الموسوعة الحديثية الأولي
فضيلة الشيخ أبو إسحاق الحويني
جمع
مجلة الإيمان الإسلامية
www.al-eman.50megs.com
يسأل القارئ: م. أ . دقهلية عن هذه الأحاديث.
1 يكون عليكم أمراء من بعدي يؤخرون الصلاة، فهي لكم وهي عليهم، فصلوا معهم ما صلوا إلى القبلة.
2 من محمد رسول الله إلى بكر بن وائل، أسلموا تسلموا.
3 من كذَّب بالقدر أو خاصم فيه، فقد كفر بما جئتُ به.
والجوابُ بحول الملك الوهاب:
أمَّا الحديث الأول: "يكون عليكم أمراء..." فهو حديث "ضعيف" أخرجه أبو داود (434)، وابن سعد في "الطبقات" (56/7)، وابنُ قانع في "معجم الصحابة" (343/2) قال: حدثنا محمد بن عيسى بن السكن، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (ص2334) عن أبي مسلم الكشي ويحيى بن مطرف قال أربعتهُم: ثنا أبو الوليد الطيالسيُّ، ثنا أبو هاشم الزعفراني، ثنا صالح بن عبيد، عن قبيصة بن وقاص مرفوعًا.
وأخرجه البخاريُّ في "التاريخ الكبير" (173/1/4) قال: قال أبو الوليد هشام بن عبد الملك هو الطيالسيُّ بهذا الإسناد. ثمَّ أخرجه عن روح بن عبادة قال: نا عمار بهذا الإسناد.
قُلْتُ: وهذا إسنادٌ ضعيفٌ. وصالح بن عبيد وثقه ابن حبان، ولكن قال ابنُ القطان: "لا نعرف حاله أصلا" ولم يتابعه أحدٌ وقفت عليه وأبو هاشم الزعفراني، هو عمار بن عمارة وثَقه ابنُ معين، وابنُ حبان ونقل الفسوي توثيقه في "المعرفة" (669/2). وقال أبو حاتم: "صالح، ما أرى بحديثه بأسًا". وقال البخاريُّ: "فيه نظرٌ".
أمَّا الحديث الثاني: "من محمد رسول الله..." فهو محتملٌ للتحسين أخرجه أبو يعلى (2947)، والبزار (1670)، وابنُ حبان (ج14 - رقم6558)، والطبرانيُّ في "الصغير" (307) قال: حدثنا بكر بن أحمد بن سعيد الطاحن. وأبو محمد الجوهري في "حديث أبي الفضل الزهري" (ج/3ق1/64) قال: حدثنا أبو عمر عبيد الله بن عثمان بن عبد الله العثماني وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1629) قالوا: ثنا نصر بن عليٍّ، ثنا نوح بن قيس، عن أخيه خالد بن قيس، عن قتادة، عن أنسٍ أن النبيَّ صلي الله عليه وسلم كتب إلى بكر بن وائل: "من محمد رسول الله إلى بكر بن وائل: أسلموا تسلموا" قال: فما وجدوا من يقرؤهُ لهم إلا رجلا من بني ضُبيعة، فهم يسمون: بني الكاتب.
قال البزار: "لا نعلمه بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد". وقال الطبرانيُّ: "لم يروه عن قتادة، إلا خالد بن قيس" وخالد ونوح كلاهما صدوق وقال الهيثميّى في "المجمع" (305/5): "رواه أبو يعلي والبزار والطبرانيُّ في الصغير.
قُلْتُ: وخالد بن قيس وثقه ابنُ معين، والعجليُّ، وابن حبان. وقال ابن المديني: "ليس به بأس" لكن قال الأزديُّ: "روى عن قتادة مناكير". وهذا من روايته عنه، وقد خالفه شيبان بن عبد الرحمن وهو أوثقُ منه، فرواه عن قتادة، عن مضارب بن حزن العجليِّ، عن مرثد بن ظبيان، قال: جاءنا كتابٌ من رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فما وجدنا له كاتبًا يقرؤهُ، حتى قرأهُ رجل من بني ضُبيعة: "من رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى بكر بن وائل: اسلموا تسلموا".
أخرجه أحمد (68/5)، ومن طريقه ابنُ الأثير في "أسد الغابة" (136/5) قال: حدثنا يونس بن محمد المؤدب وحسين بن محمد بن بهرام، قالا: ثنا شيبان بهذا ورواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن رجل من بني سدوس قال: كتب رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى بكر بن وائل... قال قتادة: فما وجدوا رجلا يقرؤه... الخ، أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (281/1) قال: حدثنا علي بن محمد القرشي، عن سعيد ابن أبي عروبة به. وابن أبي عروبة من الأثبات في قتادة، لكن الراوي عنه: علي بن محمد بن أبي الخصيب القرشي، أحد شيوخ ابن ماجة ذكره ابن حبان في "الثقات" (475/8) وقال: "ربما أخطأ" وقال ابنُ أبي حاتم: "محلُّه الصدق"، وسعيد بن أبي عروبة كان اختلط، والقرشي ليس من قدماء أصحابه، نعم وجدتُ له متابعًا، فرواه عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قال: لقد حدَّث مرثد بن ظبيان أحد بني سدوس رضي الله عنه فذكره كله ولم يجعل شيئًا من المتن من قول قتادة. أخرجه ابنُ أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1658) قال: حدثنا يوسف بن حمادٍ، ثنا عبد الأعلى بهذا. وعبد الأعلى من قدماء أصحاب سعيد، ولكن أرجح الأقوال عندي هو قول شيبان بن عبد الرحمن. وإسنادُهُ صالحٌ. ومضارب بن حزن وثقه ابنُ حبان والعجليُّ، وروى عنه جماعة. والله أعلمُ.
أمَّا الحديث الثالث: "من كذَّب بالقدر..." فهو حديثٌ منكرٌ.
أخرجه ابنُ عدي في "الكامل" (455/3)، وأبو محمد الجوهري في "حديث أبي الفضل الزهري" (ج/3ق2/65) قالا: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز هو أبو القاسم البغويُّ ، قال: حدثني أبو الجهم العلاء بن موسى؛ وهذا في "جزئه" (89) قال: حدثنا سوَّار بن مصعبٍ، عن كليب بن وائل، قال: سمعتُ ابن عمر يقول: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم فذكره.
وهذا إسنادٌ ضعيفٌ جدًا، وسوار بن مصعب واهٍ، لا سيما وقد قال ابنُ عدي: "وهذا عن كليب، يرويه سوَّار بن مصعب" وهذا يعني أنه تفرّد به. وقد تابعه سوَّار بنُ عبد الله بن قدامة العنبريُّ قاضي البصرة فرواه عن كليب بهذا أخرجه العقيليُّ (170/2) وقال: "قد رُوي في الإيمان بالقدر أحاديث صحاحٌ، وأمَّا هذا اللَّفظ، فلا يحفظ إلا عن هذا الشيخ". وقد قال الحافظ ابنُ حجر في "لسان الميزان" (127/3) معلِّقًا على رواية العقيلي: "لعلَّه وقع في الرواية غير منسوب ونسبهُ بعضُهم فأخطأ، وإلا فهذا الحديث رويناه في جزء أبي الجهم عن سوَّار بن مصعبٍ، عن كليبٍ" انتهى. وعندي أن هذا ليس بكافٍ في دعوى التخطئة. مع سقوط الحديث، والله أعلمُ.
*******************
ويسأل القارئ م ي أ عن صحة هذا الحديث وعن معناه: "من صام الدهر، ضُيِّقت عليه جهنم هكذا". وعقد تسعين.
والجواب بحول الملك الوهاب: أنه لا يصحُّ مرفوعًا، وثبت وقفهُ. فأخرجه النسائيّ في "المحاربة" كما في "أطراف المزى" (181/6) ، وابنُ خزيمة (2154،2155)، وابن جرير في "تهذيب الآثار" (485 مسند عمر)، والبزار (3062 البحر) من طرقٍ عن محمد بن أبي عدي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي تميمة وهو طريف بن مجالد ، عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا به.
قال ابن خزيمة: "لم يُسند هذا الخبر عن قتادة غير ابن أبي عدي، عن سعيد" وقال البزار: "وهذا الحديث قد رواه غيرُ واحدٍ، عن قتادة، عن أبي تميمة، عن أبي موسى موقوفًا، وأسنده ابنُ أبي عدي، عن ابن أبي عروبة".
قُلْتُ: كذا قالا، ولم يتفرّدْ محمد بن إبراهيم بن أبي عدي بوصله، فتابعه عبد الأعلى بن عبد الأعلى، قال: نا سعيد بن أبي عروبة بهذا الإسناد سواء.
أخرجه الرُّوياني في "مسنده" (561) قال: أخبرنا محمد بن بشار، نا ابنُ أبي عدي وعبد الأعلى، قالا: نا سعيد بن أبي عروبة بهذا وقد توبع ابن أبي عروبة على رفعه.
تابعه شعبة بن الحجاج، فرواه عن قتادة بهذا الإسناد.
أخرجه ابنُ جرير في "تهذيب الآثار" (486 مسند عمر) قال: حدثنا ابنُ بشارٍ، وابنُ المثنَّى، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة. وقد روى ابنُ جرير قبله حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بهذا مرفوعًا ثم أردفه بحديث شعبة ثم قال: "بنحوه". وهذا يقتضي أن حديث شعبة مرفوعٌ. وقد رواه غيرُ محمد بن جعفر عن شعبة موقوفًا.
فأخرجه أحمد (412/4)، وابنُ أبي شيبة (78/3) قالا: حدثنا وكيعٌ. والطيالسيُّ (513)، ومن طريقه ابن جرير (488) والبيهقيُّ (300/4) قالا: ثنا شعبة، عن قتادة به موقوفًا.
وفي "مسند الطيالسيّ": "لم يرفعْه شعبةُ، ورفعه سعيدٌ". ووقفُهُ عن شعْبة أشهر. وهو أصحُّ في حديث قتادة.
فقد رواه أيضًا همامُ بن يحىى، عن قتادة بهذا الإسناد موقوفًا.
أخرجه عبد بن حميد في "المنتخب" (563) قال: حدثني مسلم بن إبراهيم، ثنا همامٌ بهذا.
وتابعه أيضًا هشام بن أبي عبد الله الدستوائيُّ، عن قتادة مثله موقوفًا أخرجه ابنُ جرير في "التهذيب" (487،489) من طريق معاذ بن هشام وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، قالا: ثنا هشام الدستوائي به.
فقد رأيت أراك اللهُ الخير أن شعبة على اختلافٍ عنه، وهشامًا الدستوائيّ، وهمام بن يحىى رووا هذا الحديث عن قتادة موقوفًا وتأيدت رواية قتادة الموقوفة، بمتابعة سفيان الثوري، فقد رواه عن أبي تميمة، عن أبي موسى رضي الله عنه موقوفًا.
أخرجه عبدُ الرزَّاق في "المصنّف" (ج/4رقم7866).
ورواه عقبة بن عبد الله الأصمُّ وهو ضعيفٌ، عن أبي تميمة، عن أبي موسى موقوفًا.
أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" (ص197). قال: حدثني حوثرة بن أشرس بن عون العدوي، قال: أخبرني عقبة بن عبد الله بهذا.
أمَّا روايةُ الرفع، فتابع ابن أبي عروبة عليها أبان بن أبي عيَّاش. أخرجه عبد بن حميد في "المنتخب" (564) قال: حدثني مسلم بن إبراهيم قال: ثنا أبان بن أبي عياش، عن أبي تميمة، عن أبي موسى مرفوعًا. قال همامٌ، فقلتُ له: فإن قتادة لم يرفعْهُ، فقال أبانُ: أخبرني في بيتي مرفوعًا.
وإسنادهُ ساقطٌ، وأبانُ تالفٌ، ولكن تابعه الضحَّاك بن يسار أبو العلاء البصريُّ، أنه سمع أبا تميمة يحدِّثُ به عن أبي موسى مرفوعًا أخرجه أحمد (412/4) قال: حدثنا وكيعٌ. والبزار (3063 البحر)، والبيهقيُّ في "السنن الكبير" (300/4)، وفي "السنن الصغير" (1415) عن الطيالسيِّ وهذا في "مسنده" (514)، وابنُ حبان (3584)، والطبرانيُّ في "الأوسط" (2562) عن حفص بن عمر. والعقيليُّ في "الضعفاء" (2-219)، والبيهقي فى "الكبير" (4-300)، وفى "الشعب" (3891) عن أبي الوليد الطيالسيّ قالوا: ثنا الضحاك بن يشار بهذا الإسناد. وإسنادُهُ ضعيفٌ.
