بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: { {الم *اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ *نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ *مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ *} } [آل عمران: 1 ـ 4] .
قوله: { {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} } { {الم *} }:
تقدَّم الكلام على ما يتعلق بالبسملة، وتقدَّم الكلام أيضاً على الحروف الهجائية التي ابتدأت بها بعض السور[(1)].
وقوله: { {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ *} }:
هذه جملة مكونة من مبتدأ وخبر. فـ { {اللَّهُ} }: مبتدأ، وجملة { {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} } خبر المبتدأ. وجملة الخبر تسمى عند النحويين جملة صغرى؛ لأن الخبر إذا وقع جملة فهو جملة صغرى، والجملة الكبرى هي مجموع المبتدأ وجملة الخبر.
وقوله: { {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} } خبران آخران؛ { {الْحَيُّ} } خبر لـ { {اللَّهُ} } ثانٍ، و{ {الْقَيُّومُ} } خبر ثالث.
و{ {اللَّهُ} } عَلَمٌ على الذات المقدسة، علمٌ على الربِّ عزّ وجل، وأصله الإله بمعنى المألوه، وحذفت الهمزة تخفيفاً كما حذفت الهمزة من (خير) و(شر) في مثل قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها » [(2)]، أي: أخيرها وأشرها. وكما حذفت الهمزة من (الناس)، وأصلها أناس.
وهو أعرف المعارف على الإطلاق. ومعناه: المعبود حبًّا وتعظيماً، فهو فِعال بمعنى مفعول، وما أكثر ما يأتي فعال بمعنى مفعول، كغِراس بمعنى مغروس، وبناء بمعنى مبني.
وقوله { {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} }: أي لا معبود حقٌّ إلا هو. فـ(إله): اسم لاَ النافية للجنس، وخبرها محذوف، تقديره: حق، وهناك آلهة باطلة ولكنها آلهة وُضِعَت عليها الأسماء بدون حق، كما قال الله تعالى: {{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا}} [يوسف: 40] ، وقال تعالى: {{أَفَرَأَيْتُمُ اللاََّّتَ وَالْعُزَّى *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى *أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى *تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى *إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى *}} [النجم: 19 ـ 23] . وبهذا التقدير للخبر في {{لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}}، يزول الإشكال، وهو أنه كيف يُنفى الإله في مثل هذه الجملة، ويُثْبَتُ في مثل قوله: {{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}} [هود: 101] ؟.
والجمع بينهما : أن تلك الآلهة باطلة، والإله في قوله: { {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} } إله حق، {{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}} [الحج: 62] .
وقوله: { {هُوَ} }، (هو) ضمير وليس اسماً لله تعالى، بخلاف قوله تعالى: {{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}} [محمد: 19] . فلفظ { {اللَّهُ} } هنا عَلَم، وأما قوله تعالى: {{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *}} [الأنبياء: 25] . فـ (أنا) هنا ضمير.
فعلى هذا نقول: (أنا) و(هو) في قوله: {{لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا}} وقوله: { {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} } كلاهما ضمير رفع منفصل. فكما أن الذاكر لا يجعل (أنا) اسماً لله، فلا يجوز أن يجعل (هو) اسماً لله، وبهذا نعرف بطلان ذكر الصوفية الذين يذكرون الله بلفظ: هُوْ هُوْ. ويرون أن هذا الذكر أفضل الأذكار، وهو ذكر باطل.
وقوله: { {الْحَيُّ} }: (أل) هنا للاستغراق، أي الكامل الحياة، وحياة الله عزّ وجل كاملة في وجودها، وكاملة في زمنها، فهو حي لا أول له، ولا نهاية له. حياته لم تُسْبَقْ بِعَدَمٍ، ولا يلحقها زوال، وهي أيضاً كاملة حال وجودها، لا يدخلها نقص بوجه من الوجوه، فهو كامل في سمعه وعلمه وقدرته وجميع صفاته، إذا رأينا الآدمي بل إذا رأينا غير الله عزّ وجل وجدنا أنه ناقص في حياته زمناً ووجوداً. حياته مسبوقة بعدم، ملحوقة بزوال وفناء، وهي أيضاً ناقصة في وجودها، ليس كامل السمع ولا البصر ولا العلم ولا القدرة، فكلُّ حي سوى الله ناقص.
وقوله: { {الْقَيُّومُ} } على وزن فَيْعُول، وهو مأخوذ من القيام، ومعناه: القائم بنفسه، القائم على غيره، القائم بنفسه فلا يحتاج إلى أحد، والقائم على غيره فكل أحد محتاج إليه.
وفي الجمع بين الاسمين الكريمين { {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} } استغراق لجميع ما يوصف الله به بجميع الكمالات. ففي «الحي» كمال الصفات، وفي «القيوم» كمال الأفعال، وفيهما جميعاً كمال الذات، فهو كامل الصفات والأفعال والذات.
وقوله تعالى: { {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} }:
{ {نَزَّلَ} }: التنزيل يكون من أعلى إلى أسفل، ويكون بالتدريج شيئاً فشيئاً، كما قال الله تعالى: {{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً *}} [الإسراء: 106] . وقال الله تعالى: {{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}} [الفرقان: 32] .
فقوله: { {نَزَّلَ} } يفيد أن هذا القرآن من عند الله، وأنه نزل بالتدريج ليس مرة واحدة.
وقوله: { {عَلَيْكَ} } الضمير يعود على الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد بيّن الله تعالى في آية أخرى أنه نزل على قلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ ليكون أدل على وعيه لهذا القرآن الذي نزل عليه؛ كما قال تعالى: {{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *}} [الشعراء: 193 ـ 194] .
وأما التعبير بـ {{إِلَيْكَ}} في نحو قوله تعالى: {{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}} [الزمر: 2] فهو يفيد الغاية، يعني نهاية الإنزال إلى الرسول.
{ {الْكِتَابَ} } هو هذا القرآن، وهو فِعال بمعنى مفعول، فهو كتاب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: {{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ *}} [الواقعة: 77 ـ 78] أي اللوح المحفوظ، وهو كتاب في الصحف التي بأيدي الملائكة: {{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ *فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ *مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ *}} [عبس: 12 ـ 15] ، وهو كتاب في الصحف التي بأيدينا، فهو مكتوب بأيدينا، ونقرؤه من هذه الكتب.
