معجم الجمهرة
هذا الكتاب يمثل نظاماً جديداً من التأليف مختلفاً عن نظام الخليل وما تبعه من المعاجم التي سارت وفق مدرسة التقليبات الصوتية؛ ولهذا تأخر ذكره في الدراسة في هذا الكتاب مع أنه متقدم عليها في التأليف.
والدراسة في هذا لكتاب - كغيره - حيث ستتناول الأمور التالية:
أولاً: صاحبه:
هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد.
ولد عام 223هـ بالبصرة، وتوفي فيها عام 321هـ عن ثمانية وتسعين عاماً.
ويعد من أبرز علماء القرنين الثالث والرابع من الهجرة.
وكان أبوه الحسن بن دريد من الرؤساء، وقد نشأه والده تنشئة أهَّلته لأن يتصدر في العلم ستين سنة، وعد بذلك - كما تذكر كتب الطبقات - رأس أهل العلم، والمقدم في حفظ اللغة والأنساب، وأشعار العرب.
وكان ابن دريد حجة في اللغة ذا حافظة قوية، وعقلية نادرة، وله قصص في ذلك.
وكان شاعراً مُفْلِقاً، ويذكر ياقوت الحموي أنه كان يقال عنه: "ابن دريد أشعر العلماء، وأعلم الشعراء".
أخذ عن كثير من علماء عصره كأبي حاتم السجستاني، وأبي الفضل الرياشي، وأبي عثمان الأشنانداني وغيرهم.
وأخذ عنه أبو سعيد السيرافي، وأبو الفرج الأصبهاني، وابن خالويه وغيرهم.
كما خلف ثروة ضخمة من كتب اللغة أشهرها الجمهرة، والاشتقاق.
ثانياً: سبب التسمية، والهدف من الكتاب:
أما سبب تسمية الكتاب بـ: الجمهرة فلأنه - كما يقول في المقدمة -: "وسميناه كتاب الجمهرة؛ لأنا اخترنا له الجمهور من كلام العرب، وأرجأنا الوحشي المستنكر".
أما الهدف فواضح من المقدمة، ويكاد ينحصر في أمرين:
1- جمع الألفاظ الشائعة المألوفة والبعد عن الوحشي المستنكر.
2- جمع الألفاظ بطريقة ميسرة خلاف ما كانت عليه طريقة الخليل.
قال ابن دريد -رحمه الله- في مقدمته: "قد ألف أبو عبدالرحمن الخليل بن أحمد الفرهودي -رضوان الله عليه- كتاب العين، فأتعب من تصدى لغايته، وعنَّى من سما إلى نهايته، فالمنصف له بالغلب معترف، والمعاند متكلف، وكل من بعده له تبع، أقر بذلك أم جحد، ولكنه -رحمه الله- ألف كتابه مُشاكلاً لِثُقُوب فهمه، وذكاء فطنته، وحدة أذهان أهل دهره.
وأملينا هذا الكتاب والنقص فينا فاش، والعجز له شامل، إلا خصائص كدَرَارِيِّ النجوم في أطراف الأفق، فسهلنا وعره، ووطأنا شَأزَه، وأجرينا على تأليف الحروف المعجمة؛ إذ كانت بالقلوب أعلق، وفي الأسماع أنفذ، وكان علم العامة بها كعلم الخاصة.
وألغينا المستنكر الوحشي، واستعملنا المعروف، وسميناه كتاب (الجمهرة) ؛ لأنا اخترنا له الجمهور من كلام العرب، وأرجأنا الوحشي المستنكر".
ثالثاً: إملاء ابن دريد الجمهرة:
قال السيوطي -رحمه الله-: "وقال بعضهم: أملى ابن دريد الجمهرة في فارس، ثم أملاها بالبصرة وببغداد من حفظه، ولم يستعن عليها بالنظر في شيء من الكتب إلا في الهمزة واللفيف؛ فلذلك تختلف النسخ، والنسخة المعول عليها هي الأخيرة، وآخر ما صح نسخة أبي الفتح عبيدالله بن أحمد بن محمد النحوي المعروف بجَخْجَخْ؛ لأنه كتبها من عدة نسخ وقرأها عليه".
وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات، ومنها طبعة دار صادر بيروت وتقع في أربعة مجلدات.