والضحاك؛ ضعّفه ابن معين، وأبو داود، والساجي، والعقيليَّ، وابنُ الجارود. ومع تضعيف هؤلاء النقاد له، قال ابنُ عدي: "لا أعرفُ له إلا الشيء اليسير" فهذا مما يقوي ضعفَهُ، خلافًا لأبي حاتمٍ، فإنه قال: "لا بأس به". وهذا قلَّما يقع لمثل أبي حاتم. والله أعلم.
وقد قال العقيلي في ترجمة "الضحَّاك": "وقد روي هذا عن أبي موسى موقوفًا، ولا يصحُّ مرفوعًا".
أمَّا معنى الحديث على فرض صحته؛ فقال ابن خزيمة (313/3143): "سألتُ المزنيَّ عن معنى هذا الحديث، فقال: يشبه أن يكون معناه، أي: ضيِّقت عنه جهنم، فلا يدخلُ جهنم، ولا يشبهُ أن يكون معناه غير هذا، لأن من ازداد لله عملا وطاعةً، ازداد عند الله رفعةً، وعليه كرامةً، وإليه قُرْبةً. هذا معنى جواب المزنيَّ". انتهى.
وقال البزار: "يحتمل معناه عندي والله أعلمُ أن تضيق عليه فلا يدخُلُها، جزاءً لصومه، ويحتمل أيضًا إذا صام الأيام التي نهى النبيُّ صلي الله عليه وسلم عن صومها، فتعمَّد مخالفة الرسول صلي الله عليه وسلم ، أن يكون ذلك عقوبةً، لمخالفة رسول الله صلي الله عليه وسلم ". انتهى.
ونقل الحافظ في "الفتح" (223/4) كلام ابن خزيمة، ثم قال: "ورجّح هذا التأويل جماعةٌ، منهم الغزاليُّ، فقالوا: له مناسبةٌ من جهة أن الصائم لمَّا ضيَّق على نفسه مسالك الشهوات بالصوم، ضيَّق الله عليه النار، فلا يبقى له فيها مكانٌ، لأنه ضيَّق طرقها بالعبادة، وتُعُقِّب: ليس كلُّ عمل صالحٍ إذا ازداد العبدُ منه، ازداد من الله تقرُّبًا، بل رُبَّ عمل صالحٍ إذا ازداد منه، ازداد بُعْدًا كالصلاة في الأوقات المكروهة، والأولى إجراء الحديث على ظاهره، وحمله على من فوَّت حقًا واجبًا بذلك، فإنهُ يتوجَّه إليه الوعيد، ولا يخالفُ القاعدة التي أشار إليها المزنيُّ" اه.
قُلْتُ: وهذا جوابٌ بديعٌ من الحافظ رحمه الله، وما أمرُ الخوارج عنك ببعيد، فقد اتفق كلُّ من نقل أخبارهم على أنهم كانوا من أعبد الناس، حتى كنت ترى سيما الصلاة في وجه الواحد منهم كرُكبة العنز، مع فرط تألُّههم، وتجافيهم عن الدنيا، ومع ذلك قال فيهم رسولُ الله صلي الله عليه وسلم : "يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرَّميَّةِ، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم؛ لأقتلنهم قتل عادٍ".
فقومٌ يقول عنهم رسولُ الله صلي الله عليه وسلم مثل هذا القول الشديد، لا يزدادون بعبادتهم إلا بُعْدًا، وصدق ابن مسعودٍ رضي الله عنه إذ قال: "اقتصادٌ في سنةٍ، خيرٌ من عمل كثيرٍ في بدعةٍ". أو كما قال.
وما أحسن ما رواه البيهقيُّ في "سننه" (466/2) من طريق أبي زرعة الرازي، ثنا أبو نعيمٍ، ثنا سفيان، عن أبي رباحٍ، عن سعيد بن المسيب؛ أنه رأى رجلا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، يكثر فيها الركوع والسجود، فنهاهُ. فقال: يا أبا محمد! يعذبُني اللهُ على الصلاة؟! قال: لا، ولكن يعذِّبُك على خلاف السنة.
وصحَّح إسناده شيخُنا أبو عبد الرحمن الألباني رحمه الله في "إرواء الغليل" (236/2).
قُلْتُ: ورجالُهُ ثقاتٌ أئمةٌ، لولا أن أبا رباح شيخ الثوري ما عرفتُهُ، ويحتمل أن يكون هو أبو رباح بن أبي الحكم بن حبيب الثقفي، ترجمه ابنُ أبي حاتم (371/2/4)، وابن حبان في "الثقات" (573/5) وقالا: "روى عنه عمر بن ذرّ".
ويحتمل أن يكون هو رباح بن أبي معروف المكيِّ، وتكونُ أداةُ الكنية مقحمةً، فإن الثوري يروي عنه، وهو قد روى عن جماعة من التابعين، منهم عبد الله بن أبي مليكة، وغيره، فروايتُهُ عن سعيد محتملة، ثم هو مختلفٌ فيه، وهو وسطٌ.
فإن يكنْهُ، فالإسناد صالحٌ، ومثلُ هذه الحكايات يتسامح فيها أهلُ العلمُ.
وحملُ الحديث على من فوَّت حقًا واجبًا أولى، فإنه يتوجه إليه الوعيد، كمن يترك التداوي لما في الصبر على المرض من الأجر، لكنه يضيّعُ الصلاة مثلا لعدم قدرته على احتمال الألم، فإن ترك التداوي وإن كان جائزًا لمن له قدرةٌ على الصبر، لكنه لا يجوز إذا فوّت المرءُ به ما أوجبه الله عليه. والله أعلمُ.
****************
يسأل القارئ: ح أ م ، فيقول: روى أبو داود في "سننه" حديث أبي أمامة أن النبي # قال: "الأذنان من الرأس" وقال كلامًا عقب الحديث، لم أفهم مراده منه. فما هو مراده؟ وهل الحديث صحيح أم لا؟
والجوابُ بحول الملك الوهاب : أنه حديث "ضعيف".
فأخرج أبو داود (134) قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حمادٌ. (ح) وحدثنا مسدَّدٌ وقتيبةُ، عن حماد بن زيدٍ، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، وذكر وضوء النبيِّ صلي الله عليه وسلم ، قال: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يمسح المأقين، قال: وقال: "الأذنان من الرأس" قال سليمان بن حرب: يقولها أبو أمامة. قال قتيبةُ: قال حمادٌ: لا أدري هو من قول النبي صلي الله عليه وسلم أو من أبي أمامة، يعني: قصة الأذنين. قال قتيبةُ: عن سنان أبي ربيعة. قال أبو داود: هو ابنُ ربيعة كنيتُهُ: أبو ربيعة" انتهى.
قُلْتُ: وأخرجه الترمذيُّ (37) قال: حدثنا قتيبةُ بنُ سعيدٍ. وابنُ ماجة (444)، والدارقطنيُّ (103/1) عن محمد بن زياد الزيادي. وأحمدُ في "مسنده"، وأبو عبيد في "كتاب الطهور" (88،359)، والطبرانيُّ في "الكبير" (ج/8 رقم 7554) عن عفان بن مسلم. وأحمد أيضًا (264/5، 278) قال: حدثنا يونس بن محمد المؤدِّبُ ويحىى بن إسحاق. والدارقطنيُّ (1-103)، والبيهقيُّ (66/671) عن سليمان بن حرب. والطحاوي في "شرح المعاني" (33/1) عن يحىى بن حسَّان. وابنُ عدي في "الكامل" (1277/3) عن أحمد بن عبدة. وابنُ جرير في "تفسيره" (11381 شاكر) عن حماد بن أسامة. والدارقطنيُّ (03/1) عن الهيثم بن جميل، وأبي عمر الضرير، ومحمد بن أبي بكر. والطبرانيُّ في "الكبير" (7554) عن عارم، وخالد بن خداش وأبي عمر الضرير. والبيهقيُّ (66/1) عن مسدَّد بن مسرهد وأبي الربيع الزهراني قالوا جميعًا: حدثنا حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة ورواه محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا حماد بن زيد بإسناده لكنه قال عن أبي أمامة أو عن أبي هريرة. هكذا على الشكِّ في صحابيِّ الحديث. أخرجه ابنُ جرير (11379). وكذلك شك مُعَلَّى بن منصور فروى هذا الحديث عن حماد بن زيد بسنده فقال: "عن أبي أمامة عن النبي صلي الله عليه وسلم أو عن أبي أمامة قال: الأذنان من الرأس".
أخرجه الدارقطنيُّ (103/1) عن محمد بن شاذان، نا مُعَلَّى بن منصور. ولكني وجدتُ أبا كريبٍ وهو محمد بن العلاء رواه عن مُعَلَّى بن منصور، عن حماد بن زيد كما رواه الجماعة. أخرجه ابنُ جرير (11380).
قُلْتُ: فقد رأيت أراك اللهُ الخير أن خمسة عشر راويًا فيهم جمعٌ من الحفاظ الأثبات رووا هذا الحديث عن حماد بن زيد بسنده فجزموا أن الحديث من "مسند أبي أمامة" وأنه مرفوعٌ إلى النبي صلي الله عليه وسلم . وخالفهم سليمان بن حرب فجزم بأن قوله: "الأذنان من الرأس" من كلام أبي أمامة رضي الله عنه. فنظر الدارقطنيُّ في هذا الاختلاف، فقال عقب تخريجه الحديث: "أسند هؤلاء عن حماد، وخالفهم سليمان بن حربٍ، وهو ثقةٌ حافظٌ".
فهذا يدلُّ على أنَّ الدارقطنيّ يرجح رواية سليمان بن حرب على رواية هؤلاء النفر، وفيهم من ذكرتُ من الحفاظ، وهذا يخالفُ القاعدة الكليَّة التي وضعها علماءُ الحديث في تعريف الشاذ، ولكن هذه القاعدة قد تتخلف أحيانًا لقرائن تكون عند الناقد، ولعل من القرائن التي اعتمد عليها الدارقطني في ترجيح رواية سليمان وحده أنه كان ذا خصوصيةٍ في حماد بن زيدٍ. فقد ذكر يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (170/1) عن سليمان بن حربٍ قال: "اختلفت إلى شعبة، فلما مات جالستُ حماد بن زيد ولزمته حتى مات، جالستْهُ تسع عشرة سنة". ومن القرائن أيضًا الأخذ بالأقل عند الاختلاف، والأقلُّ أن يكون موقوفًا لا مرفوعًا، إنما أقولُ هذا تخريجًا لصنيع الدارقطنيّ رحمه الله، وإلا فالصواب عندي هو تقديم رواية الجماعة على روايته وحده، لا سيما وقد نقل الترمذي عن شيخه قتيبة بن سعيد أنه قال: قال حمادٌ: لا أدري، هذا من قول النبيّ صلي الله عليه وسلم أو من قول أبي أمامة؟ فدلَّنا ذلك على أن الذي شك في رفعه أو في وقفه إنما هو حماد بن زيد فتلقَّاهُ عنه الجماعة مرفوعًا، وسليمانُ بن حربٍ موقوفًا، وإذ الأمرُ كذلك فلا داعي لنصب الخلاف بين الرواة عن حمادٍ، ولا داعي أيضًا لقول سليمان ابن حرب فيما ذكره البيهقيّ إذ قال: "الأذنان من الرأس إنما هو من قول أبي أمامة، فمن قال غير هذا، فقد بدَّل، أو كلمة قالها سليمانُ، أي: أخطأ" انتهى، لأنه من العسير أن يهم أو يخطئ هذا الجمع الغفير من الثقات، ويتواطئوا على التبديل.
فهذا هو مرادُ أبي داود من التعليق على هذا الحديث. والله أعلم.
أما الحكمُ على الحديث، فهو الضعفُ، وقد قال الترمذيُّ عقبهُ: "ليس إسنادُهُ بذاك القائم" وسنان بن ربيعة وشهر بن حوشب متكلمٌّ فيهما ولا يصحُّ في مسح المأقين حديث مرفوع. والمأق، ويقال أيضًا: الماق بلا همزٍ والموق: طرفُ العين الذي يلي الأنف.