وقوله: { {بِالْحَقِّ} } الباء يجوز أن تكون بمعنى أنه متلبس بالحق أي مشتمل على الحق، فهو نازل بحق لا بباطل، ويحتمل أن تكون متعلقة بالتنزيل، يعني أنه نزول حقّ ليس بباطل. قال تعالى: {{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ *وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ *}} [الشعراء: 210 ـ 211] بعد: {{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *}} [الشعراء: 192 ـ 193] ، فيكون { {بِالْحَقِّ} } يعني أنه نازل عليك نزولاً حقاً ليس بباطل، فهو لم يكذب عليه الصلاة والسلام بهذا القرآن. ويحتمل أن يكون نازلاً بالحق يعني مشتملاً عليه ومتلبساً به، والمعنيان صحيحان لا يتنافيان. والقاعدة: أن النص إذا دلَّ على معنيين صحيحين لا يتنافيان حُمل عليهما جميعاً.
وقوله تعالى: { {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} }:
{ {مُصَدِّقًا} } حال من الكتاب، ولا يصح أن نجعلها صفة، لأنَّ مصدقاً نكرة، والكتاب معرفة، والصفة يجب أن تتبع الموصوف في التعريف والتنكير.
وقوله: { {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} } يعني للذي بين يديه من الكتب السابقة، وتصديقه لما بين يديه له وجهان:
الوجه الأول: أنه صدقها لأنها أخبرت به فوقع مصدقاً لها.
الوجه الثاني: مصدقاً لما بين يديه أي حاكماً عليها بالصدق.
فهو مصدق لما سبق من الكتب بالوجهين المذكورين؛ لأن الكتب أخبرت به فوقع، وإذا وقع صار تصديقاً لها. الوجه الثاني: أنه حكم بأنها صدق من عند الله عزّ وجل، وهذا التصديق لما بين يديه يشمل الوجهين جميعاً. فالقرآن شاهد بأن التوراة حق، والإنجيل حق، والزبور حق، وصحف إبراهيم حق، وأن الله أنزل على كل رسول كتاباً، كذلك مصدقاً للكتب التي أخبرت به، فإن الكتب السابقة أخبرت بهذا القرآن، أنه سينزل، ووصفت النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي سينزل عليه بأوصافه التي كانوا يعرفونه بها كما يعرفون أبناءهم.
وقوله: { {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} } أي لما سبقه؛ لأنَّ الذي بين يديك سابق عليك، لأنه أمامك فهو متقدم عليك.
وقوله تعالى: { {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} }:
قال: { {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} }، { {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ} } اختلاف التعبير يدل على اختلاف المعنى.
قال أهل العلم : إن التوراة والإنجيل نزلتا دفعة واحدة بدون تدريج بخلاف القرآن، فإنه نزل بالتدريج، وهذا من رحمة الله عزّ وجل على هذه الأمة، لأنه إذا نزل بالتدريج صارت أحكامه أيضاً بالتدريج، لكن لو نزل دفعة واحدة لزم الأمة أن تعمل به جميعاً بدون تدريج، وهذه من الآصار التي كتبت على من سبقنا، إذا نزلت عليهم الكتب مرة واحدة ألزموا بالعمل بها من حين أن تنزل فيما ألفوه وفيما لم يألفوه، بخلاف القرآن الكريم.
وقوله: { {التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} }.
التوراة : هي الكتاب الذي أنزله الله على موسى عليه الصلاة والسلام.
والإنجيل : هو الكتاب الذي أنزله الله على عيسى عليه الصلاة والسلام.
وهذان اسمان، قيل: إنهما غير عربيين، وقيل: بل هما عربيان، ولكن الذي يظهر أنهما ليسا بعربيين، ولكنه إذا نزل القرآن بشيء صار اللفظ الذي نزل به القرآن عربياً بالتعريب.
قال تعالى: { {مِنْ قَبْلُ} }:
بضم اللام مبنياً، على القاعدة المعروفة فيها وفي أخواتها: أنه إذا حذف المضاف، وَنُوي معناه بُنيت على الضم.
وقوله تعالى: { {هُدىً لِلنَّاسِ} }:
{ {هُدىً} }: مفعول لأجله متعلق بـ (نزل) و(أنزل)، أي: نزَّل عليك الكتاب هدى للناس، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، فهي مفعول من أجله، أي: من أجل هداية الناس. والمراد بالهداية هنا هداية الدلالة التي يترتب عليها هداية التوفيق.
لكن الأصل في هذه الكتب أنها هداية دلالة، ولهذا قال: { {هُدىً لِلنَّاسِ} } عموماً، حتى الكفار تهديهم وتدلهم، وتبيِّن لهم الحق من الباطل، لكن قد يُوفَّقون لقبول الحق والعمل به، وقد لا يُوفَّقون.
والهدى ضد الضلال، واهتدى بمعنى سار على الطريق الصواب، وضلَّ بمعنى انحرف وتاهَ وضاع، ومنه سميت (الضالة) يعني البعير التائه الضائع.
وقوله: { {هُدىً لِلنَّاسِ} } والمراد بالناس: البشر وهم بنو آدم.
وقوله تعالى: { {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} }:
ليس المراد بالفرقان هنا القرآن، بل المراد: أنزل ما يبيِّن به الفرق بين الحق والباطل. وإنما قلنا ذلك لأننا لو خصصناه بالقرآن لكان في ذلك تكرار مع قوله: { {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} }، مع أن التوراة والإنجيل فيهما أيضاً فرقان، أي: فيهما تفريق بين الحق والباطل. إذن أنزل الفرقان الذي تضمنته هذه الكتب الثلاث وهي القرآن والتوراة والإنجيل.
وكلمة «الفرقان» كلمة واسعة تشمل كل ما به الفرق من جميع الوجوه بين أهل الحق وأهل الباطل، وبين النافع والضار، وبين الأنفع والنافع، وبين الأضر والضار وغير ذلك.
ولما ذكر الله سبحانه وتعالى منَّتَه على عباده بإنزال هذه الكتب العظيمة قال: { {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} } يعني بعد إنزال هذه الكتب الواضحة الهادية المفرقة انقسم الناس إلى قسمين: قسم آمن، وقسم كفر. فَذَكر الله حكم الكافر، وبذكره يتبين حكم المؤمن.
وقوله: { {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} }:
كفروا: يقال: إن أصل الكفر من الستر، ويطلق على الجحود؛ لأن الجاحد ساتر، و{ {كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} } أي جحدوها وأنكروها، وقلنا: إن الكفر من الستر لأن منه الكُفُرَّى. والكُفُرَّى: وعاء طلع النخل؛ لأنه يستر الطلع. فالكافر في الحقيقة ساتر، أي: جاحد للحق مخفٍ له.
