صفحات من كتاب مبادىء علم السياسة
الإهداء
إلى الجيل العربي الجديد.. على أمل أن يهتم أكثر بالسياسة، والعلوم السياسية، لأهميتها العظمى.. ودورها الرائد الخطير، في حياة البشر.
لقد آن الآوان لإدراك أن الجهل بالسياسة، أو انحرافها، أو عدم الاكتراث بها، سيعني: شقاء مريعًا، وتخلفًا شنيعًا، في كل مجالات الحياة.
مقدمة الطبعة الثالثة
يسرني أن أخط هذه الـ (مقدمة)، للطبعة الثالثة، من كتابي (مبادئ علم السياسة)، الذي صدرت الطبعة الأولى منه عام 1417هـ، كما أن الطبعة الثانية هي الآن على وشك النفاد، وذلك دليل على أن هذا الكتاب قد حظي ـ ولله الحمد ـ بقبول حسن.. في الوسط الأكاديمي والثقافي، المحلي والعربي، وذلك شجعني مرة أخرى على إعادة نشر الكتاب، وإصدار طبعة ثالثة منه.. أكثر اختصارًا، فكان هذا الكتاب الذي بين يديك، أيها القارئ العزيز.
وبما أن الطبعة الثانية استمرت ـ رغم ـ إيجازها ـ في الاتسام بتوسع مواضيعها، وشموليتها، واحتواءها على شيء من التعمق، فقد قررت ـ استجابة لرأي عينة من الطلاب والطالبات المعينين ـ اختصار تلك الطبعة أكثر.. وإصدار هذه الطبعة، من هذا الكتاب، أكثر إيجازًا وتبسيطًا.. لعل مواضيعها تكون أيسر منالاً، للطلاب المبتدئين.
وما زال المؤلف يعتقد أن المضمون الذي أتت عليه الطبعة الأولى مناسب ومبسط.. للطلاب الجادين، المبتدئين في دراسة السياسة. وليس في هذه الطبعة جديد يذكر، عدا حذف البعض من صفحات الطبعة الثانية.. وبالتحديد، تم حذف الصفحات التالية من الطبعة الثانية:
(1) 26 ـ 36
(2) 54 ـ 66
(3) 108 ـ 127
(4) 188 ـ 194
(5) 250 ـ 257
(6) 264 ـ 266
(7) 279 ـ 284
(8) 316 ـ 366
(9) 384 ـ 399
بالإضافة إلى اختصارات أخرى، هنا وهناك.
أي نحو 140 صفحة وهو ما يعادل حوالي 32% من حجم الطبعة الثانية. وأضحى حجم الطبعة الثالثة يساوي أقل من 60% من كامل حجم الطبعة الأولى. ولعل هذا الحذف يرضي طلاب الاختصار، ومؤيديه.
أتمنى أن تكون محتويات هذه الطبعة أسهل تحصيلاً.. وأن تشد الطالب إلى مواضيع علم السياسة الهامة والشيقة، وتجعله يحاول الاستزادة.. وبالتالي اللجوء إلى مراجع أكثر شمولاً وعمقًا وتفصيلاً، الأمر الذي يسهم في دعم الثقافة السياسية العربية، وهي الغاية التي ندعي ـ بصدق ـ أننا نسعى إليها. والله ولي التوفيق
المؤلف:
ص. ي . ف
جدة: في 2/9/1422هـ
الموافق 17/11/2001م
تمهيد
وضعت مواضيع هذا الكتاب، حسب التسلسل التقليدي المعتاد، لورودها في أكثر مراجع علم السياسة، العربية والعالمية. وبما أنه كتاب موجز ـ رغم ما قد يرى البعض فيه من ضخامة في الحجم ـ فقد اقتصر على ثلاثة أجزاء، يوضحها فهرست هذا الكتاب، ويبين أهم تفاصيلها.
ـ إن الجزء الأول، وهو بعنوان: "السياسية".. و"علم السياسية"، يحتوي على المواضيع الرئيسية.. التي تمثل البداية المنطقية، التي ترد ـ عادة ـ في معظم كتب المدخل.. لدراسة السياسة. ويتضمن هذا الجزء ثلاثة فصول.
يهتم الفصل الأول، بتقديم تعريف لـ "السياسة"، و"علم السياسة"، وعناصر علم السياسة، والمعرفة السياسية. (بأنواعها)، وأهمية علم السياسة، ومجاله، وعلاقته بالعلوم الاجتماعية الأخرى…إلخ.
وفي الفصل الثاني،نلخص أهم مناهج البحث العلمي.. المتبعة الآن في دراسة السياسة، دراسة علمية. ونلقي بعض الضوء، على مدى "علمية" علم السياسة، حاضرًا ومستقبلاً. وفي الفصل الثالث، نقدم نبذة، عن تطور الفكر السياسي، أو الفلسفة السياسية.. في محاولة لتوضيح ماهية المعرفة الفلسفية السياسية.
ـ الجزء الثاني، وهو بعنوان: التنظيم السياسي. ويحتوي ـ هو الآخر ـ على ثلاثة فصول. حيث نناقش في الفصل الأول، مفهوم "الدولة" وعناصرها، وأصلها، وأنواعها، وأهم وظائفها… إلخ.
وفي الفصل الثاني، نوجز المفهوم العام لـ "النظام السياسي".. والإطار التحليلي العام، المقترح لدراسة ذلك النظام.
وفي الفصل الثالث، من هذا الجزء، نتطرق إلى تحليل "المؤسسات" السياسية الرسمية، وغير الرسمية. حيث نقدم (في المبحث الأول)، تعريفًا وتوضيحًا عامًا لـ "الحكومة"، وعناصرها ومكوناتها، وأعمالها، وأنواعها…إلخ.
وفي المبحث الثاني، من الفصل الثالث هذا، نطرح تعريفًا عامًا، بأهم القوى السياسية غير الرسمية، ويقصد بها: الأحزاب السياسية، وجماعات الضغط، والرأي العام.
* * *
ـ أما الجزء الثالث والأخير، وهو بعنوان: العلاقات الدولية، فيتضمن فصلين موجزة، حيث يقدم الفصل الأول العلاقات الدولية، ويعرف بدراستها أما الفصل الثاني فهو يتناول موضوعًا مختلفًا وهو: التنظيم الدولي.
الفهرس
الموضوع الصفحة
ـ الإهداء (1)
ـ مقدمة الطبعة الثالثة (2)
ـ تمهيد
ـ الفهرست (المحتويات)
ـ فهرست الجداول والأشكال
الجزء الأول: السياسة.. و”علم السياسة”..
الفصل الأول: المعرفة السياسية..
علم السياسة
المبادئ والقواعد
علم السياسة، لماذا؟!
أهمية "السياسة"
مجال السياسة
علاقة علم السياسة بالعلوم الأخرى
المعرفة السياسية
التحليلات السياسية المختلفة
* * *
ـ الفصل الثاني: مناهج ومداخل البحث العلمي في دراسة السياسة
المنهج التقليدي (أو المناهج التقليدية)
المنهج التجريبي (الحديث)
الفصل الثالث: نبذة عن تطور الفكر السياسي
نماذج من الفلسفة السياسية التقليدة
ـ العصور القديمة: أفلاطون
ـ العصور الوسطى: مارسيليو بادو، عبدالرحمن بن خلدون
ـ العصور الحديثة: ميكافيللي ، جان جاك روسو
الجزء الثاني: التنظيم السياسي
الفصل الأول: مفهوم "الدولة"
المبحث الأول: الدولة وعناصرها الرئيسة
المبحث الثاني: أصل الدولة ومبررها
المبحث الثالث: أشكال الدولة
(أ) الاتحاد الشخصي
(ب) الاتحاد الفعلي
(ج) الاتحاد الكونفدرالي
(د) الاتحاد الفيدرالي
المبحث الرابع: وظيفة الدولة (ممثلة بحكومتها)
(أولاً) ـ المذهب الفردي
(ثانيًا) ـ المذهب الاشتراكي
(ثالثًا) ـ المذهب الاجتماعي
الفصل الثاني: النظام السياسي والإطار التحليلي العام المقترح لدراسته
الفصل الثالث: عناصر النظام السياسي
ـ المبحث الأول: المؤسسات السياسية الرسمية
ـ تعريف "الحكومة"
ـ العلاقة بين السلطات الثلاثاء
ـ الدستور
ـ السلطة التشريعية
ـ السلطة التنفيذية
ـ السلطة القضائية
ـ أنواع الحكومات
ـ التصنيف الحديث للحكومات
ـ المبحث الثاني: المؤسسات السياسية غير الرسمية
(أ) الأحزاب السياسية
(ب) جماعات الضغط
(ج) الرأي العام
الجزء الثالث: العلاقات الدولية
الفصل الأول: العلاقات الدولية ودراستها
ـ مقدمة
ـ المبحث الأول: علم العلاقات الدولية
ـ العلاقات الدولية: تعاون وصراع..
ـ أطراف العلاقات الدولية
ـ علاقة علم العلاقات الدولية بـ “علم السياسة” والعلوم الأخرى
ـ المبحث الثاني : النظام العالمي.. وتطوراته المحتملة
الفصل الثاني : التنظيم الدولي المعاصر
ـ المنظمات الدولية
ـ عصبة الأمم
ـ هيئة الأمم المتحدة
ـ مصادر ومراجع الكتاب
فهرست الجداول والأشكال(الجدول/ الشكل) الصفحة
جدول رقم (1): هيئة الأمم المتحدة.. والأجهزة المرتبطة بها
شكل رقم (2): التحديد التقريبي للحد الأمثل للسكان
شكل رقم (2): "منحنى وظيفة الحكومة"
شكل رقم (3): تفاعل النظام السياسي مع بيئته ـ كما يرى إيستون
شكل رقم (4): تفاعل النظام السياسي مع بيئته ـ كما يرى إيستون:شكل مفصل
شكل رقم (5): الصورة العامة التي يتفاعل بها النظام السياسي مع بيئته
شكل رقم (6): منحنى العلاقات الثنائية بين دولتين معينتين أو طرفين معينين من أطراف العلاقات الدولية.
الجزء الأول::"السياسة"... و”علم السياسة”
يمكن اعتبار محتويات هذا الجزء، أهم المواضيع، التي ينبغي للمبتديء في دراسة السياسة. الإلمام بها. فمواضيع هذا الجزء، تعتبر المدخل الأول والمعبر الرئيس، لدراسة "السياسة".. دراسة علمية وموضوعية، إنها ـ أي هذه المواضيع ـ أهم أسس الدراسة العلمية لظاهرة السلطة السياسية.
وهذا الجزء يحتوي على ثلاث فصول: في الفصل الأول، نقدم تعريفًا عامًا وموجزًا، لـ "السياسة" و”علم السياسة”، والمعرفة السياسية، بصفة عامة، وأهم ما يتعلق بأسس علم السياسة، وماهيته. أما في الفصل الثاني، فنوجز أهم الأساليب والطرق العلمية.. التي تتبع الآن، كوسائل.. لدراسة السياسة، دراسة علمية مجردة. وفي الفصل الثالث، من هذا الجزء، نورد نبذة عن المعرفة السياسية الفلسفية التقليدية.. موجزين بعض النماذج من الأفكار السياسية، عبر مختلف العصور.
الفصل الأول::المعرفة السياسية
السياسة (Politics)، هي من الإنسان وإليه.. وللإنسان سلوك سياسي، كما أن له سلوك اقتصادي واجتماعي.. إلخ، إن سلوك الإنسان السياسي يتداخل مع كل سلوكياته الأخرى.. فالسياسة ليست مقتصرة على الدولة وشؤونها فقط.. بل إنها موجودة في معظم تصرفات وسلوكيات الإنسان، ومع ذلك، اصطلح على أن يشمل "علم السياسة"، السلطة السياسية دون غيرها من أشياء سياسية أخرى، أو سلطات أخرى.
ويفترض أن الفرد لا يمكن أن يعيش (عيشًا طبيعًا) إلا في جماعة.. حتى يستطيع الحصول على معظم احتياجاته، ويتمكن من إشباع رغباته المختلفة.. لهذا، وجدت الجماعة.. والجماعة الكبرى (الدولة)، لا يمكن أن تفي بأهم الأغراض من تكوينها، إلا إذا نظمت، وقامت بها سلطة تدير شــؤونها، بما يحقق أكبر قدر ممكن من الخير والسـعادة لأعضائها(1).
وبهذا أن نقول بأن فكرة "السلطة السياسية" تبلورت منذ أن بدأ الإنسان يفكر في "تنظيم" (Organize) المجتمعات التي يقيمها.. حيث نتج عن هذا التفكير، ما يعرف الآن بـ "المعرفة السياسية".
فالإنسان كائن اجتماعي.. لا يمكن أن يعيش إلا في جماعة. وهو كائن مفكرـ حيث يتميز بـ (العقل).. هاتان الخاصيتان جعلتاه كائنا سياسيا، أيضًا، شاء أم أبى، تذكر أو نسى. إن "المعرفة السياسية" (ومنها علم السياسة)، ظهرت كوليد لحاجة الإنسان إلى الجماعة.. وضرورة تنظيم وإدارة هذه الجماعة (سياستها).. وقدرة الإنسان على التفكير والتأمل ـ لأنه يمتلك العقل.
والمعرفة السياسية تتناول أهم ظاهرة في حياة الإنسان العامة (الاجتماعية).. وهي ظاهرة السلطة السياسية من تأثير بالغ، على كل المجالات وجوانب الحياة الأخرى.
ولتعريف "علم السياسة"، نرى التطرق ـ بإيجاز ـ إلى تعريف كل من "العلم" و "السياسة".
تعريف "العلم" (Science):
للعلم تعريفات عدة، نقتطف منها التالي فقط:
العلم هو مجموعة من المبادئ والقواعد(1) ، التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بجانب ما معين، من جوانب الحياة المتعددة.
العلم هو مجموعة متراكمة من المعرفة، التي تم برهنة صحتها موضوعيًا.. والتي تتعلق بالإنسان، أو الطبيعة، أو المجتمع.
العلم هو: الأفكار المتتالية المترابطة، وكذلك الوسائل، التي عن طريقها يتم الحصول على هذه الأفكار (المعرفة) (2) .