وكذلك: "الأذنان من الرأس" قد رُوي مرفوعًا عن جماعةٍ من الصحابة ولا يصح منها شيئٌ كما جزم بذلك جماعةٌ من النقاد، والصوابُ أنه موقوف وقد استوفى شيخنا الألباني رحمه الله أحاديث هؤلاء الصحابة في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (رقم36) ورجح الرفع لإسنادٍ وجده في "المعجم الكبير" للطبرانيّ وقال: "وهذا سندٌ صحيحٌ، رجالُهُ كلهم ثقات ولا أعلمُ له علَّةً.." وصحح الحديث وحكى عن بعض العلماء القول بأنه متواتر ولكني وقفتُ على علَّته، فإذا هي المخالفة كما ذكرتُهُ في "نوح الهديل بكشف ما في سنن أبي داود من التذييل" والحمد لله.
**************
ويسألْ القارئ: م ع أ فيقول: هل ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "لا يتمنى أحدُكم الموت لضر أصابه أو نزل به". فإذا صحَّ فكيف دعا الإمام البخاري على نفسه بالموت مع ثبوت هذا الحديث؟
والجواب بحول الملك الوهاب:
أن هذا الحديث صحيحٌ.
وقد ثبت من حديث أنسٍ، وأبي هريرة، وخباب بن الأرت رضي الله عنهم، وله شواهد عن آخرين من الصحابة في أسانيدها مقالٌ.
أمَّا كيف دعا الإمام البخاريُّ على نفسه، فلا بد من معرفة القصة على وجهها فاعلم أيها المسترشد أنه ثارت في أيام الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فتنةٌ عمياء، وداهيةٌ دهياء، وفكرةٌ صلعاء، ألا وهي فتنةُ خلق القرآن ووقف لها جمعٌ من العلماء الربانيين وعلى رأسهم الإمامُ أحمد، حتى كسر الله عز وجل بهم شوكة الجهمية، فحوروا مرادهم بطريقة أخرى وهو أنهم قالوا: "لفظي بالقرآن مخلوق" و"اللَّفظ" كلمة مجملةٌ فقد يقصد بها الملفوظ وهو القرآن وقد يُقصد بها حركة اللسان فوقف الإمامُ أحمد ومحمد بن يحىى الذهلي مع جماعةٍ من أهل العلم لهذه البدعة الجديدة بالمرصاد، فلما أراد البخاريُّ رحمه الله أن يدخل نيسابور، قال عالمُها وفاضلُها محمد بن يحىى الذهلي أحدُ مشايخ البخاري : إن العبد الصالح محمد بن إسماعيل سيأتينا غدًا، فمن أراد أن يستقبله، فإني مستقبلُهُ فاستقبله الناس على ثلاثة فراسخ، ونثروا الحلوى على رؤوس الناس ابتهاجًا بمقدم هذا العبد الصالح، ونزل في دار البخاريين في نيسابور، ثم بدأ يعقد مجالس الإملاء.
وقال أبو أحمد بنُ عدي. ذكر لي جاعةٌ من المشايخ أنَّ محمد بن إسماعيل لمَّا ورد نيسابور اجتمع الناسُ عليه، حَسَدَهُ بعضُ من كان في ذلك الوقتِ من مشايخِ نيسابور لمّا رأوا إقبال الناسِ إليه، واجتماعهم عليه، فقال لأصحاب الحديث: إن محمد بن إسماعيل يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق، فامتحنوه في المجلس. فلما حضر الناسُ مجلسَ البخاري، قام إليه رجلٌ، فقال: يا أبا عبدِ الله، ما تقول في اللفظِ بالقرآن، مخلوقٌ هو أم غيرُ مخلوق؟ فأعرض عنه البخاريُّ ولم يُجِبْه. فقال الرجلُ: يا أبا عبد الله، فأعاد عليه القولَ، فأعرضَ عنه. ثم قال في الثالثة، فالتفَتَ إليه البخاريُّ، وقال: {القرآن كلام الله غير مخلوق وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة} فشغب الرجل وقال: قد قال لفظي بالقرآن مخلوق.
وذكر بعض أهل العلم أن هذا كان حسدًا من الذهلي على البخاري، وأنا أستبعد ذلك، فقد كان الذهلي من أفاضل أهل العلم وخيارهم، ولكن ما يُعابُ عليه أنه لم يتثبت من مقالة البخاري، فإن البخاري ما قال: لفظي بالقرآن مخلوق، إنما قال: أفعالُنا مخلوقة... ثم امتدت المحنة حتى خرج البخاريُّ من نيسابور، فاستقبلته محنةٌ أخرى عندما نزل بخارى. فقد قال بكر بن منير بن خليد بن عسكر: بعث الأمير خالد ابن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمد بن إسماعيل أن احملْ إليَّ كتاب "الجامع" و"التاريخ" وغيرهما لأسمع منك. فقال لرسوله: أنا لا أَذِلُّ العلمَ، ولا أَحْمِلُه إلى أبوابِ الناس. فإن كانت لكَ إلى شيءٍ منه حاجةٌ، فاحضُر في مسجدي، أو في داري. وإن لم يعجبْك هذا فإنك سلطانٌ، فامنعني من المجلس، ليكون لي عذرٌ عند الله يومَ القيامة، لأنّي لا أكتُم علم، لقول النبيِّ صلي الله عليه وسلم: "مَنْ سُئِل عَنْ عِلمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجامٍ مِنْ نارٍ" فكان سبب الوحشة بينهما هذا.
فلما وقع هذا للإمام خشي على دينه، قال ابنُ عدي: سمعتُ عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي يقول: جاء محمد بن إسماعيل إلى خَرْتَنْك وهي قريةٌ على فرسخين من سمرقند، وكان له بها أقرباء، فنزل عندهم، فسمعتُهُ ليلةً يدعو، وقد فرغ من صلاة الليل: اللهم إنه ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك، فما تمَّ الشهر حتى مات. وقد جعل جماعةُ العلماء حديث النهي عن تمني الموت خاصًا بالمصائب التي يبتلى العبدُ بها في الدنيا، أمَّا إذا خشى ذهاب دينه، فيشرع له أن يدعو بالموت، وقد عقد البخاري في "كتاب الفتن" (13-7574) بابًا لذلك. فقال: "باب: لا تقوم الساعة حتى يغبط أهلُ القبور". ثم روى فيه حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تقوم الساعة حتى يمرَّ الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانك". وهذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا. وقال ابنُ عبد البر: "ظنَّ بعضهم أن حديث أبي هريرة معارض للنهي عن تمني الموت، وليس كذلك، إنما في حديث أبي هريرة أن هذا القدر سيكون لشدةٍ تنزلُ بالناس من فساد الحال في الدين، أو ضعفه، أو خوف ذهابه، لا لضرر ينزل بالجسم، كما قال الحافظ، وكذلك أجاب القرطبيُّ وغيرُهُ. وقد أثر عن جماعة من السلف أنهم تمنوا الموت خوف الفتنة في الدين، وأنا أذكر ما يحضرني من ذلك. وقد ورد هذا المعنى في حديث ابن عباس مرفوعًا: "... وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" أخرجه أحمد (1-368)، والترمذيُّ (3233) وصححه الألباني في (صحيح الترغيب 405، 451) وصحيح الجامع (59)، وعبد الرزاق في "تفسيره" (2-169)، وعبد بن حميد في "المنتخب" (682)، وابن خزيمة في "التوحيد" (ص218217) عن أبي قلابة، عن ابن عباسٍ، ولكنه لا يصح لاضطرابه، ولانقطاعٍ في سنده. وإنما نبهتُ على ذلك لأن بعض العلماء كابن كثيرٍ رحمه احتج به على هذا المعنى، وهو رائقٌ لو صحَّ الحديث.
أما الآثار عن السلف رحمهم الله، فمنها:
1 ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4-518) من طريق بشر بن بكر حدثني الأوزاعي عن يحىى بن أبي كثير، حدثني أبو سلمة قال: عدتُ أبا هريرة، فسندتُهُ إلى صدري ثم قلتُ: اللهم اشف أبا هريرة. فقال: "اللهم لا ترجعها" ثم قال: إن استطعت يا أبا سلمة أن تموت فمُتْ. فقلت: يا أبا هريرة إنا لنحب الحياة. فقال: والذي نفسُ أبي هريرة بيده، ليأتين على العلماء زمانٌ الموت أحبُّ إلى أحدهم من الذهب الأحمر، ليأتين أحدُكم قبر أخيه فيقول: ليتني مكانه. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1-384) من طريق عبيد الله بن عمر، ثنا حماد بن زيد، ثنا أيوب، عن يحىى بن أبي كثيرٍ بهذا باختصارٍ.
قال الحاكم: "صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". والصوابُ أنه على شرط البخاري، وبشر بن بكر لم يخرج له مسلمٌ شيئًا.
2 وما أخرجه أبو العباس الأصم في "الثاني من حديثه" (ق 169-1702-1) قال: أخبرنا العباس بن الوليد بن مزيد، أخبرني أبي، حدثني ابنُ جابرٍ، عن عمير بن هانئ، أنه حدثه قال: كان أبو هريرة يمشي في سوق المدينة وهو يقول: اللهُمَّ لا تدركني سنة الستين، اللَّهُمَّ لا تدركني إمارة الصبيان".
وأخرجه أبو زرعة الدمشقي في "تاريخه" (234) قال: أخبرنا أبو مُسهرٍ، قال: حدثني صدقةُ بنُ خالدٍ، عن ابن جابرٍ، عن عمير بن هانئ، قال: كان أبو هريرة يقول: تشبثوا بصُدغي معاوية! اللَّهُمَّ لا تدركني سنة ستين! ثم أخرجه أبو زرعة (235) من طريق الوليد بن مسلم عن ابن جابرٍ بهذا الإسناد.
ثم زاد: "فتوفي أبو هريرة فيها أو قبلها بسنةٍ".
وأخرج الطبرانيُّ في "الأوسط" (1397) قال: حدثنا أحمد هو: ابن محمد بن صدقة قال: حدثنا محمد بن معمر البَحْراني، قال حدثنا رَوْح بن عُبَادَةَ، قال حدثنا حماد بن سَلَمَةَ، عن علي بن زيد، عن أبي حازم.
عن أبي هريرة أنه قال: "في كيسي هذا حديث، لو حَدَّثْتُكُمُوْهُ لَرَجَمْتُمُوْني، ثم قال: اللهمَّ لا أَبْلُغَنَّ رأسَ السِّتِّيْنَ. قالوا: وما رأسُ الستينَ؟ قال: إِمارةُ الصبيانِ، وبَيْعُ الحُكْم، وكَثْرَةُ الشُّرَطِ، والشهادةُ بالمعرفةِ، ويَتَّخِذُونَ الأمانةَ غَنِيْمَةً، والصّدقةَ مَغْرَمًا، ونَشْوٌ يتَّخذونَ القرآنَ مَزَامِيْرَ، قال حماد: وأظنَّهُ قال: والتهاونُ بالدَّمِ".
قال الطبرانيُّ: "لم يرو هذا الحديث عن علي بن زيد، إلا حمادٌ، تفرَّد به روح بنُ عبادة". وسندُهُ حسنٌ في المتابعات، وعلي بن زيد ضعيفُ ولكن رواية حماد بن سلمة عنه أمثل من رواية غيره عنه كما قال أبو حاتم الرازي، قال الحافظ في "الفتح" (1-216): "يشيرُ يعني: أبا هريرة إلى خلافة يزيد بن معاوية، لأنها كانت سنة ستين من الهجرة".
وكأنه لأجل هذا ومثله كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: "حفظت من رسول الله صلي الله عليه وسلم وعاءين: فأمَّا أحدُهما فبثثته، وأمَّا الآخر، فلو بثثتهُ قُطع هذا البلعوم". أخرجه البخاريُّ (1-216) من طريق عبد الحميد بن أبي أويس، والبزار في "مسنده" (ج2-ق177-2) من طريق بهلول بن مورق. وابنُ عدي في "الكامل" (1-33) من طريق ابن أبي فديك قالوا: ثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة.
وأخرجه البزار في "مسنده" (ج2-ق229-2) قال: حدثنا الوليد بن عمرو بن سكين، نا كثير بن هاشم، حدثنا جعفر بن بُرقان، عن يزيد الأصم، عن أبي هريرة قال: عندي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم جرابان، قد حدثتكم بأحدهما، ولو حدثتكم بالآخر لفعلتم بي وفعلتم.
وهناك آثار أخرى عن جمع من الصحابة فيها الحسنُ الثابت والضعيف ذكرها نعيم بن حماد في "الفتن" (1-7771)، وأبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن" (181178)، والحاكم (4-486).
رأيت أن لا أطيل الأمر بذكرها. والله نسأل أن يقبضنا على التوحيد الخالص إنَّه جوادٌ كريم.