{ {كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} }: الآيات جمع آية. والآيات هي العلامات الدالة على وجود الله عزّ وجل، وعلى كماله الذاتي، وعلى كماله الفعلي، والآيات نوعان:
1 ـ آيات كونية:
ومنها السموات والأرض، والشمس والقمر والنجوم، والجبال والشجر والدواب والإنسان، واختلاف اللغات، واختلاف الألوان، والنوم واليقظة، وأشياء كثيرة.
2 ـ آيات شرعية:
وهي الوحي المنزَّل على الرسل.
ووجه كون الآيات الكونية آية: أنه لا يستطيع أحد أن يفعل مثل فعل الله عزّ وجل أبداً. قال تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}} [الحج: 73] .
ووجه كون الآيات الشرعية من آيات الله: أنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثل شرع الله في هداية الخلق وإصلاحهم أبداً، لو اجتمع جميع مفكري العالم ليأتوا بدستور يُصلح الخلق كما يُصلحه الوحي، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. قال تعالى: {{قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *}} [الإسراء: 88] .
لكن الآيات الكونية قد يعقلها كثير من الناس؛ لأنها آيات محسوسة مشهودة، حتى الكافر تقول له: هل تستطيع أن تخلق الذباب، يقول: لا أستطيع. أما الآيات الشرعية فليس كل أحد يدركها، قال تعالى: {{كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ *كِتَابٌ مَرْقُومٌ *وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ *الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ *وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ *إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ *كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *}} [المطففين: 7 ـ 14] ، فالإنسان إذا اجتمعت الذنوب على قلبه ـ نسأل الله أن يطهرنا وإياكم منها ـ صار لا يرى الحق حقًّا ولا الباطل باطلاً، عمي ـ والعياذ بالله ـ يُتلى عليه القرآن فيقول: هذه أساطير الأولين ليس كلام رب العالمين. ولهذا نقول: إن الآيات الشرعية هي التي فيها الامتحان والابتلاء، ومن ثَمَّ لم ينكر أحد ربوبية الله، كلٌّ مُقِرٌّ بأن اللهَ ربُّ العالمين، وأنه الذي خلق السموات والأرض، لكن الآيات الشرعية أُنْكِرَتْ.
فقريش كانوا إذا سُئلوا: مَنْ خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله. لكن قالوا في القرآن: إنه كهانة وشعر وسحر وما أشبه ذلك.
وقوله: { {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} }:
والعذاب هنا بمعنى العقوبة، والشديد: القوي. يعني العقوبة قوية ـ والعياذ بالله ـ وقد ذكر الله تعالى في القرآن، وذكر نبي الله صلّى الله عليه وسلّم في السنّة أصنافاً وأنواعاً من هذا العذاب تقشعر منه الجلود، وتوجل منه القلوب. قال الله تعالى: {{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}} [الكهف: 29] إن يستغيثوا، ولا يستغيثون إلا لشدة الحر والظمأ، فإذا أغيثوا يؤتون بماء يشوي الوجوه، إذا أقبلوا به إلى أفواههم ليشربوه شوى وجوههم والعياذ بالله.
قال تعالى: {{بِئْسَ الشَّرَابُ}} [الكهف: 29] هذا شرابهم.
وقال تعالى: {{إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ *طَعَامُ الأَثِيمِ *كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ *كَغَلْيِ الْحَمِيمِ *}} [الدخان: 43 ـ 46] هذا طعامهم.
وأما لباسهم فقال تعالى: {{سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ}} [إبراهيم: 50] .
ومقرهم: قال تعالى: {{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}} [العنكبوت: 55] .
{{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}} [النساء: 56] .
ولأهل هذا العذاب الصراخ والعويل. قال تعالى: {{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}} فيقال لهم توبيخاً: {{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}} [فاطر: 37] .
والسنّة مملوءة بذكر أصناف العقاب الذي يعاقب به هؤلاء، فهو عذاب شديد.
وقوله: { {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} }:
عزيز: أي: ذو العزة، وهي ثلاثة أصناف:
1 ـ عزة القَدْر. 2 ـ عزة القهر. 3 ـ عزة الامتناع.
عزة القدر:
بمعنى أن الله ذو قَدْرٍ شريف عظيم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «السيد الله» [(3)]. هذه عزة القدر.
وعزة القهر:
بمعنى أنه القاهر لكل شيء، لا يُغْلَب، بل هو الغالب. قال تعالى: {{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}} [الأنعام: 187] .
وقال الشاعر الجاهلي:
أين المفر والإله الطالب***والأشرم المغلوب ليس الغالب
فالله سبحانه غالب على كل شيء.
وعزة الامتناع:
أي: أنه عزّ وجل يمتنع أن يناله سوء أو نقص، ومن هذا المعنى قولهم: هذه أرض عَزَاز، أي: صلبة قوية لا تؤثر فيها المعاول.
وقوله: { {ذُو انْتِقَامٍ} }: أي صاحب انتقام، والانتقام أخذ المجرم بإجرامه. تقول: انتقمت من زيد. يعني: أخذت بحقي منه. قال الله تعالى: {{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}} [السجدة: 22] .
وهنا قال: «ذو انتقام» ولم يقل «ذو الانتقام». وفي الرحمة قال: {{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}} [الكهف: 58] ولم يقل: «ذو رحمة». وإن كان قد قال في آية أخرى: {{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}} [الرعد: 6] ؛ لأن الانتقام ليس من أوصاف الله المطلقة، وليس من أسماء الله المنتقم. فـ (المنتقم) لا يوصف الله به إلا مقيداً؛ فيقال: المنتقم من المجرمين، كما قال تعالى: {{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}} [السجدة: 22] . أما { {ذُو انْتِقَامٍ} } فهي لا تعطي معنى الانتقام المطلق؛ لأن (انتقام) نكرة، فلا تعطي المعنى على الإطلاق، بل له انتقام مقيد بالمجرمين، ونحوهم.
وبهذا نعرف أن الأسماء المسرودة في الحديث الذي رواه الترمذي لا تصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم [(4)]، لأنها ذُكِرَ فيها من أسماء الله المنتقم، وهذا لا يصح، وحُذِفَ من أسماء الله ما ثبتت به الأحاديث فلم يُذكر فيها مثل: الشافي، والرب.
من فوائد الآيات الكريمة:
1 ـ إثبات ألوهية الله عزّ وجل، لقوله: { {اللَّهُ} }.
2 ـ انفراده بهذه الألوهية، لقوله: { {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} }.
3 ـ إثبات اسمين من أسماء الله { {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} }. وقد ورد أنهما اسم الله الأعظم، لاشتمالهما على كمال الذات والصفات والأفعال.
