيز يزَم
حلَفتُ بما أرفلت حَوله
وما شَبرقَت من تَنُو فِيَّةٍ
(2) وقال ذو الرُّمة:
وهُن لا مُؤيِسٌ نأياً ولا كتَبُ([60])
حتى اذا الهَبقُ أمسى شامَ أفرُخَهُ
وقال أبو نواس:
نَسيتَ أهلا وسَهلا
يا مَن جَفاني وملأَّ
تدريب (1)
ما الذي أخلَّ بفصاحة الكلمات فيما يلي؟
(1) قال النّابغة الذُّبياني:
بُنِيَت بآجرٍ يُشادُ بقَرمَد([61])ِ
أودُميَةٍ في مَرمَرٍ مَرفُوعة
(2) وقال أبو تّمَّام:
أجَأَ اُذا ثَقُلَت وكان خفيفا
خُلُقَ الزَّمَان الفَدمِ عَاد ظَريفا([62])
لكَ هَضبةُ الحِلم التي لو وَازَنَت
وحلاوة الشّيم التي لو مَازَجَت
(3) وقال المُتنبي:
طِلاّبُ الطّالبِين لا الانتِظارُ
يُوَسِّطه المَفاوزَ كلَّ يوم
تدريب (2)
ما الذي اخلِّ بفصاحة الكلمات فيما يأتي؟
يخشى الحوادِث حازم مُستَعدد([63])
على سَرَوات البَيت قُطن مُندفِ ([64])
غدَاتئذٍ أو هالِكٌ في الهوَالك ([65])
يَصيح الحصا فيها صِياح اللقائِقِ ([66])
نُزول اليماني ذو العياب المُحمل([67])
ولا القُنُوع بضنكِ العيشِ من شيمي([68])
ى القنوعو
(1) لم يَلقَهَا إى بشكَّه باسِلٍ
(2) وأصبح مَبيضَّ الضَّريب كأنه
(3) فأيقَنتُ أنِّى عند ذلك ثائرٌ
(4) ومَلمُومَةٍ سيَفيَّةٍ رَبعيَّةٍ
(5) والقىَ بصحراء الغبِيط بَعاعَهُ
(6) ليس التَّعَللُ بالآمالِ من أربى
فصاحة الكلام
فصاحة الكلام: سلامته بعد فصاحة مفُرداته ممَّا يُبهم معناه ويحول دون المراد منه ([69]) – وتتحقَّق فصاحته بخلُوه من ستة عيوب (1) تنافر الكلمات مجتمعة (2) ضعف التأليف (3) التعقيد اللفظي (4) التعقيد المعنوي (5) كثرة التكرار([70]) (6) تتابُع الإضافات.
الأول - «تنافُر الكلمات مُجتمعة» أن تكون الكلمات ثقيلة على السمع من تركيبها مع بعضها، عَسرة النّطق بها مُجتمعةً على اللّسان (وإن كان كل جزء منه على انفراده فصيحاً) والتنافر يَحصُل: إمِّا بتجاوُز كلمات متقاربة الحروف وإمّا بتكرير كلمة واحدة.
(1) ومنه شديد الثِّقل: كالشطر الثاني في قوله:
وَقبرُ حرب بمكان قفرٌ وَليس قَرب قبر حربٍ قبرُ([71])
(ب) ومنه خفيف الثِّقل كالشطر الأول في قلو أبي تمَّام:
كريم ٌ متى أمدَحهُ والورى معي: وإذا ما لمته لمته وحدي([72])
الثاني - «ضعف التأليف» أن يكون الكلام جارياً على خلاف ما اشُتهر من قوانين النحو المعتبرة عند جُمهور العلماء – كوصل الضميرين، وتقديم غير الأعراف منهما على الأعرف- مع أنه يجب الفصل في تلك الحالة – كقول المتنبي:
خَلتِ البلادُ من الغزالةِ ليلَهَا فأعاضهَاكَ اللهُ كي لا تحزنا
وكالإضمار قبل ذكر مرجعه لفظا وَرتُبة وحكما في غير أبوابه ([73])نحو
ولو أن مَجداً أخلدَ الدهرَ واحداً من الناس أبقى مجده الدهر (مطعما) ([74]).
الثالث - «التعقيد اللفظي» هو كون الكلام خفيّ الدّلالة على المعنى المراد به – بحيث تكون الألفاظ غير مُرتبة على وفق ترتيب المعاني.
(وينشأ ذلك التّعقيد من تقديم أو تأخير أو فصل بأجنبي بين الكلمات التي يجب أن تتجاور ويتصل بعضها ببعض) ([75]) وهو مذموم: لأنه يُوجب اختلال المعنى واضطرابه، من وضع ألفاظه في غير المواضع اللّائقة بها – كقول المتنبي
جفخت وهم لا يجفخونَ بهابهم شيمٌ على الحسَب الأغر دلائل ([76])
أصله – جفخت (افتخرت) بهم شيمَ دلائل على الحسب الأغر هم لا يجفخون بها.
الرابع - «التعقيد المعنوي» كون التركيب خفىّ الدَّلالة على المعنى المراد ([77]) – بحيث لا يفهم معناه إلاّ بعد عناء وتفكير طويل.
وذلك لخلل في انتقال الذهن من المعنى الأصلي إلى المعنى المقصود بسبب إيراد اللوازم البعيدة، المفتقرة إلى وسائط كثيرة، مع عدم ظهور القرائن الدّالة على المقصود «بأن يكون فهمُ المعنى الثاني من الأول بعيداً عن الفهم عُرفا ([78])» كما في قول عبّاس بن الأحنَف.
سأصلبُ بُعد الدار عنكم لتقرُبوا وتسكبُ عيناي الدُّموع لتجـمُدا ([79])
جعلَ سكبَ الدُموع كناية عمّا يلزم في فراق الأحبَّة من الحزن والكمد: فأحسن وأصابَ في ذلك، ولكنَّه أخطأ في جعل جمود العين كنايةً عمَّا يوجبه التَّلاقى من الفرح والسُرُور بقُرب أحبتّه، وهو خفىّ وبعيدٌ - ([80]) إذ لم يعرف في كلام العرب عند الدُّعاء لشخص بالسرور (أن يقال له جُمدت عينك) أو لا زالت عينك جامدةً، بل المعروف عندهم أنّ جمود العين إنّما يكنى به عن عدم البكاء حالة الحزن، كما في قول الخنساء.
أعيني جودا ولا تجمُدا ألا تبكيانِ لصَخر النَّدى
وكما في قول أبي عطاء يرثى ابن هُبيرة:
ألا إنَّ عيناً لم تجدُ يومَ واسط عليك: بحارى دمعها لجمود ([81])
وهكذا كل الكنايات التي تستعملها العرب لأَغراض ويُغَيرها المتكلمُ، ويريد بها أغراضاً أخرى تعتبر خروجاً عن سُنن العرب في استعمالاتهم – ويُعدّ ذلك تعقيداً في المعنى: حيث لا يكون المراد بها واضحاً.
الخامس – «كثرة التكرار» ([82]):كون اللفظ الواحد: اسماً – كان أو فعلاً – أو حرفاً.
وسواء أكان الاسم: ظاهراً – أو ضميراً، تعدّد مرَّة بعد أخرى بغير فائدة – كقوله:
إنّي وأسطارٍ سُطرنَ سَطراً لَقائلٌ يا نصرُّ نصرُ نصراَ
وكقول المتنبي:
أقِل أنل اقطع اجمل علَّ سل أعد زد هشَّ بش تفضَّلُ أدِنِ سُرَّصل
وكقول أبي تمَّام في المديح:
كأنَّه في اجتماع الرُّوح فيه لَهُ في كلِّ جارحةٍ من جسمِهِ رُوحُ
السادس - «تتابعُ الإضَافات» كون الاسم مضافا إضافةً مُتداخلة غالباً، كقول ابن بابك:
حمامَةَ جَرعا حَومةِ الجَندَلِ لسجَعِي فأنتِ بمراى من سُعادَ ومَسمع ([83])
وملخص القول: إنَّ فصاحة الكلام تكون بخُلوَّه من تنافر كلماته ومن ضعف تأليفه، وتعقيد معناه، ومن وضع ألفاظه في غير المواضع اللائقة بها.
تطبيق
بين العيوب التي أخلَّت بفصاحة الكلام فيما يأتي؟
وغيري بغير اللازقيَّة لاحق
وعافَ عافى العُرف عِرفانُه([84])
وأبوكَ والثَّقَلاَنِ أنتَ محمدُ ([85])
ويَجهل عِلمي أنه بيَ جاهل
قَلاَقلَ همّ كلَّهنَّ قَلاَقلُ
أبو أمّهِ حتى أبوه يقاربُه ([86])
أبوه ولا كانت كُلَيبٌ تُصاهره ([87])
سيَفهُ دُونَ عَرضِه مسلولُ ([88])
ورقَّى نداهُ ذا النَّدَى في ذُرا المجد([89])
في القول حتَّى يَفعل الشعراءُ ([90])
وحُسن فعلٍ كما يُجزَى سِنمَّارُ ([91])
به نَبتغى منهم عَديلاً نُبادِلهُ ([92])
وكاد لو ساعدَ المقَدورُ ينتَصرُ
لك الخيرُ غيري رَامَ من غيرك الغنى
وازورَّ مَن كانَ له زائراً
أنَّى يكونُ أبا البرايا آدمٌ
ومن جاهل بي وهُوَ يجهَلُ جهلة
وقَلقلت بالهمَّ الذي قَلقَلَ الحَشا
وما مِثلهُ في النَّاس إلا مُمَلَّكاً
إلى مَلك ما أمُّه من مُحَارب
ليسَ إلاكَ يا عليُّ هُمامٌ
كَسا حلمهُ ذا الحلم أثوابُ سُؤدُد
من يهتدي في الفعل ما لا يهتدى
جزَى بنوه أبا الغَيلاَن عن كِبر
وما من فتىً كنَّا من النَّاس واحداً
لمَا راى طالبوه مُصعباً ذُعِرُوا
نشر الملك ألسنته في المدينة... مُريداً جواسيسه.