رابعاً: منهجه:
يعد معجم الجمهرة ثاني معجم شامل في العربية بعد كتاب العين، وقد حاول ابن دريد أن يخالف الخليل في ترتيب المواد، فابتكر نظاماً جديداً للتقليبات وهو تقليب المادة حسب حروفها ترتيباً أبجدياً.
وهو في هذا قد سلك مسلكاً جديداً في ترتيبه للمواد المعجمية، ولم يتبعه في هذا أحد من أصحاب المعاجم من بعد.
ولهذا يعده بعض الباحثين ممثلاً لمدرسة جديدة هي مدرسة التقليبات الأبجدية.
أما في غير ذلك فقد نهج نهجاً لا يختلف عن منهج الخليل في معجم العين.
ولذلك يمكن أن يوجز المنهج الذي سار عليه ابن دريد فيما يلي:
1- أرجع الكلمات إلى حروفها الأصلية، فجرد الكلمة من الزوائد، وأرجع المقلوب إلى أصله، وشأنه في هذا شأن جميع المعاجم.
2- اتبع نظام التقليبات للكلمة، ولكنها التقليبات الأبجدية؛ فإذا تحدث -على سبيل المثال- عن (ب ر ك) تحدث بعدها عن جميع تقاليبها وهي: (ب ك ر) و(ر ب ك) و (ر ك ب) و (ك ب ر) و (ك ر ب) وهكذا في كل المواد؛ حيث يقلبها حسب التقليب الأبجدي لا التقليب الصوتي.
وهذه أسهل من طريقة الخليل.
3- جعل الأبنية هي الأساس الأول في تقسيمه للمعجم، ثم قسمها إجمالاً كتقسيم الخليل، فهي عنده ثلاثيةٌ - والثلاثي يشمل الثنائي المضعف - ورباعيةٌ، وخماسية وملحقات بكل بناء.
أما تفصيلاً فقد اضطرب إلى حد كبير، فقد تنوعت الأبنية في الجمهرة تنوعاً كبيراً حتى إن بعض الباحثين حصرها في سبعة عشر باباً وهي: الثنائي الصحيح، والملحق ببناء الرباعي المكرر، والمعتل، والثلاثي الصحيح وما تشعب منه، وما اجتمع فيه حرفان مثلان في أي موضع، وما عين الفعل منه أحد أحرف اللين، والثلاثي المعتل، وباب النوادر في الهمز، وباب اللفيف في الهمز، وأبواب الرباعي الصحيح، والرباعي الذي جاء فيه حرفان مثلان، والرباعي الذي جاء على أوزان ضعف فيها الحرف الرابع، وما ألحق بالرباعي والخماسي والسداسي، واللفيف، وأبواب متفرقة من النوادر.
4- أورد في مقدمته بحوثاً لغوية مهمة، تعد مكملة لبحوث الخليل ولا تخلو من فوائد عظيمة في مجال البحث اللغوي الحديث.
وقد بدأ هذه المقدمة باستنكار الطعن في السلف، والإزراء بالعلماء السابقين.
ثم تحدث - في المقدمة أيضاً - عن ضرورة معرفة حروف المعجم، وما يأتلف منها وما لا يأتلف، وسبب ذلك.
كما ذكر عدد الحروف وهي تسعة وعشرون حرفاً، ما يختص العرب بنطقه منها وما لا يختص وما لم يجئ من الحروف في لغة العرب.
كما أفرد باباً لصفة الحروف وأجناسها، وذكر أنها سبعة أجناس يجمعهن لقبان: المصمتة، والمذلقة، مبيناً معناهما، وعرض لبقية الصفات، وهي الهمس والجهر والشدة، شارحاً كل نوع، وذاكراً حروفه.
وذكر مخارج الحروف وأجناسها، فبدأ بالحلقية، ثم حروف الفم، ثم المخارج الشفوية.
كما ذكر أنه لابد للباحث من معرفة الحروف الأصلية والزائدة، وعقد فصلاً في ذلك مبيناً مواضع زيادة الحروف.
كما عقد فصلاً للأبنية، وسماه باب الأمثلة، فذكر أنها ثلاثية، وأنها عشرة ورباعية وخماسية، وذكر أبنية كل نوع والأمثلة التي وردت منه.
كما يفهم مما ذكره ابن دريد في المقدمة - أيضاً - أن أكثر الحروف استعمالاً عند العرب الواو والياء والهمزة، وأقلها استعمالاً - لثقلها على ألسنتهم - الطاء والدال، وأن الثلاثي أكثر الأبنية.