وعندما نأخذ بالتعريف الأول فقط (بغرض التبسيط)، نجد أن أي علم يمكن توضيحه وتحديده بسحب هذا التعريف عليه. فـ "علم الفيزياء" (مثلاً) هو:
مجموعة من المبادئ والقواعد، التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بـ (الفيزياء) أو المادة الطبيعية.
أما "علم الاجتماع" مثل آخر، فيمكن تعريفه بأنه:ـ
مجموعة من القواعد والأحكام، التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بـ "الاجتماع الإنساني" موضوع علم الاجتماع.
..... وهكذا بالنسبة لكل العلوم الأخرى.
* * *
إذًا، وعندما نسحب نفس التعريف المذكور، على دراسة السياسة، دراسة علمية، يمكن القول بأن علم السياسة (Political Science)، هو عبارة عن:ـ
مجموعة من المبادئ والقواعد التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بـ "السياسة".
فإذا اعتبرت "الدولة" هي موضوع "علم السياسة"، يصبح تعريف "علم السياسة" هو: مجموعة من المبادئ والقواعد التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بـ "السلطة".
ويلاحظ أن هذا التعريف، يربط "العلم" والمبادئ العلمية، بالتجريب (Empricism) وهو يعني أن أي افتراض لا يمكن إثبات صحته إلا بالتجربة العلمية والبرهنة الموضوعية. وربما يعترض البعض على ربط العلم بالتجريب دائمًا. ولكن هذا الربط هو السائد الآن، في دراسة العلوم الاجتماعية، بصفة عامة، وعلم السياسة منها على وجه الخصوص. ويمكن أن نصف هذا التعريف بـ "النمطية"، لقابليته لتعريف أي علم، بإيجاز وتبسيط.
* * *
تعريف "السياسة":
لغويًا، توحي لفظة "سياسة"، بشيء يتعلق بالشؤون العامة للبشر. وفي اللغة العربية، اشتقت كلمة "سياسة" من كلمة "سوس" بمعنى: رئاسة.
و"ساس" الأمر، أي قام به. والسياسة تعني القيام بأمر من أمور الناس بما يصلحه. (وكلمة أمر شائعة الاستعمال بمعنى حكم ودولة) (1) .
وفي الأصل اللاتيني، تعني لفظة "سياسة" تدبير شؤون الدولة، أو المدينة. وأصبحت الآن تعني كل ما يتعلق بشؤون الدولة، والعلاقات بين الدول، وخطط الأفراد والجماعات، الهادفة إلى تحقيق أهداف معينة(2) .
ويمكن تعريف "السياسة" أيضًا، بأنها: الأهداف التي تسعى جهة، (أو حكومة) ما، لتحقيقها تجاه جهة أو جهات معينة) والوسائل التي تتبعها، أو تفكر في إتباعها تلك الجهة، لتحقيق تلك الأهداف.
فالسياسة التعليمية مثلاً لجهة ما هي الأهداف التعليمية التي تسعى تلك الجهة لتحقيقها، تجاه جهة أو قطاع معين، والوسائل التي تستخدمها تلك الجهة، لتحقيق أهدافها. ويلاحظ هنا، أن كلمة "سياسة" استعملت بمعنى الخطة ـ الخطة التعليمية. وهكذا وتكتسب كلمة "سياسة" المعنى السياسي (السلطوي)، إذا تعلقت ـ بشكل أو بآخر ـ بظاهرة السلطة السياسية.
فسياسة حكومة (أ) نحو البلد (ب) مثلاً، يمكن تعريفها بأنها: الأهداف التي تسعى حكومة (أ) لتحقيقها قبل أو تجاه البلد (ب)، والوسائل التي تتبعها "أو تفكر في اتباعها حكومة (أ)"، لتحقيق تلك الأهداف. كما يمكن القول، بأن ما يعرف بـ الاستراتيجية (Strategy)، هي وسائل تحقيق الأهداف، وسبل الوصول إليها، وضمانها.
والواقع، أنه يصعب ـ حتى الآن ـ تعريف السياسة تعريفًا دقيقًا موحدًا وشاملاً، تتفق عليه غالبية علماء ودارسي السياسة. وذلك يرجع ـ بصفة أساسية ـ إلى صعوبة تحديد الظاهرة أو الظواهر، التي تشتمل عليها السياسة.
ومن أبرز التعريفات لـ "السياسة"، تلك التي تقول: إن السياسة هي العلاقة بين الحكام والمحكومين، أو أنها "الدولة" وكل ما يتعلق بها من شؤون مختلفة ومتنوعة. أو أنها السلطة الكبرى، في المجتمعات الإنسانية، وكل ما له علاقة بتلك الظاهرة ـ السلطة(1) .
* * *
وهناك تعريفات عدة، لظاهرة "السلطة"، المتعددة الأبعاد والمتشبعة الجوانب. ولن نلج في خضم هذه التعريفات.. ولكن لنلجأ إلى أحدها فقط.. حيث يمكن تعريف "السلطة" بأنها:
قدرة (أ) على جعل (ب) يعمل، أو لا يعمل، ما يريده (أ)، سواء أراد (ب) ذلك أو لم يرد(2) .
ويمكن بالتالي، تعريف السلطة السياسية بأنها: القدرة على جعل المحكوم يعمل أو لا يعمل، أشياء معينة، سواء أراد المحكوم أو لم يرد.
إنها علاقة طاعة.. فيها يعترف الفرد بحق آخر أو آخرين، في ممارسة تنظيم وإدارة حياته العامة، أو بعض جوانبها. والسلطة السياسية (Political Authority) هي نوع من أنواع "السلطات" المختلفة.. كسلطة الأب على أبنائه، وسلطة المدير (الإداري) على مرؤسيه...إلخ.
غير أن السلطة السياسية تتميز عن غيرها من السلطات الأخرى، بأنها:
أ ـ عامة .. تشمل قراراتها وتلزم كل المجتمع.
ب ـ تحتكر وسائل الإكراه الرئيسية في المجتمع، كالجيش والشرطة... إلخ.
ج ـ تحظى بـ "الشرعية" (Legitimacy)، أي قبول المحكومين واعترافهم بها، كمرجع أعلى، سواء كان ذلك عن رضاء، أو كراهية واضطرار.
ولو خالف شخص ما قاعدة قانونية معينة، فعند ذلك يبرز احتمال قيام السلطة بمعاقبة ذلك الشخص. فالسلطة مستمدة "أساسيًا" من القدرة الضمنية والصريحة، على معاقبة الخارجين على القوانين. وتكون السلطة (ممثلة في الحكومة ـ مثلاً) مدعمة أكثر، كلما تزايدت قدرتها على معاقبة الخارجين على القانون، وفرض النظام. وإن الاحتمال الضمني بمعاقبة الخارجين على القانون لا يصبح قائمًا أو كبيرًا إذا لم يقترن بوجود قدرة فعلية على فرض القانون والنظام(1) .
وهذا لا يعني أن معظم الناس يطيع القانون لأنه يخشى عقاب مخالفته فقط، بل يمكن القول بأن معظم أفراد الشعوب وخاصة المتحضرة، يتمشى بالقانون ويحترمه لأنه يعتقد ويؤمن بأن القوانين التي وضعت لتنظيم الحياة العامة، للمجتمع ـ ورغم ما قد يكون بها من "قصور" في رأيه ـ إنما هدفها هو منع الفوضى وسيادة قانون الغاب... حيث يسيطر القوي على الضعيف.
إن "الشرعية" تعني (في كثير من الحالات) كما ذكرنا آنفًا، خضوع المحكومين وقبولهم بالحكومة القائمة.. سواء كان ذلك القبول نابعًا من رضا فعلي، أو أنه رضا المضطر والمكره. وعنصر "الشرعية"، بذلك، يصبح عنصرًا مهمًا، من عناصر "السلطة السياسية"، كما تتمثل في "الحكومة".
لذلك، تسعى كل حكومة للحفاظ على شرعيتها وتدعيمها، بشتى الوسائل الممكنة، وفي مقدمة هذه الوسائل: استخدام القوة لفرض الشرعية، أو محاولة إرضاء رغبات الشعب، وترجمة تطلعاته إلى سياسات وسلوكيات حكومية فعلية.. لكسب رضاه وقبوله الطوعي.
وفي كلتا الحالتين، نجد أن الشرعية هي عنصر أساسي، لوجود الحكومة.. وأن أساس "الشرعية" هذه، هو قبول المحكومين بـ "الحكومة"... ويمكن أن يكون هذا القبول مفروضًا أو طوعيًا، اعتمادا على طبيعة ونوع الحكومة القائمة. فـ "قبول" المحكومين هو، إذًا، المصدر الرئيس لشرعية الحكومة(1) . ويشيع استخدام لفظي "السلطة السياسية" (Political Authority) و"القوة السياسية" Political Power كلفظين مترادفين، لهما معنى واحد. ولكن لفظ “السلطة السياسية” يقترن بغطاء قانوني معين، بينما القوة السياسية يمكن أن تكون قانونية، ويمكن أن لا تكون كذلك.
* * *
ـ علم السياسة:
إن (علم السياسة)، هو ذلك العلم الذي يتناول ظاهرة "السياسية"، في المجتمعات الإنسانية، بالدراسة (العلمية).. بهدف فهمها، واكتساب القدرة على شرح المتغيرات المختلفة، التي تتعلق بها، وتفسير العلاقات المتنوعة، بين تلك المتغيرات، والتنبؤ بتقلباتها المختلفة.
ويختلف تعريف "علم السياسة" بالطبع، باختلاف الزاوية التي ينظر منها المعرف إلى هذا العلم. لذلك، توجد حاليًا عشرات التعريفات لـ "علم السياسة". فإذا نظرنا إلى علم السياسة من الزاوية الحركية، نجد أن تعريف "ديفيد إيستون" لعلم السياسة، والذي ينص على أن: علم السياسة هو: دراسة عملية التوزيع السلطوي للقيم المختلفة، من أجل المجتمع(2) ، هو أكثر التعريفات قبولاً وانتشارًا الآن لـ "السياسة". والمقصود من كلمة "دراسة" هو: الدراسة العلمية.. أي الدراسة التي تقوم على أساس منهج بحث علمي سليم.
وعندما نأخذ بتعريف "إيستون"، يمكن أن نقول بأن (عملية التوزيع السلطوي للقيم المختلفة، من أجل المجتمع)، تعني: السلطة السياسية.. في وضعها الحركي (Dynamic).
فـ "السياسة"، هي (بصفة أساسية) عملية اتخاذ القرارات (الملزمة)، التي تحدد توزيع القيم (المادية والمعنوية)، في المجتمع، وتتضمن كذلك الإجراءات التي تؤدي إلى تنفيذ تلك القرارات، وكل ما يتعلق بهذه العملية. و"علم السياسة" يرصد تلك العملية، محللاً إياها... تحليلاً علميًا(1) .
وبذلك يمكن صياغة تعريف "إيستون" لعلم السياسة، ليصبح كالتالي:ـ
علم السياسة هو: الدراسة العلمية (وما ينتج عنها من مبادئ وقواعد)، لظاهرة السلطة السياسية (بمعناها الموجز أعلاه)، وكل ما يتعلق بها.
وعرف "هارولد لاسويل" علم السياسة، بأنه: دراسة النفوذ وأصحاب النفوذ. أو أنه: دراسة السلطة التي تحدد من يحصل على ماذا (من القيم المختلفة)، ومتى، وكيف(2) .
وعرفت "العلوم السياسية"، بأنها: "علوم الظاهرة السياسية"، أيًا كان نوعها. وعلى هذا، ففي الماضي، حيث اعتبرت الدولة هي الظاهرة السياسية المهمة، كانت الدولة هي محور دراسة العلوم السياسية. فتناول بذلك المهتمون بالعلوم السياسية، الدولة من جميع الجوانب... سواء فيما يتعلق بنظامها الداخلي، أو علاقتها الخارجية. وفي فترة لاحقة، أعتبرت ظاهرة السلطة السياسية، هي الظاهرة السياسية المتميزة... فأصبحت، بذلك، مدار التحليل، في العلوم السياسية. والآن نجد أن العلماء السياسيين يعتبرون "القدرة" (Political Power)، هي الظاهرة السياسية، الجديرة بالاهتمام... (3).
ويلاحظ أن صاحب هذا التعريف، يفرق بين مصطلحي السلطة السياسية، و"القدرة السياسية".
ويستطرد صاحب التعريف السابق (د.علي شمبش)، قائلاً :ـ
إن تعريف العلوم السياسية. يدور مع التطور الذي مرت به العلوم السياسية، كأحد حقول المعرفة الإنسانية. ولا أحد يستطيع الإدعاء بأن تعريف العلوم السياسية على أنها علوم القدرة... كظاهرة سياسية، هو نهاية المطاف. فقد يستجد في الحقل، ما يثبت أن هناك ظاهرة سياسية، أجدر بأن توليها العلوم السياسية، إهتماماتها. وبهذا نستطيع القول أنه مهما تغيرت المفاهيم والإطارات، التي يدور فيها موضوع العلوم السياسية، فستظل هذه العلوم هي علوم الظاهرة السياسية، مهما كانت، وأينما كانت، ومتى كانت(1) .
وعرف علم السياسة، بأنه: (العلم الاجتماعي، الذي يتحدث في الصلة العامة، بين الناس، وبعضهم.. في ظل الهيئة الكبرى، التي ينتظمون تحتها، والتي تسمى الدولة) (2) .
وعرفت "السياسة" بأنها:
(هي القيام على الجماعة، بما يصلحها... في حدود مفاهيمها الأخلاقية. إنها الممارسة الفعلية، لمسؤولية عامة، رسمية، أو غير رسمية، تنبثق من صميم حياة الجماعة ككل. وتهتم بشؤونها، المستجدة في الدولة والحكومة) (3) .
و"علم السياسة" ـ بموجب هذا التعريف ـ هو: العلم الذي يتناول دراسة هذه العملية، دراسة علمية(4) .