أي – والصوَّاب «نشر الملك عيونه» ([93])
كنَّا وكنتَ ولكن ذَاكَ لم يكن
زُهيراً على ما جَرَّ من كلِّ جانِب
أغرّ حلو مُمر ليّن شَرِس ([94])
لو كنت كنت كتمت السَّر كنت كما
ألاَ لَيتَ شِعري هل يَلومنَّ قومهُ
دانٍ بعيدٍ مُحبّ مبغض بَهجٍ
لأنت أسودُ في عيني من الظُّلم ([95])
سبوحٌ لها منها عليها شواهد ([96])
بها أسدِ اذ كَان سيفاً أميرها([97])
تبكى عليك نُجومَ الليل والقمر ([98])
لو كان مثلك في سِواها يوجَدُ
يَرضى المعاشر منك إلاَّ بالرِّضا
وتُسُعدني في غَمرَة بعدَ غمرَة
ولبست خراسانُ التي كان خالدٌ
والشمسُ طالعة ليست بكاسِفةٍ
أرضٌ لها شَرَفٌ سوَاها مثلها
والمجدُ لا يرضى بأن ترضى بأن
في رفع عَرش الشَّر ع مثلك يَشرعُ
يُهَدَّم ومن لم يظلم الناس يُظلِم ([99])
ممَّا يَرى أون ناظرٌ متأمِّلُ ([100])
كأنَّ قفراً رسومها قلَما ([101])
اذا انتبهت توهَّمه ابتِشاكا ([102])
ومن لم يذُد عن حوضه بسلاحه
مُتحَيرين فباهِتٌ مُتعَجِّبٌ
فأصبحت بعد خطِّ بهجتها
وما أرضَى لمُقلتِهِ بحلم
فصاحة المتكلم
فصاحة المتُكلِّم: عبارةٌ عن المَلكة ([103]) التي يقتدر بها صاحبها على التعبير عن المقصود بكلام فصيح في أيِّ غرضٍ كان.
فيكون قادراً بصفة الفصاحة الثابتة في نفسه على صياغة الكلام مُتمكّناً من التّصرف في ضُروبه بصيراً بالخوض في جهاته ومَنَاحِيه.
أسئلة على الفصاحة يطلب أجوبتها
ما هي الفصاحة لغة واصطلاحا؟ ما الذي يوصف بالفصاحة
ما الذي يخرج الكلمة عن كونها فصيحة؟
ما هي فصاحة المفرد؟ ما هو تنافر الحروف، وإلى كم ينقسم ؟..
ما هي الغرابة وما موجبها ؟ ما هي مخالفة القياس؟ ما هي الكراهة في السمع؟
ما هي فصاحة الكلام – وبما تتحقق ؟ ما هو تنافر الكلمات، وما موجبه وإلى كم يتنوَّع، ما هو ضعف التأليف ؟ ما هو التعقيد ؟ وإلى كم ينقسم ؟
ما هو كثرة التكرار؟ ما هو تتابع الاضافات ؟ ما هي فصاحة المتكلم ؟
البلاغة
البلاغة في اللغة (الوُصول والأنتِهاء) يقال بلغ فلان مراده – إذا وصل اليه، وبلغ الركب المدينة – اذا انتهى اليها([104]) وَمبلغ الشيء منتهاه
وبلغ الرجل بلاغة – فهو بليغ: اذا أحسَن التّعبير عمَّا في نفسه وتقع البلاغة في الاصطلاح: وصفا للكلام، والمتكلّم فقط ولا توصف «الكلمة» بالبلاغة، لقصورها عن الرسول بالمُتكلَّم إلى غرضه، ولعدم السّماع بذلك.
بلاغة الكلام
البلاغة في الكلام: مطابقته لما يقتضيه حال الخطاب ([105]) – مع فصاحة ألفاظه «مفردها ومركبها».
والكلام البليغ: هو الذي يُصورَّه المتُكلِّم بصورة تناسبُ أحوال المخاطبين.
وحال الخطاب «ويسمى بالمقام» هو الأمر الحامل للمتكلم على أن يُوردَ عبارته على صورة مخصوصة دون أخرى.
والمُقتضَى - «ويسمى الاعتبار المُناسب» هو الصورة المخصوصة التي تُورَدُ عليها العبارة.
مثلاً – المدح – حال يدعو لا يراد العبارة على صورة الإطناب وذكاء المخاطب – حال يدعو لإيرادها على صورة الإيجاز فكلٌ من المدح والذكاء «حال ومقام» وكلٌّ من الإطناب والإيجاز «مُقتضَى»، وإيراد الكلام على صورة الاطناب([106]) أو لايجاز «مُطابقة للمقُتضَى» وليست البلاغة([107]) إذاً مُنحصرة في إيجاد معان جليلة، ولا في اختيار ألفاظ واضحة جزيلة، بل هي تتناول مع هذين الأمرين أمراً ثالثاً (هو إيجاد أساليب مُناسبة للتأليف بين تلك المعاني والألفاظ) مما يُكسبها قوَّة وجمالا وملخص القول – إنَّ الأمر الذي يَحملُ المُتكلّم على إيراد كلامه في صورة دون أخرى: يُسمى «حالا» وإلقاء الكلام على هذه الصُّورة التي اقتضاها الحال يُسمى «مُقتضَى» والبلاغة هي مُطابقة الكلام الفصيح لما يقتضيه الحال.
بلاغة المتكلم
بلاغة المتكلم: هي مَلَكة في النَّفس([108]) يقتَدرُ بِهَا صاحبها علىتأليف كلام بليغ: مُطابق لمقتَضَى الحال، مع فصاحته في أيّ معنى قَصَده وتلك غاية لن يَصِل إليها إلاَّ من أحاط بأساليب العرب خُبرا وعرف سُنن تخاطُبهم في مُنافراتهم، ومفاخراتهم، ومديحهم، وَهجائهم وَشكرهم، واعتذارهم، لِيلَبس لكل حالة لبُوسها «ولكلِّ مقام مَقال».
أقوال ذوي النبوغ والعبقرية في البلاغة
(1) قال قُدامَة: البلاغة ثلاثة مذاهبَ:
المُساواة: وهي مُطابقة اللَّفظ المعني: لا زائداً ولا ناقصاً.
والإشارة: وهي أن يكون اللفظ كاللَّمحة الدَّالة.
والتَّذييلُ: وهو إعادة الألفاظ المُترادفة على المعنى الواحد، ليظهر لمن لم يفهمه، ويتأكد عند من فهمه([109]).
أولاً – من التفكير في المعاني التي تجيش في نفسه، وهذه يجب أن تكون صادقة ذات قيمة، وقوة يظهر فيها أثر الابتكار وسلامة النظر وذوق تنسيق المعاني وحسن ترتيبها، فاذا تم له ذلك عمد إلى الالفاظ الواضحة المؤثرة الملائمة، فألف بينها تاليفاً يكسبها جمالا وقوة.
فالبلاغة ليست في اللفظ وحده، وليست في المعنى وحده، ولكنها أثر لازم لسلامة تألف هذين وحسن انسجامهما، وقد علم أن البلاغة أخص والفصاحة أعم لانها مأخوذة في تعريف البلاغة – وان البلاغة يتوقف حصولها على أمرين – الأول: الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المقصود، والثاني: تمييز الكلام الفصيح من غيره- لهذا كان للبلاغة درجات متفاوتة تعلو و تسفل في الكلام بنسبة ما تراعى فيه مقتضيات الحال – وعلى مقدار جودة ما يستعمل فيه من الأساليب في التعبير والصور البيانية والمحسنات البديعية، وأعلى تلك الدرجات ما يقرب من حد الاعجاز، واسفلها ما إذا غير الكلام عنه إلى ما هو دونه التحق عند البلغاء باصوات الحيوانات العجم وان كان صحيح الاعراب: وبين هذين الطريفين مراتب عديدة.
(2) وقيل لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ فقال: أن يكون اللفظ محيطاً بمعناك، كاشفاً عن مغزاك، وتخرجه من الشركةِ، ولا تستعين عليه بطول الفكرة› ويكون سالماً من التكلّف، بعيداً من سوء الصِّنعة، بريئاً من التعقيد، غنياً عن التأمل ([110]).
(3) ومما قيل في وصف البلاغة: لا يكون الكلام يستحقّ اسم البلاغة حتى يُسابِقَ معناهُ لَفظَهُ معناه، فلا يكون لَفظه إلى سمعك أسبقَ من معناه إلى قلبك ([111])
(4) وسأل معاوية صُحَاراً العَبديَّ: ما البلاغة ؟ قال: أن تُجيب فلا تُبطىء، وتُصيبَ فلا تُخطىء([112]).
(5) وقال الفضل: قلت لأعرابي ما البلاغة ؟ قال: الايجازُ في غير عَجز، والاطناب في غير خَطَلٍ([113]).
(6) وسُئل ابن المُقفع: ما البلاغة؟ فقال: البلاغة اسمٌ جَامِعٌ لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة: فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الاشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون سَجعاً وخُطباً، ومنها ما يكون رَسَائلَ، فعامَّةُ ما يكون من هذه الأبواب – الوحيُ فيها، والاشارة إلى المعنى، والإيجاز، هو البلاغة.
فأمَّا الخُطبُ بين السِّماطينِ، وفي إصلاح ذاتِ البَينِ، فالإكثار في غير خَطلٍ، والاطَالَةَ في غير إملالٍ، وليَكن في صَدرِ كلامك دليلٌ على حاجتك، فقيل له: فإن مَلَّ المُستمعُ الاطالَة التي ذَكرتَ أنَّها حَقٌّ ذلك الموقف؟ قال: إذا أعطيتَ كل َّ مقام حَقَّهُ، وقَمتَ بالذي يجبُ من سياسة ذلك المقام، وأرضيتَ مَن يَعرفَ حقوقَ الكلام – فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدوّ، فإنه لا يُرضيهمَا شيء، وأما الجاهلُ فَلَستَ منه، وليس منك، وقد كان يقال: (رِضاء الناس شيء لا يُنال([114]))
(7) ولابنِ المُعتّزّ: أبلغُ الكلام: ما حَسُنَ إيجازُهُ، وَقلَّ مَجَازُه، وكَثُر إعجازُه، وتناسَبت صُدُوره وأعجَازُه([115]).