4 ـ إثبات حياته وقيوميته؛ لأنَّ كل اسم فإنه متضمن للصفة، وقد يتضمن أمراً زائداً وهو الحكم الذي يسمى الأثر.
5 ـ أن كل شيء مفتقر إلى الله، وأن الله غني عما سواه، ووجه ذلك: أنّ كمال حياته يستلزم غناه عن كل أحد، وكمال قيوميته يستلزم افتقار كل شيء إليه، وهو كذلك. قال تعالى: {{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ}} [الروم: 25] ، وقال تعالى: {{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}} [الرعد: 33] .
6 ـ إثبات علو الله؛ لقوله: { {نَزَّلَ} }، { {وَأَنْزَلَ} }. والنزول لا يكون إلا من أعلى.
7 ـ أن القرآن الكريم منزل؛ لقوله: { {نَزَّلَ عَلَيْكَ} }، ومجرد كونه منزلاً لا يستلزم ألا يكون مخلوقاً؛ لأن الله قد ينزل المخلوق. قال تعالى: {{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا}} [ق: 9] ، وقال تعالى: {{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ}} [الرعد: 17] والماء مخلوق. لكن بالنظر لكون القرآن كلاماً يستلزم ألا يكون مخلوقاً؛ لأن الكلام صفة المتكلم، وصفة الخالق غير مخلوقة.
إذن فيؤخذ أن القرآن غير مخلوق لكونه نزل من عند الله وهو كلام، والكلام صفة المتكلم، والصفة تابعة للموصوف.
8 ـ فضل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وميزته؛ لقوله: { {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} }، والله سبحانه وتعالى قد يضيف الإنزال إلى الناس كما قال تعالى في سورة البقرة: {{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}} [البقرة: 136] ، وفي سورة آل عمران: {{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}} [آل عمران: 84] ، لكنه أنزل إلى الرسول مباشرة وإلينا بواسطة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو الذي بلغه إلينا، ومعلوم أن الأصل أشرف من الفرع.
9 ـ أن هذا الكتاب الذي أنزله الله على محمد صلّى الله عليه وسلّم مشتمل على الحق، لقوله: { {بِالْحَقِّ} }. فقد جاء بالحق، ونزل به. قال تعالى: {{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}} [الإسراء: 105] ، فالحق في الأخبار الصدق، والحق في الأحكام العدل، كما قال تعالى: {{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}} [الأنعام: 115] .
10 ـ أن القرآن نفسه حق. يؤخذ من قوله: { {بِالْحَقِّ} } يعني: أنه نزل نزولاً بحق ليس نزولاً كذباً باطلاً.
11 ـ فضيلة القرآن لوصفه بالحق نزولاً وتضمناً، ولوصفه بالتصديق لما بين يديه.
12 ـ الإشارة إلى أن هذا القرآن قد أخبرت عنه الكتب السابقة.
13 ـ جواز التعبير بما يخالف الظاهر إذا دلّ عليه السياق كما في قوله: { {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} }، لأن الكلمة دلت على معناها في سياقها، وإن كان يخالف أصل الوضع.
14 ـ أن التوراة النازلة على موسى، والإنجيل النازل على عيسى عليهما الصلاة والسلام حق؛ لقوله: { {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} }.
15 ـ الإشارة إلى أن التوراة والإنجيل قد نسخا بالقرآن، وقد صرح بذلك في سورة المائدة. قال تعالى: {{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ}} [المائدة: 48] .
مسألة: المعروف عند السلف أن التوراة والإنجيل من كلام الله، لكن لا أذكر حتى الآن دليلاً على وصفهما بأنهما من كلام الله، إنما وصفهما الله بأنها منزَّلة، وأنها كتب، والله تعالى يقول: {{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ}} [الأعراف: 145] ، وجاء في الحديث: «إن الله كتب التوراة بيده» [(5)]. فأنا أتوقف في هذا، لكن السلف كلامهم واضح يقولون: إن التوراة والإنجيل من كلام الله. ويكفي أن نؤمن بأنها نازلة من عند الله.
16 ـ رحمة الله عزّ وجل بعباده، وعنايته بهم حيث كان ينزل الكتب على رسله هدى للناس.
17 ـ إثبات الحكمة لله تعالى في أحكامه الشرعية كما تثبت في أحكامه الكونية، لقوله: { {هُدىً لِلنَّاسِ} }.
ومن أسماء الله تعالى الحكيم، وهو ذو الحكمة. والحكمة هي إصابة الصواب، وإن شئت فقل: وضع الشيء في موضعه، وإن شئت فقل: إتقان الشيء وإحكامه. فإذا وقع من أفعال الله أو من شرع الله ما لا نعلم له حكمة فليس ذلك إلا لقصور فهمنا، وعجزنا عن إدراك الحكمة. وإذا وقع ما نظن أنه على خلاف الحكمة فما ذاك إلا لسوء فهمنا، فالذي يظن أنه ليس له حكمة قاصر الفهم، والذي يظن أنه على خلاف الحكمة سيئ الفهم، أما سليم الفهم الذي يعطيه الله تعالى فهماً فستتبين له الحكمة، ومع ذلك لا يمكن أن ندرك كل وجوه الحكمة؛ لأن حكمة الله عزّ وجل لا تدرك غايتها، والإنسان بشر ناقص، وكم من أحكام شرعية تظن أن حكمتها كذا وكذا ثم يتبين لك أن لها حِكَماً أخرى، أو ربما يتبين لك أن هذه ليست الحكمة بل الحكمة شيء آخر، إنما يجب عليك أن تؤمن بأنه ما من حكم لله كوني أو شرعي إلا وله حكمة.
ولا يلزم على هذا أن تذهب مذهب المعتزلة في وجوب فعل الصلاح، أو وجوب فعل الأصلح، على الله لأمرين:
الأول: قد تظن أن هذا هو الأصلح، وليس الأصلح. ولنضرب لهذا مثلاً: نحن نظن أن الأصلح نزول الغيث، وخصب الأرض، فإذا امتنع المطر وأجدبت الأرض فقد يكون هذا هو المصلحة! ونحن لا نعلم.
إذن لا يمكن أن نقول: يجب على الله كذا لأنه أصلح، إذ قد يكون ما قلنا إنه الأصلح هو الأفسد!.