ثم أخذ بعد ذلك في ذكر المواد اللغوية وشرحها.
خامساً: مميزات معجم الجمهرة:
جاء معجم الجمهرة - كما مر - بعد معجم العين مباشرة، وقد حاول فيه صاحبه أن يتحاشى ما وقع فيه الخليل في كتاب العين، ويمكن إجمال مميزات الجمهرة فيما يلي:
1- ابتعد ابن دريد عن نظام التقليبات الصوتية، واتبع نظام التقليبات الأبجدية، وهي - على كل حال - أيسر.
2- انفرد ابن دريد ببعض الصيغ كما انفرد ببعض الشواهد.
3- اعتنى باللهجات الواردة عن القبائل العربية، ونسبها إلى أهلها.
4- اعتنى بالشواهد القرآنية والحديثية وكلام العرب.
5- اعتنى بالإشارة إلى الألفاظ المُعَرَّبة والدخيلة.
المآخذ على الجمهرة:
1- اتباعه لنظام التقليبات الأبجدية؛ فهي وإن كانت أيسر من نظام الصوتية إلا أن نظام التقليبات بحد ذاته شاق.
2- وقوعه في كثير من الاضطرابات؛ فقد خلط في الأبنية ونظامها؛ حيث لم يجعلها الأساس الأول في جميع المعجم، ولكنه ألحق في بعض الأبواب إضافات صادفته أثناء التأليف.
كما اضطرب في خطته حيث انفرد في معجمه بأشياء لم توجد في كتب المتقدمين.
3- أنه اتهم باضطراب التصنيف وفساد التصريف-كما ذكر ذلك ابن جني- .
قال السيوطي: "وقال ابن جني في الخصائص: وأما كتاب الجمهرة ففيه -أيضاً- من اضطراب التصنيف، وفساد التصريف، مما أَعذرُ واضعَه فيه لبعده عن معرفة هذا الأمر، ولما كتبته وقعت في متونه وحواشيه جميعاً من التنبيه على هذه المواضع ما استحييت من كثرته؛ ثم إنه لما طال عليَّ أومأت إلى بعضه وضربت البتة عن بعضه".
ثم وضح السيوطي مقصود ابن جني، ودافع عن ابن دريد، بقوله: "قلت: مقصوده الفساد من حيث أبنية التصريف، وذكر المواد في غير محالها كما تقدم في العين؛ ولهذا قال: "أعذرُ واضعَه فيه لبعده عن معرفة هذا الأمر".
يعني أن ابن دريد قصيرُ الباع في التصريف وإن كان طويل الباع في اللغة.
وكان ابن جني في التصريف إماماً لا يشق غباره؛ فلذا قال ذلك".
4- أنه اتهم بالكذب، وصنع الألفاظ، حيث حكى السيوطي ذلك عن الأزهري ثم قال: "وقال الأزهري: ممن ألف الكتب في زماننا فرُمي بافتعال العربية وتوليد الألفاظ أبو بكر بن دريد، وقد سألت عنه إبراهيم بن محمد بن عرفة - يعني نفطويه - فلم يعبأ به ولم يوثقه في روايته".
ثم دافع السيوطي عن ابن دريد بعد ذلك بقوله: "قلت: معاذ الله وهو بريء مما رمي به، ومن طالع الجمهرة رأى تحريه في روايته، وسأذكر منها في هذا الكتاب ما يُعرف منه ذلك، ولا يقبل فيه طعن نفطويه؛ لأنه كان بينهما منافرة عظيمة، بحيث إن ابن دريد هجاه بقوله:
لو أنزل الوحي على نفطويه لكان ذاك الوحي سخطاً عليه
وشاعرٌ يدعى بنصف اسمه مستأهل للصفع في أخدعيه
أحـرقه الله بـنصف اسمه وصير الباقي صراخاً عليه
وهجا هو ابن دريد بقوله:
ابـــن دريـــد بــقـره وفــيـه عِـــيٌّ وشَــرَهْ
ويــدعـى مــن حـمـقه وضــع كـتـاب الـجمهرة
وهو كتاب العين إلا أنه قد غيره
وقد تقرر في علم الحديث أن كلام الأقران في بعضهم لا يقدح".