وتقول "دورثي بيكلز" محاولة تعرف "علم السياسة":ـ
(إن دراسة السياسة، والتي تسمى علم السياسة، تنشأ، عندما يتساءل الباحثون، عن "الأسس" (Rules)، التي يحكم بموجبها... أو التي حكم بناء عليها، في السابق. وكذلك، عندما يتساءل الباحثون: ما إذا كانت تلك الأسس ينبغي قبولها، الآن، أم لا. ولماذا تسود بعض المجتمعات أسسًا مختلفة. وما إذا كان بالإمكان إيجاد أسس ومبادئ، للحكم، بالنسبة لمجتمع معين. وما إذا كان يمكن اكتشاف أسس عامة... للحكم، يمكن تطبيقها، على كل المجتمعات) (5) .
* * *
مما سبق، يمكن أن نقول بأن العلم يعني: مجموعة من المبادئ والقواعد، التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بجانب ما معين من جوانب الحياة. كما يعني: الدراسة العلمية (وما يتمخض عنها من مبادئ وقواعد علمية) لظاهرة من ظواهر الكون.
أما السياسة، فتعني ظاهرة السلطة السياسية. أو تعنى: عملية صنع القرارات الملزمة، لكل مجتمع... تلك القرارات التي تتناول قيمًا مادية ومعنوية مختلفة. (أو: عملية التوزيع السلطوي للقيم المختلفة، من أجل كل المجتمع، كما قال إيستون).
لذلك، يمكن أن نقدم التعريفات التالية لـ"علم السياسة". فكل من هذه التعريفات يعرف علم السياسة بأنه:ـ
(1) ـ مجموعة من المبادئ والقواعد، التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بالسلطة السياسية.
(2) مجموعة من المبادئ والقواعد، التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بعملية صنع القرارات الملزمة لكل المجتمع.. تلك القرارات التي تتناول قيمًا مادية ومعنوية مختلفة.
(3) الدراسة العلمية (وما يتمخض عنها من مبادئ وقواعد علمية) لظاهرة السلطة السياسية، وما يتصل بها.
(4) الدراسة العلمية (وما يتمخض عنها من مبادئ وقواعد علمية) لعملية صنع القرارات الملزمة لكل المجتمع... وهي القرارات التي تتناول قيمًا مادية ومعنوية مختلفة.
* * *
وبهذا، نرى أن "السلطة السياسية"، وكل ما يتعلق بها، هي الأقرب لأن تكون ظاهرة (أو مادة وموضوع) علم السياسة. أو كما يقال، "مفهوم الأساس" "لعلم السياسة" (1) .
ولما كانت ظاهرة السلطة السياسية، وكل ما يتعلق بها، هي ظاهرة إنسانية اجتماعية، أو هي "سلوك الإنسان السياسي"، فإن علم السياسة، الذي يتناول دراسة هذه الظاهرة، يصنف ـ عادة ـ ضمن العلوم التي تعني بدراسة السلوك الإنساني بكل جوانبه، وهي التي يطلق عليها ـ عادة ـ "العلوم الاجتماعية".
وعلى ذلك تكون مناهج البحث المتبعة في دراسة "السياسة"، هي ـ بصفة عامة ـ المناهج المتبعة في دراسة معظم تلك العلوم، كما سنوضح في الفصل الثاني.
المبادئ والقواعد:
يمكن القول أن المقصود بـ "المبادئ والقواعد"، في علم السياسة، هو: النظرية العلمية، وما يسمى بـ "الأدوات التحليلية الأخرى"، وأهمها: المفهوم، والنموذج، والإطار التحليلي. ويضيف البعض إلى هذه "الأدوات" ما يعرف بـ "الافتراض".
أما "المبادئ والنظريات" في الفلسفة السياسية، فيقصد بها غالبًا: "الاستنتاجات" التي يخرج بها فلاسفة السياسة، والتي تقوم غالبًا على الاستنباط... أو العبارات والأقوال (أو التحليلات) التي يقدمها الفلاسفة، والقائمة ـ أساسًا ـ على مقدمات قيمية معينة، يسلم الفيلسوف بصحتها(1) .
إذًا، الفارق الرئيسي بين "مبادئ وقواعد علم السياسة"، و"مبادئ وقواعد الفلسفة السياسية"، هو أن مبادئ وقواعد علم السياسة قد تم إثبات صحتها بالتجريب، في ظل الإطار الذي توجد فيه، بينما لم يتم تحديد مدى صحة مبادئ وقواعد الفلسفة السياسية، لتظل مجرد "افتراضات"، تتعلق بـ "السلطة السياسية".
* * *
علم السياسة، لماذا؟
ولو تساءلنا: لماذا ندرس السياسة، دراسة علمية.. أو لماذا ندرس "علم السياسة"، أو نتخصص فيه، فإن الإجابة العامة على هذا التساؤل هي: إننا نفعل ذلك، لتحقيق هدف رئيسي هام، هو: فهم الظاهرة السياسية. هذه الظاهرة التي يمكن القول بأنها أهم الظواهر الإنسانية ـ الاجتماعية في حياة الإنسان العامة فللسياسة (الإدارة العامة للمجتمع) تأثير واضح (سلبًا وإيجابًا)، على كل جوانب الحياة، والسلوك الإنساني بعامة.
وأن أهمية "علم السياسة" تنبع من أهمية الظاهرة التي يتناولها... هذه الظاهرة التي يتحتم على الإنسان فهمها فهمًا علميًا جيدًا، حتى يتمكن من التأثير فيها، بما يتلاءم وغاياته، ومصالحه.
وكأي علم آخر، فإن هدف علم السياسة، هو: الكشف عن الحقيقة، في مجال موضوعه (الظواهر السياسية).. أي معرفة "ما هو كائن" ـ معرفة موضوعية (علمية). ويمكن استخدام هذه المعرفة لتحديد وتوضيح "ما يجب أن يكون" في مجال الظواهر السياسية المعنية...
فبعد معرفة ما هو كائن، على أساس علمي، يمكن معرفة وتوضيح وتحديد "أفضل" ما يجب أن يكون... إن معرفة ما هو كائن تعطي قدرة على التأثير (الإيجابي والسلبي) في الظواهر السياسية المعنية. وهذه هي صورة الاستفادة العلمية من دراسة مبادئ وقواعد علم السياسة. فالمعرفة العلمية بنتيجة قيام تنظيم معين (مثلاً) لحكومة معينة، في ظروف معينة، تساعد على الإحاطة بأمر "تعديل" ذلك التنظيم، أو التأثير فيه، بما يحقق أهدافًا معينة... وهكذا.
* * *
ويرى حسن صعب أننا ـ كأفراد وجماعات ـ بحاجة دائمة إلى التأمل.... في مسلماتنا السياسية، ومراجعتها. وإن دراسة السياسة يمكن أن تساعدنا على تحقيق ذلك. على أن نبدأ بدراسة الواقع.. ثم ننطلق من معرفة الواقع السياسي إلى "أفكار جديدة".. لأن علم السياسة ـ في رأيه ـ هو: (علم المراجعة المنهجية المستمرة، أو علم النقد المنهجي الدائم، للمسلمات والأحوال والأنظمة السياسية) (1) .
إن "الفساد السياسي" ـ في رأيه ـ لا يزاح بالتنديد به، بل إن دراسة السياسة، دراسة علمية، هي السبيل لامتلاك الوسيلة القادرة على القضاء على ذلك الفساد، وتوجيه الحياة وجهة الخير التي نتمناها(2) . ويستطرد حسن صعب قائلاً: (إن علينا أن نعرف السياسة، ونلم بها... لنتوصل إلى تحسين أوضاعنا.. وتحسين ملابسات السياسة. وهذا ما يحاول علم السياسة أن يقوم به) (3) .
إن ما يقوله حسن صعب يدعم القول بأن المعرفة السياسية ـ بصفة عامة ـ تتم على مرحلتين: مرحلة "ما هو كائن"... أي دراسة الواقع على علاته (العلم)، ومرحلة "ما يجب أن يكون" (الفن أو التطبيق). وعلم السياسة هو وسيلة لغاية، يمكن القول بأنها تتضمن "تحسين الواقع الإنساني"... أو تحسين الحياة البشرية، عن طريق "تحسين" القوة الرئيسية التي تتحكم في المجتمع وتوجهه ـ السلطة السياسية. أو بمعنى أدق، يمكن القول، بأن هذه الغاية تتمثل في محاولة امتلاك إمكانية التأثير الفعلي في الواقع ـ سلبًا وإيجابًا.
ويرى البعض، أن الهدف من تدريس "علم السياسة" ـ هو تربية "المواطن الصالح" سياسيًا.. أي المواطن الذي يلم بالواقع السياسي لمجتمعه والعالم المحيط به.. بما يمكنه من اكتساب القدرة على التأثير في ذلك الواقع ـ كما هو "مطلوب" ـ والتعامل معه، من منطلق سليم.
وإذا سلمنا، بأن معرفة "ما هو كائن"، لا تتم (بالمضمون السليم)، إلا بدراسة الواقع، دراسة موضوعية مجردة، فإن "ما يجب أن يكون"، يتحدد (غالبًا) بناء على أسس فلسفية معينة، يمكن أن تختلف طبيعتها، من شخص لآخر، ومن دارس لآخر.
وفي سبيل تكوين القيم، التي تحدد "ما يجب أن يكون" تظهر إشكالية.. تتمحور حول الكيفية، التي يتم بها ذلك. وبالنظر إلى المسألة، من بعد آخر، نثير تساؤلاً هامًا، هو: ما هي حدود دور عالم ومدرس السياسة عند تدريسه للسياسة؟! هل يتدخل مدرسو السياسة، للتأثير في طلابهم، وتعليمهم "ما يجب أن يكون"... جنبًا إلى جنب مع "ما هو كائن"؟! أم يترك للمتلقين ذلك، ليحددونه بأنفسهم، وبناء على قيمهم الخاصة؟!
هنا نجد ثلاثة آراء رئيسية مختلفة، هي:ـ(1)
(أ) دور مدرس السياسة يجب أن يكون موضوعيًا بحتا: ويصر أصحاب هذا الرأي على أن دراسة السياسة يجب أن تركز فقط على "ما هو كائن"، وتترك تحديد ما يجب أن يكون جانبًا، حتى تصبح دراسة علمية بحتة. ويصر معظم السلوكيين، على هذا الرأي... تأكيدًا منهم على "موضوعية" دراسة السياسة، التي يجب (ويمكن) أن تكون دراسة "علمية" مجردة ـ في رأيهم.
(ب) دور مدرس السياسة، يجب أن يكون توجيهيًا: ويرى أصحاب هذا الاتجاه، أن دراسة السياسة يجب أن تقترن بهدف معين... هو "تحسين" الحياة الإنسانية عن طريق القضاء على أكبر قدر ممكن من "الفساد السياسي".
(ج) دور مدرس السياسة يجب أن يكون موضوعيًا ـ توجيهيًا: وفحوى هذا الرأي، هي أن تدريس السياسة يجب أن يبدأ بدراسة "ما هو كائن" ـ أي دراسة النظريات السياسية، والواقع السياسي ـ دراسة موضوعية . ثم يقوم مدرسوا السياسة، بعرض "ما يجب أن يكون" ـ في رأيهم ـ كإجتهاد شخصي منهم.... لمساعدة المتلقين على تحديد واتخاذ المواقف المناسبة، تجاه الواقع السياسي المعني. (*)
* * *
إن عالم السياسة هو كالطبيب. فكما أن الطبيب يعني بدراسة الجسم البشري، بهدف "علاجه" وحمايته، وخاصة متى مرض، فإن عالم السياسة يعني بدراسة الواقع السياسي، بهدف "تحسينه" ـ بناء على قيم معينه، متفق على صلاحيتها ـ عبر "تقويم" انحرافات الواقع، ومحاولة القضاء على أكبر قدر ممكن من "عيوبه".
إن النظريات، التي يتوصل إليها علماء السياسة، يمكن أن تساعد في تقديم فهم "أفضل"، للواقع السياسي، للمجتمعات المختلفة وللعالم ككل. ويمكن استخدام هذا الفهم (العلم)، للسمو بالإنسان، وصيانة كرامته، وحماية بقاءه، وتوفير الرفاه له. فما أحوج مجتمعات وعالم اليوم، الذي يئن تحت وطأة امتهان الإنسان، وتسخيره لأغراض تحط من قيمته، وتعيق نموه، بشكل صحي، وتعرضه للتهديد المستمر بالفناء، ما أحوج عالم اليوم إلى مثل هذا الفهم... لدرء خطر التدهور والهلاك، عن البشرية.
واقتصار (علم السياسة) ـ بأكمله ـ على دراسة (ما هو كائن)، وترك تحديد (ما يجب أن يكون)، لغير علماء السياسة، أمر يعني حرمان المجتمعات (علميًا)، من (خبرة) علماء السياسة، وإمكانية مساهمة هذه الخبرة، في تحديد وتحقيق أفضل (ما يجب أن يكون) ـ أي أفضل واقع سياسي ممكن.
وعلى أي حال، فإن "العلم"، يتطلب الفصل التام ـ ما أمكن ـ بين دراسة "ما هو كائن"، وعملية تحديد ودراسة "ما يجب أن يكون".
عالم السياسة المسلم:
إن "العلم" هو "العلم"... لهذا، لا يمكن ـ في رأينا ـ الحديث (مثلاً) عن علم فيزياء إسلامي، وآخر مسيحي... أو علم سياسة يهودي، وآخر إسلامي. في مرحلة الفكر (مرحلة ما يجب أن يكون) فقط، يمكن أن يكون هناك فكر إسلامي... وآخر غير إسلامي...إلخ، اعتمادًا على ماهية وطبيعة "القيم"، التي يقوم عليها الفكر المعني.
وحتى تكون معلوماته ومعرفته موضوعية، فإنه يجب على عالم السياسة المسلم، والمهتم بدراسة السياسة، والبحث العلمي فيها، أن يراعي الفصل بين ما هو كائن، في السياسة، وما ينبغي أن يكون. فدراسة "ما هو كائن"، يجب أن تكون موضوعية مجردة. أما في مرحلة تحديد ودراسة "ما يجب أن يكون"، فإن المسلم ـ بصفة عامة ـ لا يملك إلا أن يبني ويقيم كل "ما يجب أن يكون"، على التعاليم والمبادئ الإسلامية الصحيحة ـ إذا كان يريد أن يكون مسلمًا بحق. وينسحب ذلك على عالم السياسة المسلم. فالأخير يجب أن يقيم "ما يجب أن يكون"، بناء على المبادئ الإسلامية، المتعلقة بالسياسة والاجتماع. ولعل محور اهتمام العالم السياسي المسلم هو كيفية تحديد وتحقيق "النموذج السياسي الإسلامي"، في الواقع الفعلي، وضمان استمراريته، وتطويره.