(8) وسمع خالدُ بنُ صَفوَان رجلاً يتكلّم، ويكثرُ الكلام، فقال: اعلم (رحمك الله) أن البلاغة ليست بخفَّة اللّسان، وكثرة الهذيان، ولكنها بإصابة المعنى، والقصد إلى الحُجّة ([116])
(9) ولبشرِ بن المعُتمرِ: فيما يجب أن يكون عليه الخطيب والكاتب رسالة من أنفس الرسائل الأدبية البليغة، جمعت حدود البلاغة وصوّرتها أحسَنَ تصوير، وسنذكر مع شيء من الإيجاز ما يتصل منها بموضوعنا – قال:
خُذ من نفسك سَاعةَ نشاطك، وفراغِ بالكَ، وإجابتها إيَّاك ؛ فانّ قليلَ تلك الساعة أكرَمُ جَوهَراً، واشرفُ حسباً، وأحسّنُ في الأسماع، وأحلى في الصُّدُور، واسلمُ من فاحش الخطأ، وأجلَبُ لكل عَينٍ وغُرَّة: من لفظ شريف، ومعنى بديع.
واعلم أن ذلك أجدَى عليك: مما يعطيك يَومُكَ الأطولُ بالكَد والمُطاوَلة والمجاهدة، وبالتكلُّفِ والمعاودة.
وإيَّاك والتّوعُرَ؛ فإنّ التّوعر يُسلِمُك إلى التّعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيكَ، ويشين ألفاظَك، ومن اراد معنى كريماً فَليَلتمس له لفظاً كريماً، فإن حقَّ المعنى الشريف اللفظُ الشريف، ومن حقِهِّما أن تصونهما عما يفسدهما ويهُجِّنهما....
وكن في ثلاث منازل: فان أولى الثلاث ان يكون لفظكَ رشيقاً عذباً، وفَخماً سهلاً، ويكونَ معناك ظاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً، إمَّا عند الخاصة: إن كنت للخاصة قَصَدت، وإمَّا عند العامة: إن كنت للعامة أرَدت، والمعنى ليس يشرُف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يَتَّضِعُ بان يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال، وكذلك اللفظُ العامِّي والخاصِّي، فان أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مَدَاخلك، واقتدارك على نفسك.
على أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسِعةَ التي لا تلطفُ عن الدّهمَاءن ولا تجفُو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام.
فان كانت المنزلة الأولى لا تُواتيك ولا تَعتَريك، ولا تسنح لك عند أوّل نظرِك، وفي أوّل تكلّفك، وتجد اللفظة لم تقع مَوقِعها ن ولم تصل إلى قرارها وإلى حقَّها: من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحُلَّ في مركزها وفي نصابها، ولم تصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها، نافرة من موضعها، فلا تُكرهها على اغتصاب الأماكن، والنّزول في غير أوطانها، فانك إذا لم تتعاط قرضَ الشعر الموزون، ولم تتكلّف أختيار الكلام المنثور، لم يَعبكَ بترك ذلك أحد، وإن انت تكلَّفته، ولم تكن حاذقاً مطبوعاً، ولا مُحكماً لسانك، بصيراً بما عليك أو مَالَك – عابك من أنت أقَلُّ عيباً منه، ورأى من هو دونَكَ أنهُ فوقك.
فإن ابتليتَ بان تتكلّفَ القول، وتتعاطى الصّنعة، ولم تسمح لك الطباع في أول وَهلة، وتَعصى عليك بعد إحالة الفِكرة – فلا تَعجَل ولا تضجَر، ودَعهُ بياض يومك، أو سوادَ ليلك، وعاودهُ عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدَمُ الإجابة وَالمُواتاة، إن كانت هناك طبيعة، أو جَرَيتَ من الصناعة على عِرق.
فإن تَمنَّع عليك بعد ذلك من غير حادث شُغلٍ عَرضَ، ومن غير طول إهمال – فالمنزلة الثالثة أن تتحوّل من هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفّها عليك... ؛ لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبَة، ولا تسمح بمخزونها مع الرَّهبَة، كما تجُودُ به مع المحبّة والشّهوة. فهكذا هذا.
وينبغي للمتكلم: أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين اقدار الحالات؛ فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامان ولكل حالة من ذلك مقامان حتى يقسِّم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسِّم أقدار المعاني على أقدار المقامات، واقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات.
وبعدُ، فاَنت ترى فيما قالوه: أن حدّ البلاغة – هو أن تجعل لكل مقام مقالا؛ فتوجز: حيث يحسن الإيجاز، وتطنب: حيث يجمل الاطناب، وتؤكد: في موضع التوكيد، وتقدم أو تؤخر: إذا رأيت ذلك أنسبَ لقولك، وأوفى بغرضك، وتخاطب الذكي بغير ما تخاطب به الغبي، وتجعل لكل حال ما يناسبها من القول، في عبارة فصيحة، ومعنى مختار.
ومن هنا عَرَّفَ العلماء «البلاغة» بأَنها: مطابقة الكلام لمقتضَى الحال مع فصاحة عباراته.
واعلم: أنَّ الفرق بين الفصاحة والبلاغة: أن الفصاحةَ مقصورةٌ على وصف الألفاظ، والبلاغةَ لا تكون إلا وصفاً للألفاظ مع المعاني ؛ وأن الفصاحةَ تكون وصفاً للكلمة والكلام، والبلاغةَ لا تكون وصفاً للكلمة، بل تكون وصفاً للكلام، وأن فصاحة الكلام شرط في بلاغته ؛
فكل كلام بليغ: فصيحٌ، وليس كل فصيح بليغاً، كالذي يقع فيه الإسهاب حين يجب الإيجاز.
تمرين
بيَّن الحال ومقتضاه فيما يلي:
(1) هنَاء محَا ذاك العزاء المُقدما فما عبس المحزونُ حتى تبسَّما ([117])
(2) تقول للرّاضي عن إثارة الحروب (إن الحرب مُتلفةٌ للعباد، ذهَّابَةٌ ([118]) بالطّارف والتَّلاد)
(3) يقول الناس إذا رأوا لِصَّا. أو حريقاً: لصٌّ – حريقٌ ([119]).
(4) قال تعالى (وَإنَا لاَ نَدرِي أَشَرٌّ أُريدَ ([120]) بمن في الأرض، أم أرَادَ بِهم رَبُّهُم رَشَدا)
(5) يقول راثى البرَامِكة ([121])..
أُصِبتُ بسَادةٍ كانوا عيوناً بهم نسقى إذا انقطعَ الغَمامُ
ملاحظات
(1) التّنافر – يُعرف (بالذوق) السلَّيم؛ والحِسِّ الصَّادق ([122]).
(2) مخالفة القياس: تُعرف (بعلم الصرَّف).
(3) ضعف التَّأليف والتَّعقيد اللَّفظي: يُعرفان (بعلم النحو).
(4) الغرَابة: تُعرف بكثرة (الاطّلاع) على كلام العرب، والإحاطة بالمفردات المأنوسة.
(5) التَّعقيد المعنوي: يُعرف (بعلم البيان).
(6) الأحوال ومقتضياتها: تُعرف (بعلم المعاني).
(7) خَلوُّ الكلام من أوجه التَّحسين التي تكسوه رِقة ولَطافةً بعدَ رِعَايَة مُطابقته: تعرف (بعلم البديع).
فاذاً وجَب عَلَى طالب البلاغة معرفةُ: اللغة والصَّرف، والنَّحو، والمعاني والبيان، والبديع – مع كونه سليمَ الذَّوق، كثير الاطّلاع على كلام العرب، وصاحبَ خبرة وافرةٍ بكُتُب الأدب، ودِرَية، تامَّة بعاداتهم وأحوالهم، واستظهار للجيد الفاخرِ مِن نَثرهم ونظمهم، وعلم كامل بالنَّابغين من شعراء، وخطباء، وكُتاب – ممَّن لَهم الأثر البيّن في اللُّغة والفضلُ الأكبرُ على اللّسان العربي المبين.
أسباب ونتائج
يحسُن أيضاً بطالب البلاغة أن يعرف شيئاً عن (الأسلوب) الذي هو المعنى المَصُوغُ في الفاظ مؤلَّفة على صورة تكون أقربَ لنيل الغرض المقصود من الكلام، وأفعلَ في نفوس سامعيه.
وأنواع الأساليب ثلاثة:
(1) «الاسلوب العلمي» وهو أهدَأُ الأساليب، وأكثرها احتياجاً إلى المنطق السَّليم، والفكر المُستقيم، وأبعدُها على الخيال الشَّعري، لأنه يخاطب العقل، ويُناجي الفكر، ويَشرَحُ الحقائق العلمية التي، لا تخلو من غموض وخفاء، و أظهَرُ ميزات هذا الأسلوب «الوُضُوح»، ولا بدَّ أن يبدوَ فيه أثر القوة والجمال، وقوَّته في سطوع بيانه، ورصانةِ حُججه ؛ وجَماَله في سُهُولةِ عباراتهن وسلامة الذّوق في اختيار كلماته، وحسن تقريره المعنى في الأفهام، من أقرب وجوه الكلام.
فيجب أن يُعنَى فيه باختيار الألفاظ الواضحة الصريحة في معناها الخالية من الاشتراك، وان تُؤَلَّف هذه الألفاظ في سُهولة وجلاء، حتى تكون ثَوباً شفَّافاً للمعنى المقصود، وحتى لا تصبح مَثاراً للظّنون، ومجالا للتوجيه والتأويل.
ويحسًن التَّنحي عن المجاز، ومُحَسنِّنات البديع في هذا الأسلوب، إلاّ ما يجيء من ذلك عفواً، من غير أن يمس أصلا من أصوله، أو ميزة من ميزاته.
أمّا التَّشبيه الذي يُقصد به تقريب الحقائق إلى الأفهام، وتوضيحها بذكر مماثلها، فهو في هذا الاسلوب حسن مقبول.
(2) «الاسلوب الأدبي» والجمال أبرزُ صفاته، وأظهر مُمَيزاته، ومنشَأ جماله، لما فيه من خيال رائع، وتصوير دقيق، وتلَمُّس لوجوه الشّبه البعيدة بين الاشياء، وإلباس المعنوي ثوبَ المحسوس، وإظهار المحسوس في صورة المعنويِّ.
هَذَا – ومن السهَّل عليك: أن تَعرِف أنَّ الشعر والنثر الفَنِّي هما مَوطِنا هذا الأسلوب، ففيهما يَزدهر، وفيهما يبلغ قنَّة الفنّ والجمال.