============
دعوة الإسلام
هذا الكتاب يمثل نظاماً جديداً من التأليف مختلفاً عن نظام الخليل وما تبعه من المعاجم التي سارت وفق مدرسة التقليبات الصوتية؛ ولهذا تأخر ذكره في الدراسة في هذا الكتاب مع أنه متقدم عليها في التأليف.
والدراسة في هذا لكتاب - كغيره - حيث ستتناول الأمور التالية:
أولاً: صاحبه:
هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد.
ولد عام 223هـ بالبصرة، وتوفي فيها عام 321هـ عن ثمانية وتسعين عاماً.
ويعد من أبرز علماء القرنين الثالث والرابع من الهجرة.
وكان أبوه الحسن بن دريد من الرؤساء، وقد نشأه والده تنشئة أهَّلته لأن يتصدر في العلم ستين سنة، وعد بذلك - كما تذكر كتب الطبقات - رأس أهل العلم، والمقدم في حفظ اللغة والأنساب، وأشعار العرب.
وكان ابن دريد حجة في اللغة ذا حافظة قوية، وعقلية نادرة، وله قصص في ذلك.
وكان شاعراً مُفْلِقاً، ويذكر ياقوت الحموي أنه كان يقال عنه: "ابن دريد أشعر العلماء، وأعلم الشعراء".
أخذ عن كثير من علماء عصره كأبي حاتم السجستاني، وأبي الفضل الرياشي، وأبي عثمان الأشنانداني وغيرهم.
وأخذ عنه أبو سعيد السيرافي، وأبو الفرج الأصبهاني، وابن خالويه وغيرهم.
كما خلف ثروة ضخمة من كتب اللغة أشهرها الجمهرة، والاشتقاق.
ثانياً: سبب التسمية، والهدف من الكتاب:
أما سبب تسمية الكتاب بـ: الجمهرة فلأنه - كما يقول في المقدمة -: "وسميناه كتاب الجمهرة؛ لأنا اخترنا له الجمهور من كلام العرب، وأرجأنا الوحشي المستنكر".
أما الهدف فواضح من المقدمة، ويكاد ينحصر في أمرين:
1- جمع الألفاظ الشائعة المألوفة والبعد عن الوحشي المستنكر.
2- جمع الألفاظ بطريقة ميسرة خلاف ما كانت عليه طريقة الخليل.
قال ابن دريد -رحمه الله- في مقدمته: "قد ألف أبو عبدالرحمن الخليل بن أحمد الفرهودي -رضوان الله عليه- كتاب العين، فأتعب من تصدى لغايته، وعنَّى من سما إلى نهايته، فالمنصف له بالغلب معترف، والمعاند متكلف، وكل من بعده له تبع، أقر بذلك أم جحد، ولكنه -رحمه الله- ألف كتابه مُشاكلاً لِثُقُوب فهمه، وذكاء فطنته، وحدة أذهان أهل دهره.
وأملينا هذا الكتاب والنقص فينا فاش، والعجز له شامل، إلا خصائص كدَرَارِيِّ النجوم في أطراف الأفق، فسهلنا وعره، ووطأنا شَأزَه، وأجرينا على تأليف الحروف المعجمة؛ إذ كانت بالقلوب أعلق، وفي الأسماع أنفذ، وكان علم العامة بها كعلم الخاصة.
وألغينا المستنكر الوحشي، واستعملنا المعروف، وسميناه كتاب (الجمهرة) ؛ لأنا اخترنا له الجمهور من كلام العرب، وأرجأنا الوحشي المستنكر".
ثالثاً: إملاء ابن دريد الجمهرة:
قال السيوطي -رحمه الله-: "وقال بعضهم: أملى ابن دريد الجمهرة في فارس، ثم أملاها بالبصرة وببغداد من حفظه، ولم يستعن عليها بالنظر في شيء من الكتب إلا في الهمزة واللفيف؛ فلذلك تختلف النسخ، والنسخة المعول عليها هي الأخيرة، وآخر ما صح نسخة أبي الفتح عبيدالله بن أحمد بن محمد النحوي المعروف بجَخْجَخْ؛ لأنه كتبها من عدة نسخ وقرأها عليه".
وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات، ومنها طبعة دار صادر بيروت وتقع في أربعة مجلدات.