والخلاصة، أنه يمكن القول بأن هدف دراسة السياسة النهائي، ينبغي أن يكون ـ في رأينا ـ هو اكتساب القدرة الفعالة، على "التحليل التوجيهي" (المبني على قيم معينة محدودة)، القائم على الدراسة العلمية لـ "ما هو كائن"، في الواقع السياسي. وتلك هي مهمة عالم ودارس السياسة، ومسئوليته.
* * *
أما ممارسة السياسة كأن يصبح الواحد "سياسيًا" (Politician)، فهي شيء مختلف عن الدراسة العلمية للسياسة والتفقه فيها ـ كما هو معروف. وهناك شبه اتفاق بين علماء السياسة على أن ممارسة السياسة هي عبارة عن مزيج من العلم والفن: استعداد خاص، يمكن أن يصقله العلم (علم السياسة) ويبلوره... ونستنتج من ذلك، أن أي شخص، يمكن أن يمارس السياسة... ولكن مدى نجاحه أو فشله في مجال السياسة يعتمد على عدة عناصر ومتغيرات، أهمها قدراته الشخصية، ومدى علمه بالسياسة، والظواهر السياسية...
وفي الولايات المتحدة وغيرها من دول الغرب، غالبًا ما يشار إلى الحاصل على درجة علمية في مجال السياسة بـ "عالم سياسة" (Political Scientist). وهناك اعتقاد بأن "عالم السياسة" يمكن أن يكون: ـ
ـ باحثًا علميًا في مجال السياسة.
ـ مصلحًا اجتماعيًا: أي عارفًا بأهم قضايا ومشاكل المجتمع، والحلول والبدائل الممكنة.
ـ قياديًا أو إداريًا.
ـ دبلوماسيًا.
ومن بين تعريفات "علم السياسة" كما ذكرنا، القول بأن "علم السياسة هو علم المراجعة المنهجية للمسلمات والنظم الاجتماعية القائمة" (1) . وتبعًا لذلك، فإن عالم السياسة يمكن أن يعمل في ميدان الخدمة العامة (وحتى في القطاع الخاص) بشتى جوانبه. ومن الضروري أن يتضمن أي برنامج جامعي لدراسة السياسة مواد عن الحقول التي يمكن لعالم السياسة أن يعمل فيها.
* * *
أهمية السياسة:
تبسيطًا، يمكن القول أن للحياة العامة ثلاث مجالات (Fields) رئيسية، هي: السياسة، الاقتصاد، الاجتماع، (ويشمل المجال الأخير كل ما عدا الأمور السياسية والاقتصادية). وإذا فصلنا مجال الأمن العسكري عن المجال السياسي، تصبح لدينا أربعة مجالات (أو حقول) رئيسية للحياة العامة، أي تلك التي تتعلق بكل المجتمع. وهذه المجالات متداخلة فيما بينها، ولكل مجال مئات الجوانب.
ومعروف، منذ أقدم العصور، بأن إدارة المجتمع (سياسته) تعتبر أهم عامل، في تحديد مدى قوة ذلك المجتمع. فتلك الإدارة يمكن أن تعمل (إيجابًا)، لرقي ذلك المجتمع وتطوره، ويمكن أن تعمل (سلبًا) بما يؤدي إلى تخلفه، أو انهياره..
ولقد استقر رأي كثير من علماء السياسة والعلاقات الدولية خاصة، على أن مدى قوة أي دولة يتحدد بالعناصر الستة التالية: (1) .
(أ) البيئة والموقع الجغرافي.
(ب) كم ونوع السكان.
(ج) الموارد الطبيعية (الاقتصادية).
(د) القيادة السياسية (السياسة).
(هـ) القوة الصناعية.
(و) القوة العسكرية.
وكلما توفر كل من هذه العناصر بشكل إيجابي، كلما ساهم ذلك (إيجابًا) في تقوية الدولة. والعكس صحيح..
وضمن عناصر القوى (على كل المستويات)، تظهر القيادة السياسية (السياسة)، كأبرز هذه العناصر. فالسياسة هي: "محصلة" لكل مجالات وجوانب الحياة. وهذا ما يجعل "السياسة" أهم ظاهرة (إنسانية ـ اجتماعية)، في حياة الإنسان العامة.
فالمجالين الاجتماعي والاقتصادي، وفروعهما الكثيرة، يظلا من أهم محددات سلوك المجتمع.. أي مجتمع، وتحديد مكانته، ووضعه، ضمن المجتمعات الأخرى. ولكن مجال "السياسة"، يظل الأهم.. بسبب أن السياسة تعني إدارة نشاطات وفعاليات المجالين الاقتصادي والاجتماعي... وتلك الإدارة يمكن أن تقود المجتمع إلى القوة والرفعة... أو إلى الضعف والتخلف.
وهناك العديد جدًا من الأمثلة ـ اليومية ـ التي تؤيد هذا الاستنتاج... لذلك، يمكن أن نقول: "فتش عن السياسة".. عندما نكون بصدد تقييم مدى قوة أي دولة، أو تحليل وضعها الاقتصادي والاجتماعي العام. فالوضع الذي تكون عليه أي دولة، يمكن رد سببه الأساسي إلى سياستها أولاً.... كما يسيطر عنصر (مجال) "السياسة" في معظم الأحداث الكبرى.
وهناك ما يعرف بـ "التنمية" التي تعني ـ ضمن ما تعني غالبًا ـ محاولات الرقي (الإيجابي) بمستوى مجتمع أو شعب ما، ليكون في مستوى من القوة، يضارع أو يشابه أمثاله، من الشعوب الأخرى المعاصرة له. ولقد استقر رأي كثير من العلماء على أن لهذه التنمية أبعادًا أربعة. فهناك تنمية اقتصادية، وأخرى اجتماعية، وتنمية سياسية، وأخرى أمنية. تلك هي المجالات الرئيسية الأربعة للحياة العامة، كما ذكرنا آنفًا.
ولا بد عند الشروع في "التنمية"، من العمل في كل هذه المجالات الأربعة (المترابطة)، مجتمعة. إذ لابد وأن يكون هناك توازنًا فيما بينها، فلا يطغى الاهتمام بمجال منها على المجالات الأخرى. فالتنمية الاقتصادية (مثلاً)، لابد وأن يصاحبها تنمية اجتماعية وسياسية وأمنية ملاءمة، وإلا اختل التوازن.. وتعثرت التنمية. وفي أكثر الحالات، لا يمكن الشروع في التنمية الاقتصادية المتكاملة والتنمية الاجتماعية الشاملة، دون أن يلازم ذلك تنمية سياسية ملاءمة ـ على اعتبار أن بالإمكان إدراج مجال "الأمن" ضمن مجال السياسة.
* * *
إن "علم السياسة" يستمد أهميته من أهمية وخطورة مادته “السلطة السياسية”، بالنسبة للحياة البشرية. ولعل أبرز مظاهر أهمية "السياسة" (الشؤون السياسية)... وأكثر ما يوضح تلك الأهمية هو أن الأخبار والأحداث السياسية تحتل دائمًا المقدمة... في اهتمامات الناس، وتلفت جل نظرهم، وتستحوذ على فكر معظمهم. وذلك، لأن الأحداث السياسية تؤثر في معظم مجالات وجوانب الحياة ـ تقريبًا. لهذا تأتي الأخبار السياسية أولاً.. وفي المقدمة... بالنسبة لبقية الأخبار والأحداث.
* * *
مجال (Scope) علم السياسة: (*) .
ذكرنا أن مادة علم السياسة (أو موضوعه الرئيسي) هي ظاهرة "السلطة السياسية"... ولكن هذه الظاهرة متشعبة كثيرًا... فللسلطة السياسية عدة أوجه، وجوانب... وتغطية هذه الأوجه والجوانب، تعنى التحدث عن "مجال" (Scope) علم السياسة... أي المواضيع (المتعلقة بالسلطة السياسية) التي يختص علم السياسة بدراستها، دراسة علمية.
ورغم عدم وجود اتفاق تام، فيما بين علماء السياسة المعاصرين، بشأن "مجال" علم السياسة (كما ينبغي أن يكون)، إلا أن هناك تحديدات عامة، لهذا المجال، تحظى بقبول واسع، في الأوساط العلمية السياسية (الأكاديمية). ونذكر فيما يلي، بعضًا من أهم تلك التحديدات... كما نشير إلى (مكانة) الفلسفة السياسية، ضمن مجال "مواضيع" علم السياسة.
* * *
حاولت لجنة متخصصة في العلوم السياسية، عقدت تحت رعاية منظمة التعليم والثقافة والعلوم، التابعة لهيئة الأمم المتحدة (اليونسكو)، تحديد (موضوع) علم السياسة، ومجالات البحث فيه. فأصدرت ـ سنة 1948 ـ قائمة تشمل موضوعات البحث العلمي الرئيسية، في علم السياسة. وحددت الموضوعات الرئيسية بأربع، هي:ـ(1) .
(أ) النظرية السياسية: ويشمل النظرية السياسية، بمفهومها العلمي، والفلسفة السياسية ـ أو "تاريخ الأفكار السياسية".
(ب) النظم السياسية: ويشمل دراسة الدستور والتنظيمات السياسية العامة، وفي مقدمتها الحكومة، والإدارة العامة. كما يشمل منهج "الحكومات المقارنة"، كمدخل للدراسة المقارنة، للحكومات المختلفة، بتنظيماتها المتنوعة.
(ج) الأحزاب والكتل السياسية: ويتضمن الأحزاب السياسية، وجماعات الضغط المختلفة، ودراسة الرأي العام.
(د) العلاقات الدولية: ويشمل دراسة السياسة الدولية، والتنظيم الدولي، والقانون الدولي.
ويهمنا هنا تسليط بعض الضوء على ما تعتبره لجنة "اليونسكو" تلك "النظرية السياسية".
* * *
معروف أن الاتجاه الحالي السائد في دراسة السياسة يسعى للتفريق بين "النظرية السياسية"، التي يجب أن تكون قائمة على منهج البحث التجريبي، و"الفلسفة" السياسية، التي تقوم أساسًا على المنهج الاستدلالي (أو التقليدي). لذا، فإن اعتبار كل من النظرية السياسية والفلسفة السياسية ـ بالمعنى الدقيق السائد، لكل منهما ـ شيئًا واحدًا، هو أمر لم يعد مقبولاً.. من قبل غالبية علماء السياسة المعاصرين.
حتى تلك اللجنة ـ لجنة اليونسكو ـ يبدو أنها لا تعني الخلط المطلق، بين الفلسفة السياسية، والنظرية السياسية ـ بمعناها العلمي. فعلى الرغم من إدراجها الواضح لكل منهما تحت مسمى واحد، إلا أن تلك اللجنة حاولت التأكيد على الفارق بين الاثنين. حيث جاء في تقرير تلك اللجنة، أن "النظرية السياسية"، تعني: "دراسة الأساس الفلسفي، والفكري للسياسة، مع الأخذ في الاعتبار أن النزعة العلمية للدراسة السياسية، تتضح عند التمييز بين الفلسفة السياسية، والنظرية السياسية. فإذا استعملت نظرية مقابل فلسفة، كان القصد من هذا الاستعمال التأكيد على علمية النظرية" (1) .
وقد رأت تلك اللجنة ـ كما يبدو ـ أن صعوبة التنظير (التجريبي) في مجال السياسة، تستلزم إبقاء النظريات السياسية ضمن الفلسفة السياسية ـ في الأربعينيات، على الأقل وقد أيد الكثير من علماء السياسة، هذا الإبقاء، بل وإن كثيرًا منهم قد أعتبره أمرًا حتميًا مطلقًا وأبديًا.
* * *
علاقة علم السياسة بالعلوم الأخرى(1) :
بدأ علم السياسة، أول ما بدأ، كـ "فلسفة سياسية". وما زالت صلته بالفلسفة مستمرة... بدليل استمرار استخدام المنهج التقليدي في دراسة السياسة، ذلك المنهج الذي يقوم على أساس فلسفي واضح. مما يجعل استنتاجاته أقرب إلى الفلسفة منها إلى العلم. وهذه الحقيقة جعلت استنتاجات علم السياسة (القواعد والأحكام)، تتأرجح بين العلم (التجريب)، والفلسفة. وتتأكد صلة علم السياسة بـ "الفلسفة" إذا سلمنا بما جاء في الفقرة السابقة، الخاصة بمناقشة "مجال" علم السياسة.
أما العلوم، فإن لمعظمها علاقة وطيدة بـ"علم السياسة". وتعددت تقسيمات العلوم ـ كما هو معروف. ولعل أوجز تصنيفات العلوم ذلك التصنيف الذي يقسمها (أي العلوم) إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي:
(أ) العلوم الطبيعية: وهي العلوم التي تتناول كل ما عدا الرياضيات والسلوك الإنساني.
(ب) العلوم الاجتماعية: وهي العلوم التي تتناول دراسة السلوك الإنساني بشتى جوانبه.
(ج) الرياضيات: وتنصب على دراسة المنطق.. الطبيعي.
إن وجود علاقة مباشرة، بين علمين معينين، تعني (ضمن ما تعني) الحقائق الهامة التالية:ـ
أن الفهم الأفضل للعلم الأول، يعتمد كثيرًا على فهم العلم الثاني (ممثلاً في بعض استنتاجاته ـ على الأقل). والعكس صحيح.
إن أي تقدم يحدث في العلم الأول (وأي فائدة يحققها مثل هذا التقدم)، يمكن أن تساهم إيجابيًا في إفادة وإثراء العلم الثاني.. وهكذا.
ونوجز فيما يلي أسس العلاقة بين علم السياسة وبقية العلوم
(أ) علاقة علم السياسة بالعلوم الطبيعية:
تأتي صلة العلوم الطبيعية بالعلوم الاجتماعية، من حقيقة وجود التأثير الملموس لمعرفة "الأشياء" على السلوك الإنساني، وفعاليات الجنس البشري. فالإنسان هو القا
الإهداء
إلى الجيل العربي الجديد.. على أمل أن يهتم أكثر بالسياسة، والعلوم السياسية، لأهميتها العظمى.. ودورها الرائد الخطير، في حياة البشر.