(3) «الاسلوب الخطابي» هنا تبرُزُ قوَّة المعاني والألفاظ، وقوة الحجّة والبرهان، وقوة العقل الخصيب، وهنا يتحدِّث الخطيب إلى إرادة سامعيه لإثارة عزائمهم، واستنهاض هممهم، ولجمال هذا الاسلوب ووضوحه، شأنٌ كبير في تأثيره، ووصوله إلى قرارة النفوس، ومَّما يزيد في تأثير هذا الأسلوب، منزلة الخطيب في نفوس سامعيه، وقوةُ عارضته، وسطوعُ حُجِّته، ونبَراتُ صوته، وحسنُ إلقائه، ومُحكَمُ إشاراته.
ومن أظهر مُميزات هذا الأسلوب إ التَّكرارُ «واستعمال المُترادفات وضربُ الأمثال، واختيار الكلمات الجزلة ذات الرَّنين.
وَيحسن فيه أن تتعاقب ضروب التَّعبير – من إخبار، إلى استفهام، الى تعجب، الى استنكار، وأن تكون مواطن الوقف كافية شافية، ثم واضحاً قَويَّا ويظنّ النّاشئون في صناعة الأدب: أنه كلّما كثُر المجاز، وكثُرت التَّشبيهات، والأخيلة، في هذا الأسلوب – زاد حُسنه.
وهذا خطأ بيِّن، فإنه لا يذهب بجمال هذا الأسلوب أكثر من التَّكلُّف، ولا يفسده شَرٌ من تَعمَُّدِ الصنّاعة.
في المعاني والبيان والبديع
تأليف
السيد احمد الهاشمي بك
مدير مدارس فؤاد الأول ـ ووليّ العهد بشيراً بمصر
بسم الله الرحمن الرحيم
حمداً لمن خصَّ سيَّد الرُّسل بكمال الفصاحة بين البَدو والحضَر وانطقهُ بجوامع
الكلم فأعجزه بُلغاء رَبيعة ومُضر, وانزل عليه الكتاب المُفحِم بتحدَّيه مصاقِع بُلغاء
الأعراب, وأتاه بحكمته أسرار البلاغة وَفَصلَ الخطاب, ومنحهُ الأسلُوب الحكيم([1]) في
جوامع كلِمه, وخصَّ «السّعادة الأبدية» لمُقتفِى آثاره وحِكَمِه, صلى الله عليه وعلى آله
وأصحابه «جواهر البلاغة» الذين نظموا لآلئ البديع في عُقود الإيجاز والإطناب, فَفُهنا
بعد اللَّكن «بجواهر الإعراب» ونطقنا «بميزان الذهب» وطرزنا سطور الطروس «بجواهر
الأدب» فصارت«المُفرد العَلم» في باب النّسب (وبعد) فإنَّ العلومَ أَرفعُ المطالب, وأنفع
المآرب, وعلم البلاغة من بينها أجلُّها شأناً, وأبينها تبيانا, إذ هو الكفيل بإيضاح حقائق
التنزيل, وإفصاح دقائق التأويل, وإظهار «دلائل الاعجاز» ورفع معالم الإيجاز,
ولاشتغالي بتدريس البيان بالمدارس الثانوية, كانت البواعث داعية الى تاليف كتاب
«جواهر البلاغة» جامعاً للمهمات من القواعد والتطبيقات ـ وأسأل المولى جل شأنه أن ينفع بهذا الكتاب, وهو المُوفّق للحق والصّواب.
المؤلف
السيد أحمد الهاشمي
تمهيد
لما وضع «علم الصرف» للنظر في أبنية الألفاظ
ووضع علم النحو للنظر في إعراب ما تركب منها
وضع «البيان([2])» للنظر في أمر هذا التركيب, وهو ثلاثة علوم:
(العلم الأول) ما يحترز به عن الخطأ في تأديه المعنى الذي يريده المتكلم لإيصاله إلى ذهن السامع, ويسمى «علم المعاني».
(العلم الثاني) ما يحترز به عن التعقيد المعنوي ـ أي عن أن يكون الكلام غير واضح الدلالة على المعنى المراد, ويسمى «علم البيان» (العلم الثالث) ما يراد به تحسين الكلام ويسمى (علم البديع) فعلم البديع تابع لهما إذ بهما يعرف التحسين الذاتي, وبه يعرف التحسين العرضي.
والكلام باعتبار «المعاني والبيان» يقال إنه:
«فصيح» من حيث اللفظ ـ لأن النظر في الفصاحة إلى مجرد اللفظ دون المعنى.
«وبليغ» من حيث اللفظ والمعنى جميعاً ـ لأن البلاغة ينظر فيها الى الجانبين([3]).
وأما باعتبار البديع فلا يقال إنه فصيح ولا بليغ, لأن البديع أمر خارجي يراد به تحسين الكلام لا غير.
إذا تقرر ذلك, وجب على طالب البيان أن يعرف قبل الشروع فيه معرفة معنى «الفصاحة والبلاغة» لأنهما محوره, واليها مرجع أبحاثه.
فهما الغاية التي يقف عندها المتكلم والكاتب, والضالة التي ينشدانها وما عقد أئمة البيان الفصول. ولا بوبوا الأبواب, إلا بغية أن يوقفوا المسترشد على تحقيقات, وملاحظات, وضوابط, اذا روعيت في خطابه. أو كتابه. بلغت الحد المطلوب من سهولة الفهم, وإيجاد الأثر المقصود في نفس السامع, واتصفت من ثم بصفة الفصاحة([4]) والبلاغة.
مقدمة([5])
(في معرفة الفصاحة والبلاغة)
الفصاحة
الفصاحة: تطلق في اللغة على معان كثيرة ـ منها البيان والظهور قال الله تعالى: (وأخي هارون هو أفصح مِنِّي لساناً) أي أبين منِّي منطقاً وأظهر منَّي قولاً.
ويقال: أفصح الصبي في منطقه. إذا بان وظهر كلامه.
وقالت العرب: أفصح الصبح. إذا أضاء, وفصح أيضا.
وأفصح الأعجمي: إذا أبان بعد أن لم يكن يُفصح ويُبين.
وفصح اللحان. إذا عبر عما في نفسه. وأظهره على وجه الصواب دون الخطأ.
والفصاحة: في اصطلاح أهل المعاني, عبارة عن الألفاظ البينة الظاهرة, المتبادرة الى الفهم, والمأنوسة الاستعمال بين الكتاب والشّعراء لمكان حسنها.
وهي تقع وصفا للكلمة, والكلام, والمتكلّم, حسبما يعتبر الكاتب اللفظة وحدها. أو مسبوكة مع أخواتها.
فصاحة الكلمة
1. خلوصها من تنافر الحروف: لتكون رقيقة عذبة. تخف على اللسان, ولا تثقل على السمع, فلفظ «أسد» أخف من لفظ «فدوكس».
2. خلوصها من الغرابة, وتكون مألوفة الاستعمال.
3. خلوصها من مخالفة القياس الصرفي, حتى لا تكون شاذة.
4. خلوصها من الكراهة في السمع([6]).
أما «تنافر الحروف»؛ فهو وصف في الكلمة يوجب ثقلها على السمع. وصعوبة أدائها باللسان: بسبب كون حروف الكلمة متقاربة المخارج ـ وهو نوعان:
1. شديد في الثقل ـ كالظش (للموضع الخشن) ونحو: همخع «لنبت ترعاه الإبل» من قول أعرابي:
* تركت ناقتي ترعى الهمخع*
2. وخفيف في الثقل ـ كالنقنقة «لصوت الضفادع» والنقاخ «للماء العذب الصافي» ونحو: مستشزرات «بمعنى مرتفعات» من قول امرئ القيس يصف شعر ابنة عمه:
غدائره مستشزراتٌ إلى العلا تضل العقاص في مُثنَّى ومرسل([7])
ولا ضابط لمعرفة الثقل والصعوبة سوى الذوق السليم, والحس الصادق الناجمين عن النظر في كلام البلغاء وممارسة أساليبهم([8])
واما غرابة الاستعمال, فهي كون الكلمة غير ظاهرة المعنى, ولا مألوفة الاستعمال عند العرب الفصحاء, لان المعول عليه في ذلك استعمالهم.
والغرابة قسمان:
القسم الاول: ما يوجب حيرة السامع في فهم المعنى المقصود من الكلمة: لترددها بين معنيين أو أكثر بلا قرينة.
وذلك في الألفاظ المشتركة «كمسّرج» من قول رؤبة بن العجاج:
ومقلةً وحاجباً مزججا وفاحماً ومرسنا مسرّجا([9]).
فلا يعلم ما أراد بقوله «مسرَّجا» حتى اختلف أئمة اللغة في تخريجة.
فقال«ابن دريد» يريد ان انفه في الاستواء والدقة كالسيف السّريجي.
وقال «ابن سيده» يريد انه في البريق واللمعان كالسراج([10]).
فلهذا يحتار السامع في فهم المعنى المقصود لتردد الكلمة بين معنيين بدون «قرينة» تعين المقصود منهما.
فلأجل هذا التردد, ولأجل أن مادة (فعل) تدل على مجرد نسبة شيء لشيء, لا على النسبة التشبيهية: كانت الكلمة غير ظاهرة الدلالة على المعنى. فصارت غريبة.
وأما مع القرينة فلا غرابة ـ كلفظة «عزَّر» في قوله تعالى: (فالذين امنوا وعزروه ونصروه) فانها مشتركة بين التعظيم والإهانة.
ولكن ذكر النصر قرينة على ارادة التعظيم.