والحمد لله رب العالمين
***************
يسأل القارئ أ ح م فيقول: سمعتُ بعض مشايخ الحديث يقول عن حديث: أن رجلا لُدغ فشكا ذلك إلى النبي # فقال: "أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضرك". فقال هذا الشيخ إن هذا الحديث ضعيفٌ لاضطرابه، مع أنني بحثت عنه فوجدتُهُ في "صحيح مسلم" فما قولكم في ذلك؟
والجواب بحول الملك الوهاب:
أن هذا الحديث صحيحٌ لا شك فيه، ولكن وقع في إسناده اختلافٌ، فلربما رآه ذلك الشيخ مؤثرًا، وقصد وجهًا واحدًا من الاختلاف، ومع ذلك فلا يُحكم على الحديث بالاضطراب إلا إذا تعذر الترجيح، وتساقطت كلُّ الوجوه جميعًا، أمَّا إذا رجحنا وجهًا على آخر، فيُنفى الاضطراب، ويُحكم للوجه الراجح علي ما سواه. فهذه هي القاعدةُ الكلية للحديث المضطرب. أمَّا الحديثُ: فأخرجه النسائيُّ في "اليوم والليلة" (596)، والطحاويُّ في "المشكل" (28) عن أسد بن موسى وأحمد في "المسند" (448/3 و430/5)، والطحاويُّ في "المشكل" (25) عن وهب بن جرير. وأبو يعلي الخليلي في "الفوائد" (ق21128) ومن طريقه الرافعي في "أخبار قزوين" (192/2) عن سلْم بن سلام ثلاثتهم عن شعبة بن الحجاج، عن سهيل بن أبي صالح وأخيه هو صالح ابني أبي صالحٍ، عن أبيهما، عن رجلٍ من أسلم أنه لُدغ، فشكا ذلك... الحديث. وقد توبع شعبةُ. فأخرجه أبو داود(3898)، والنسائيُّ(594)، والطحاويُّ(26) عن زهير بن معاوية، والنسائيُّ أيضًا (593،596) والطحاويُّ (24،29) عن وهيب بن خالد وسفيان بن عيينة. والطحاويُّ أيضًا(27) عن أبي عوانة. وعبد الرزاق في "المصنف" (19834) عن معمر بن راشد. والنسائيُّ (592)، والطحاويُّ (33)، والبيهقيُّ في "الدعوات الكبير" (36) عن سفيان الثوري كلهم عن سهيل بن أبي صالح بهذا الإسناد. وقد اختلف على سهيل في إسناده. فرواه الثوريُّ، وشعبة، ومعمر بن راشد، وأبو عوانة وسفيان بن عيينة، ووهيب بن خالد وزهير بن معاوية وكلهم من الثقات الأثبات عن سهيل فجعلوه من "مسند رجلٍ من أسلم" وخالفهم مالك فرواه عن سهيل بن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رجلا من أسلم، قال: ما نمتُ هذه الليلة، لدغتني عقربٌ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : "أما لو قلت حين أمسيت: أعوذُ بكلمات الله التامات من شرِّ ما خلق، لم يضرك إن شاء الله.." فجعله من "مسند أبي هريرة".
أخرجه أحمد (375/2) قال: حدثنا إسحاق هو ابن عيسى ، والبخاريُّ في "خلق أفعال العباد" (445) قال: حدثنا عبد الله بن يوسف وعبد الله بن مسلمة القعنبي والنسائيّ في "اليوم والليلة" (589)، قال: أخبرنا قتيبة بن سعيد. والطحاويُّ في "المشكل" (16) عن عبد الله بن وهب، وابنُ حبان (1021) عن أحمد بن أبي بكر والبيهقيُّ في "الأسماء" (365) عن يحىى بن بكير، قالوا: ثنا مالك، وهو في "الموطأ" (11/951/2) عن سهيل بن أبي صالح بهذا. ولم يقع لفظُ المشيئة عند أحمد.
وزاد النسائيّ بعدها: "شيءٌ". وأفاد ابنُ عبد البر في "التمهيد" (241/21) أن ابن وهبٍ رواه عن مالكٍ بإسناده، إلا أنه لم يذكر المشيئة في آخره. وقد رواه الطحاوي عن ابن وهبٍ فذكرها والحمد لله.
وأخرجه أبو داود (3898) عن زهير بن معاوية. وابنُ ماجة (3518)، والبخاريُّ في "خلق الأفعال" (446)، والنسائيُّ في "العمل" (591)، وأبو يعلى (6688)، وابنُ حبان (1036)، والطحاويُّ (21)، وابن حبان (1022) عن جرير بن حازم. والنسائيُّ (590)، وأحمد (290/2)، والطحاويُّ (20) عن هشام بن حسَّان والبخاريُّ (448،449)، وابنُ عبد البر في "التمهيد" (241/21) عن سعيد بن عبد الرحمن الجُمحي. والنسائيُّ (588)، والطحاويُّ (19) عن حماد بن زيدٍ. والطحاوي أيضًا عن الثوري وروح بن القاسم. والطبرانيُّ في "الأوسط" (523) عن إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر كلهم عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة فذكره.
قُلْتُ: فقد رأيت أراك الله الخير أن جمعًا من الثقات رووه عن سهيل فجعلوه من "مسند أبي هريرة" فيحتمل أن يكون الوجهان جميعًا صحيحين ويقعُ لي أن الحديث من "مسند أبي هريرة" ، وهذا أولى أن يكون محفوظًا، لأن سهيلا كانت قد أصابته علَّةٌ، فنسى بعض حديثه فلعلَّه اضطرب في إسناد هذا الحديث ولم يُحكمْهُ. وقد رجَّح الطحاويُّ ذلك فقال في "المشكل": "ولما وجدنا من رواية القعقاع عن أبي صالح، عن أبي هريرة لا عن رجلٍ من أسلم، قوي في قلوبنا أن أصل الحديث عن أبي صالح، عن أبي هريرة". انتهى. وحديثُ القعقاع بن حكيمٍ هذا: أخرجه مسلم في "الذكر والدعاء" (2081/4) قال: حدثنا هارون بن معروف وأبو الطاهر. وابنُ خزيمة في "التوحيد" (399/1،401)، والطحاويُّ في "المشكل" (31) قالا: ثنا بحر بن نصر الخولاني، والطحاويُّ أيضًا (30) قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى. وابنُ حبان (1020) عن حرملة بن يحىى قالوا: ثنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث، أن يزيد بن أبي حبيب والحارث بن يعقوب حدثاه عن يعقوب بن عبد الله الأشج قال: قال القعقاع بن حكيم، عن ذكوان أبي صالحٍ، عن أبي هريرة.. فذكر مثله وقد رواه الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب على وجه اخر ذكرتُهُ في "تنبيه الهاجد إلى ما وقع من النظر في هذا الحديث، وقد تبيَّن بحمد الله تعالى أن الاضطراب منتفٍ عنه بالترجيح الذي ذكرناه، وليس ببعيدٍ تصحيحُ الوجهين جميعًا كما تقدَّم لا سيما وقد رواه الثوري وزهير بن معاوية عن سهيلٍ بالإسنادين جميعًا. والله سبحانه وتعالى أعلمُ.
*******************
ويسأل القارئ: إ ح ع محافظة كفر الشيخ عن صحة حديث "لا يتم بعد احتلام".
والجواب بحول الملك الوهاب:
أما الحديث: فهو حديث "حسن" موقوفًا.
وقد ورد من حديث علي بن أبي طالبٍ، وجابر بن عبد الله، وأنس، وحنظلة بن حذيم رضي الله عنهم.
أولا: حديثُ علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه. وله عنه طرقٌ.
1 عبد الله بن أبي أحمد، عنه.
أخرجه أبو داود (2873)، والطحاويُّ في "المشكل" (280/1) قال: حدثنا عمر بن عبد العزيز بن عمران بن أيوب بن مقلاص الخزاعي. والطبرانيُّ في "الأوسط" (290) قال: حدثنا أحمد بن رشدين. وفي "الصغير" (266) قال: حدثنا إسماعيل بن الحسن الخفَّاف المصريُّ، قالوا: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا يحىى بن محمد المديني، حدثنا عبد الله بن خالد بن سعيد بن أبي مريم، عن أبيه، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يزيد بن رقيش، أنه سمع شيوخًا من بني عمرو بن عوف، ومن خاله عبد الله بن أبي أحمد، قال: قال علي بن أبي طالب: حفظتُ عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ، قال: "لا يُتم بعد احتلام، ولا صُمات يوم إلى الليل". لفظُ أبي داود. وزاد الآخران: "ولا طلاق إلا من بعد نكاحٍ، ولا عتاق إلا من بعد ملكٍ، ولا وفاء لنذر في معصيةٍ، ولا وصال في الصيام". ووقع عند الطحاوي: "...ابن رقيش، عن عمومةٍ له من بني عمرو بن عوف". وهذا القدر من الإسناد لم يقع عند الطبرانيِّ.
قال الطبرانيُّ في "الأوسط": "لا يروى هذا الحديث عن عبد الله بن أبي أحمد إلا بهذا الإسناد، تفرَّد به: أحمد بن صالح". وقال في "الصغير": "لا نحفظ لعبد الله بن أبي أحمد حديثًا مسندًا غير هذا". انتهى. وهذا إسنادٌ ضعيفٌ. ويحىى بن محمد هو ابن عبد الله الجاري وثقه يحىى الزِّمِّي، والعجليُّ، وابن حبان في "الثقات" (255/9) وقال: "يغربُ". وقال ابن عدي: "ليس به بأس". لكن قال البخاريُّ: "يتكلمون فيه" وذكره ابنُ حبان في "المجروحين" (130/3) وقال: "كان ممن ينفرد بأشياء لا يتابع عليها على قلة روايته، كأنه كان يهم كثيرًا، فمن هنا وقع المناكير في روايته، يجب التنكُّب عما انفرد به من الروايات، وإن احتج به محتجٌّ فيما وافق الثقات، لم أر به بأسًا". انتهى ولا أعلمُ أحدًا تابعه على هذه الرواية.
وعبد الله بن خالد وأبوه لا يُعرفان. والله أعلمُ.
2 النزال بن سبرة، عن علي بن أبي طالبٍ مرفوعًا: "لا رضاع بعد الفصال، ولا وصال، ولا يُتم بعد الحلم، ولا صمت يوم إلى الليل، ولا طلاق قبل النكاح" أخرجه ابنُ عدي في "الكامل" (545/2)، والبيهقيُّ (461/7) عن عبد الرزاق، وهذا في "المصنَّف" (11450/416/6) عن معمر بن راشد، عن جويبر بن سعيد، عن الضحَّاك بن مزاحم، عن النزال بن سبرة، عن عليٍّ بهذا. وعند عبد الرزاق: "فقال له الثوريُّ: يا أبا عروة هي كنيةُ مَعْمرٍ إنما هو عن عليّ موقوفٌ. فأبى عليه مَعْمر إلا عن النبي صلي الله عليه وسلم ". وعند البيهقيّ: "قال سفيان لمعمر: إنّ جويبرًا حدثنا بهذا الحديث ولم يرفعه. قال مَعْمرٌ: وحدثنا به مرارًا ورفعه".
وقد توبع معمر على رفعه. تابعه سفيان الثوري، فرواه عن جويبر بهذا الإسناد أخرجه الدارقطنيُّ في "العلل" (142/4)، والثقفيُّ في "الثقفيات" (2/9/3) من طريق أيوب بن سويد، عن الثوري بهذا. وهذا منكرٌ عن الثوري لأمرين:
الأول: أن الثوري أنكر على معمر بن راشد رفعه لما تقدَّم، وقال: إنه موقوفٌ.
الثاني: أن أيوب بن سويد ضعيفٌ، وقد خالفه محمد بن كثير، وهو أوثق منه بطبقات، فرواه عن الثوري فوقفه. ورجح الدارقطنيُّ وقفه وقال: "هو المحفوظُ" ومما يؤيد وقفه أن هشيم بن بشير رواه عن جويبر، عن الضحاك، قال: أخبرني النزال بن سبرة، قال: سمعتُ عليًّا يقول: فذكره موقوفًا أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (1030) قال: نا هشيمٌ.
وكذلك رواه حماد بن زيد، وإسحاق بن الربيع عن جويبر بهذا موقوفًا. ذكر ذلك الدارقطنيُّ أيضًا. وترجيح الموقوف على المرفوع نظريٌّ.