لقد آن الآوان لإدراك أن الجهل بالسياسة، أو انحرافها، أو عدم الاكتراث بها، سيعني: شقاء مريعًا، وتخلفًا شنيعًا، في كل مجالات الحياة.
مقدمة الطبعة الثالثة
يسرني أن أخط هذه الـ (مقدمة)، للطبعة الثالثة، من كتابي (مبادئ علم السياسة)، الذي صدرت الطبعة الأولى منه عام 1417هـ، كما أن الطبعة الثانية هي الآن على وشك النفاد، وذلك دليل على أن هذا الكتاب قد حظي ـ ولله الحمد ـ بقبول حسن.. في الوسط الأكاديمي والثقافي، المحلي والعربي، وذلك شجعني مرة أخرى على إعادة نشر الكتاب، وإصدار طبعة ثالثة منه.. أكثر اختصارًا، فكان هذا الكتاب الذي بين يديك، أيها القارئ العزيز.
وبما أن الطبعة الثانية استمرت ـ رغم ـ إيجازها ـ في الاتسام بتوسع مواضيعها، وشموليتها، واحتواءها على شيء من التعمق، فقد قررت ـ استجابة لرأي عينة من الطلاب والطالبات المعينين ـ اختصار تلك الطبعة أكثر.. وإصدار هذه الطبعة، من هذا الكتاب، أكثر إيجازًا وتبسيطًا.. لعل مواضيعها تكون أيسر منالاً، للطلاب المبتدئين.
وما زال المؤلف يعتقد أن المضمون الذي أتت عليه الطبعة الأولى مناسب ومبسط.. للطلاب الجادين، المبتدئين في دراسة السياسة. وليس في هذه الطبعة جديد يذكر، عدا حذف البعض من صفحات الطبعة الثانية.. وبالتحديد، تم حذف الصفحات التالية من الطبعة الثانية:
(1) 26 ـ 36
(2) 54 ـ 66
(3) 108 ـ 127
(4) 188 ـ 194
(5) 250 ـ 257
(6) 264 ـ 266
(7) 279 ـ 284
(8) 316 ـ 366
(9) 384 ـ 399
بالإضافة إلى اختصارات أخرى، هنا وهناك.
أي نحو 140 صفحة وهو ما يعادل حوالي 32% من حجم الطبعة الثانية. وأضحى حجم الطبعة الثالثة يساوي أقل من 60% من كامل حجم الطبعة الأولى. ولعل هذا الحذف يرضي طلاب الاختصار، ومؤيديه.
أتمنى أن تكون محتويات هذه الطبعة أسهل تحصيلاً.. وأن تشد الطالب إلى مواضيع علم السياسة الهامة والشيقة، وتجعله يحاول الاستزادة.. وبالتالي اللجوء إلى مراجع أكثر شمولاً وعمقًا وتفصيلاً، الأمر الذي يسهم في دعم الثقافة السياسية العربية، وهي الغاية التي ندعي ـ بصدق ـ أننا نسعى إليها. والله ولي التوفيق
المؤلف:
ص. ي . ف
جدة: في 2/9/1422هـ
الموافق 17/11/2001م
تمهيد
وضعت مواضيع هذا الكتاب، حسب التسلسل التقليدي المعتاد، لورودها في أكثر مراجع علم السياسة، العربية والعالمية. وبما أنه كتاب موجز ـ رغم ما قد يرى البعض فيه من ضخامة في الحجم ـ فقد اقتصر على ثلاثة أجزاء، يوضحها فهرست هذا الكتاب، ويبين أهم تفاصيلها.
ـ إن الجزء الأول، وهو بعنوان: "السياسية".. و"علم السياسية"، يحتوي على المواضيع الرئيسية.. التي تمثل البداية المنطقية، التي ترد ـ عادة ـ في معظم كتب المدخل.. لدراسة السياسة. ويتضمن هذا الجزء ثلاثة فصول.
يهتم الفصل الأول، بتقديم تعريف لـ "السياسة"، و"علم السياسة"، وعناصر علم السياسة، والمعرفة السياسية. (بأنواعها)، وأهمية علم السياسة، ومجاله، وعلاقته بالعلوم الاجتماعية الأخرى…إلخ.
وفي الفصل الثاني،نلخص أهم مناهج البحث العلمي.. المتبعة الآن في دراسة السياسة، دراسة علمية. ونلقي بعض الضوء، على مدى "علمية" علم السياسة، حاضرًا ومستقبلاً. وفي الفصل الثالث، نقدم نبذة، عن تطور الفكر السياسي، أو الفلسفة السياسية.. في محاولة لتوضيح ماهية المعرفة الفلسفية السياسية.
ـ الجزء الثاني، وهو بعنوان: التنظيم السياسي. ويحتوي ـ هو الآخر ـ على ثلاثة فصول. حيث نناقش في الفصل الأول، مفهوم "الدولة" وعناصرها، وأصلها، وأنواعها، وأهم وظائفها… إلخ.
وفي الفصل الثاني، نوجز المفهوم العام لـ "النظام السياسي".. والإطار التحليلي العام، المقترح لدراسة ذلك النظام.
وفي الفصل الثالث، من هذا الجزء، نتطرق إلى تحليل "المؤسسات" السياسية الرسمية، وغير الرسمية. حيث نقدم (في المبحث الأول)، تعريفًا وتوضيحًا عامًا لـ "الحكومة"، وعناصرها ومكوناتها، وأعمالها، وأنواعها…إلخ.
وفي المبحث الثاني، من الفصل الثالث هذا، نطرح تعريفًا عامًا، بأهم القوى السياسية غير الرسمية، ويقصد بها: الأحزاب السياسية، وجماعات الضغط، والرأي العام.
* * *
ـ أما الجزء الثالث والأخير، وهو بعنوان: العلاقات الدولية، فيتضمن فصلين موجزة، حيث يقدم الفصل الأول العلاقات الدولية، ويعرف بدراستها أما الفصل الثاني فهو يتناول موضوعًا مختلفًا وهو: التنظيم الدولي.
الفهرس
الموضوع الصفحة
ـ الإهداء (1)
ـ مقدمة الطبعة الثالثة (2)
ـ تمهيد
ـ الفهرست (المحتويات)
ـ فهرست الجداول والأشكال
الجزء الأول: السياسة.. و”علم السياسة”..
الفصل الأول: المعرفة السياسية..
علم السياسة
المبادئ والقواعد
علم السياسة، لماذا؟!
أهمية "السياسة"
مجال السياسة
علاقة علم السياسة بالعلوم الأخرى
المعرفة السياسية
التحليلات السياسية المختلفة
* * *
ـ الفصل الثاني: مناهج ومداخل البحث العلمي في دراسة السياسة
المنهج التقليدي (أو المناهج التقليدية)
المنهج التجريبي (الحديث)
الفصل الثالث: نبذة عن تطور الفكر السياسي
نماذج من الفلسفة السياسية التقليدة
ـ العصور القديمة: أفلاطون
ـ العصور الوسطى: مارسيليو بادو، عبدالرحمن بن خلدون
ـ العصور الحديثة: ميكافيللي ، جان جاك روسو
الجزء الثاني: التنظيم السياسي
الفصل الأول: مفهوم "الدولة"
المبحث الأول: الدولة وعناصرها الرئيسة
المبحث الثاني: أصل الدولة ومبررها
المبحث الثالث: أشكال الدولة
(أ) الاتحاد الشخصي
(ب) الاتحاد الفعلي
(ج) الاتحاد الكونفدرالي
(د) الاتحاد الفيدرالي
المبحث الرابع: وظيفة الدولة (ممثلة بحكومتها)
(أولاً) ـ المذهب الفردي
(ثانيًا) ـ المذهب الاشتراكي
(ثالثًا) ـ المذهب الاجتماعي
الفصل الثاني: النظام السياسي والإطار التحليلي العام المقترح لدراسته
الفصل الثالث: عناصر النظام السياسي
ـ المبحث الأول: المؤسسات السياسية الرسمية
ـ تعريف "الحكومة"
ـ العلاقة بين السلطات الثلاثاء
ـ الدستور
ـ السلطة التشريعية
ـ السلطة التنفيذية
ـ السلطة القضائية
ـ أنواع الحكومات
ـ التصنيف الحديث للحكومات
ـ المبحث الثاني: المؤسسات السياسية غير الرسمية
(أ) الأحزاب السياسية
(ب) جماعات الضغط
(ج) الرأي العام
الجزء الثالث: العلاقات الدولية
الفصل الأول: العلاقات الدولية ودراستها
ـ مقدمة
ـ المبحث الأول: علم العلاقات الدولية
ـ العلاقات الدولية: تعاون وصراع..
ـ أطراف العلاقات الدولية
ـ علاقة علم العلاقات الدولية بـ “علم السياسة” والعلوم الأخرى
ـ المبحث الثاني : النظام العالمي.. وتطوراته المحتملة
الفصل الثاني : التنظيم الدولي المعاصر
ـ المنظمات الدولية
ـ عصبة الأمم
ـ هيئة الأمم المتحدة
ـ مصادر ومراجع الكتاب
فهرست الجداول والأشكال(الجدول/ الشكل) الصفحة
جدول رقم (1): هيئة الأمم المتحدة.. والأجهزة المرتبطة بها
شكل رقم (2): التحديد التقريبي للحد الأمثل للسكان
شكل رقم (2): "منحنى وظيفة الحكومة"
شكل رقم (3): تفاعل النظام السياسي مع بيئته ـ كما يرى إيستون
شكل رقم (4): تفاعل النظام السياسي مع بيئته ـ كما يرى إيستون:شكل مفصل
شكل رقم (5): الصورة العامة التي يتفاعل بها النظام السياسي مع بيئته
شكل رقم (6): منحنى العلاقات الثنائية بين دولتين معينتين أو طرفين معينين من أطراف العلاقات الدولية.
الجزء الأول::"السياسة"... و”علم السياسة”
يمكن اعتبار محتويات هذا الجزء، أهم المواضيع، التي ينبغي للمبتديء في دراسة السياسة. الإلمام بها. فمواضيع هذا الجزء، تعتبر المدخل الأول والمعبر الرئيس، لدراسة "السياسة".. دراسة علمية وموضوعية، إنها ـ أي هذه المواضيع ـ أهم أسس الدراسة العلمية لظاهرة السلطة السياسية.
وهذا الجزء يحتوي على ثلاث فصول: في الفصل الأول، نقدم تعريفًا عامًا وموجزًا، لـ "السياسة" و”علم السياسة”، والمعرفة السياسية، بصفة عامة، وأهم ما يتعلق بأسس علم السياسة، وماهيته. أما في الفصل الثاني، فنوجز أهم الأساليب والطرق العلمية.. التي تتبع الآن، كوسائل.. لدراسة السياسة، دراسة علمية مجردة. وفي الفصل الثالث، من هذا الجزء، نورد نبذة عن المعرفة السياسية الفلسفية التقليدية.. موجزين بعض النماذج من الأفكار السياسية، عبر مختلف العصور.
الفصل الأول::المعرفة السياسية
السياسة (Politics)، هي من الإنسان وإليه.. وللإنسان سلوك سياسي، كما أن له سلوك اقتصادي واجتماعي.. إلخ، إن سلوك الإنسان السياسي يتداخل مع كل سلوكياته الأخرى.. فالسياسة ليست مقتصرة على الدولة وشؤونها فقط.. بل إنها موجودة في معظم تصرفات وسلوكيات الإنسان، ومع ذلك، اصطلح على أن يشمل "علم السياسة"، السلطة السياسية دون غيرها من أشياء سياسية أخرى، أو سلطات أخرى.
ويفترض أن الفرد لا يمكن أن يعيش (عيشًا طبيعًا) إلا في جماعة.. حتى يستطيع الحصول على معظم احتياجاته، ويتمكن من إشباع رغباته المختلفة.. لهذا، وجدت الجماعة.. والجماعة الكبرى (الدولة)، لا يمكن أن تفي بأهم الأغراض من تكوينها، إلا إذا نظمت، وقامت بها سلطة تدير شــؤونها، بما يحقق أكبر قدر ممكن من الخير والسـعادة لأعضائها(1).
وبهذا أن نقول بأن فكرة "السلطة السياسية" تبلورت منذ أن بدأ الإنسان يفكر في "تنظيم" (Organize) المجتمعات التي يقيمها.. حيث نتج عن هذا التفكير، ما يعرف الآن بـ "المعرفة السياسية".
فالإنسان كائن اجتماعي.. لا يمكن أن يعيش إلا في جماعة. وهو كائن مفكرـ حيث يتميز بـ (العقل).. هاتان الخاصيتان جعلتاه كائنا سياسيا، أيضًا، شاء أم أبى، تذكر أو نسى. إن "المعرفة السياسية" (ومنها علم السياسة)، ظهرت كوليد لحاجة الإنسان إلى الجماعة.. وضرورة تنظيم وإدارة هذه الجماعة (سياستها).. وقدرة الإنسان على التفكير والتأمل ـ لأنه يمتلك العقل.
والمعرفة السياسية تتناول أهم ظاهرة في حياة الإنسان العامة (الاجتماعية).. وهي ظاهرة السلطة السياسية من تأثير بالغ، على كل المجالات وجوانب الحياة الأخرى.
ولتعريف "علم السياسة"، نرى التطرق ـ بإيجاز ـ إلى تعريف كل من "العلم" و "السياسة".
تعريف "العلم" (Science):
للعلم تعريفات عدة، نقتطف منها التالي فقط:
العلم هو مجموعة من المبادئ والقواعد(1) ، التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بجانب ما معين، من جوانب الحياة المتعددة.
العلم هو مجموعة متراكمة من المعرفة، التي تم برهنة صحتها موضوعيًا.. والتي تتعلق بالإنسان، أو الطبيعة، أو المجتمع.
العلم هو: الأفكار المتتالية المترابطة، وكذلك الوسائل، التي عن طريقها يتم الحصول على هذه الأفكار (المعرفة) (2) .