القسم الثاني: ما يعاب استعماله لاحتياج الى تتبع اللغات وكثرة البحث والتفتيش في المعاجم «قواميس متن اللغة المطولة»:
«أ» فمنه ما يعثر فيها على تفسير بعد كدّ. وبحث ـ نحو: تكأكأتم «بمعنى اجتمعتم» من قول عيسى بن عمرو النَّحوي:
مالكم تكأكأتم([11]) عليّ, كتكأكئكم على ذي جنة([12]) إفر نقعوا عنّي([13])ـ ونحو (مشمخر) في قول: بشر بن عوانة. يصف الأسد:
فخر مدرَّجاً بدم كأني هدمت به بناء مشمخرا
«ب» ومنه ما لم يعثر على تفسيره نحو (جحلنجع) من قول ابي الهميسع
من طمحة صبيرهاجحلنجع([14]) لم يحضها الجدول بالتنوع
واما (مخالفة القياس) فهو كون الكلمة شاذَّة غير جارية على القانون الصرفي المستنبط من كلام العرب؛ بأن تكون على خلاف ما ثبت فيها عن العرف العربي الصحيح([15]) مثل (الأجلل) في قول أبي النجم:
ألحمد لله العلي الأجلل الواحد الفرد القديم الأوَّل
فإن القياس (الأجل) بالادغام، و لا مسوّغ لفكّه وكقطع همزة وصل «اثنين» في قول جميل:
ألا لا أرى إثنين أحسن شيمةً على حدثان الدَّهر منَّى ومن جمل([16])
ويستثنى من ذلك ما ثبت استعماله لدى العرب مخالفاً للقياس ولكنه فصيح.
لهذا لم يخرج عن الفصاحة لفظتا (المشرق والمغرب) بكسر الراء, والقياس فتحها فيهما, وكذا لفظتا (المُدهُن والمنخُل) والقياس فيهما مِفْعَل بكسر الميم وفتح العين ـ وكذا نحو قولهم (عَوِر) والقياس عارَ: لتحرك الواو وانفتاح ما قبلها.
واما (الكراهة في السمع) فهو كون الكلمة وحشية, تأنفها الطباع وتمجها الاسماع, وتنبو عنه, كما ينبو عن سماع الأصوات المنكرة.
(كالجرشى ـ للنفس) في قول أبي الطيب المتنبي يمدح سيف الدولة
مبارك الإسم أغرُّ اللقب كريم الجرشَّى شريف النَّسب
وملخَّص القول ـ أن فصاحة الكلمة تكون بسلامتها من تنافر الحروف ومن الغرابة. ومن مخالفة القياس. ومن الابتذال. والضعف.
فاذا لصق بالكلمة عيب من هذه العيوب السابقة وجب نبذها واطراحها.
تطبيق (1)
ما الذي أخل بفصاحة الكلمات فيما يأتي:
قال يحيى بن يعمر: لرجل حاكمته امراته اليه «أئن سالتك ثمن شكرها وشبرك, اخذت تطلها وتضهلها([17]).
وقال بعض أمراء العرب, وقد اعتلت أمّه, فكتب رقاعاً وطرحها في المسجد الجامع بمدينة السلام: صين امرؤ وَرَعَا, دعا لامراة انقحلة([18]) مقسئنة([19]) قد منيت بأكل الطرموق([20]) فأصابها من أجله الاستمصال([21]) بأن يمن الله عليها بالاطرعشاش([22]) والابرغشاش أسمع جعجعة([23]) ـ ولا أرى طحنا ـ الاسفنط([24]) ـ حرام ـ وهذا الخنشليل([25]) صقيل, والفدوكس مفترس([26]).
يوم عصبصب وهلوف, ملأ السجسج طلا ([27]).
أمنَّا أن تصرّع عن سماحٍ وللآمال في يدك اصطراع([28])
وقال الفرزدق:
واذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم خُضعَ الرَّقاب نواكس الأبصار([29])
و قال أبو تمّام:
قد قلت لمّا اطلخمَّ الأمر وانبعثت عشواء تاليةً غيساً دهاريسا([30])
وقال شمر:
واحمق ممن يكرع الماء قال لي دع الخمر واشرب من نقاخ مُبّرد([31])
يظل بموماة ويمسى بغيرها جحيشا ويعرورى ظهور المسالك([32])
فلا يبرم الأمر الذي هو حالل ولا يُحللُ الأمر الذي هو يبرم([33])
مقابل في ذرا الاذواء منصبه عيصاً فعيصاً وقدموساً فقدموسا
وقال أبو تمام:
نعم متاع الدنيا حباك به أورع لا جيدر ولا جبس
وقال امرؤ القيس:
رب جفنة([34]) مثعنجرة, وطعنة مسحنفرة, وخطبة مستحضرة وقصيدة محبّرة, تبقى
غداً بأنقرة ـ أكلت العرين, وشربت الصّمادح([35]) إني اذا أنشدت لاحبنطى ([36]) نزل بزيد داهية خنفقيق([37]) وحل به عنقفير. لم يجدمنها مخلصاً. رأيت ماء نقاخا([38]) ينباع([39]) من سفح جبل شامخ. إخال أنك مصوون([40])ـ البعاق([41]) ملأ الجردحل
فان يك بعض الناس سيفا لدولة ففي الناس بوقاتٌ لها وطبولُ([42])
نقيُّ تقيُّ لم يكثر غنيمة بنكهة ذي القربى ولا بحقلّد
إن بني للئام زهده مالي في صدورهم من مودده([43])
رمتني ميّ بالهوى رمى ممضغ من الوحش لوطٌ لم تعقه الأوالس([44])
بعينين نجلاوين لم يجر فيهما ضمان وجيدٍ حلى الدرّ شامس([45])
علمي الى علمك كالقرارة في المثعنجر([46]).
أنّ بعضاً من القريض هراءٌ ليس شيئا وبعضه إحكام
فيه ما يجلب البراعة والفهـ م وفيه ما يجلب البرسامُ([47])
ومن الناس من تجوز عليهم شعراء كأنها الخاز بازُ([48])
تمرين (1)
1. فرِّق بين التنافر في الكلمة, وفي الكلام, واذكر السبب؟
2. اذكر مثالا للتعقيد اللفظي, وبين سبب هذا التعقيد, ثم ازله؟
3. قد يلازم تنافر الحروف الغرابة, وقد تنفرد الغرابة عن التنافر. وضح ذلك بامثلة مبتكرة؟
4. كل كلام بليغ يكون فصيحا ولا عكس. اشرح هذه العبارة واستشهد عليها بما يحضرك؟
تمرين (ب)
ميِّز الكلام الفصيح من غير الفصيح في كل ما يأتي, وبين السبب:
(1) كلما قربت النفس من المال شبراً, بعدت عن الفضيلة ميلا.
(2) شكت امرأة صمعمعة الرأس([49]), متعثكلة الشعر, درد بيساحلَّت بها.
(3) نم وإن لم أنم كراى كراكا شاهدت الدمع, ان ذاك كذاكا
(4) فأصبحت بعد خطِّ بهجتها كاز قفراً رسومها ([50]) قلما.
(5) وازورَّ([51]) مَن كان لهُ زائراً وعاف عافى العُرف عرِفانَه.
(6) وأكرمُ من غَمام عند مَحل فتىً يَحيِى بمدحته الكراما. ([52])
(7) أشكوك كُوكك، كي ينفكَّ عن كنفي ولا ينيخ على الركَّاب كَلكله. ([53])
(8) سأل كوفيٌّ خياطاً عن فرس ومُهر فقدَهُما فقال:
«يا ذا النِّصاح ([54])– وذات السَّمِّ الطاعن بها في غير وغى لنير عِداً:
هل رأيت الخيفانة القبَّاء، يتبعها الحسن المُرهف.
(9) كتب أحدهم لصديقه يقول:
«يا أحبَّ صواحبي وأعزَزهم علىّ، يؤلمني أن أُصبح مقَصوباً عنك هذا الإقصاي، وانت، منِِّى بمنزلة الروح من الجسد».
تمرين
(1) أيّ أجزاء هذين البيتين غير فصيح:
(أ) أصبحتُ كالثوب اللّبيس قد أخلقت جدَّاتُه منه فعاد مذالا.
(ب) رمتني ميّ بالهوى رمىَ مَمضغ من الوحش أو لوطٍ لم تعقهُ الأوالس.
تطبيق
ما الذي أخلّ بفصاحة الكلمات فيما يلي:
وكل إثنين إلى افتراق
لأنت أسودُ في عيني منَ الظُّلم([55])
إتسعَ الفتقُّ على الرَّافِع([56])
غداتئذٍ أو هالك في الهوالك([57])
أنّى أجودُ لأقوامِ وان ضنُنوا
من طول إملالٍ وظهرٍ مُملِلٍ([58])
يا نفسُ صبراً كل حيٍ لاق
أبعد بعدتَ بياضاً لا بياض له
لا نَسبَ اليومَ ولاَ خُلَّة
فأيقنتَ أنّى عند ذلك ثائِر
مهلاً أعَازلَ قد جَرَّبتِ من خَلقي
تشكو الوَجى من أظلَلٍ وأظلّل
(1) وقال ابن جحدر:
هَمَرجَلةٌ خُلُقها شَبـظَمُ([59])
بها مِن وَحَى الجِنِّ زيز يزَم
حلَفتُ بما أرفلت حَوله
وما شَبرقَت من تَنُو فِيَّةٍ
(2) وقال ذو الرُّمة:
وهُن لا مُؤيِسٌ نأياً ولا كتَبُ([60])
حتى اذا الهَبقُ أمسى شامَ أفرُخَهُ
وقال أبو نواس:
نَسيتَ أهلا وسَهلا
يا مَن جَفاني وملأَّ
تدريب (1)
ما الذي أخلَّ بفصاحة الكلمات فيما يلي؟
(1) قال النّابغة الذُّبياني:
بُنِيَت بآجرٍ يُشادُ بقَرمَد([61])ِ
أودُميَةٍ في مَرمَرٍ مَرفُوعة
(2) وقال أبو تّمَّام:
أجَأَ اُذا ثَقُلَت وكان خفيفا
خُلُقَ الزَّمَان الفَدمِ عَاد ظَريفا([62])
لكَ هَضبةُ الحِلم التي لو وَازَنَت
وحلاوة الشّيم التي لو مَازَجَت
(3) وقال المُتنبي:
طِلاّبُ الطّالبِين لا الانتِظارُ
يُوَسِّطه المَفاوزَ كلَّ يوم
تدريب (2)
ما الذي اخلِّ بفصاحة الكلمات فيما يأتي؟
يخشى الحوادِث حازم مُستَعدد([63])
على سَرَوات البَيت قُطن مُندفِ ([64])
غدَاتئذٍ أو هالِكٌ في الهوَالك ([65])
يَصيح الحصا فيها صِياح اللقائِقِ ([66])
نُزول اليماني ذو العياب المُحمل([67])
ولا القُنُوع بضنكِ العيشِ من شيمي([68])
ى القنوعو
(1) لم يَلقَهَا إى بشكَّه باسِلٍ
(2) وأصبح مَبيضَّ الضَّريب كأنه
(3) فأيقَنتُ أنِّى عند ذلك ثائرٌ
(4) ومَلمُومَةٍ سيَفيَّةٍ رَبعيَّةٍ
(5) والقىَ بصحراء الغبِيط بَعاعَهُ
(6) ليس التَّعَللُ بالآمالِ من أربى
فصاحة الكلام
فصاحة الكلام: سلامته بعد فصاحة مفُرداته ممَّا يُبهم معناه ويحول دون المراد منه ([69]) – وتتحقَّق فصاحته بخلُوه من ستة عيوب (1) تنافر الكلمات مجتمعة (2) ضعف التأليف (3) التعقيد اللفظي (4) التعقيد المعنوي (5) كثرة التكرار([70]) (6) تتابُع الإضافات.