رابعاً: منهجه:
يعد معجم الجمهرة ثاني معجم شامل في العربية بعد كتاب العين، وقد حاول ابن دريد أن يخالف الخليل في ترتيب المواد، فابتكر نظاماً جديداً للتقليبات وهو تقليب المادة حسب حروفها ترتيباً أبجدياً.
وهو في هذا قد سلك مسلكاً جديداً في ترتيبه للمواد المعجمية، ولم يتبعه في هذا أحد من أصحاب المعاجم من بعد.
ولهذا يعده بعض الباحثين ممثلاً لمدرسة جديدة هي مدرسة التقليبات الأبجدية.
أما في غير ذلك فقد نهج نهجاً لا يختلف عن منهج الخليل في معجم العين.
ولذلك يمكن أن يوجز المنهج الذي سار عليه ابن دريد فيما يلي:
1- أرجع الكلمات إلى حروفها الأصلية، فجرد الكلمة من الزوائد، وأرجع المقلوب إلى أصله، وشأنه في هذا شأن جميع المعاجم.
2- اتبع نظام التقليبات للكلمة، ولكنها التقليبات الأبجدية؛ فإذا تحدث -على سبيل المثال- عن (ب ر ك) تحدث بعدها عن جميع تقاليبها وهي: (ب ك ر) و(ر ب ك) و (ر ك ب) و (ك ب ر) و (ك ر ب) وهكذا في كل المواد؛ حيث يقلبها حسب التقليب الأبجدي لا التقليب الصوتي.
وهذه أسهل من طريقة الخليل.
3- جعل الأبنية هي الأساس الأول في تقسيمه للمعجم، ثم قسمها إجمالاً كتقسيم الخليل، فهي عنده ثلاثيةٌ - والثلاثي يشمل الثنائي المضعف - ورباعيةٌ، وخماسية وملحقات بكل بناء.
أما تفصيلاً فقد اضطرب إلى حد كبير، فقد تنوعت الأبنية في الجمهرة تنوعاً كبيراً حتى إن بعض الباحثين حصرها في سبعة عشر باباً وهي: الثنائي الصحيح، والملحق ببناء الرباعي المكرر، والمعتل، والثلاثي الصحيح وما تشعب منه، وما اجتمع فيه حرفان مثلان في أي موضع، وما عين الفعل منه أحد أحرف اللين، والثلاثي المعتل، وباب النوادر في الهمز، وباب اللفيف في الهمز، وأبواب الرباعي الصحيح، والرباعي الذي جاء فيه حرفان مثلان، والرباعي الذي جاء على أوزان ضعف فيها الحرف الرابع، وما ألحق بالرباعي والخماسي والسداسي، واللفيف، وأبواب متفرقة من النوادر.
4- أورد في مقدمته بحوثاً لغوية مهمة، تعد مكملة لبحوث الخليل ولا تخلو من فوائد عظيمة في مجال البحث اللغوي الحديث.
وقد بدأ هذه المقدمة باستنكار الطعن في السلف، والإزراء بالعلماء السابقين.
ثم تحدث - في المقدمة أيضاً - عن ضرورة معرفة حروف المعجم، وما يأتلف منها وما لا يأتلف، وسبب ذلك.
كما ذكر عدد الحروف وهي تسعة وعشرون حرفاً، ما يختص العرب بنطقه منها وما لا يختص وما لم يجئ من الحروف في لغة العرب.
كما أفرد باباً لصفة الحروف وأجناسها، وذكر أنها سبعة أجناس يجمعهن لقبان: المصمتة، والمذلقة، مبيناً معناهما، وعرض لبقية الصفات، وهي الهمس والجهر والشدة، شارحاً كل نوع، وذاكراً حروفه.
وذكر مخارج الحروف وأجناسها، فبدأ بالحلقية، ثم حروف الفم، ثم المخارج الشفوية.
كما ذكر أنه لابد للباحث من معرفة الحروف الأصلية والزائدة، وعقد فصلاً في ذلك مبيناً مواضع زيادة الحروف.
كما عقد فصلاً للأبنية، وسماه باب الأمثلة، فذكر أنها ثلاثية، وأنها عشرة ورباعية وخماسية، وذكر أبنية كل نوع والأمثلة التي وردت منه.
كما يفهم مما ذكره ابن دريد في المقدمة - أيضاً - أن أكثر الحروف استعمالاً عند العرب الواو والياء والهمزة، وأقلها استعمالاً - لثقلها على ألسنتهم - الطاء والدال، وأن الثلاثي أكثر الأبنية.