وعندما نأخذ بالتعريف الأول فقط (بغرض التبسيط)، نجد أن أي علم يمكن توضيحه وتحديده بسحب هذا التعريف عليه. فـ "علم الفيزياء" (مثلاً) هو:
مجموعة من المبادئ والقواعد، التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بـ (الفيزياء) أو المادة الطبيعية.
أما "علم الاجتماع" مثل آخر، فيمكن تعريفه بأنه:ـ
مجموعة من القواعد والأحكام، التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بـ "الاجتماع الإنساني" موضوع علم الاجتماع.
..... وهكذا بالنسبة لكل العلوم الأخرى.
* * *
إذًا، وعندما نسحب نفس التعريف المذكور، على دراسة السياسة، دراسة علمية، يمكن القول بأن علم السياسة (Political Science)، هو عبارة عن:ـ
مجموعة من المبادئ والقواعد التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بـ "السياسة".
فإذا اعتبرت "الدولة" هي موضوع "علم السياسة"، يصبح تعريف "علم السياسة" هو: مجموعة من المبادئ والقواعد التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بـ "السلطة".
ويلاحظ أن هذا التعريف، يربط "العلم" والمبادئ العلمية، بالتجريب (Empricism) وهو يعني أن أي افتراض لا يمكن إثبات صحته إلا بالتجربة العلمية والبرهنة الموضوعية. وربما يعترض البعض على ربط العلم بالتجريب دائمًا. ولكن هذا الربط هو السائد الآن، في دراسة العلوم الاجتماعية، بصفة عامة، وعلم السياسة منها على وجه الخصوص. ويمكن أن نصف هذا التعريف بـ "النمطية"، لقابليته لتعريف أي علم، بإيجاز وتبسيط.
* * *
تعريف "السياسة":
لغويًا، توحي لفظة "سياسة"، بشيء يتعلق بالشؤون العامة للبشر. وفي اللغة العربية، اشتقت كلمة "سياسة" من كلمة "سوس" بمعنى: رئاسة.
و"ساس" الأمر، أي قام به. والسياسة تعني القيام بأمر من أمور الناس بما يصلحه. (وكلمة أمر شائعة الاستعمال بمعنى حكم ودولة) (1) .
وفي الأصل اللاتيني، تعني لفظة "سياسة" تدبير شؤون الدولة، أو المدينة. وأصبحت الآن تعني كل ما يتعلق بشؤون الدولة، والعلاقات بين الدول، وخطط الأفراد والجماعات، الهادفة إلى تحقيق أهداف معينة(2) .
ويمكن تعريف "السياسة" أيضًا، بأنها: الأهداف التي تسعى جهة، (أو حكومة) ما، لتحقيقها تجاه جهة أو جهات معينة) والوسائل التي تتبعها، أو تفكر في إتباعها تلك الجهة، لتحقيق تلك الأهداف.
فالسياسة التعليمية مثلاً لجهة ما هي الأهداف التعليمية التي تسعى تلك الجهة لتحقيقها، تجاه جهة أو قطاع معين، والوسائل التي تستخدمها تلك الجهة، لتحقيق أهدافها. ويلاحظ هنا، أن كلمة "سياسة" استعملت بمعنى الخطة ـ الخطة التعليمية. وهكذا وتكتسب كلمة "سياسة" المعنى السياسي (السلطوي)، إذا تعلقت ـ بشكل أو بآخر ـ بظاهرة السلطة السياسية.
فسياسة حكومة (أ) نحو البلد (ب) مثلاً، يمكن تعريفها بأنها: الأهداف التي تسعى حكومة (أ) لتحقيقها قبل أو تجاه البلد (ب)، والوسائل التي تتبعها "أو تفكر في اتباعها حكومة (أ)"، لتحقيق تلك الأهداف. كما يمكن القول، بأن ما يعرف بـ الاستراتيجية (Strategy)، هي وسائل تحقيق الأهداف، وسبل الوصول إليها، وضمانها.
والواقع، أنه يصعب ـ حتى الآن ـ تعريف السياسة تعريفًا دقيقًا موحدًا وشاملاً، تتفق عليه غالبية علماء ودارسي السياسة. وذلك يرجع ـ بصفة أساسية ـ إلى صعوبة تحديد الظاهرة أو الظواهر، التي تشتمل عليها السياسة.
ومن أبرز التعريفات لـ "السياسة"، تلك التي تقول: إن السياسة هي العلاقة بين الحكام والمحكومين، أو أنها "الدولة" وكل ما يتعلق بها من شؤون مختلفة ومتنوعة. أو أنها السلطة الكبرى، في المجتمعات الإنسانية، وكل ما له علاقة بتلك الظاهرة ـ السلطة(1) .
* * *
وهناك تعريفات عدة، لظاهرة "السلطة"، المتعددة الأبعاد والمتشبعة الجوانب. ولن نلج في خضم هذه التعريفات.. ولكن لنلجأ إلى أحدها فقط.. حيث يمكن تعريف "السلطة" بأنها:
قدرة (أ) على جعل (ب) يعمل، أو لا يعمل، ما يريده (أ)، سواء أراد (ب) ذلك أو لم يرد(2) .
ويمكن بالتالي، تعريف السلطة السياسية بأنها: القدرة على جعل المحكوم يعمل أو لا يعمل، أشياء معينة، سواء أراد المحكوم أو لم يرد.
إنها علاقة طاعة.. فيها يعترف الفرد بحق آخر أو آخرين، في ممارسة تنظيم وإدارة حياته العامة، أو بعض جوانبها. والسلطة السياسية (Political Authority) هي نوع من أنواع "السلطات" المختلفة.. كسلطة الأب على أبنائه، وسلطة المدير (الإداري) على مرؤسيه...إلخ.
غير أن السلطة السياسية تتميز عن غيرها من السلطات الأخرى، بأنها:
أ ـ عامة .. تشمل قراراتها وتلزم كل المجتمع.
ب ـ تحتكر وسائل الإكراه الرئيسية في المجتمع، كالجيش والشرطة... إلخ.
ج ـ تحظى بـ "الشرعية" (Legitimacy)، أي قبول المحكومين واعترافهم بها، كمرجع أعلى، سواء كان ذلك عن رضاء، أو كراهية واضطرار.
ولو خالف شخص ما قاعدة قانونية معينة، فعند ذلك يبرز احتمال قيام السلطة بمعاقبة ذلك الشخص. فالسلطة مستمدة "أساسيًا" من القدرة الضمنية والصريحة، على معاقبة الخارجين على القوانين. وتكون السلطة (ممثلة في الحكومة ـ مثلاً) مدعمة أكثر، كلما تزايدت قدرتها على معاقبة الخارجين على القانون، وفرض النظام. وإن الاحتمال الضمني بمعاقبة الخارجين على القانون لا يصبح قائمًا أو كبيرًا إذا لم يقترن بوجود قدرة فعلية على فرض القانون والنظام(1) .
وهذا لا يعني أن معظم الناس يطيع القانون لأنه يخشى عقاب مخالفته فقط، بل يمكن القول بأن معظم أفراد الشعوب وخاصة المتحضرة، يتمشى بالقانون ويحترمه لأنه يعتقد ويؤمن بأن القوانين التي وضعت لتنظيم الحياة العامة، للمجتمع ـ ورغم ما قد يكون بها من "قصور" في رأيه ـ إنما هدفها هو منع الفوضى وسيادة قانون الغاب... حيث يسيطر القوي على الضعيف.
إن "الشرعية" تعني (في كثير من الحالات) كما ذكرنا آنفًا، خضوع المحكومين وقبولهم بالحكومة القائمة.. سواء كان ذلك القبول نابعًا من رضا فعلي، أو أنه رضا المضطر والمكره. وعنصر "الشرعية"، بذلك، يصبح عنصرًا مهمًا، من عناصر "السلطة السياسية"، كما تتمثل في "الحكومة".
لذلك، تسعى كل حكومة للحفاظ على شرعيتها وتدعيمها، بشتى الوسائل الممكنة، وفي مقدمة هذه الوسائل: استخدام القوة لفرض الشرعية، أو محاولة إرضاء رغبات الشعب، وترجمة تطلعاته إلى سياسات وسلوكيات حكومية فعلية.. لكسب رضاه وقبوله الطوعي.
وفي كلتا الحالتين، نجد أن الشرعية هي عنصر أساسي، لوجود الحكومة.. وأن أساس "الشرعية" هذه، هو قبول المحكومين بـ "الحكومة"... ويمكن أن يكون هذا القبول مفروضًا أو طوعيًا، اعتمادا على طبيعة ونوع الحكومة القائمة. فـ "قبول" المحكومين هو، إذًا، المصدر الرئيس لشرعية الحكومة(1) . ويشيع استخدام لفظي "السلطة السياسية" (Political Authority) و"القوة السياسية" Political Power كلفظين مترادفين، لهما معنى واحد. ولكن لفظ “السلطة السياسية” يقترن بغطاء قانوني معين، بينما القوة السياسية يمكن أن تكون قانونية، ويمكن أن لا تكون كذلك.
* * *
ـ علم السياسة:
إن (علم السياسة)، هو ذلك العلم الذي يتناول ظاهرة "السياسية"، في المجتمعات الإنسانية، بالدراسة (العلمية).. بهدف فهمها، واكتساب القدرة على شرح المتغيرات المختلفة، التي تتعلق بها، وتفسير العلاقات المتنوعة، بين تلك المتغيرات، والتنبؤ بتقلباتها المختلفة.
ويختلف تعريف "علم السياسة" بالطبع، باختلاف الزاوية التي ينظر منها المعرف إلى هذا العلم. لذلك، توجد حاليًا عشرات التعريفات لـ "علم السياسة". فإذا نظرنا إلى علم السياسة من الزاوية الحركية، نجد أن تعريف "ديفيد إيستون" لعلم السياسة، والذي ينص على أن: علم السياسة هو: دراسة عملية التوزيع السلطوي للقيم المختلفة، من أجل المجتمع(2) ، هو أكثر التعريفات قبولاً وانتشارًا الآن لـ "السياسة". والمقصود من كلمة "دراسة" هو: الدراسة العلمية.. أي الدراسة التي تقوم على أساس منهج بحث علمي سليم.
وعندما نأخذ بتعريف "إيستون"، يمكن أن نقول بأن (عملية التوزيع السلطوي للقيم المختلفة، من أجل المجتمع)، تعني: السلطة السياسية.. في وضعها الحركي (Dynamic).
فـ "السياسة"، هي (بصفة أساسية) عملية اتخاذ القرارات (الملزمة)، التي تحدد توزيع القيم (المادية والمعنوية)، في المجتمع، وتتضمن كذلك الإجراءات التي تؤدي إلى تنفيذ تلك القرارات، وكل ما يتعلق بهذه العملية. و"علم السياسة" يرصد تلك العملية، محللاً إياها... تحليلاً علميًا(1) .
وبذلك يمكن صياغة تعريف "إيستون" لعلم السياسة، ليصبح كالتالي:ـ
علم السياسة هو: الدراسة العلمية (وما ينتج عنها من مبادئ وقواعد)، لظاهرة السلطة السياسية (بمعناها الموجز أعلاه)، وكل ما يتعلق بها.
وعرف "هارولد لاسويل" علم السياسة، بأنه: دراسة النفوذ وأصحاب النفوذ. أو أنه: دراسة السلطة التي تحدد من يحصل على ماذا (من القيم المختلفة)، ومتى، وكيف(2) .
وعرفت "العلوم السياسية"، بأنها: "علوم الظاهرة السياسية"، أيًا كان نوعها. وعلى هذا، ففي الماضي، حيث اعتبرت الدولة هي الظاهرة السياسية المهمة، كانت الدولة هي محور دراسة العلوم السياسية. فتناول بذلك المهتمون بالعلوم السياسية، الدولة من جميع الجوانب... سواء فيما يتعلق بنظامها الداخلي، أو علاقتها الخارجية. وفي فترة لاحقة، أعتبرت ظاهرة السلطة السياسية، هي الظاهرة السياسية المتميزة... فأصبحت، بذلك، مدار التحليل، في العلوم السياسية. والآن نجد أن العلماء السياسيين يعتبرون "القدرة" (Political Power)، هي الظاهرة السياسية، الجديرة بالاهتمام... (3).
ويلاحظ أن صاحب هذا التعريف، يفرق بين مصطلحي السلطة السياسية، و"القدرة السياسية".
ويستطرد صاحب التعريف السابق (د.علي شمبش)، قائلاً :ـ
إن تعريف العلوم السياسية. يدور مع التطور الذي مرت به العلوم السياسية، كأحد حقول المعرفة الإنسانية. ولا أحد يستطيع الإدعاء بأن تعريف العلوم السياسية على أنها علوم القدرة... كظاهرة سياسية، هو نهاية المطاف. فقد يستجد في الحقل، ما يثبت أن هناك ظاهرة سياسية، أجدر بأن توليها العلوم السياسية، إهتماماتها. وبهذا نستطيع القول أنه مهما تغيرت المفاهيم والإطارات، التي يدور فيها موضوع العلوم السياسية، فستظل هذه العلوم هي علوم الظاهرة السياسية، مهما كانت، وأينما كانت، ومتى كانت(1) .
وعرف علم السياسة، بأنه: (العلم الاجتماعي، الذي يتحدث في الصلة العامة، بين الناس، وبعضهم.. في ظل الهيئة الكبرى، التي ينتظمون تحتها، والتي تسمى الدولة) (2) .
وعرفت "السياسة" بأنها:
(هي القيام على الجماعة، بما يصلحها... في حدود مفاهيمها الأخلاقية. إنها الممارسة الفعلية، لمسؤولية عامة، رسمية، أو غير رسمية، تنبثق من صميم حياة الجماعة ككل. وتهتم بشؤونها، المستجدة في الدولة والحكومة) (3) .
و"علم السياسة" ـ بموجب هذا التعريف ـ هو: العلم الذي يتناول دراسة هذه العملية، دراسة علمية(4) .