انتهت الموسوعة
وقريبا إن شاء الله الموسوعة الثانية
مع تحيات
مجلة الايمان الإسلامية
www.al-eman.50megs.com
www.alheweny.malware-site.www
فضيلة الشيخ أبو إسحاق الحويني
جمع
مجلة الإيمان الإسلامية
www.al-eman.50megs.com
يسأل القارئ: م. أ . دقهلية عن هذه الأحاديث.
1 يكون عليكم أمراء من بعدي يؤخرون الصلاة، فهي لكم وهي عليهم، فصلوا معهم ما صلوا إلى القبلة.
2 من محمد رسول الله إلى بكر بن وائل، أسلموا تسلموا.
3 من كذَّب بالقدر أو خاصم فيه، فقد كفر بما جئتُ به.
والجوابُ بحول الملك الوهاب:
أمَّا الحديث الأول: "يكون عليكم أمراء..." فهو حديث "ضعيف" أخرجه أبو داود (434)، وابن سعد في "الطبقات" (56/7)، وابنُ قانع في "معجم الصحابة" (343/2) قال: حدثنا محمد بن عيسى بن السكن، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (ص2334) عن أبي مسلم الكشي ويحيى بن مطرف قال أربعتهُم: ثنا أبو الوليد الطيالسيُّ، ثنا أبو هاشم الزعفراني، ثنا صالح بن عبيد، عن قبيصة بن وقاص مرفوعًا.
وأخرجه البخاريُّ في "التاريخ الكبير" (173/1/4) قال: قال أبو الوليد هشام بن عبد الملك هو الطيالسيُّ بهذا الإسناد. ثمَّ أخرجه عن روح بن عبادة قال: نا عمار بهذا الإسناد.
قُلْتُ: وهذا إسنادٌ ضعيفٌ. وصالح بن عبيد وثقه ابن حبان، ولكن قال ابنُ القطان: "لا نعرف حاله أصلا" ولم يتابعه أحدٌ وقفت عليه وأبو هاشم الزعفراني، هو عمار بن عمارة وثَقه ابنُ معين، وابنُ حبان ونقل الفسوي توثيقه في "المعرفة" (669/2). وقال أبو حاتم: "صالح، ما أرى بحديثه بأسًا". وقال البخاريُّ: "فيه نظرٌ".
أمَّا الحديث الثاني: "من محمد رسول الله..." فهو محتملٌ للتحسين أخرجه أبو يعلى (2947)، والبزار (1670)، وابنُ حبان (ج14 - رقم6558)، والطبرانيُّ في "الصغير" (307) قال: حدثنا بكر بن أحمد بن سعيد الطاحن. وأبو محمد الجوهري في "حديث أبي الفضل الزهري" (ج/3ق1/64) قال: حدثنا أبو عمر عبيد الله بن عثمان بن عبد الله العثماني وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1629) قالوا: ثنا نصر بن عليٍّ، ثنا نوح بن قيس، عن أخيه خالد بن قيس، عن قتادة، عن أنسٍ أن النبيَّ صلي الله عليه وسلم كتب إلى بكر بن وائل: "من محمد رسول الله إلى بكر بن وائل: أسلموا تسلموا" قال: فما وجدوا من يقرؤهُ لهم إلا رجلا من بني ضُبيعة، فهم يسمون: بني الكاتب.
قال البزار: "لا نعلمه بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد". وقال الطبرانيُّ: "لم يروه عن قتادة، إلا خالد بن قيس" وخالد ونوح كلاهما صدوق وقال الهيثميّى في "المجمع" (305/5): "رواه أبو يعلي والبزار والطبرانيُّ في الصغير.
قُلْتُ: وخالد بن قيس وثقه ابنُ معين، والعجليُّ، وابن حبان. وقال ابن المديني: "ليس به بأس" لكن قال الأزديُّ: "روى عن قتادة مناكير". وهذا من روايته عنه، وقد خالفه شيبان بن عبد الرحمن وهو أوثقُ منه، فرواه عن قتادة، عن مضارب بن حزن العجليِّ، عن مرثد بن ظبيان، قال: جاءنا كتابٌ من رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فما وجدنا له كاتبًا يقرؤهُ، حتى قرأهُ رجل من بني ضُبيعة: "من رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى بكر بن وائل: اسلموا تسلموا".
أخرجه أحمد (68/5)، ومن طريقه ابنُ الأثير في "أسد الغابة" (136/5) قال: حدثنا يونس بن محمد المؤدب وحسين بن محمد بن بهرام، قالا: ثنا شيبان بهذا ورواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن رجل من بني سدوس قال: كتب رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى بكر بن وائل... قال قتادة: فما وجدوا رجلا يقرؤه... الخ، أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (281/1) قال: حدثنا علي بن محمد القرشي، عن سعيد ابن أبي عروبة به. وابن أبي عروبة من الأثبات في قتادة، لكن الراوي عنه: علي بن محمد بن أبي الخصيب القرشي، أحد شيوخ ابن ماجة ذكره ابن حبان في "الثقات" (475/8) وقال: "ربما أخطأ" وقال ابنُ أبي حاتم: "محلُّه الصدق"، وسعيد بن أبي عروبة كان اختلط، والقرشي ليس من قدماء أصحابه، نعم وجدتُ له متابعًا، فرواه عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قال: لقد حدَّث مرثد بن ظبيان أحد بني سدوس رضي الله عنه فذكره كله ولم يجعل شيئًا من المتن من قول قتادة. أخرجه ابنُ أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1658) قال: حدثنا يوسف بن حمادٍ، ثنا عبد الأعلى بهذا. وعبد الأعلى من قدماء أصحاب سعيد، ولكن أرجح الأقوال عندي هو قول شيبان بن عبد الرحمن. وإسنادُهُ صالحٌ. ومضارب بن حزن وثقه ابنُ حبان والعجليُّ، وروى عنه جماعة. والله أعلمُ.
أمَّا الحديث الثالث: "من كذَّب بالقدر..." فهو حديثٌ منكرٌ.
أخرجه ابنُ عدي في "الكامل" (455/3)، وأبو محمد الجوهري في "حديث أبي الفضل الزهري" (ج/3ق2/65) قالا: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز هو أبو القاسم البغويُّ ، قال: حدثني أبو الجهم العلاء بن موسى؛ وهذا في "جزئه" (89) قال: حدثنا سوَّار بن مصعبٍ، عن كليب بن وائل، قال: سمعتُ ابن عمر يقول: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم فذكره.
وهذا إسنادٌ ضعيفٌ جدًا، وسوار بن مصعب واهٍ، لا سيما وقد قال ابنُ عدي: "وهذا عن كليب، يرويه سوَّار بن مصعب" وهذا يعني أنه تفرّد به. وقد تابعه سوَّار بنُ عبد الله بن قدامة العنبريُّ قاضي البصرة فرواه عن كليب بهذا أخرجه العقيليُّ (170/2) وقال: "قد رُوي في الإيمان بالقدر أحاديث صحاحٌ، وأمَّا هذا اللَّفظ، فلا يحفظ إلا عن هذا الشيخ". وقد قال الحافظ ابنُ حجر في "لسان الميزان" (127/3) معلِّقًا على رواية العقيلي: "لعلَّه وقع في الرواية غير منسوب ونسبهُ بعضُهم فأخطأ، وإلا فهذا الحديث رويناه في جزء أبي الجهم عن سوَّار بن مصعبٍ، عن كليبٍ" انتهى. وعندي أن هذا ليس بكافٍ في دعوى التخطئة. مع سقوط الحديث، والله أعلمُ.
*******************
ويسأل القارئ م ي أ عن صحة هذا الحديث وعن معناه: "من صام الدهر، ضُيِّقت عليه جهنم هكذا". وعقد تسعين.
والجواب بحول الملك الوهاب: أنه لا يصحُّ مرفوعًا، وثبت وقفهُ. فأخرجه النسائيّ في "المحاربة" كما في "أطراف المزى" (181/6) ، وابنُ خزيمة (2154،2155)، وابن جرير في "تهذيب الآثار" (485 مسند عمر)، والبزار (3062 البحر) من طرقٍ عن محمد بن أبي عدي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي تميمة وهو طريف بن مجالد ، عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا به.
قال ابن خزيمة: "لم يُسند هذا الخبر عن قتادة غير ابن أبي عدي، عن سعيد" وقال البزار: "وهذا الحديث قد رواه غيرُ واحدٍ، عن قتادة، عن أبي تميمة، عن أبي موسى موقوفًا، وأسنده ابنُ أبي عدي، عن ابن أبي عروبة".
قُلْتُ: كذا قالا، ولم يتفرّدْ محمد بن إبراهيم بن أبي عدي بوصله، فتابعه عبد الأعلى بن عبد الأعلى، قال: نا سعيد بن أبي عروبة بهذا الإسناد سواء.
أخرجه الرُّوياني في "مسنده" (561) قال: أخبرنا محمد بن بشار، نا ابنُ أبي عدي وعبد الأعلى، قالا: نا سعيد بن أبي عروبة بهذا وقد توبع ابن أبي عروبة على رفعه.
تابعه شعبة بن الحجاج، فرواه عن قتادة بهذا الإسناد.
أخرجه ابنُ جرير في "تهذيب الآثار" (486 مسند عمر) قال: حدثنا ابنُ بشارٍ، وابنُ المثنَّى، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة. وقد روى ابنُ جرير قبله حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بهذا مرفوعًا ثم أردفه بحديث شعبة ثم قال: "بنحوه". وهذا يقتضي أن حديث شعبة مرفوعٌ. وقد رواه غيرُ محمد بن جعفر عن شعبة موقوفًا.
فأخرجه أحمد (412/4)، وابنُ أبي شيبة (78/3) قالا: حدثنا وكيعٌ. والطيالسيُّ (513)، ومن طريقه ابن جرير (488) والبيهقيُّ (300/4) قالا: ثنا شعبة، عن قتادة به موقوفًا.
وفي "مسند الطيالسيّ": "لم يرفعْه شعبةُ، ورفعه سعيدٌ". ووقفُهُ عن شعْبة أشهر. وهو أصحُّ في حديث قتادة.
فقد رواه أيضًا همامُ بن يحىى، عن قتادة بهذا الإسناد موقوفًا.
أخرجه عبد بن حميد في "المنتخب" (563) قال: حدثني مسلم بن إبراهيم، ثنا همامٌ بهذا.
وتابعه أيضًا هشام بن أبي عبد الله الدستوائيُّ، عن قتادة مثله موقوفًا أخرجه ابنُ جرير في "التهذيب" (487،489) من طريق معاذ بن هشام وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، قالا: ثنا هشام الدستوائي به.
فقد رأيت أراك اللهُ الخير أن شعبة على اختلافٍ عنه، وهشامًا الدستوائيّ، وهمام بن يحىى رووا هذا الحديث عن قتادة موقوفًا وتأيدت رواية قتادة الموقوفة، بمتابعة سفيان الثوري، فقد رواه عن أبي تميمة، عن أبي موسى رضي الله عنه موقوفًا.
أخرجه عبدُ الرزَّاق في "المصنّف" (ج/4رقم7866).
ورواه عقبة بن عبد الله الأصمُّ وهو ضعيفٌ، عن أبي تميمة، عن أبي موسى موقوفًا.
أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" (ص197). قال: حدثني حوثرة بن أشرس بن عون العدوي، قال: أخبرني عقبة بن عبد الله بهذا.
أمَّا روايةُ الرفع، فتابع ابن أبي عروبة عليها أبان بن أبي عيَّاش. أخرجه عبد بن حميد في "المنتخب" (564) قال: حدثني مسلم بن إبراهيم قال: ثنا أبان بن أبي عياش، عن أبي تميمة، عن أبي موسى مرفوعًا. قال همامٌ، فقلتُ له: فإن قتادة لم يرفعْهُ، فقال أبانُ: أخبرني في بيتي مرفوعًا.
وإسنادهُ ساقطٌ، وأبانُ تالفٌ، ولكن تابعه الضحَّاك بن يسار أبو العلاء البصريُّ، أنه سمع أبا تميمة يحدِّثُ به عن أبي موسى مرفوعًا أخرجه أحمد (412/4) قال: حدثنا وكيعٌ. والبزار (3063 البحر)، والبيهقيُّ في "السنن الكبير" (300/4)، وفي "السنن الصغير" (1415) عن الطيالسيِّ وهذا في "مسنده" (514)، وابنُ حبان (3584)، والطبرانيُّ في "الأوسط" (2562) عن حفص بن عمر. والعقيليُّ في "الضعفاء" (2-219)، والبيهقي فى "الكبير" (4-300)، وفى "الشعب" (3891) عن أبي الوليد الطيالسيّ قالوا: ثنا الضحاك بن يشار بهذا الإسناد. وإسنادُهُ ضعيفٌ.