الأول - «تنافُر الكلمات مُجتمعة» أن تكون الكلمات ثقيلة على السمع من تركيبها مع بعضها، عَسرة النّطق بها مُجتمعةً على اللّسان (وإن كان كل جزء منه على انفراده فصيحاً) والتنافر يَحصُل: إمِّا بتجاوُز كلمات متقاربة الحروف وإمّا بتكرير كلمة واحدة.
(1) ومنه شديد الثِّقل: كالشطر الثاني في قوله:
وَقبرُ حرب بمكان قفرٌ وَليس قَرب قبر حربٍ قبرُ([71])
(ب) ومنه خفيف الثِّقل كالشطر الأول في قلو أبي تمَّام:
كريم ٌ متى أمدَحهُ والورى معي: وإذا ما لمته لمته وحدي([72])
الثاني - «ضعف التأليف» أن يكون الكلام جارياً على خلاف ما اشُتهر من قوانين النحو المعتبرة عند جُمهور العلماء – كوصل الضميرين، وتقديم غير الأعراف منهما على الأعرف- مع أنه يجب الفصل في تلك الحالة – كقول المتنبي:
خَلتِ البلادُ من الغزالةِ ليلَهَا فأعاضهَاكَ اللهُ كي لا تحزنا
وكالإضمار قبل ذكر مرجعه لفظا وَرتُبة وحكما في غير أبوابه ([73])نحو
ولو أن مَجداً أخلدَ الدهرَ واحداً من الناس أبقى مجده الدهر (مطعما) ([74]).
الثالث - «التعقيد اللفظي» هو كون الكلام خفيّ الدّلالة على المعنى المراد به – بحيث تكون الألفاظ غير مُرتبة على وفق ترتيب المعاني.
(وينشأ ذلك التّعقيد من تقديم أو تأخير أو فصل بأجنبي بين الكلمات التي يجب أن تتجاور ويتصل بعضها ببعض) ([75]) وهو مذموم: لأنه يُوجب اختلال المعنى واضطرابه، من وضع ألفاظه في غير المواضع اللّائقة بها – كقول المتنبي
جفخت وهم لا يجفخونَ بهابهم شيمٌ على الحسَب الأغر دلائل ([76])
أصله – جفخت (افتخرت) بهم شيمَ دلائل على الحسب الأغر هم لا يجفخون بها.
الرابع - «التعقيد المعنوي» كون التركيب خفىّ الدَّلالة على المعنى المراد ([77]) – بحيث لا يفهم معناه إلاّ بعد عناء وتفكير طويل.
وذلك لخلل في انتقال الذهن من المعنى الأصلي إلى المعنى المقصود بسبب إيراد اللوازم البعيدة، المفتقرة إلى وسائط كثيرة، مع عدم ظهور القرائن الدّالة على المقصود «بأن يكون فهمُ المعنى الثاني من الأول بعيداً عن الفهم عُرفا ([78])» كما في قول عبّاس بن الأحنَف.
سأصلبُ بُعد الدار عنكم لتقرُبوا وتسكبُ عيناي الدُّموع لتجـمُدا ([79])
جعلَ سكبَ الدُموع كناية عمّا يلزم في فراق الأحبَّة من الحزن والكمد: فأحسن وأصابَ في ذلك، ولكنَّه أخطأ في جعل جمود العين كنايةً عمَّا يوجبه التَّلاقى من الفرح والسُرُور بقُرب أحبتّه، وهو خفىّ وبعيدٌ - ([80]) إذ لم يعرف في كلام العرب عند الدُّعاء لشخص بالسرور (أن يقال له جُمدت عينك) أو لا زالت عينك جامدةً، بل المعروف عندهم أنّ جمود العين إنّما يكنى به عن عدم البكاء حالة الحزن، كما في قول الخنساء.
أعيني جودا ولا تجمُدا ألا تبكيانِ لصَخر النَّدى
وكما في قول أبي عطاء يرثى ابن هُبيرة:
ألا إنَّ عيناً لم تجدُ يومَ واسط عليك: بحارى دمعها لجمود ([81])
وهكذا كل الكنايات التي تستعملها العرب لأَغراض ويُغَيرها المتكلمُ، ويريد بها أغراضاً أخرى تعتبر خروجاً عن سُنن العرب في استعمالاتهم – ويُعدّ ذلك تعقيداً في المعنى: حيث لا يكون المراد بها واضحاً.
الخامس – «كثرة التكرار» ([82]):كون اللفظ الواحد: اسماً – كان أو فعلاً – أو حرفاً.
وسواء أكان الاسم: ظاهراً – أو ضميراً، تعدّد مرَّة بعد أخرى بغير فائدة – كقوله:
إنّي وأسطارٍ سُطرنَ سَطراً لَقائلٌ يا نصرُّ نصرُ نصراَ
وكقول المتنبي:
أقِل أنل اقطع اجمل علَّ سل أعد زد هشَّ بش تفضَّلُ أدِنِ سُرَّصل
وكقول أبي تمَّام في المديح:
كأنَّه في اجتماع الرُّوح فيه لَهُ في كلِّ جارحةٍ من جسمِهِ رُوحُ
السادس - «تتابعُ الإضَافات» كون الاسم مضافا إضافةً مُتداخلة غالباً، كقول ابن بابك:
حمامَةَ جَرعا حَومةِ الجَندَلِ لسجَعِي فأنتِ بمراى من سُعادَ ومَسمع ([83])
وملخص القول: إنَّ فصاحة الكلام تكون بخُلوَّه من تنافر كلماته ومن ضعف تأليفه، وتعقيد معناه، ومن وضع ألفاظه في غير المواضع اللائقة بها.
تطبيق
بين العيوب التي أخلَّت بفصاحة الكلام فيما يأتي؟
وغيري بغير اللازقيَّة لاحق
وعافَ عافى العُرف عِرفانُه([84])
وأبوكَ والثَّقَلاَنِ أنتَ محمدُ ([85])
ويَجهل عِلمي أنه بيَ جاهل
قَلاَقلَ همّ كلَّهنَّ قَلاَقلُ
أبو أمّهِ حتى أبوه يقاربُه ([86])
أبوه ولا كانت كُلَيبٌ تُصاهره ([87])
سيَفهُ دُونَ عَرضِه مسلولُ ([88])
ورقَّى نداهُ ذا النَّدَى في ذُرا المجد([89])
في القول حتَّى يَفعل الشعراءُ ([90])
وحُسن فعلٍ كما يُجزَى سِنمَّارُ ([91])
به نَبتغى منهم عَديلاً نُبادِلهُ ([92])
وكاد لو ساعدَ المقَدورُ ينتَصرُ
لك الخيرُ غيري رَامَ من غيرك الغنى
وازورَّ مَن كانَ له زائراً
أنَّى يكونُ أبا البرايا آدمٌ
ومن جاهل بي وهُوَ يجهَلُ جهلة
وقَلقلت بالهمَّ الذي قَلقَلَ الحَشا
وما مِثلهُ في النَّاس إلا مُمَلَّكاً
إلى مَلك ما أمُّه من مُحَارب
ليسَ إلاكَ يا عليُّ هُمامٌ
كَسا حلمهُ ذا الحلم أثوابُ سُؤدُد
من يهتدي في الفعل ما لا يهتدى
جزَى بنوه أبا الغَيلاَن عن كِبر
وما من فتىً كنَّا من النَّاس واحداً
لمَا راى طالبوه مُصعباً ذُعِرُوا
نشر الملك ألسنته في المدينة... مُريداً جواسيسه.
أي – والصوَّاب «نشر الملك عيونه» ([93])
كنَّا وكنتَ ولكن ذَاكَ لم يكن
زُهيراً على ما جَرَّ من كلِّ جانِب
أغرّ حلو مُمر ليّن شَرِس ([94])
لو كنت كنت كتمت السَّر كنت كما
ألاَ لَيتَ شِعري هل يَلومنَّ قومهُ
دانٍ بعيدٍ مُحبّ مبغض بَهجٍ
لأنت أسودُ في عيني من الظُّلم ([95])
سبوحٌ لها منها عليها شواهد ([96])
بها أسدِ اذ كَان سيفاً أميرها([97])
تبكى عليك نُجومَ الليل والقمر ([98])
لو كان مثلك في سِواها يوجَدُ
يَرضى المعاشر منك إلاَّ بالرِّضا
وتُسُعدني في غَمرَة بعدَ غمرَة
ولبست خراسانُ التي كان خالدٌ
والشمسُ طالعة ليست بكاسِفةٍ
أرضٌ لها شَرَفٌ سوَاها مثلها
والمجدُ لا يرضى بأن ترضى بأن
في رفع عَرش الشَّر ع مثلك يَشرعُ
يُهَدَّم ومن لم يظلم الناس يُظلِم ([99])
ممَّا يَرى أون ناظرٌ متأمِّلُ ([100])
كأنَّ قفراً رسومها قلَما ([101])
اذا انتبهت توهَّمه ابتِشاكا ([102])
ومن لم يذُد عن حوضه بسلاحه
مُتحَيرين فباهِتٌ مُتعَجِّبٌ
فأصبحت بعد خطِّ بهجتها
وما أرضَى لمُقلتِهِ بحلم
فصاحة المتكلم
فصاحة المتُكلِّم: عبارةٌ عن المَلكة ([103]) التي يقتدر بها صاحبها على التعبير عن المقصود بكلام فصيح في أيِّ غرضٍ كان.