ثم أخذ بعد ذلك في ذكر المواد اللغوية وشرحها.
خامساً: مميزات معجم الجمهرة:
جاء معجم الجمهرة - كما مر - بعد معجم العين مباشرة، وقد حاول فيه صاحبه أن يتحاشى ما وقع فيه الخليل في كتاب العين، ويمكن إجمال مميزات الجمهرة فيما يلي:
1- ابتعد ابن دريد عن نظام التقليبات الصوتية، واتبع نظام التقليبات الأبجدية، وهي - على كل حال - أيسر.
2- انفرد ابن دريد ببعض الصيغ كما انفرد ببعض الشواهد.
3- اعتنى باللهجات الواردة عن القبائل العربية، ونسبها إلى أهلها.
4- اعتنى بالشواهد القرآنية والحديثية وكلام العرب.
5- اعتنى بالإشارة إلى الألفاظ المُعَرَّبة والدخيلة.
المآخذ على الجمهرة:
1- اتباعه لنظام التقليبات الأبجدية؛ فهي وإن كانت أيسر من نظام الصوتية إلا أن نظام التقليبات بحد ذاته شاق.
2- وقوعه في كثير من الاضطرابات؛ فقد خلط في الأبنية ونظامها؛ حيث لم يجعلها الأساس الأول في جميع المعجم، ولكنه ألحق في بعض الأبواب إضافات صادفته أثناء التأليف.
كما اضطرب في خطته حيث انفرد في معجمه بأشياء لم توجد في كتب المتقدمين.
3- أنه اتهم باضطراب التصنيف وفساد التصريف-كما ذكر ذلك ابن جني- .
قال السيوطي: "وقال ابن جني في الخصائص: وأما كتاب الجمهرة ففيه -أيضاً- من اضطراب التصنيف، وفساد التصريف، مما أَعذرُ واضعَه فيه لبعده عن معرفة هذا الأمر، ولما كتبته وقعت في متونه وحواشيه جميعاً من التنبيه على هذه المواضع ما استحييت من كثرته؛ ثم إنه لما طال عليَّ أومأت إلى بعضه وضربت البتة عن بعضه".
ثم وضح السيوطي مقصود ابن جني، ودافع عن ابن دريد، بقوله: "قلت: مقصوده الفساد من حيث أبنية التصريف، وذكر المواد في غير محالها كما تقدم في العين؛ ولهذا قال: "أعذرُ واضعَه فيه لبعده عن معرفة هذا الأمر".
يعني أن ابن دريد قصيرُ الباع في التصريف وإن كان طويل الباع في اللغة.
وكان ابن جني في التصريف إماماً لا يشق غباره؛ فلذا قال ذلك".
4- أنه اتهم بالكذب، وصنع الألفاظ، حيث حكى السيوطي ذلك عن الأزهري ثم قال: "وقال الأزهري: ممن ألف الكتب في زماننا فرُمي بافتعال العربية وتوليد الألفاظ أبو بكر بن دريد، وقد سألت عنه إبراهيم بن محمد بن عرفة - يعني نفطويه - فلم يعبأ به ولم يوثقه في روايته".
ثم دافع السيوطي عن ابن دريد بعد ذلك بقوله: "قلت: معاذ الله وهو بريء مما رمي به، ومن طالع الجمهرة رأى تحريه في روايته، وسأذكر منها في هذا الكتاب ما يُعرف منه ذلك، ولا يقبل فيه طعن نفطويه؛ لأنه كان بينهما منافرة عظيمة، بحيث إن ابن دريد هجاه بقوله:
لو أنزل الوحي على نفطويه لكان ذاك الوحي سخطاً عليه
وشاعرٌ يدعى بنصف اسمه مستأهل للصفع في أخدعيه
أحـرقه الله بـنصف اسمه وصير الباقي صراخاً عليه
وهجا هو ابن دريد بقوله:
ابـــن دريـــد بــقـره وفــيـه عِـــيٌّ وشَــرَهْ
ويــدعـى مــن حـمـقه وضــع كـتـاب الـجمهرة
وهو كتاب العين إلا أنه قد غيره
وقد تقرر في علم الحديث أن كلام الأقران في بعضهم لا يقدح".
============
دعوة الإسلام