والضحاك؛ ضعّفه ابن معين، وأبو داود، والساجي، والعقيليَّ، وابنُ الجارود. ومع تضعيف هؤلاء النقاد له، قال ابنُ عدي: "لا أعرفُ له إلا الشيء اليسير" فهذا مما يقوي ضعفَهُ، خلافًا لأبي حاتمٍ، فإنه قال: "لا بأس به". وهذا قلَّما يقع لمثل أبي حاتم. والله أعلم.
وقد قال العقيلي في ترجمة "الضحَّاك": "وقد روي هذا عن أبي موسى موقوفًا، ولا يصحُّ مرفوعًا".
أمَّا معنى الحديث على فرض صحته؛ فقال ابن خزيمة (313/3143): "سألتُ المزنيَّ عن معنى هذا الحديث، فقال: يشبه أن يكون معناه، أي: ضيِّقت عنه جهنم، فلا يدخلُ جهنم، ولا يشبهُ أن يكون معناه غير هذا، لأن من ازداد لله عملا وطاعةً، ازداد عند الله رفعةً، وعليه كرامةً، وإليه قُرْبةً. هذا معنى جواب المزنيَّ". انتهى.
وقال البزار: "يحتمل معناه عندي والله أعلمُ أن تضيق عليه فلا يدخُلُها، جزاءً لصومه، ويحتمل أيضًا إذا صام الأيام التي نهى النبيُّ صلي الله عليه وسلم عن صومها، فتعمَّد مخالفة الرسول صلي الله عليه وسلم ، أن يكون ذلك عقوبةً، لمخالفة رسول الله صلي الله عليه وسلم ". انتهى.
ونقل الحافظ في "الفتح" (223/4) كلام ابن خزيمة، ثم قال: "ورجّح هذا التأويل جماعةٌ، منهم الغزاليُّ، فقالوا: له مناسبةٌ من جهة أن الصائم لمَّا ضيَّق على نفسه مسالك الشهوات بالصوم، ضيَّق الله عليه النار، فلا يبقى له فيها مكانٌ، لأنه ضيَّق طرقها بالعبادة، وتُعُقِّب: ليس كلُّ عمل صالحٍ إذا ازداد العبدُ منه، ازداد من الله تقرُّبًا، بل رُبَّ عمل صالحٍ إذا ازداد منه، ازداد بُعْدًا كالصلاة في الأوقات المكروهة، والأولى إجراء الحديث على ظاهره، وحمله على من فوَّت حقًا واجبًا بذلك، فإنهُ يتوجَّه إليه الوعيد، ولا يخالفُ القاعدة التي أشار إليها المزنيُّ" اه.
قُلْتُ: وهذا جوابٌ بديعٌ من الحافظ رحمه الله، وما أمرُ الخوارج عنك ببعيد، فقد اتفق كلُّ من نقل أخبارهم على أنهم كانوا من أعبد الناس، حتى كنت ترى سيما الصلاة في وجه الواحد منهم كرُكبة العنز، مع فرط تألُّههم، وتجافيهم عن الدنيا، ومع ذلك قال فيهم رسولُ الله صلي الله عليه وسلم : "يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرَّميَّةِ، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم؛ لأقتلنهم قتل عادٍ".
فقومٌ يقول عنهم رسولُ الله صلي الله عليه وسلم مثل هذا القول الشديد، لا يزدادون بعبادتهم إلا بُعْدًا، وصدق ابن مسعودٍ رضي الله عنه إذ قال: "اقتصادٌ في سنةٍ، خيرٌ من عمل كثيرٍ في بدعةٍ". أو كما قال.
وما أحسن ما رواه البيهقيُّ في "سننه" (466/2) من طريق أبي زرعة الرازي، ثنا أبو نعيمٍ، ثنا سفيان، عن أبي رباحٍ، عن سعيد بن المسيب؛ أنه رأى رجلا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، يكثر فيها الركوع والسجود، فنهاهُ. فقال: يا أبا محمد! يعذبُني اللهُ على الصلاة؟! قال: لا، ولكن يعذِّبُك على خلاف السنة.
وصحَّح إسناده شيخُنا أبو عبد الرحمن الألباني رحمه الله في "إرواء الغليل" (236/2).
قُلْتُ: ورجالُهُ ثقاتٌ أئمةٌ، لولا أن أبا رباح شيخ الثوري ما عرفتُهُ، ويحتمل أن يكون هو أبو رباح بن أبي الحكم بن حبيب الثقفي، ترجمه ابنُ أبي حاتم (371/2/4)، وابن حبان في "الثقات" (573/5) وقالا: "روى عنه عمر بن ذرّ".
ويحتمل أن يكون هو رباح بن أبي معروف المكيِّ، وتكونُ أداةُ الكنية مقحمةً، فإن الثوري يروي عنه، وهو قد روى عن جماعة من التابعين، منهم عبد الله بن أبي مليكة، وغيره، فروايتُهُ عن سعيد محتملة، ثم هو مختلفٌ فيه، وهو وسطٌ.
فإن يكنْهُ، فالإسناد صالحٌ، ومثلُ هذه الحكايات يتسامح فيها أهلُ العلمُ.
وحملُ الحديث على من فوَّت حقًا واجبًا أولى، فإنه يتوجه إليه الوعيد، كمن يترك التداوي لما في الصبر على المرض من الأجر، لكنه يضيّعُ الصلاة مثلا لعدم قدرته على احتمال الألم، فإن ترك التداوي وإن كان جائزًا لمن له قدرةٌ على الصبر، لكنه لا يجوز إذا فوّت المرءُ به ما أوجبه الله عليه. والله أعلمُ.
****************
يسأل القارئ: ح أ م ، فيقول: روى أبو داود في "سننه" حديث أبي أمامة أن النبي # قال: "الأذنان من الرأس" وقال كلامًا عقب الحديث، لم أفهم مراده منه. فما هو مراده؟ وهل الحديث صحيح أم لا؟
والجوابُ بحول الملك الوهاب : أنه حديث "ضعيف".
فأخرج أبو داود (134) قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حمادٌ. (ح) وحدثنا مسدَّدٌ وقتيبةُ، عن حماد بن زيدٍ، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، وذكر وضوء النبيِّ صلي الله عليه وسلم ، قال: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يمسح المأقين، قال: وقال: "الأذنان من الرأس" قال سليمان بن حرب: يقولها أبو أمامة. قال قتيبةُ: قال حمادٌ: لا أدري هو من قول النبي صلي الله عليه وسلم أو من أبي أمامة، يعني: قصة الأذنين. قال قتيبةُ: عن سنان أبي ربيعة. قال أبو داود: هو ابنُ ربيعة كنيتُهُ: أبو ربيعة" انتهى.
قُلْتُ: وأخرجه الترمذيُّ (37) قال: حدثنا قتيبةُ بنُ سعيدٍ. وابنُ ماجة (444)، والدارقطنيُّ (103/1) عن محمد بن زياد الزيادي. وأحمدُ في "مسنده"، وأبو عبيد في "كتاب الطهور" (88،359)، والطبرانيُّ في "الكبير" (ج/8 رقم 7554) عن عفان بن مسلم. وأحمد أيضًا (264/5، 278) قال: حدثنا يونس بن محمد المؤدِّبُ ويحىى بن إسحاق. والدارقطنيُّ (1-103)، والبيهقيُّ (66/671) عن سليمان بن حرب. والطحاوي في "شرح المعاني" (33/1) عن يحىى بن حسَّان. وابنُ عدي في "الكامل" (1277/3) عن أحمد بن عبدة. وابنُ جرير في "تفسيره" (11381 شاكر) عن حماد بن أسامة. والدارقطنيُّ (03/1) عن الهيثم بن جميل، وأبي عمر الضرير، ومحمد بن أبي بكر. والطبرانيُّ في "الكبير" (7554) عن عارم، وخالد بن خداش وأبي عمر الضرير. والبيهقيُّ (66/1) عن مسدَّد بن مسرهد وأبي الربيع الزهراني قالوا جميعًا: حدثنا حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة ورواه محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا حماد بن زيد بإسناده لكنه قال عن أبي أمامة أو عن أبي هريرة. هكذا على الشكِّ في صحابيِّ الحديث. أخرجه ابنُ جرير (11379). وكذلك شك مُعَلَّى بن منصور فروى هذا الحديث عن حماد بن زيد بسنده فقال: "عن أبي أمامة عن النبي صلي الله عليه وسلم أو عن أبي أمامة قال: الأذنان من الرأس".
أخرجه الدارقطنيُّ (103/1) عن محمد بن شاذان، نا مُعَلَّى بن منصور. ولكني وجدتُ أبا كريبٍ وهو محمد بن العلاء رواه عن مُعَلَّى بن منصور، عن حماد بن زيد كما رواه الجماعة. أخرجه ابنُ جرير (11380).
قُلْتُ: فقد رأيت أراك اللهُ الخير أن خمسة عشر راويًا فيهم جمعٌ من الحفاظ الأثبات رووا هذا الحديث عن حماد بن زيد بسنده فجزموا أن الحديث من "مسند أبي أمامة" وأنه مرفوعٌ إلى النبي صلي الله عليه وسلم . وخالفهم سليمان بن حرب فجزم بأن قوله: "الأذنان من الرأس" من كلام أبي أمامة رضي الله عنه. فنظر الدارقطنيُّ في هذا الاختلاف، فقال عقب تخريجه الحديث: "أسند هؤلاء عن حماد، وخالفهم سليمان بن حربٍ، وهو ثقةٌ حافظٌ".
فهذا يدلُّ على أنَّ الدارقطنيّ يرجح رواية سليمان بن حرب على رواية هؤلاء النفر، وفيهم من ذكرتُ من الحفاظ، وهذا يخالفُ القاعدة الكليَّة التي وضعها علماءُ الحديث في تعريف الشاذ، ولكن هذه القاعدة قد تتخلف أحيانًا لقرائن تكون عند الناقد، ولعل من القرائن التي اعتمد عليها الدارقطني في ترجيح رواية سليمان وحده أنه كان ذا خصوصيةٍ في حماد بن زيدٍ. فقد ذكر يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (170/1) عن سليمان بن حربٍ قال: "اختلفت إلى شعبة، فلما مات جالستُ حماد بن زيد ولزمته حتى مات، جالستْهُ تسع عشرة سنة". ومن القرائن أيضًا الأخذ بالأقل عند الاختلاف، والأقلُّ أن يكون موقوفًا لا مرفوعًا، إنما أقولُ هذا تخريجًا لصنيع الدارقطنيّ رحمه الله، وإلا فالصواب عندي هو تقديم رواية الجماعة على روايته وحده، لا سيما وقد نقل الترمذي عن شيخه قتيبة بن سعيد أنه قال: قال حمادٌ: لا أدري، هذا من قول النبيّ صلي الله عليه وسلم أو من قول أبي أمامة؟ فدلَّنا ذلك على أن الذي شك في رفعه أو في وقفه إنما هو حماد بن زيد فتلقَّاهُ عنه الجماعة مرفوعًا، وسليمانُ بن حربٍ موقوفًا، وإذ الأمرُ كذلك فلا داعي لنصب الخلاف بين الرواة عن حمادٍ، ولا داعي أيضًا لقول سليمان ابن حرب فيما ذكره البيهقيّ إذ قال: "الأذنان من الرأس إنما هو من قول أبي أمامة، فمن قال غير هذا، فقد بدَّل، أو كلمة قالها سليمانُ، أي: أخطأ" انتهى، لأنه من العسير أن يهم أو يخطئ هذا الجمع الغفير من الثقات، ويتواطئوا على التبديل.
فهذا هو مرادُ أبي داود من التعليق على هذا الحديث. والله أعلم.
أما الحكمُ على الحديث، فهو الضعفُ، وقد قال الترمذيُّ عقبهُ: "ليس إسنادُهُ بذاك القائم" وسنان بن ربيعة وشهر بن حوشب متكلمٌّ فيهما ولا يصحُّ في مسح المأقين حديث مرفوع. والمأق، ويقال أيضًا: الماق بلا همزٍ والموق: طرفُ العين الذي يلي الأنف.