وتقول "دورثي بيكلز" محاولة تعرف "علم السياسة":ـ
(إن دراسة السياسة، والتي تسمى علم السياسة، تنشأ، عندما يتساءل الباحثون، عن "الأسس" (Rules)، التي يحكم بموجبها... أو التي حكم بناء عليها، في السابق. وكذلك، عندما يتساءل الباحثون: ما إذا كانت تلك الأسس ينبغي قبولها، الآن، أم لا. ولماذا تسود بعض المجتمعات أسسًا مختلفة. وما إذا كان بالإمكان إيجاد أسس ومبادئ، للحكم، بالنسبة لمجتمع معين. وما إذا كان يمكن اكتشاف أسس عامة... للحكم، يمكن تطبيقها، على كل المجتمعات) (5) .
* * *
مما سبق، يمكن أن نقول بأن العلم يعني: مجموعة من المبادئ والقواعد، التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بجانب ما معين من جوانب الحياة. كما يعني: الدراسة العلمية (وما يتمخض عنها من مبادئ وقواعد علمية) لظاهرة من ظواهر الكون.
أما السياسة، فتعني ظاهرة السلطة السياسية. أو تعنى: عملية صنع القرارات الملزمة، لكل مجتمع... تلك القرارات التي تتناول قيمًا مادية ومعنوية مختلفة. (أو: عملية التوزيع السلطوي للقيم المختلفة، من أجل كل المجتمع، كما قال إيستون).
لذلك، يمكن أن نقدم التعريفات التالية لـ"علم السياسة". فكل من هذه التعريفات يعرف علم السياسة بأنه:ـ
(1) ـ مجموعة من المبادئ والقواعد، التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بالسلطة السياسية.
(2) مجموعة من المبادئ والقواعد، التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بعملية صنع القرارات الملزمة لكل المجتمع.. تلك القرارات التي تتناول قيمًا مادية ومعنوية مختلفة.
(3) الدراسة العلمية (وما يتمخض عنها من مبادئ وقواعد علمية) لظاهرة السلطة السياسية، وما يتصل بها.
(4) الدراسة العلمية (وما يتمخض عنها من مبادئ وقواعد علمية) لعملية صنع القرارات الملزمة لكل المجتمع... وهي القرارات التي تتناول قيمًا مادية ومعنوية مختلفة.
* * *
وبهذا، نرى أن "السلطة السياسية"، وكل ما يتعلق بها، هي الأقرب لأن تكون ظاهرة (أو مادة وموضوع) علم السياسة. أو كما يقال، "مفهوم الأساس" "لعلم السياسة" (1) .
ولما كانت ظاهرة السلطة السياسية، وكل ما يتعلق بها، هي ظاهرة إنسانية اجتماعية، أو هي "سلوك الإنسان السياسي"، فإن علم السياسة، الذي يتناول دراسة هذه الظاهرة، يصنف ـ عادة ـ ضمن العلوم التي تعني بدراسة السلوك الإنساني بكل جوانبه، وهي التي يطلق عليها ـ عادة ـ "العلوم الاجتماعية".
وعلى ذلك تكون مناهج البحث المتبعة في دراسة "السياسة"، هي ـ بصفة عامة ـ المناهج المتبعة في دراسة معظم تلك العلوم، كما سنوضح في الفصل الثاني.
المبادئ والقواعد:
يمكن القول أن المقصود بـ "المبادئ والقواعد"، في علم السياسة، هو: النظرية العلمية، وما يسمى بـ "الأدوات التحليلية الأخرى"، وأهمها: المفهوم، والنموذج، والإطار التحليلي. ويضيف البعض إلى هذه "الأدوات" ما يعرف بـ "الافتراض".
أما "المبادئ والنظريات" في الفلسفة السياسية، فيقصد بها غالبًا: "الاستنتاجات" التي يخرج بها فلاسفة السياسة، والتي تقوم غالبًا على الاستنباط... أو العبارات والأقوال (أو التحليلات) التي يقدمها الفلاسفة، والقائمة ـ أساسًا ـ على مقدمات قيمية معينة، يسلم الفيلسوف بصحتها(1) .
إذًا، الفارق الرئيسي بين "مبادئ وقواعد علم السياسة"، و"مبادئ وقواعد الفلسفة السياسية"، هو أن مبادئ وقواعد علم السياسة قد تم إثبات صحتها بالتجريب، في ظل الإطار الذي توجد فيه، بينما لم يتم تحديد مدى صحة مبادئ وقواعد الفلسفة السياسية، لتظل مجرد "افتراضات"، تتعلق بـ "السلطة السياسية".
* * *
علم السياسة، لماذا؟
ولو تساءلنا: لماذا ندرس السياسة، دراسة علمية.. أو لماذا ندرس "علم السياسة"، أو نتخصص فيه، فإن الإجابة العامة على هذا التساؤل هي: إننا نفعل ذلك، لتحقيق هدف رئيسي هام، هو: فهم الظاهرة السياسية. هذه الظاهرة التي يمكن القول بأنها أهم الظواهر الإنسانية ـ الاجتماعية في حياة الإنسان العامة فللسياسة (الإدارة العامة للمجتمع) تأثير واضح (سلبًا وإيجابًا)، على كل جوانب الحياة، والسلوك الإنساني بعامة.
وأن أهمية "علم السياسة" تنبع من أهمية الظاهرة التي يتناولها... هذه الظاهرة التي يتحتم على الإنسان فهمها فهمًا علميًا جيدًا، حتى يتمكن من التأثير فيها، بما يتلاءم وغاياته، ومصالحه.
وكأي علم آخر، فإن هدف علم السياسة، هو: الكشف عن الحقيقة، في مجال موضوعه (الظواهر السياسية).. أي معرفة "ما هو كائن" ـ معرفة موضوعية (علمية). ويمكن استخدام هذه المعرفة لتحديد وتوضيح "ما يجب أن يكون" في مجال الظواهر السياسية المعنية...
فبعد معرفة ما هو كائن، على أساس علمي، يمكن معرفة وتوضيح وتحديد "أفضل" ما يجب أن يكون... إن معرفة ما هو كائن تعطي قدرة على التأثير (الإيجابي والسلبي) في الظواهر السياسية المعنية. وهذه هي صورة الاستفادة العلمية من دراسة مبادئ وقواعد علم السياسة. فالمعرفة العلمية بنتيجة قيام تنظيم معين (مثلاً) لحكومة معينة، في ظروف معينة، تساعد على الإحاطة بأمر "تعديل" ذلك التنظيم، أو التأثير فيه، بما يحقق أهدافًا معينة... وهكذا.
* * *
ويرى حسن صعب أننا ـ كأفراد وجماعات ـ بحاجة دائمة إلى التأمل.... في مسلماتنا السياسية، ومراجعتها. وإن دراسة السياسة يمكن أن تساعدنا على تحقيق ذلك. على أن نبدأ بدراسة الواقع.. ثم ننطلق من معرفة الواقع السياسي إلى "أفكار جديدة".. لأن علم السياسة ـ في رأيه ـ هو: (علم المراجعة المنهجية المستمرة، أو علم النقد المنهجي الدائم، للمسلمات والأحوال والأنظمة السياسية) (1) .
إن "الفساد السياسي" ـ في رأيه ـ لا يزاح بالتنديد به، بل إن دراسة السياسة، دراسة علمية، هي السبيل لامتلاك الوسيلة القادرة على القضاء على ذلك الفساد، وتوجيه الحياة وجهة الخير التي نتمناها(2) . ويستطرد حسن صعب قائلاً: (إن علينا أن نعرف السياسة، ونلم بها... لنتوصل إلى تحسين أوضاعنا.. وتحسين ملابسات السياسة. وهذا ما يحاول علم السياسة أن يقوم به) (3) .
إن ما يقوله حسن صعب يدعم القول بأن المعرفة السياسية ـ بصفة عامة ـ تتم على مرحلتين: مرحلة "ما هو كائن"... أي دراسة الواقع على علاته (العلم)، ومرحلة "ما يجب أن يكون" (الفن أو التطبيق). وعلم السياسة هو وسيلة لغاية، يمكن القول بأنها تتضمن "تحسين الواقع الإنساني"... أو تحسين الحياة البشرية، عن طريق "تحسين" القوة الرئيسية التي تتحكم في المجتمع وتوجهه ـ السلطة السياسية. أو بمعنى أدق، يمكن القول، بأن هذه الغاية تتمثل في محاولة امتلاك إمكانية التأثير الفعلي في الواقع ـ سلبًا وإيجابًا.
ويرى البعض، أن الهدف من تدريس "علم السياسة" ـ هو تربية "المواطن الصالح" سياسيًا.. أي المواطن الذي يلم بالواقع السياسي لمجتمعه والعالم المحيط به.. بما يمكنه من اكتساب القدرة على التأثير في ذلك الواقع ـ كما هو "مطلوب" ـ والتعامل معه، من منطلق سليم.
وإذا سلمنا، بأن معرفة "ما هو كائن"، لا تتم (بالمضمون السليم)، إلا بدراسة الواقع، دراسة موضوعية مجردة، فإن "ما يجب أن يكون"، يتحدد (غالبًا) بناء على أسس فلسفية معينة، يمكن أن تختلف طبيعتها، من شخص لآخر، ومن دارس لآخر.
وفي سبيل تكوين القيم، التي تحدد "ما يجب أن يكون" تظهر إشكالية.. تتمحور حول الكيفية، التي يتم بها ذلك. وبالنظر إلى المسألة، من بعد آخر، نثير تساؤلاً هامًا، هو: ما هي حدود دور عالم ومدرس السياسة عند تدريسه للسياسة؟! هل يتدخل مدرسو السياسة، للتأثير في طلابهم، وتعليمهم "ما يجب أن يكون"... جنبًا إلى جنب مع "ما هو كائن"؟! أم يترك للمتلقين ذلك، ليحددونه بأنفسهم، وبناء على قيمهم الخاصة؟!
هنا نجد ثلاثة آراء رئيسية مختلفة، هي:ـ(1)
(أ) دور مدرس السياسة يجب أن يكون موضوعيًا بحتا: ويصر أصحاب هذا الرأي على أن دراسة السياسة يجب أن تركز فقط على "ما هو كائن"، وتترك تحديد ما يجب أن يكون جانبًا، حتى تصبح دراسة علمية بحتة. ويصر معظم السلوكيين، على هذا الرأي... تأكيدًا منهم على "موضوعية" دراسة السياسة، التي يجب (ويمكن) أن تكون دراسة "علمية" مجردة ـ في رأيهم.
(ب) دور مدرس السياسة، يجب أن يكون توجيهيًا: ويرى أصحاب هذا الاتجاه، أن دراسة السياسة يجب أن تقترن بهدف معين... هو "تحسين" الحياة الإنسانية عن طريق القضاء على أكبر قدر ممكن من "الفساد السياسي".
(ج) دور مدرس السياسة يجب أن يكون موضوعيًا ـ توجيهيًا: وفحوى هذا الرأي، هي أن تدريس السياسة يجب أن يبدأ بدراسة "ما هو كائن" ـ أي دراسة النظريات السياسية، والواقع السياسي ـ دراسة موضوعية . ثم يقوم مدرسوا السياسة، بعرض "ما يجب أن يكون" ـ في رأيهم ـ كإجتهاد شخصي منهم.... لمساعدة المتلقين على تحديد واتخاذ المواقف المناسبة، تجاه الواقع السياسي المعني. (*)
* * *
إن عالم السياسة هو كالطبيب. فكما أن الطبيب يعني بدراسة الجسم البشري، بهدف "علاجه" وحمايته، وخاصة متى مرض، فإن عالم السياسة يعني بدراسة الواقع السياسي، بهدف "تحسينه" ـ بناء على قيم معينه، متفق على صلاحيتها ـ عبر "تقويم" انحرافات الواقع، ومحاولة القضاء على أكبر قدر ممكن من "عيوبه".
إن النظريات، التي يتوصل إليها علماء السياسة، يمكن أن تساعد في تقديم فهم "أفضل"، للواقع السياسي، للمجتمعات المختلفة وللعالم ككل. ويمكن استخدام هذا الفهم (العلم)، للسمو بالإنسان، وصيانة كرامته، وحماية بقاءه، وتوفير الرفاه له. فما أحوج مجتمعات وعالم اليوم، الذي يئن تحت وطأة امتهان الإنسان، وتسخيره لأغراض تحط من قيمته، وتعيق نموه، بشكل صحي، وتعرضه للتهديد المستمر بالفناء، ما أحوج عالم اليوم إلى مثل هذا الفهم... لدرء خطر التدهور والهلاك، عن البشرية.
واقتصار (علم السياسة) ـ بأكمله ـ على دراسة (ما هو كائن)، وترك تحديد (ما يجب أن يكون)، لغير علماء السياسة، أمر يعني حرمان المجتمعات (علميًا)، من (خبرة) علماء السياسة، وإمكانية مساهمة هذه الخبرة، في تحديد وتحقيق أفضل (ما يجب أن يكون) ـ أي أفضل واقع سياسي ممكن.
وعلى أي حال، فإن "العلم"، يتطلب الفصل التام ـ ما أمكن ـ بين دراسة "ما هو كائن"، وعملية تحديد ودراسة "ما يجب أن يكون".
عالم السياسة المسلم:
إن "العلم" هو "العلم"... لهذا، لا يمكن ـ في رأينا ـ الحديث (مثلاً) عن علم فيزياء إسلامي، وآخر مسيحي... أو علم سياسة يهودي، وآخر إسلامي. في مرحلة الفكر (مرحلة ما يجب أن يكون) فقط، يمكن أن يكون هناك فكر إسلامي... وآخر غير إسلامي...إلخ، اعتمادًا على ماهية وطبيعة "القيم"، التي يقوم عليها الفكر المعني.
وحتى تكون معلوماته ومعرفته موضوعية، فإنه يجب على عالم السياسة المسلم، والمهتم بدراسة السياسة، والبحث العلمي فيها، أن يراعي الفصل بين ما هو كائن، في السياسة، وما ينبغي أن يكون. فدراسة "ما هو كائن"، يجب أن تكون موضوعية مجردة. أما في مرحلة تحديد ودراسة "ما يجب أن يكون"، فإن المسلم ـ بصفة عامة ـ لا يملك إلا أن يبني ويقيم كل "ما يجب أن يكون"، على التعاليم والمبادئ الإسلامية الصحيحة ـ إذا كان يريد أن يكون مسلمًا بحق. وينسحب ذلك على عالم السياسة المسلم. فالأخير يجب أن يقيم "ما يجب أن يكون"، بناء على المبادئ الإسلامية، المتعلقة بالسياسة والاجتماع. ولعل محور اهتمام العالم السياسي المسلم هو كيفية تحديد وتحقيق "النموذج السياسي الإسلامي"، في الواقع الفعلي، وضمان استمراريته، وتطويره.