الثاني: إذا تحققنا أنه الأصلح فإنه يجب بمقتضى الحكمة لا بمقتضى العقل. فنحن لا نوجب على الله بعقولنا، والعقل لا يوجب على الله شيئاً؛ لأن العقل مخلوق ناقص، فلا يوجب على الكامل الأزلي الأبدي شيئاً، فإذا وجب فعل الأصلح فإنما الذي أوجبه على نفسه الله. قال الله تعالى: {{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}} [الأنعام: 54] . وقال تعالى: {{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى *}} [الليل: 12] . فأوجب على نفسه أن يهدي الناس ويدلهم، فإذا ثبت أن هذا هو الأصلح فقد وجب على الله بمقتضى حكمته وإيجابه على نفسه، لا بمقتضى عقولنا وإيجابنا عليه، وبهذا ننفك عن قول المعتزلة الذين يرون أن العقل هو الذي يوجب الشيء أو الذي يمنع الشيء، أو الذي يقبح الشيء أو الذي يحسِّن الشيء. ومن ذلك مثلاً: البيان للخلق، بيان الشرائع للخلق وما يجب عليهم نحو ربهم، وما يجب عليهم نحو عباد الله، واجب على الله بمقتضى الحكمة، {{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى *}} [الليل: 12] .
18 ـ أن هداية القرآن نوعان: عامة، وخاصة. فالعامة مثل هذه الآية: { {هُدىً لِلنَّاسِ} }. والخاصة مثل قوله: {{هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ}} [البقرة: 2] والفرق بينهما أن الهداية التي بمعنى الدلالة عامة؛ لقوله تعالى: {{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}} [النساء: 165] ، والهداية التي بمعنى التوفيق والاهتداء خاصة بالمتقين.
19 ـ أن الكتب كلها فرقان تتضمن الفرق بين الحق والباطل، وبين الصدق والكذب، وبين المؤمن والكافر، وبين الضار والنافع، كل ما يمكن أن يكون فيه فرق فإن الكتب تفرقه.
20 ـ أنه يمتنع أن تجمع الكتب السماوية بين مختلفين، أو أن تفرق بين متماثلين أبداً؛ لأن الفرقانَ هو الذي يفرق بين شيئين مختلفين. أما شيئان لا يختلفان فلا تفريق بينهما، ويتفرع على هذه الفائدة إثبات القياس؛ لأن القياس إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة، فهو جمع بين متماثلين، وعدم الأخذ بالقياس تفريق بين متماثلين.
21 ـ أنه كلما اهتدى الإنسان للفروق كان أعظم اهتداء بالكتب المنزلة من الله؛ لأن الكتب كلها فرقان. فمثلاً: إذا كان الإنسان يفرق بين الشرك الأصغر والأكبر، وبين النفاق الاعتقادي والعملي، وبين الكفر الأكبر والأصغر، وبين الحلال والحرام، كان أشد اهتداء بالكتب ممن لا يفرق.
وربما يؤخذ من هذا أيضاً الإشارة إلى أنه ينبغي الاعتناء بمعرفة الفروق بين الأشياء المتشابهة، وهذا فن أخذ به بعض أهل العلم ولا سيما في كتب الفقه، فيذكرون مثلاً: الفروق بين البيع والإجارة، بين الإجارة والجعالة، بين الرهن والضمان، بين الضمان والكفالة، بين الفرض والتطوع، وهذه من فنون العلم الشريفة التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها، كذلك في العقائد والتوحيد يفرق بين الشرك الأكبر والأصغر، فرجل حلف بغير الله نقول: هو مشرك. ورجل عبد صنماً نقول ـ أيضاً ـ: هو مشرك، لكن بينهما فرق عظيم. العابد للصنم شركه أكبر، والحالف بغير الله شركه أصغر إلا أن يضاف إلى حلفه بغير الله جَعْله المحلوف به كالله تعالى في التعظيم، فحينئذ يكون شركاً أكبر لا من حيث القسم، ولكن من حيث إنه جعل رتبة المحلوف به كرتبة الخالق.
22 ـ بيان عقوبة الكفار وهي العذاب الشديد، وذكر عقوبة الكافر تستلزم التحذير من الكفر.
23 ـ الإشارة إلى أن الناس ينقسمون إلى قسمين:
كافر له العذاب الشديد، ومؤمن له الثواب الجزيل؛ لأنه إذا ذكر عقوبة الضد، فإن ضده تثبت له ضد تلك العقوبة، ولهذا لما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وفي بضع أحدكم صدقة» ، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر، قال: «أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» [(6)]. وقد يكون هذا من جملة الفرقان الذي يحصل حيث نفرق بين الكفار وبين المؤمنين، فكما اختلفوا وتفرقوا في أعمالهم فإنه يلزم أن يفترقوا في ثواب تلك الأعمال.
24 ـ إثبات اسم من أسماء الله وهو: (العزيز) بالمعاني الثلاثة السابقة.
25 ـ أن الله تعالى موصوف بالانتقام؛ لقوله: { {ذُو انْتِقَامٍ} } ولكنه ليس على سبيل الإطلاق كما تقدم بل هو منتقم ممن يستحق ذلك وهم المجرمون كما قال تعالى: {{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}} [السجدة: 22] .
* * *
قال تعالى: { {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ *} } [آل عمران: 5] .
هذه جملة خبرية مؤكدة بـ { {إِنَّ} }، وخبرها منفي { {لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ} }، والخفاء ضد الظهور. و{ {شَيْءٌ} } نكرة في سياق النفي فتعم كل شيء في الأرض والسماء، وقوله: { {وَلاَ فِي السَّمَاءِ} } متعلقة بـ«يخفى» يعني لا يخفى عليه شيء لا في هذا ولا في هذا. والمراد بالأرض والسماء الجنس، فيشمل الأرضين والسموات جميعاً. وإنما خصَّ الأرض والسماء لأنهما مشهودان لنا، وما عدا ذلك لا نعلمه إلا عن طريق الغيب.
وفي هذه الآية الكريمة يخبر الله عزّ وجل أنَّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهي صفة سلبية المراد بها بيان كمال علمه؛ لأن الصفات المنفية لا يراد بها مجرد النفي، وإنما يراد بها بيان كمال ضد ذلك المنفي.
والغرض من هذه الجملة تربية الإنسان نفسه في امتثال أمر الله واجتناب نهيه، وأنك لا تظن أن عملك يخفى على الله، بل هو معلوم له، فعليك أن تقوم بطاعته وتجتنب معصيته. لا تقل: أنا في بيتي أو في غرفتي لا يطلع عليّ أحد، فالله تعالى مطلع عليك: { {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ *} }.
من فوائد الآية الكريمة:
1 ـ التحذير من مخالفة الله؛ لأنَّ الله يعلم بمخالفتك إياه.