فيكون قادراً بصفة الفصاحة الثابتة في نفسه على صياغة الكلام مُتمكّناً من التّصرف في ضُروبه بصيراً بالخوض في جهاته ومَنَاحِيه.
أسئلة على الفصاحة يطلب أجوبتها
ما هي الفصاحة لغة واصطلاحا؟ ما الذي يوصف بالفصاحة
ما الذي يخرج الكلمة عن كونها فصيحة؟
ما هي فصاحة المفرد؟ ما هو تنافر الحروف، وإلى كم ينقسم ؟..
ما هي الغرابة وما موجبها ؟ ما هي مخالفة القياس؟ ما هي الكراهة في السمع؟
ما هي فصاحة الكلام – وبما تتحقق ؟ ما هو تنافر الكلمات، وما موجبه وإلى كم يتنوَّع، ما هو ضعف التأليف ؟ ما هو التعقيد ؟ وإلى كم ينقسم ؟
ما هو كثرة التكرار؟ ما هو تتابع الاضافات ؟ ما هي فصاحة المتكلم ؟
البلاغة
البلاغة في اللغة (الوُصول والأنتِهاء) يقال بلغ فلان مراده – إذا وصل اليه، وبلغ الركب المدينة – اذا انتهى اليها([104]) وَمبلغ الشيء منتهاه
وبلغ الرجل بلاغة – فهو بليغ: اذا أحسَن التّعبير عمَّا في نفسه وتقع البلاغة في الاصطلاح: وصفا للكلام، والمتكلّم فقط ولا توصف «الكلمة» بالبلاغة، لقصورها عن الرسول بالمُتكلَّم إلى غرضه، ولعدم السّماع بذلك.
بلاغة الكلام
البلاغة في الكلام: مطابقته لما يقتضيه حال الخطاب ([105]) – مع فصاحة ألفاظه «مفردها ومركبها».
والكلام البليغ: هو الذي يُصورَّه المتُكلِّم بصورة تناسبُ أحوال المخاطبين.
وحال الخطاب «ويسمى بالمقام» هو الأمر الحامل للمتكلم على أن يُوردَ عبارته على صورة مخصوصة دون أخرى.
والمُقتضَى - «ويسمى الاعتبار المُناسب» هو الصورة المخصوصة التي تُورَدُ عليها العبارة.
مثلاً – المدح – حال يدعو لا يراد العبارة على صورة الإطناب وذكاء المخاطب – حال يدعو لإيرادها على صورة الإيجاز فكلٌ من المدح والذكاء «حال ومقام» وكلٌّ من الإطناب والإيجاز «مُقتضَى»، وإيراد الكلام على صورة الاطناب([106]) أو لايجاز «مُطابقة للمقُتضَى» وليست البلاغة([107]) إذاً مُنحصرة في إيجاد معان جليلة، ولا في اختيار ألفاظ واضحة جزيلة، بل هي تتناول مع هذين الأمرين أمراً ثالثاً (هو إيجاد أساليب مُناسبة للتأليف بين تلك المعاني والألفاظ) مما يُكسبها قوَّة وجمالا وملخص القول – إنَّ الأمر الذي يَحملُ المُتكلّم على إيراد كلامه في صورة دون أخرى: يُسمى «حالا» وإلقاء الكلام على هذه الصُّورة التي اقتضاها الحال يُسمى «مُقتضَى» والبلاغة هي مُطابقة الكلام الفصيح لما يقتضيه الحال.
بلاغة المتكلم
بلاغة المتكلم: هي مَلَكة في النَّفس([108]) يقتَدرُ بِهَا صاحبها علىتأليف كلام بليغ: مُطابق لمقتَضَى الحال، مع فصاحته في أيّ معنى قَصَده وتلك غاية لن يَصِل إليها إلاَّ من أحاط بأساليب العرب خُبرا وعرف سُنن تخاطُبهم في مُنافراتهم، ومفاخراتهم، ومديحهم، وَهجائهم وَشكرهم، واعتذارهم، لِيلَبس لكل حالة لبُوسها «ولكلِّ مقام مَقال».
أقوال ذوي النبوغ والعبقرية في البلاغة
(1) قال قُدامَة: البلاغة ثلاثة مذاهبَ:
المُساواة: وهي مُطابقة اللَّفظ المعني: لا زائداً ولا ناقصاً.
والإشارة: وهي أن يكون اللفظ كاللَّمحة الدَّالة.
والتَّذييلُ: وهو إعادة الألفاظ المُترادفة على المعنى الواحد، ليظهر لمن لم يفهمه، ويتأكد عند من فهمه([109]).
أولاً – من التفكير في المعاني التي تجيش في نفسه، وهذه يجب أن تكون صادقة ذات قيمة، وقوة يظهر فيها أثر الابتكار وسلامة النظر وذوق تنسيق المعاني وحسن ترتيبها، فاذا تم له ذلك عمد إلى الالفاظ الواضحة المؤثرة الملائمة، فألف بينها تاليفاً يكسبها جمالا وقوة.
فالبلاغة ليست في اللفظ وحده، وليست في المعنى وحده، ولكنها أثر لازم لسلامة تألف هذين وحسن انسجامهما، وقد علم أن البلاغة أخص والفصاحة أعم لانها مأخوذة في تعريف البلاغة – وان البلاغة يتوقف حصولها على أمرين – الأول: الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المقصود، والثاني: تمييز الكلام الفصيح من غيره- لهذا كان للبلاغة درجات متفاوتة تعلو و تسفل في الكلام بنسبة ما تراعى فيه مقتضيات الحال – وعلى مقدار جودة ما يستعمل فيه من الأساليب في التعبير والصور البيانية والمحسنات البديعية، وأعلى تلك الدرجات ما يقرب من حد الاعجاز، واسفلها ما إذا غير الكلام عنه إلى ما هو دونه التحق عند البلغاء باصوات الحيوانات العجم وان كان صحيح الاعراب: وبين هذين الطريفين مراتب عديدة.
(2) وقيل لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ فقال: أن يكون اللفظ محيطاً بمعناك، كاشفاً عن مغزاك، وتخرجه من الشركةِ، ولا تستعين عليه بطول الفكرة› ويكون سالماً من التكلّف، بعيداً من سوء الصِّنعة، بريئاً من التعقيد، غنياً عن التأمل ([110]).
(3) ومما قيل في وصف البلاغة: لا يكون الكلام يستحقّ اسم البلاغة حتى يُسابِقَ معناهُ لَفظَهُ معناه، فلا يكون لَفظه إلى سمعك أسبقَ من معناه إلى قلبك ([111])
(4) وسأل معاوية صُحَاراً العَبديَّ: ما البلاغة ؟ قال: أن تُجيب فلا تُبطىء، وتُصيبَ فلا تُخطىء([112]).
(5) وقال الفضل: قلت لأعرابي ما البلاغة ؟ قال: الايجازُ في غير عَجز، والاطناب في غير خَطَلٍ([113]).
(6) وسُئل ابن المُقفع: ما البلاغة؟ فقال: البلاغة اسمٌ جَامِعٌ لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة: فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الاشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون سَجعاً وخُطباً، ومنها ما يكون رَسَائلَ، فعامَّةُ ما يكون من هذه الأبواب – الوحيُ فيها، والاشارة إلى المعنى، والإيجاز، هو البلاغة.
فأمَّا الخُطبُ بين السِّماطينِ، وفي إصلاح ذاتِ البَينِ، فالإكثار في غير خَطلٍ، والاطَالَةَ في غير إملالٍ، وليَكن في صَدرِ كلامك دليلٌ على حاجتك، فقيل له: فإن مَلَّ المُستمعُ الاطالَة التي ذَكرتَ أنَّها حَقٌّ ذلك الموقف؟ قال: إذا أعطيتَ كل َّ مقام حَقَّهُ، وقَمتَ بالذي يجبُ من سياسة ذلك المقام، وأرضيتَ مَن يَعرفَ حقوقَ الكلام – فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدوّ، فإنه لا يُرضيهمَا شيء، وأما الجاهلُ فَلَستَ منه، وليس منك، وقد كان يقال: (رِضاء الناس شيء لا يُنال([114]))
(7) ولابنِ المُعتّزّ: أبلغُ الكلام: ما حَسُنَ إيجازُهُ، وَقلَّ مَجَازُه، وكَثُر إعجازُه، وتناسَبت صُدُوره وأعجَازُه([115]).
(8) وسمع خالدُ بنُ صَفوَان رجلاً يتكلّم، ويكثرُ الكلام، فقال: اعلم (رحمك الله) أن البلاغة ليست بخفَّة اللّسان، وكثرة الهذيان، ولكنها بإصابة المعنى، والقصد إلى الحُجّة ([116])
(9) ولبشرِ بن المعُتمرِ: فيما يجب أن يكون عليه الخطيب والكاتب رسالة من أنفس الرسائل الأدبية البليغة، جمعت حدود البلاغة وصوّرتها أحسَنَ تصوير، وسنذكر مع شيء من الإيجاز ما يتصل منها بموضوعنا – قال:
خُذ من نفسك سَاعةَ نشاطك، وفراغِ بالكَ، وإجابتها إيَّاك ؛ فانّ قليلَ تلك الساعة أكرَمُ جَوهَراً، واشرفُ حسباً، وأحسّنُ في الأسماع، وأحلى في الصُّدُور، واسلمُ من فاحش الخطأ، وأجلَبُ لكل عَينٍ وغُرَّة: من لفظ شريف، ومعنى بديع.
واعلم أن ذلك أجدَى عليك: مما يعطيك يَومُكَ الأطولُ بالكَد والمُطاوَلة والمجاهدة، وبالتكلُّفِ والمعاودة.
وإيَّاك والتّوعُرَ؛ فإنّ التّوعر يُسلِمُك إلى التّعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيكَ، ويشين ألفاظَك، ومن اراد معنى كريماً فَليَلتمس له لفظاً كريماً، فإن حقَّ المعنى الشريف اللفظُ الشريف، ومن حقِهِّما أن تصونهما عما يفسدهما ويهُجِّنهما....