والخلاصة، أنه يمكن القول بأن هدف دراسة السياسة النهائي، ينبغي أن يكون ـ في رأينا ـ هو اكتساب القدرة الفعالة، على "التحليل التوجيهي" (المبني على قيم معينة محدودة)، القائم على الدراسة العلمية لـ "ما هو كائن"، في الواقع السياسي. وتلك هي مهمة عالم ودارس السياسة، ومسئوليته.
* * *
أما ممارسة السياسة كأن يصبح الواحد "سياسيًا" (Politician)، فهي شيء مختلف عن الدراسة العلمية للسياسة والتفقه فيها ـ كما هو معروف. وهناك شبه اتفاق بين علماء السياسة على أن ممارسة السياسة هي عبارة عن مزيج من العلم والفن: استعداد خاص، يمكن أن يصقله العلم (علم السياسة) ويبلوره... ونستنتج من ذلك، أن أي شخص، يمكن أن يمارس السياسة... ولكن مدى نجاحه أو فشله في مجال السياسة يعتمد على عدة عناصر ومتغيرات، أهمها قدراته الشخصية، ومدى علمه بالسياسة، والظواهر السياسية...
وفي الولايات المتحدة وغيرها من دول الغرب، غالبًا ما يشار إلى الحاصل على درجة علمية في مجال السياسة بـ "عالم سياسة" (Political Scientist). وهناك اعتقاد بأن "عالم السياسة" يمكن أن يكون: ـ
ـ باحثًا علميًا في مجال السياسة.
ـ مصلحًا اجتماعيًا: أي عارفًا بأهم قضايا ومشاكل المجتمع، والحلول والبدائل الممكنة.
ـ قياديًا أو إداريًا.
ـ دبلوماسيًا.
ومن بين تعريفات "علم السياسة" كما ذكرنا، القول بأن "علم السياسة هو علم المراجعة المنهجية للمسلمات والنظم الاجتماعية القائمة" (1) . وتبعًا لذلك، فإن عالم السياسة يمكن أن يعمل في ميدان الخدمة العامة (وحتى في القطاع الخاص) بشتى جوانبه. ومن الضروري أن يتضمن أي برنامج جامعي لدراسة السياسة مواد عن الحقول التي يمكن لعالم السياسة أن يعمل فيها.
* * *
أهمية السياسة:
تبسيطًا، يمكن القول أن للحياة العامة ثلاث مجالات (Fields) رئيسية، هي: السياسة، الاقتصاد، الاجتماع، (ويشمل المجال الأخير كل ما عدا الأمور السياسية والاقتصادية). وإذا فصلنا مجال الأمن العسكري عن المجال السياسي، تصبح لدينا أربعة مجالات (أو حقول) رئيسية للحياة العامة، أي تلك التي تتعلق بكل المجتمع. وهذه المجالات متداخلة فيما بينها، ولكل مجال مئات الجوانب.
ومعروف، منذ أقدم العصور، بأن إدارة المجتمع (سياسته) تعتبر أهم عامل، في تحديد مدى قوة ذلك المجتمع. فتلك الإدارة يمكن أن تعمل (إيجابًا)، لرقي ذلك المجتمع وتطوره، ويمكن أن تعمل (سلبًا) بما يؤدي إلى تخلفه، أو انهياره..
ولقد استقر رأي كثير من علماء السياسة والعلاقات الدولية خاصة، على أن مدى قوة أي دولة يتحدد بالعناصر الستة التالية: (1) .
(أ) البيئة والموقع الجغرافي.
(ب) كم ونوع السكان.
(ج) الموارد الطبيعية (الاقتصادية).
(د) القيادة السياسية (السياسة).
(هـ) القوة الصناعية.
(و) القوة العسكرية.
وكلما توفر كل من هذه العناصر بشكل إيجابي، كلما ساهم ذلك (إيجابًا) في تقوية الدولة. والعكس صحيح..
وضمن عناصر القوى (على كل المستويات)، تظهر القيادة السياسية (السياسة)، كأبرز هذه العناصر. فالسياسة هي: "محصلة" لكل مجالات وجوانب الحياة. وهذا ما يجعل "السياسة" أهم ظاهرة (إنسانية ـ اجتماعية)، في حياة الإنسان العامة.
فالمجالين الاجتماعي والاقتصادي، وفروعهما الكثيرة، يظلا من أهم محددات سلوك المجتمع.. أي مجتمع، وتحديد مكانته، ووضعه، ضمن المجتمعات الأخرى. ولكن مجال "السياسة"، يظل الأهم.. بسبب أن السياسة تعني إدارة نشاطات وفعاليات المجالين الاقتصادي والاجتماعي... وتلك الإدارة يمكن أن تقود المجتمع إلى القوة والرفعة... أو إلى الضعف والتخلف.
وهناك العديد جدًا من الأمثلة ـ اليومية ـ التي تؤيد هذا الاستنتاج... لذلك، يمكن أن نقول: "فتش عن السياسة".. عندما نكون بصدد تقييم مدى قوة أي دولة، أو تحليل وضعها الاقتصادي والاجتماعي العام. فالوضع الذي تكون عليه أي دولة، يمكن رد سببه الأساسي إلى سياستها أولاً.... كما يسيطر عنصر (مجال) "السياسة" في معظم الأحداث الكبرى.
وهناك ما يعرف بـ "التنمية" التي تعني ـ ضمن ما تعني غالبًا ـ محاولات الرقي (الإيجابي) بمستوى مجتمع أو شعب ما، ليكون في مستوى من القوة، يضارع أو يشابه أمثاله، من الشعوب الأخرى المعاصرة له. ولقد استقر رأي كثير من العلماء على أن لهذه التنمية أبعادًا أربعة. فهناك تنمية اقتصادية، وأخرى اجتماعية، وتنمية سياسية، وأخرى أمنية. تلك هي المجالات الرئيسية الأربعة للحياة العامة، كما ذكرنا آنفًا.
ولا بد عند الشروع في "التنمية"، من العمل في كل هذه المجالات الأربعة (المترابطة)، مجتمعة. إذ لابد وأن يكون هناك توازنًا فيما بينها، فلا يطغى الاهتمام بمجال منها على المجالات الأخرى. فالتنمية الاقتصادية (مثلاً)، لابد وأن يصاحبها تنمية اجتماعية وسياسية وأمنية ملاءمة، وإلا اختل التوازن.. وتعثرت التنمية. وفي أكثر الحالات، لا يمكن الشروع في التنمية الاقتصادية المتكاملة والتنمية الاجتماعية الشاملة، دون أن يلازم ذلك تنمية سياسية ملاءمة ـ على اعتبار أن بالإمكان إدراج مجال "الأمن" ضمن مجال السياسة.
* * *
إن "علم السياسة" يستمد أهميته من أهمية وخطورة مادته “السلطة السياسية”، بالنسبة للحياة البشرية. ولعل أبرز مظاهر أهمية "السياسة" (الشؤون السياسية)... وأكثر ما يوضح تلك الأهمية هو أن الأخبار والأحداث السياسية تحتل دائمًا المقدمة... في اهتمامات الناس، وتلفت جل نظرهم، وتستحوذ على فكر معظمهم. وذلك، لأن الأحداث السياسية تؤثر في معظم مجالات وجوانب الحياة ـ تقريبًا. لهذا تأتي الأخبار السياسية أولاً.. وفي المقدمة... بالنسبة لبقية الأخبار والأحداث.
* * *
مجال (Scope) علم السياسة: (*) .
ذكرنا أن مادة علم السياسة (أو موضوعه الرئيسي) هي ظاهرة "السلطة السياسية"... ولكن هذه الظاهرة متشعبة كثيرًا... فللسلطة السياسية عدة أوجه، وجوانب... وتغطية هذه الأوجه والجوانب، تعنى التحدث عن "مجال" (Scope) علم السياسة... أي المواضيع (المتعلقة بالسلطة السياسية) التي يختص علم السياسة بدراستها، دراسة علمية.
ورغم عدم وجود اتفاق تام، فيما بين علماء السياسة المعاصرين، بشأن "مجال" علم السياسة (كما ينبغي أن يكون)، إلا أن هناك تحديدات عامة، لهذا المجال، تحظى بقبول واسع، في الأوساط العلمية السياسية (الأكاديمية). ونذكر فيما يلي، بعضًا من أهم تلك التحديدات... كما نشير إلى (مكانة) الفلسفة السياسية، ضمن مجال "مواضيع" علم السياسة.
* * *
حاولت لجنة متخصصة في العلوم السياسية، عقدت تحت رعاية منظمة التعليم والثقافة والعلوم، التابعة لهيئة الأمم المتحدة (اليونسكو)، تحديد (موضوع) علم السياسة، ومجالات البحث فيه. فأصدرت ـ سنة 1948 ـ قائمة تشمل موضوعات البحث العلمي الرئيسية، في علم السياسة. وحددت الموضوعات الرئيسية بأربع، هي:ـ(1) .
(أ) النظرية السياسية: ويشمل النظرية السياسية، بمفهومها العلمي، والفلسفة السياسية ـ أو "تاريخ الأفكار السياسية".
(ب) النظم السياسية: ويشمل دراسة الدستور والتنظيمات السياسية العامة، وفي مقدمتها الحكومة، والإدارة العامة. كما يشمل منهج "الحكومات المقارنة"، كمدخل للدراسة المقارنة، للحكومات المختلفة، بتنظيماتها المتنوعة.
(ج) الأحزاب والكتل السياسية: ويتضمن الأحزاب السياسية، وجماعات الضغط المختلفة، ودراسة الرأي العام.
(د) العلاقات الدولية: ويشمل دراسة السياسة الدولية، والتنظيم الدولي، والقانون الدولي.
ويهمنا هنا تسليط بعض الضوء على ما تعتبره لجنة "اليونسكو" تلك "النظرية السياسية".
* * *
معروف أن الاتجاه الحالي السائد في دراسة السياسة يسعى للتفريق بين "النظرية السياسية"، التي يجب أن تكون قائمة على منهج البحث التجريبي، و"الفلسفة" السياسية، التي تقوم أساسًا على المنهج الاستدلالي (أو التقليدي). لذا، فإن اعتبار كل من النظرية السياسية والفلسفة السياسية ـ بالمعنى الدقيق السائد، لكل منهما ـ شيئًا واحدًا، هو أمر لم يعد مقبولاً.. من قبل غالبية علماء السياسة المعاصرين.
حتى تلك اللجنة ـ لجنة اليونسكو ـ يبدو أنها لا تعني الخلط المطلق، بين الفلسفة السياسية، والنظرية السياسية ـ بمعناها العلمي. فعلى الرغم من إدراجها الواضح لكل منهما تحت مسمى واحد، إلا أن تلك اللجنة حاولت التأكيد على الفارق بين الاثنين. حيث جاء في تقرير تلك اللجنة، أن "النظرية السياسية"، تعني: "دراسة الأساس الفلسفي، والفكري للسياسة، مع الأخذ في الاعتبار أن النزعة العلمية للدراسة السياسية، تتضح عند التمييز بين الفلسفة السياسية، والنظرية السياسية. فإذا استعملت نظرية مقابل فلسفة، كان القصد من هذا الاستعمال التأكيد على علمية النظرية" (1) .
وقد رأت تلك اللجنة ـ كما يبدو ـ أن صعوبة التنظير (التجريبي) في مجال السياسة، تستلزم إبقاء النظريات السياسية ضمن الفلسفة السياسية ـ في الأربعينيات، على الأقل وقد أيد الكثير من علماء السياسة، هذا الإبقاء، بل وإن كثيرًا منهم قد أعتبره أمرًا حتميًا مطلقًا وأبديًا.
* * *
علاقة علم السياسة بالعلوم الأخرى(1) :
بدأ علم السياسة، أول ما بدأ، كـ "فلسفة سياسية". وما زالت صلته بالفلسفة مستمرة... بدليل استمرار استخدام المنهج التقليدي في دراسة السياسة، ذلك المنهج الذي يقوم على أساس فلسفي واضح. مما يجعل استنتاجاته أقرب إلى الفلسفة منها إلى العلم. وهذه الحقيقة جعلت استنتاجات علم السياسة (القواعد والأحكام)، تتأرجح بين العلم (التجريب)، والفلسفة. وتتأكد صلة علم السياسة بـ "الفلسفة" إذا سلمنا بما جاء في الفقرة السابقة، الخاصة بمناقشة "مجال" علم السياسة.
أما العلوم، فإن لمعظمها علاقة وطيدة بـ"علم السياسة". وتعددت تقسيمات العلوم ـ كما هو معروف. ولعل أوجز تصنيفات العلوم ذلك التصنيف الذي يقسمها (أي العلوم) إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي:
(أ) العلوم الطبيعية: وهي العلوم التي تتناول كل ما عدا الرياضيات والسلوك الإنساني.
(ب) العلوم الاجتماعية: وهي العلوم التي تتناول دراسة السلوك الإنساني بشتى جوانبه.
(ج) الرياضيات: وتنصب على دراسة المنطق.. الطبيعي.
إن وجود علاقة مباشرة، بين علمين معينين، تعني (ضمن ما تعني) الحقائق الهامة التالية:ـ
أن الفهم الأفضل للعلم الأول، يعتمد كثيرًا على فهم العلم الثاني (ممثلاً في بعض استنتاجاته ـ على الأقل). والعكس صحيح.
إن أي تقدم يحدث في العلم الأول (وأي فائدة يحققها مثل هذا التقدم)، يمكن أن تساهم إيجابيًا في إفادة وإثراء العلم الثاني.. وهكذا.
ونوجز فيما يلي أسس العلاقة بين علم السياسة وبقية العلوم
(أ) علاقة علم السياسة بالعلوم الطبيعية:
تأتي صلة العلوم الطبيعية بالعلوم الاجتماعية، من حقيقة وجود التأثير الملموس لمعرفة "الأشياء" على السلوك الإنساني، وفعاليات الجنس البشري. فالإنسان هو القا