2 ـ الرد على غلاة القدرية الذين يقولون: إن الله لا يعلم الشيء الذي يفعله العبد إلا بعد وقوعه.
3 ـ أن الله تعالى عالم بالكليات والجزئيات؛ لقوله: { {شَيْءٌ} }، لأنَّ النكرة في سياق النفي تعم كل شيء.
4 ـ أن صفات الله عزّ وجل إما مثبتة وإما منفية، فالمثبتة يسمونها ثبوتية، والمنفية يسمونها سلبية، والسلبية متضمنة لثبوت كمال الضد، فلكمال علمه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
* * *
ثم قال الله عزّ وجل: { {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} } [آل عمران: 6] .
وهذا من جملة معلوماته التي تخفى على كثير من الناس وهي معلومة له.
وقوله: { {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ} } أي: يجعلكم على صورة معينة يختارها ويريدها.
وقوله: { {فِي الأَرْحَامِ} } حال من الضمير «الكاف» في يصوركم، يعني حال كونكم في الأرحام.
{ {الأَرْحَامِ} }: جمع رحم، وهو وعاء الجنين في بطن أمه. وقد بيّن الله تعالى في آية ثانية أن الجنين في بطن أمه في ظلمات ثلاث، وهي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، وهو الوعاء المائي الذي يكون فيه الجنين.
وقوله تعالى: { {كَيْفَ يَشَاءُ} } هذه حال من فاعل { {يَشَاءُ} } يعني أنه يصورنا على أي كيفية شاء، فلا خيار لنا في اختيار الصورة المعينة للجنين الذي في البطن.
وقوله تعالى: { {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} }:
هذه الجملة خبرية فيها الحصر الذي طريقه النفي والإثبات.
والـ { {إِلَهَ} }: بمعنى مألوه. وقوله: { {إِلاَّ هُوَ} } الضمير { {هُوَ} } بدل من الخبر المحذوف، أي لا إله حق إلا هو.
{ {الْعَزِيزُ} }: سبق لنا قريباً معناه.
{ {الْحَكِيمُ} }: فعيل بمعنى مُفْعِل، وفعيل بمعنى فاعل، أما فعيل بمعنى فاعل فهو كثير في اللغة العربية، مثل: قدير بمعنى قادر، وسميع بمعنى سامع، وأما سميع بمعنى مُسْمِع فهي واردة في اللغة العربية. قال الشاعر:
أمن ريحانة الداعي السميعُ***يؤرقني وأصحابي هجوع[(7)]
فالسميع : بمعنى المُسمع الذي يُسمعني.
فتكون (حكيم) هنا بمعنى مُحكِم وبمعنى حاكم، فالله عزّ وجل حاكم محكم لما حكم. وحكم الله تعالى ينقسم إلى قسمين:
1 ـ حكم كوني:
وهو ما قضاه الله على عباده كوناً، وهذا يخضع له كل أحد من مؤمن وكافر، وبَرٍ وفاجرٍ، ولا يستطيع أحد أن يهرب منه أبداً.
2 ـ حكم شرعي:
وهو ما قضاه الله على عباده شرعاً، وهذا هو الذي اختلف فيه الناس، فمنهم كافر ومنهم مؤمن، منهم من خضع لهذا الحكم الشرعي وقام بما يجب عليه نحوه، ومنهم من استكبر عنه، وكذب به، ولم يرفع به رأساً.
وفي الآية هنا يكون (حكيم) بمعنى ذي الحكمة أي متقن لكل ما حكم به. فكل ما حكم الله به من حكم كوني أو شرعي فهو على أتم وجه وأتقنه وأحسنه.
قال تعالى: {{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ *ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ *}} [الملك: 3 ـ 4] . وقال: {{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ *}} [المائدة: 50] .
والحكمة سواء في الحكم الكوني أو في الحكم الشرعي إما صورية؛ بأن يكون الشيء على صورة مطابقة للحكمة، أو غائية بأن تكون الغاية منه غاية حميدة، فإذا نظرنا إلى الشرع فإن جميع ما شرعه على الصورة المطابقة للحكمة كالصلاة والزكاة والصيام والحج، ثم الغرض منها ـ وهو إصلاح القلوب وإصلاح الأعمال وإصلاح الفرد وإصلاح المجتمع ـ أيضاً موافق للحكمة.
من فوائد الآية الكريمة:
1 ـ بيان قدرة الله عزّ وجل حيث يصور المخلوقات في الأرحام.
2 ـ أن صور المخلوقات يكون تصويرها بأمر الله وإذنه كيف يشاء، هذا أبيض وهذا أسود، وهذا جميل وهذا قبيح، وهذا طويل وهذا قصير، وهذا غليظ وهذا دقيق وهكذا، بل ويشمل أن هذا ذكر وهذا أنثى؛ لأن صورة الذكر تختلف عن صورة الأنثى.
3 ـ بيان رحمة الله عزّ وجل حيث يتولى شؤون الجنين ويصوره، لا يخرج غير مصور. لو شاء الله لخرج الجنين غير مصور ثم يصور شيئاً فشيئاً، كما ينمو عقله، ولكن من حكمة الله ورحمته أنه لا يخرج إلا على الصورة التي أرادها الله عزّ وجل.
فإذا قال قائل : { {كَيْفَ يَشَاءُ} } يستفاد منها أن هذا التصوير لا يرجع إلى فعل العبد وإنما يرجع لمشيئة الله عزّ وجل وهو كذلك، ولكن هذا لا ينافي أن تكون الصورة قريبة من صورة الأب أو من صورة الأم أو الجد أو الجدة، يعني أن يكون هذا الجنين قد نزعه عرق من آبائه وأمهاته وأقاربه، هذا لا يمنع، لأن الله عزّ وجل قد جعل لكل شيء سبباً، ويدل لهذا قصة الرجل الذي جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاماً أسود ـ وكان الرجل وزوجته أبيضين ـ كأنه يعرِّض بزوجته ما الذي أتى بالأسود لها؟ فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هل لك من إبل؟» ، قال: نعم، قال: «فما ألوانها؟» قال: حمر، قال: «هل فيها من أورق؟ (الأورق: الفضي بين البياض والسواد)»، قال: نعم، قال: «أَنَّى لها ذلك؟» ، قال: لعله نزعه عرق، فقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «فابنك هذا لعله نزعه عرق» [(8)]. فاقتنع الرجل، لأن هذا قياس جلي واضح.
الشاهد قوله: «لعله نزعه عرق» ، فيستفاد من ذلك أن هذه الكيفية التي يريدها الله عزّ وجل في الأرحام لا يمنع أن يكون قد نزعها عرق من آبائه أو أمهاته أو أجداده أو جداته.