وكذلك: "الأذنان من الرأس" قد رُوي مرفوعًا عن جماعةٍ من الصحابة ولا يصح منها شيئٌ كما جزم بذلك جماعةٌ من النقاد، والصوابُ أنه موقوف وقد استوفى شيخنا الألباني رحمه الله أحاديث هؤلاء الصحابة في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (رقم36) ورجح الرفع لإسنادٍ وجده في "المعجم الكبير" للطبرانيّ وقال: "وهذا سندٌ صحيحٌ، رجالُهُ كلهم ثقات ولا أعلمُ له علَّةً.." وصحح الحديث وحكى عن بعض العلماء القول بأنه متواتر ولكني وقفتُ على علَّته، فإذا هي المخالفة كما ذكرتُهُ في "نوح الهديل بكشف ما في سنن أبي داود من التذييل" والحمد لله.
**************
ويسألْ القارئ: م ع أ فيقول: هل ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "لا يتمنى أحدُكم الموت لضر أصابه أو نزل به". فإذا صحَّ فكيف دعا الإمام البخاري على نفسه بالموت مع ثبوت هذا الحديث؟
والجواب بحول الملك الوهاب:
أن هذا الحديث صحيحٌ.
وقد ثبت من حديث أنسٍ، وأبي هريرة، وخباب بن الأرت رضي الله عنهم، وله شواهد عن آخرين من الصحابة في أسانيدها مقالٌ.
أمَّا كيف دعا الإمام البخاريُّ على نفسه، فلا بد من معرفة القصة على وجهها فاعلم أيها المسترشد أنه ثارت في أيام الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فتنةٌ عمياء، وداهيةٌ دهياء، وفكرةٌ صلعاء، ألا وهي فتنةُ خلق القرآن ووقف لها جمعٌ من العلماء الربانيين وعلى رأسهم الإمامُ أحمد، حتى كسر الله عز وجل بهم شوكة الجهمية، فحوروا مرادهم بطريقة أخرى وهو أنهم قالوا: "لفظي بالقرآن مخلوق" و"اللَّفظ" كلمة مجملةٌ فقد يقصد بها الملفوظ وهو القرآن وقد يُقصد بها حركة اللسان فوقف الإمامُ أحمد ومحمد بن يحىى الذهلي مع جماعةٍ من أهل العلم لهذه البدعة الجديدة بالمرصاد، فلما أراد البخاريُّ رحمه الله أن يدخل نيسابور، قال عالمُها وفاضلُها محمد بن يحىى الذهلي أحدُ مشايخ البخاري : إن العبد الصالح محمد بن إسماعيل سيأتينا غدًا، فمن أراد أن يستقبله، فإني مستقبلُهُ فاستقبله الناس على ثلاثة فراسخ، ونثروا الحلوى على رؤوس الناس ابتهاجًا بمقدم هذا العبد الصالح، ونزل في دار البخاريين في نيسابور، ثم بدأ يعقد مجالس الإملاء.
وقال أبو أحمد بنُ عدي. ذكر لي جاعةٌ من المشايخ أنَّ محمد بن إسماعيل لمَّا ورد نيسابور اجتمع الناسُ عليه، حَسَدَهُ بعضُ من كان في ذلك الوقتِ من مشايخِ نيسابور لمّا رأوا إقبال الناسِ إليه، واجتماعهم عليه، فقال لأصحاب الحديث: إن محمد بن إسماعيل يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق، فامتحنوه في المجلس. فلما حضر الناسُ مجلسَ البخاري، قام إليه رجلٌ، فقال: يا أبا عبدِ الله، ما تقول في اللفظِ بالقرآن، مخلوقٌ هو أم غيرُ مخلوق؟ فأعرض عنه البخاريُّ ولم يُجِبْه. فقال الرجلُ: يا أبا عبد الله، فأعاد عليه القولَ، فأعرضَ عنه. ثم قال في الثالثة، فالتفَتَ إليه البخاريُّ، وقال: {القرآن كلام الله غير مخلوق وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة} فشغب الرجل وقال: قد قال لفظي بالقرآن مخلوق.
وذكر بعض أهل العلم أن هذا كان حسدًا من الذهلي على البخاري، وأنا أستبعد ذلك، فقد كان الذهلي من أفاضل أهل العلم وخيارهم، ولكن ما يُعابُ عليه أنه لم يتثبت من مقالة البخاري، فإن البخاري ما قال: لفظي بالقرآن مخلوق، إنما قال: أفعالُنا مخلوقة... ثم امتدت المحنة حتى خرج البخاريُّ من نيسابور، فاستقبلته محنةٌ أخرى عندما نزل بخارى. فقد قال بكر بن منير بن خليد بن عسكر: بعث الأمير خالد ابن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمد بن إسماعيل أن احملْ إليَّ كتاب "الجامع" و"التاريخ" وغيرهما لأسمع منك. فقال لرسوله: أنا لا أَذِلُّ العلمَ، ولا أَحْمِلُه إلى أبوابِ الناس. فإن كانت لكَ إلى شيءٍ منه حاجةٌ، فاحضُر في مسجدي، أو في داري. وإن لم يعجبْك هذا فإنك سلطانٌ، فامنعني من المجلس، ليكون لي عذرٌ عند الله يومَ القيامة، لأنّي لا أكتُم علم، لقول النبيِّ صلي الله عليه وسلم: "مَنْ سُئِل عَنْ عِلمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجامٍ مِنْ نارٍ" فكان سبب الوحشة بينهما هذا.
فلما وقع هذا للإمام خشي على دينه، قال ابنُ عدي: سمعتُ عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي يقول: جاء محمد بن إسماعيل إلى خَرْتَنْك وهي قريةٌ على فرسخين من سمرقند، وكان له بها أقرباء، فنزل عندهم، فسمعتُهُ ليلةً يدعو، وقد فرغ من صلاة الليل: اللهم إنه ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك، فما تمَّ الشهر حتى مات. وقد جعل جماعةُ العلماء حديث النهي عن تمني الموت خاصًا بالمصائب التي يبتلى العبدُ بها في الدنيا، أمَّا إذا خشى ذهاب دينه، فيشرع له أن يدعو بالموت، وقد عقد البخاري في "كتاب الفتن" (13-7574) بابًا لذلك. فقال: "باب: لا تقوم الساعة حتى يغبط أهلُ القبور". ثم روى فيه حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تقوم الساعة حتى يمرَّ الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانك". وهذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا. وقال ابنُ عبد البر: "ظنَّ بعضهم أن حديث أبي هريرة معارض للنهي عن تمني الموت، وليس كذلك، إنما في حديث أبي هريرة أن هذا القدر سيكون لشدةٍ تنزلُ بالناس من فساد الحال في الدين، أو ضعفه، أو خوف ذهابه، لا لضرر ينزل بالجسم، كما قال الحافظ، وكذلك أجاب القرطبيُّ وغيرُهُ. وقد أثر عن جماعة من السلف أنهم تمنوا الموت خوف الفتنة في الدين، وأنا أذكر ما يحضرني من ذلك. وقد ورد هذا المعنى في حديث ابن عباس مرفوعًا: "... وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" أخرجه أحمد (1-368)، والترمذيُّ (3233) وصححه الألباني في (صحيح الترغيب 405، 451) وصحيح الجامع (59)، وعبد الرزاق في "تفسيره" (2-169)، وعبد بن حميد في "المنتخب" (682)، وابن خزيمة في "التوحيد" (ص218217) عن أبي قلابة، عن ابن عباسٍ، ولكنه لا يصح لاضطرابه، ولانقطاعٍ في سنده. وإنما نبهتُ على ذلك لأن بعض العلماء كابن كثيرٍ رحمه احتج به على هذا المعنى، وهو رائقٌ لو صحَّ الحديث.
أما الآثار عن السلف رحمهم الله، فمنها:
1 ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4-518) من طريق بشر بن بكر حدثني الأوزاعي عن يحىى بن أبي كثير، حدثني أبو سلمة قال: عدتُ أبا هريرة، فسندتُهُ إلى صدري ثم قلتُ: اللهم اشف أبا هريرة. فقال: "اللهم لا ترجعها" ثم قال: إن استطعت يا أبا سلمة أن تموت فمُتْ. فقلت: يا أبا هريرة إنا لنحب الحياة. فقال: والذي نفسُ أبي هريرة بيده، ليأتين على العلماء زمانٌ الموت أحبُّ إلى أحدهم من الذهب الأحمر، ليأتين أحدُكم قبر أخيه فيقول: ليتني مكانه. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1-384) من طريق عبيد الله بن عمر، ثنا حماد بن زيد، ثنا أيوب، عن يحىى بن أبي كثيرٍ بهذا باختصارٍ.
قال الحاكم: "صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". والصوابُ أنه على شرط البخاري، وبشر بن بكر لم يخرج له مسلمٌ شيئًا.
2 وما أخرجه أبو العباس الأصم في "الثاني من حديثه" (ق 169-1702-1) قال: أخبرنا العباس بن الوليد بن مزيد، أخبرني أبي، حدثني ابنُ جابرٍ، عن عمير بن هانئ، أنه حدثه قال: كان أبو هريرة يمشي في سوق المدينة وهو يقول: اللهُمَّ لا تدركني سنة الستين، اللَّهُمَّ لا تدركني إمارة الصبيان".
وأخرجه أبو زرعة الدمشقي في "تاريخه" (234) قال: أخبرنا أبو مُسهرٍ، قال: حدثني صدقةُ بنُ خالدٍ، عن ابن جابرٍ، عن عمير بن هانئ، قال: كان أبو هريرة يقول: تشبثوا بصُدغي معاوية! اللَّهُمَّ لا تدركني سنة ستين! ثم أخرجه أبو زرعة (235) من طريق الوليد بن مسلم عن ابن جابرٍ بهذا الإسناد.
ثم زاد: "فتوفي أبو هريرة فيها أو قبلها بسنةٍ".
وأخرج الطبرانيُّ في "الأوسط" (1397) قال: حدثنا أحمد هو: ابن محمد بن صدقة قال: حدثنا محمد بن معمر البَحْراني، قال حدثنا رَوْح بن عُبَادَةَ، قال حدثنا حماد بن سَلَمَةَ، عن علي بن زيد، عن أبي حازم.
عن أبي هريرة أنه قال: "في كيسي هذا حديث، لو حَدَّثْتُكُمُوْهُ لَرَجَمْتُمُوْني، ثم قال: اللهمَّ لا أَبْلُغَنَّ رأسَ السِّتِّيْنَ. قالوا: وما رأسُ الستينَ؟ قال: إِمارةُ الصبيانِ، وبَيْعُ الحُكْم، وكَثْرَةُ الشُّرَطِ، والشهادةُ بالمعرفةِ، ويَتَّخِذُونَ الأمانةَ غَنِيْمَةً، والصّدقةَ مَغْرَمًا، ونَشْوٌ يتَّخذونَ القرآنَ مَزَامِيْرَ، قال حماد: وأظنَّهُ قال: والتهاونُ بالدَّمِ".
قال الطبرانيُّ: "لم يرو هذا الحديث عن علي بن زيد، إلا حمادٌ، تفرَّد به روح بنُ عبادة". وسندُهُ حسنٌ في المتابعات، وعلي بن زيد ضعيفُ ولكن رواية حماد بن سلمة عنه أمثل من رواية غيره عنه كما قال أبو حاتم الرازي، قال الحافظ في "الفتح" (1-216): "يشيرُ يعني: أبا هريرة إلى خلافة يزيد بن معاوية، لأنها كانت سنة ستين من الهجرة".
وكأنه لأجل هذا ومثله كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: "حفظت من رسول الله صلي الله عليه وسلم وعاءين: فأمَّا أحدُهما فبثثته، وأمَّا الآخر، فلو بثثتهُ قُطع هذا البلعوم". أخرجه البخاريُّ (1-216) من طريق عبد الحميد بن أبي أويس، والبزار في "مسنده" (ج2-ق177-2) من طريق بهلول بن مورق. وابنُ عدي في "الكامل" (1-33) من طريق ابن أبي فديك قالوا: ثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة.
وأخرجه البزار في "مسنده" (ج2-ق229-2) قال: حدثنا الوليد بن عمرو بن سكين، نا كثير بن هاشم، حدثنا جعفر بن بُرقان، عن يزيد الأصم، عن أبي هريرة قال: عندي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم جرابان، قد حدثتكم بأحدهما، ولو حدثتكم بالآخر لفعلتم بي وفعلتم.
وهناك آثار أخرى عن جمع من الصحابة فيها الحسنُ الثابت والضعيف ذكرها نعيم بن حماد في "الفتن" (1-7771)، وأبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن" (181178)، والحاكم (4-486).
رأيت أن لا أطيل الأمر بذكرها. والله نسأل أن يقبضنا على التوحيد الخالص إنَّه جوادٌ كريم.