وكن في ثلاث منازل: فان أولى الثلاث ان يكون لفظكَ رشيقاً عذباً، وفَخماً سهلاً، ويكونَ معناك ظاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً، إمَّا عند الخاصة: إن كنت للخاصة قَصَدت، وإمَّا عند العامة: إن كنت للعامة أرَدت، والمعنى ليس يشرُف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يَتَّضِعُ بان يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال، وكذلك اللفظُ العامِّي والخاصِّي، فان أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مَدَاخلك، واقتدارك على نفسك.
على أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسِعةَ التي لا تلطفُ عن الدّهمَاءن ولا تجفُو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام.
فان كانت المنزلة الأولى لا تُواتيك ولا تَعتَريك، ولا تسنح لك عند أوّل نظرِك، وفي أوّل تكلّفك، وتجد اللفظة لم تقع مَوقِعها ن ولم تصل إلى قرارها وإلى حقَّها: من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحُلَّ في مركزها وفي نصابها، ولم تصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها، نافرة من موضعها، فلا تُكرهها على اغتصاب الأماكن، والنّزول في غير أوطانها، فانك إذا لم تتعاط قرضَ الشعر الموزون، ولم تتكلّف أختيار الكلام المنثور، لم يَعبكَ بترك ذلك أحد، وإن انت تكلَّفته، ولم تكن حاذقاً مطبوعاً، ولا مُحكماً لسانك، بصيراً بما عليك أو مَالَك – عابك من أنت أقَلُّ عيباً منه، ورأى من هو دونَكَ أنهُ فوقك.
فإن ابتليتَ بان تتكلّفَ القول، وتتعاطى الصّنعة، ولم تسمح لك الطباع في أول وَهلة، وتَعصى عليك بعد إحالة الفِكرة – فلا تَعجَل ولا تضجَر، ودَعهُ بياض يومك، أو سوادَ ليلك، وعاودهُ عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدَمُ الإجابة وَالمُواتاة، إن كانت هناك طبيعة، أو جَرَيتَ من الصناعة على عِرق.
فإن تَمنَّع عليك بعد ذلك من غير حادث شُغلٍ عَرضَ، ومن غير طول إهمال – فالمنزلة الثالثة أن تتحوّل من هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفّها عليك... ؛ لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبَة، ولا تسمح بمخزونها مع الرَّهبَة، كما تجُودُ به مع المحبّة والشّهوة. فهكذا هذا.
وينبغي للمتكلم: أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين اقدار الحالات؛ فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامان ولكل حالة من ذلك مقامان حتى يقسِّم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسِّم أقدار المعاني على أقدار المقامات، واقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات.
وبعدُ، فاَنت ترى فيما قالوه: أن حدّ البلاغة – هو أن تجعل لكل مقام مقالا؛ فتوجز: حيث يحسن الإيجاز، وتطنب: حيث يجمل الاطناب، وتؤكد: في موضع التوكيد، وتقدم أو تؤخر: إذا رأيت ذلك أنسبَ لقولك، وأوفى بغرضك، وتخاطب الذكي بغير ما تخاطب به الغبي، وتجعل لكل حال ما يناسبها من القول، في عبارة فصيحة، ومعنى مختار.
ومن هنا عَرَّفَ العلماء «البلاغة» بأَنها: مطابقة الكلام لمقتضَى الحال مع فصاحة عباراته.
واعلم: أنَّ الفرق بين الفصاحة والبلاغة: أن الفصاحةَ مقصورةٌ على وصف الألفاظ، والبلاغةَ لا تكون إلا وصفاً للألفاظ مع المعاني ؛ وأن الفصاحةَ تكون وصفاً للكلمة والكلام، والبلاغةَ لا تكون وصفاً للكلمة، بل تكون وصفاً للكلام، وأن فصاحة الكلام شرط في بلاغته ؛
فكل كلام بليغ: فصيحٌ، وليس كل فصيح بليغاً، كالذي يقع فيه الإسهاب حين يجب الإيجاز.
تمرين
بيَّن الحال ومقتضاه فيما يلي:
(1) هنَاء محَا ذاك العزاء المُقدما فما عبس المحزونُ حتى تبسَّما ([117])
(2) تقول للرّاضي عن إثارة الحروب (إن الحرب مُتلفةٌ للعباد، ذهَّابَةٌ ([118]) بالطّارف والتَّلاد)
(3) يقول الناس إذا رأوا لِصَّا. أو حريقاً: لصٌّ – حريقٌ ([119]).
(4) قال تعالى (وَإنَا لاَ نَدرِي أَشَرٌّ أُريدَ ([120]) بمن في الأرض، أم أرَادَ بِهم رَبُّهُم رَشَدا)
(5) يقول راثى البرَامِكة ([121])..
أُصِبتُ بسَادةٍ كانوا عيوناً بهم نسقى إذا انقطعَ الغَمامُ
ملاحظات
(1) التّنافر – يُعرف (بالذوق) السلَّيم؛ والحِسِّ الصَّادق ([122]).
(2) مخالفة القياس: تُعرف (بعلم الصرَّف).
(3) ضعف التَّأليف والتَّعقيد اللَّفظي: يُعرفان (بعلم النحو).
(4) الغرَابة: تُعرف بكثرة (الاطّلاع) على كلام العرب، والإحاطة بالمفردات المأنوسة.
(5) التَّعقيد المعنوي: يُعرف (بعلم البيان).
(6) الأحوال ومقتضياتها: تُعرف (بعلم المعاني).
(7) خَلوُّ الكلام من أوجه التَّحسين التي تكسوه رِقة ولَطافةً بعدَ رِعَايَة مُطابقته: تعرف (بعلم البديع).
فاذاً وجَب عَلَى طالب البلاغة معرفةُ: اللغة والصَّرف، والنَّحو، والمعاني والبيان، والبديع – مع كونه سليمَ الذَّوق، كثير الاطّلاع على كلام العرب، وصاحبَ خبرة وافرةٍ بكُتُب الأدب، ودِرَية، تامَّة بعاداتهم وأحوالهم، واستظهار للجيد الفاخرِ مِن نَثرهم ونظمهم، وعلم كامل بالنَّابغين من شعراء، وخطباء، وكُتاب – ممَّن لَهم الأثر البيّن في اللُّغة والفضلُ الأكبرُ على اللّسان العربي المبين.
أسباب ونتائج
يحسُن أيضاً بطالب البلاغة أن يعرف شيئاً عن (الأسلوب) الذي هو المعنى المَصُوغُ في الفاظ مؤلَّفة على صورة تكون أقربَ لنيل الغرض المقصود من الكلام، وأفعلَ في نفوس سامعيه.
وأنواع الأساليب ثلاثة:
(1) «الاسلوب العلمي» وهو أهدَأُ الأساليب، وأكثرها احتياجاً إلى المنطق السَّليم، والفكر المُستقيم، وأبعدُها على الخيال الشَّعري، لأنه يخاطب العقل، ويُناجي الفكر، ويَشرَحُ الحقائق العلمية التي، لا تخلو من غموض وخفاء، و أظهَرُ ميزات هذا الأسلوب «الوُضُوح»، ولا بدَّ أن يبدوَ فيه أثر القوة والجمال، وقوَّته في سطوع بيانه، ورصانةِ حُججه ؛ وجَماَله في سُهُولةِ عباراتهن وسلامة الذّوق في اختيار كلماته، وحسن تقريره المعنى في الأفهام، من أقرب وجوه الكلام.
فيجب أن يُعنَى فيه باختيار الألفاظ الواضحة الصريحة في معناها الخالية من الاشتراك، وان تُؤَلَّف هذه الألفاظ في سُهولة وجلاء، حتى تكون ثَوباً شفَّافاً للمعنى المقصود، وحتى لا تصبح مَثاراً للظّنون، ومجالا للتوجيه والتأويل.
ويحسًن التَّنحي عن المجاز، ومُحَسنِّنات البديع في هذا الأسلوب، إلاّ ما يجيء من ذلك عفواً، من غير أن يمس أصلا من أصوله، أو ميزة من ميزاته.
أمّا التَّشبيه الذي يُقصد به تقريب الحقائق إلى الأفهام، وتوضيحها بذكر مماثلها، فهو في هذا الاسلوب حسن مقبول.
(2) «الاسلوب الأدبي» والجمال أبرزُ صفاته، وأظهر مُمَيزاته، ومنشَأ جماله، لما فيه من خيال رائع، وتصوير دقيق، وتلَمُّس لوجوه الشّبه البعيدة بين الاشياء، وإلباس المعنوي ثوبَ المحسوس، وإظهار المحسوس في صورة المعنويِّ.
هَذَا – ومن السهَّل عليك: أن تَعرِف أنَّ الشعر والنثر الفَنِّي هما مَوطِنا هذا الأسلوب، ففيهما يَزدهر، وفيهما يبلغ قنَّة الفنّ والجمال.
(3) «الاسلوب الخطابي» هنا تبرُزُ قوَّة المعاني والألفاظ، وقوة الحجّة والبرهان، وقوة العقل الخصيب، وهنا يتحدِّث الخطيب إلى إرادة سامعيه لإثارة عزائمهم، واستنهاض هممهم، ولجمال هذا الاسلوب ووضوحه، شأنٌ كبير في تأثيره، ووصوله إلى قرارة النفوس، ومَّما يزيد في تأثير هذا الأسلوب، منزلة الخطيب في نفوس سامعيه، وقوةُ عارضته، وسطوعُ حُجِّته، ونبَراتُ صوته، وحسنُ إلقائه، ومُحكَمُ إشاراته.
ومن أظهر مُميزات هذا الأسلوب إ التَّكرارُ «واستعمال المُترادفات وضربُ الأمثال، واختيار الكلمات الجزلة ذات الرَّنين.
وَيحسن فيه أن تتعاقب ضروب التَّعبير – من إخبار، إلى استفهام، الى تعجب، الى استنكار، وأن تكون مواطن الوقف كافية شافية، ثم واضحاً قَويَّا ويظنّ النّاشئون في صناعة الأدب: أنه كلّما كثُر المجاز، وكثُرت التَّشبيهات، والأخيلة، في هذا الأسلوب – زاد حُسنه.
وهذا خطأ بيِّن، فإنه لا يذهب بجمال هذا الأسلوب أكثر من التَّكلُّف، ولا يفسده شَرٌ من تَعمَُّدِ الصنّاعة.