4 ـ إثبات المشيئة لله تعالى؛ لقوله: { {كَيْفَ يَشَاءُ} }، وقد سبق لنا أن المشيئة إذا أطلقت فهي مقرونة بالحكمة، فما من شيء يشاؤه الله إلا لحكمة.
فإن قال قائل : هل في الآية دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يعمل عملية تجميل لقوله: { {كَيْفَ يَشَاءُ} }، حيث جعل التصوير راجعاً إلى مشيئته وحده. قد يقال ذلك، وقد لا يقال؛ لأن الله تعالى أخبر في آيات كثيرة بأنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، يعني يضيق، ولا نقول: إن الإنسان ممنوع من أن يفعل الأسباب التي يكون بها بسط الرزق؛ لأن البسط راجع إلى مشيئة الله! ولكن هناك فرق بين مسألة بسط الرزق وطلب البسط وهذه المسألة؛ لأن النصوص وردت بمنع التجميل، فقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام، أنه «لعن النَّامصة والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة، والواشمة والمستوشمة» [(9)]. وهذا يدل على أن الإنسان ممنوع من التجميل، والمراد التجميل الذي يكون دائماً. أما التجميل الطارئ كتجمل المرأة بالحناء وشبهه فلا بأس به.
فإذا قال قائل : هل في الآية ما يدل على منع إزالة العيوب لقوله: { {كَيْفَ يَشَاءُ} }، كما إذا خرج صبي له ستة أصابع في كل يد فهل يجوز أن نقطع الإصبع الزائد؟
فهذا ليس من باب التجميل ولكنه من باب إزالة العيب. وإزالة العيب جاءت السنّة بجوازه، فإن الرجل الذي قطع أنفه أذن له الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتخذ أنفاً من وَرِق ـ يعني من فضة ـ فأنتن! فأذن له أن يتخذ أنفاً من ذهب [(10)]. فهذا يدل على أن إزالة العيب ليست كجلب الجمال. وعلى هذا فيجوز قطع الإصبع الزائدة، ولكن بعض أهل العلم صرح بالتحريم إلا أنهم علَّلوا ذلك بأنه يُخشى على من قطعت إصبعه أن يموت بنزيف الدم! وهذه العلة منتفية في الزمن الحاضر، وعليه فيجوز قطع الإصبع الزائدة، ومثله لو فرض أن هناك لحمة زائدة في الأذن أو في الرأس أو في الرقبة فتجوز إزالتها.
5 ـ إثبات انفراد الله عزّ وجل بالألوهية؛ لقوله: { {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} }.
6 ـ إثبات الاسمين الكريمين العزيز والحكيم، وما تضمناه من صفة.
وكل اسم من أسماء الله دال على الذات وعلى الوصف المشتق منه، فإن كان متعدياً ففيه دلالة ثالثة وهي الأثر المترتب على ذلك.
فـ {{السَّمِيعُ}} مثلاً: فيه إثبات الاسم وهو السميع، والصفة وهي السمع، والأثر وهو أنه يسمع، وهكذا العليم. أما ما لا يتعدى للغير ففيه إثبات الاسم والصفة فقط، مثل: الحي، العظيم، العلي.
* * *
ثم قال تعالى: { {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ *} } [آل عمران: 7] .
الضمير { {هُوَ} } يعود على الله، وتأمل هنا ترابط الآيات مع بعضها البعض، لما ذكر الله عزّ وجل أنه هو المصور ـ والتصوير ابتداء الخلق ـ ذكر بعده إنزال الكتاب الذي به الهداية كقوله: {{الرَّحْمَانُ *عَلَّمَ الْقُرْآنَ *خَلَقَ الإِنْسَانَ *عَلَّمَهُ الْبَيَانَ *}} [الرحمن: 1 ـ 4] ، فأحياناً يبيِّن الله النعمة الدينية قبل، وأحياناً يبيِّن الله النعمة الدنيوية قبل، فبدأ الله هنا بالتصوير ثم ذكر إنزال القرآن، وفي سورة الرحمن ذكر تعليم القرآن قبل خلق الإنسان.
{ {الْكِتَابَ} }: هو القرآن، ثم قسّم الله هذا الكتاب فقال: { {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} }، يعني: ومنه أُخر متشابهات. وهنا يتعين أن نقول: ومنه أُخر ليتم التقسيم.
فـ (أُخَر) مبتدأ خبره محذوف يعني: ومنه أخر متشابهات، نظير قوله تعالى: {{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}} [هود: 105] فـ(سعيد) هنا ليست معطوفة على (شقي) لأنها لو كانت معطوفة عليها لفسد التقسيم، ولكن التقدير: منهم شقي ومنهم سعيد.
والاشتباه قد يكون اشتباه في المعنى، بحيث يكون المعنى غير واضح، أو اشتباه في التعارض، بحيث يظن الظان أن القرآن يعارض بعضه بعضاً، وهذا لا يمكن أن يكون؛ لأن الله عزّ وجل قال: {{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}} [النساء: 82] . والقرآن يصدق بعضه بعضاً.
والتعارض الذي يفهمه من قد يفهمه من الناس يكون للأسباب التالية:
1 ـ إما لقصور في العلم. 2 ـ أو قصور في الفهم. 3 ـ أو تقصير في التدبر. 4 ـ أو سوء في القصد، بحيث يظن أن القرآن يتعارض، فإذا ظن هذا الظن لم يوفق للجمع بين النصوص، فيحرم الخير لأنه ظن ما لا يليق بالقرآن.
قال تعالى: { {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} }:
(الآيات) : جمع آية وهي العلامة، وكل آية في القرآن فهي علامة على مُنْزِلها لما فيها من الإعجاز والتحدي، وقوله: { {مُحْكَمَاتٌ} } أي: متقنات في الدلالة والحكم والخبر، فأخبارها وأحكامها متقنة معلومة ليس فيها إشكال.
وقوله تعالى: { {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} }:
يعني: أن أحكامها غير معلومة، وأخبارها غير معلومة، فصار المحكم هو المتقن في الدلالة سواء كان خبراً أو حكماً، والمتشابه هو الذي دلالته غير واضحة سواء كان خبراً أو حكماً.
ولهذا نجد أن بعض الآيات لا تدل دلالة صريحة على الحكم الذي اسْتُدِلَّ بها عليه، وبعض الآيات الخبرية أيضاً لا تدل دلالة صريحة على الخبر الذي استدل بها عليه.