والحمد لله رب العالمين
***************
يسأل القارئ أ ح م فيقول: سمعتُ بعض مشايخ الحديث يقول عن حديث: أن رجلا لُدغ فشكا ذلك إلى النبي # فقال: "أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضرك". فقال هذا الشيخ إن هذا الحديث ضعيفٌ لاضطرابه، مع أنني بحثت عنه فوجدتُهُ في "صحيح مسلم" فما قولكم في ذلك؟
والجواب بحول الملك الوهاب:
أن هذا الحديث صحيحٌ لا شك فيه، ولكن وقع في إسناده اختلافٌ، فلربما رآه ذلك الشيخ مؤثرًا، وقصد وجهًا واحدًا من الاختلاف، ومع ذلك فلا يُحكم على الحديث بالاضطراب إلا إذا تعذر الترجيح، وتساقطت كلُّ الوجوه جميعًا، أمَّا إذا رجحنا وجهًا على آخر، فيُنفى الاضطراب، ويُحكم للوجه الراجح علي ما سواه. فهذه هي القاعدةُ الكلية للحديث المضطرب. أمَّا الحديثُ: فأخرجه النسائيُّ في "اليوم والليلة" (596)، والطحاويُّ في "المشكل" (28) عن أسد بن موسى وأحمد في "المسند" (448/3 و430/5)، والطحاويُّ في "المشكل" (25) عن وهب بن جرير. وأبو يعلي الخليلي في "الفوائد" (ق21128) ومن طريقه الرافعي في "أخبار قزوين" (192/2) عن سلْم بن سلام ثلاثتهم عن شعبة بن الحجاج، عن سهيل بن أبي صالح وأخيه هو صالح ابني أبي صالحٍ، عن أبيهما، عن رجلٍ من أسلم أنه لُدغ، فشكا ذلك... الحديث. وقد توبع شعبةُ. فأخرجه أبو داود(3898)، والنسائيُّ(594)، والطحاويُّ(26) عن زهير بن معاوية، والنسائيُّ أيضًا (593،596) والطحاويُّ (24،29) عن وهيب بن خالد وسفيان بن عيينة. والطحاويُّ أيضًا(27) عن أبي عوانة. وعبد الرزاق في "المصنف" (19834) عن معمر بن راشد. والنسائيُّ (592)، والطحاويُّ (33)، والبيهقيُّ في "الدعوات الكبير" (36) عن سفيان الثوري كلهم عن سهيل بن أبي صالح بهذا الإسناد. وقد اختلف على سهيل في إسناده. فرواه الثوريُّ، وشعبة، ومعمر بن راشد، وأبو عوانة وسفيان بن عيينة، ووهيب بن خالد وزهير بن معاوية وكلهم من الثقات الأثبات عن سهيل فجعلوه من "مسند رجلٍ من أسلم" وخالفهم مالك فرواه عن سهيل بن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رجلا من أسلم، قال: ما نمتُ هذه الليلة، لدغتني عقربٌ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : "أما لو قلت حين أمسيت: أعوذُ بكلمات الله التامات من شرِّ ما خلق، لم يضرك إن شاء الله.." فجعله من "مسند أبي هريرة".
أخرجه أحمد (375/2) قال: حدثنا إسحاق هو ابن عيسى ، والبخاريُّ في "خلق أفعال العباد" (445) قال: حدثنا عبد الله بن يوسف وعبد الله بن مسلمة القعنبي والنسائيّ في "اليوم والليلة" (589)، قال: أخبرنا قتيبة بن سعيد. والطحاويُّ في "المشكل" (16) عن عبد الله بن وهب، وابنُ حبان (1021) عن أحمد بن أبي بكر والبيهقيُّ في "الأسماء" (365) عن يحىى بن بكير، قالوا: ثنا مالك، وهو في "الموطأ" (11/951/2) عن سهيل بن أبي صالح بهذا. ولم يقع لفظُ المشيئة عند أحمد.
وزاد النسائيّ بعدها: "شيءٌ". وأفاد ابنُ عبد البر في "التمهيد" (241/21) أن ابن وهبٍ رواه عن مالكٍ بإسناده، إلا أنه لم يذكر المشيئة في آخره. وقد رواه الطحاوي عن ابن وهبٍ فذكرها والحمد لله.
وأخرجه أبو داود (3898) عن زهير بن معاوية. وابنُ ماجة (3518)، والبخاريُّ في "خلق الأفعال" (446)، والنسائيُّ في "العمل" (591)، وأبو يعلى (6688)، وابنُ حبان (1036)، والطحاويُّ (21)، وابن حبان (1022) عن جرير بن حازم. والنسائيُّ (590)، وأحمد (290/2)، والطحاويُّ (20) عن هشام بن حسَّان والبخاريُّ (448،449)، وابنُ عبد البر في "التمهيد" (241/21) عن سعيد بن عبد الرحمن الجُمحي. والنسائيُّ (588)، والطحاويُّ (19) عن حماد بن زيدٍ. والطحاوي أيضًا عن الثوري وروح بن القاسم. والطبرانيُّ في "الأوسط" (523) عن إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر كلهم عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة فذكره.
قُلْتُ: فقد رأيت أراك الله الخير أن جمعًا من الثقات رووه عن سهيل فجعلوه من "مسند أبي هريرة" فيحتمل أن يكون الوجهان جميعًا صحيحين ويقعُ لي أن الحديث من "مسند أبي هريرة" ، وهذا أولى أن يكون محفوظًا، لأن سهيلا كانت قد أصابته علَّةٌ، فنسى بعض حديثه فلعلَّه اضطرب في إسناد هذا الحديث ولم يُحكمْهُ. وقد رجَّح الطحاويُّ ذلك فقال في "المشكل": "ولما وجدنا من رواية القعقاع عن أبي صالح، عن أبي هريرة لا عن رجلٍ من أسلم، قوي في قلوبنا أن أصل الحديث عن أبي صالح، عن أبي هريرة". انتهى. وحديثُ القعقاع بن حكيمٍ هذا: أخرجه مسلم في "الذكر والدعاء" (2081/4) قال: حدثنا هارون بن معروف وأبو الطاهر. وابنُ خزيمة في "التوحيد" (399/1،401)، والطحاويُّ في "المشكل" (31) قالا: ثنا بحر بن نصر الخولاني، والطحاويُّ أيضًا (30) قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى. وابنُ حبان (1020) عن حرملة بن يحىى قالوا: ثنا ابنُ وهبٍ، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث، أن يزيد بن أبي حبيب والحارث بن يعقوب حدثاه عن يعقوب بن عبد الله الأشج قال: قال القعقاع بن حكيم، عن ذكوان أبي صالحٍ، عن أبي هريرة.. فذكر مثله وقد رواه الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب على وجه اخر ذكرتُهُ في "تنبيه الهاجد إلى ما وقع من النظر في هذا الحديث، وقد تبيَّن بحمد الله تعالى أن الاضطراب منتفٍ عنه بالترجيح الذي ذكرناه، وليس ببعيدٍ تصحيحُ الوجهين جميعًا كما تقدَّم لا سيما وقد رواه الثوري وزهير بن معاوية عن سهيلٍ بالإسنادين جميعًا. والله سبحانه وتعالى أعلمُ.
*******************
ويسأل القارئ: إ ح ع محافظة كفر الشيخ عن صحة حديث "لا يتم بعد احتلام".
والجواب بحول الملك الوهاب:
أما الحديث: فهو حديث "حسن" موقوفًا.
وقد ورد من حديث علي بن أبي طالبٍ، وجابر بن عبد الله، وأنس، وحنظلة بن حذيم رضي الله عنهم.
أولا: حديثُ علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه. وله عنه طرقٌ.
1 عبد الله بن أبي أحمد، عنه.
أخرجه أبو داود (2873)، والطحاويُّ في "المشكل" (280/1) قال: حدثنا عمر بن عبد العزيز بن عمران بن أيوب بن مقلاص الخزاعي. والطبرانيُّ في "الأوسط" (290) قال: حدثنا أحمد بن رشدين. وفي "الصغير" (266) قال: حدثنا إسماعيل بن الحسن الخفَّاف المصريُّ، قالوا: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا يحىى بن محمد المديني، حدثنا عبد الله بن خالد بن سعيد بن أبي مريم، عن أبيه، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يزيد بن رقيش، أنه سمع شيوخًا من بني عمرو بن عوف، ومن خاله عبد الله بن أبي أحمد، قال: قال علي بن أبي طالب: حفظتُ عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ، قال: "لا يُتم بعد احتلام، ولا صُمات يوم إلى الليل". لفظُ أبي داود. وزاد الآخران: "ولا طلاق إلا من بعد نكاحٍ، ولا عتاق إلا من بعد ملكٍ، ولا وفاء لنذر في معصيةٍ، ولا وصال في الصيام". ووقع عند الطحاوي: "...ابن رقيش، عن عمومةٍ له من بني عمرو بن عوف". وهذا القدر من الإسناد لم يقع عند الطبرانيِّ.
قال الطبرانيُّ في "الأوسط": "لا يروى هذا الحديث عن عبد الله بن أبي أحمد إلا بهذا الإسناد، تفرَّد به: أحمد بن صالح". وقال في "الصغير": "لا نحفظ لعبد الله بن أبي أحمد حديثًا مسندًا غير هذا". انتهى. وهذا إسنادٌ ضعيفٌ. ويحىى بن محمد هو ابن عبد الله الجاري وثقه يحىى الزِّمِّي، والعجليُّ، وابن حبان في "الثقات" (255/9) وقال: "يغربُ". وقال ابن عدي: "ليس به بأس". لكن قال البخاريُّ: "يتكلمون فيه" وذكره ابنُ حبان في "المجروحين" (130/3) وقال: "كان ممن ينفرد بأشياء لا يتابع عليها على قلة روايته، كأنه كان يهم كثيرًا، فمن هنا وقع المناكير في روايته، يجب التنكُّب عما انفرد به من الروايات، وإن احتج به محتجٌّ فيما وافق الثقات، لم أر به بأسًا". انتهى ولا أعلمُ أحدًا تابعه على هذه الرواية.
وعبد الله بن خالد وأبوه لا يُعرفان. والله أعلمُ.
2 النزال بن سبرة، عن علي بن أبي طالبٍ مرفوعًا: "لا رضاع بعد الفصال، ولا وصال، ولا يُتم بعد الحلم، ولا صمت يوم إلى الليل، ولا طلاق قبل النكاح" أخرجه ابنُ عدي في "الكامل" (545/2)، والبيهقيُّ (461/7) عن عبد الرزاق، وهذا في "المصنَّف" (11450/416/6) عن معمر بن راشد، عن جويبر بن سعيد، عن الضحَّاك بن مزاحم، عن النزال بن سبرة، عن عليٍّ بهذا. وعند عبد الرزاق: "فقال له الثوريُّ: يا أبا عروة هي كنيةُ مَعْمرٍ إنما هو عن عليّ موقوفٌ. فأبى عليه مَعْمر إلا عن النبي صلي الله عليه وسلم ". وعند البيهقيّ: "قال سفيان لمعمر: إنّ جويبرًا حدثنا بهذا الحديث ولم يرفعه. قال مَعْمرٌ: وحدثنا به مرارًا ورفعه".
وقد توبع معمر على رفعه. تابعه سفيان الثوري، فرواه عن جويبر بهذا الإسناد أخرجه الدارقطنيُّ في "العلل" (142/4)، والثقفيُّ في "الثقفيات" (2/9/3) من طريق أيوب بن سويد، عن الثوري بهذا. وهذا منكرٌ عن الثوري لأمرين:
الأول: أن الثوري أنكر على معمر بن راشد رفعه لما تقدَّم، وقال: إنه موقوفٌ.
الثاني: أن أيوب بن سويد ضعيفٌ، وقد خالفه محمد بن كثير، وهو أوثق منه بطبقات، فرواه عن الثوري فوقفه. ورجح الدارقطنيُّ وقفه وقال: "هو المحفوظُ" ومما يؤيد وقفه أن هشيم بن بشير رواه عن جويبر، عن الضحاك، قال: أخبرني النزال بن سبرة، قال: سمعتُ عليًّا يقول: فذكره موقوفًا أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (1030) قال: نا هشيمٌ.
وكذلك رواه حماد بن زيد، وإسحاق بن الربيع عن جويبر بهذا موقوفًا. ذكر ذلك الدارقطنيُّ أيضًا. وترجيح الموقوف على المرفوع نظريٌّ.
انتهت الموسوعة
وقريبا إن شاء الله الموسوعة الثانية
مع تحيات
مجلة الايمان الإسلامية
www.al-eman.50megs.com
www.alheweny.malware-site.www