قال تعالى: { {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} }:
قدَّم وصف هذه المحكمات وبيان حالها ليتبادر إلى الذهن أول ما يتبادر أنه يرد المتشابهات إلى المحكمات لأنها أمٌّ، وأمُّ الشيء مرجعه وأصله. كما قال الله تعالى: {{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ *}} [الرعد: 39] : أي المرجع وهو اللوح المحفوظ الذي ترجع الكتابات كلها إليه، ومنه سميت الفاتحة أم الكتاب، لأن مرجع القرآن إليها. فهذه المحكمات يجب أن ترد إليها المتشابهات.
قال تعالى: { {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} }:
ينقسم الناس بالنسبة إلى هذه المتشابهات إلى قسمين:
1 ـ قسم يتبعون المتشابه ويضعونه أمام الناس ويعرضونه عليهم. فيقولون: كيف كذا وكيف كذا؟
2 ـ وقسم آخر يقولون: آمنا به كل من عند ربنا، فإذا كان من عند ربنا فلا يمكن أن يتناقض، ولا يمكن أن يتخالف، بل هو متحد متفق، فيرد المتشابه منه إلى المحكم، ويكون جميعه محكماً.
وقوله: { {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} } الزيغ: بمعنى الميل، من قولهم: زاغت الشمس إذا مالت عن كبد السماء.
أي: في قلوبهم ميل عن الحق، فهم لا يريدون الحق، وإنما يتبعون المتشابه، فتجدهم ـ والعياذ بالله ـ يأخذون آيات القرآن التي فيها اشتباه حتى يضربوا بعضها ببعض وما أكثر هؤلاء!! ليصدوا عن سبيل الله ويشككوا الناس في كلام الله عزّ وجل، وأما الذين ليس في قلوبهم زيغ وهم الراسخون في العلم الذين عندهم من العلم ما يتمكنون به أن يجمعوا بين الآيات المتشابهة، وأن يعرفوا معناها، فهؤلاء لا يكون عندهم هذا التشابه بل يقولون: { {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} } فلا يرون في القرآن شيئاً متعارضاً متناقضاً.
وكل أهل البدع من الرافضة والخوارج والمعتزلة والجهمية وغيرهم كلهم اتبعوا ما تشابه منه، لكن مستقل ومستكثر، فهؤلاء يتبعون ما تشابه لهذين الغرضين أو لأحدهما:
1 ـ { {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} } أي: صد الناس عن دين الله، لأن الفتنة بمعنى الصد عن دين الله، كما قال الله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ *}} [البروج: 10] . فتنوهم: يعني صدُّوهم عن دين الله.
2 ـ { {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} }، أي: طلب تأويله لما يريدون، فهم يفسِّرونه على مرادهم لا على مراد الله تعالى.
قال تعالى: { {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} }:
اختلف السلف في الوقف عليها، فأكثر السلف وقف على قوله: { {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} }، ثم نبتدئ فنقول: { {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} } وعلى هذا تكون الواو في { {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} } للاستئناف، { {وَالرَّاسِخُونَ} }: مبتدأ، وجملة { {يَقُولُونَ} } خبر المبتدأ، ويصبح المعنى أن هذا المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله عزّ وجل، وأما الراسخون في العلم الذين لم يعلموا تأويله يقولون: { {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} }، وليس في كلام ربنا تناقض ولا تضارب، فيسلِّمون الأمر إلى الله عزّ وجل؛ لأنه هو العالم بما أراد، وينقسم الناس إذن إلى قسمين:
1 ـ { {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} }.
2 ـ { {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} }.
ووصل بعض السلف ولم يقف، فقرأ: { {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} } فتكون الواو للعطف، والراسخون: معطوفة على لفظ الجلالة، أي: لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، بخلاف الذين في قلوبهم زيغ فهؤلاء لا يعلمون. والحقيقة أن ظاهر القراءتين التعارض لأن:
القراءة الأولى: تقتضي أنه لا يعلم تأويل هذا المتشابه إلا الله.
والقراءة الثانية: تقتضي أن هذا المتشابه يعلم تأويله الله والراسخون في العلم.
فيكون ظاهر القولين التعارض، ولكن الصحيح أنه لا تعارض بينهما، وأن هذا الخلاف مبني على الاختلاف في م
قال تعالى: { {الم *اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ *نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ *مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ *} } [آل عمران: 1 ـ 4] .
قوله: { {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} } { {الم *} }:
تقدَّم الكلام على ما يتعلق بالبسملة، وتقدَّم الكلام أيضاً على الحروف الهجائية التي ابتدأت بها بعض السور[(1)].
وقوله: { {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ *} }:
هذه جملة مكونة من مبتدأ وخبر. فـ { {اللَّهُ} }: مبتدأ، وجملة { {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} } خبر المبتدأ. وجملة الخبر تسمى عند النحويين جملة صغرى؛ لأن الخبر إذا وقع جملة فهو جملة صغرى، والجملة الكبرى هي مجموع المبتدأ وجملة الخبر.
وقوله: { {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} } خبران آخران؛ { {الْحَيُّ} } خبر لـ { {اللَّهُ} } ثانٍ، و{ {الْقَيُّومُ} } خبر ثالث.
و{ {اللَّهُ} } عَلَمٌ على الذات المقدسة، علمٌ على الربِّ عزّ وجل، وأصله الإله بمعنى المألوه، وحذفت الهمزة تخفيفاً كما حذفت الهمزة من (خير) و(شر) في مثل قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها » [(2)]، أي: أخيرها وأشرها. وكما حذفت الهمزة من (الناس)، وأصلها أناس.
وهو أعرف المعارف على الإطلاق. ومعناه: المعبود حبًّا وتعظيماً، فهو فِعال بمعنى مفعول، وما أكثر ما يأتي فعال بمعنى مفعول، كغِراس بمعنى مغروس، وبناء بمعنى مبني.
وقوله { {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} }: أي لا معبود حقٌّ إلا هو. فـ(إله): اسم لاَ النافية للجنس، وخبرها محذوف، تقديره: حق، وهناك آلهة باطلة ولكنها آلهة وُضِعَت عليها الأسماء بدون حق، كما قال الله تعالى: {{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا}} [يوسف: 40] ، وقال تعالى: {{أَفَرَأَيْتُمُ اللاََّّتَ وَالْعُزَّى *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى *أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى *تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى *إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى *}} [النجم: 19 ـ 23] . وبهذا التقدير للخبر في {{لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}}، يزول الإشكال، وهو أنه كيف يُنفى الإله في مثل هذه الجملة، ويُثْبَتُ في مثل قوله: {{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}} [هود: 101] ؟.
والجمع بينهما : أن تلك الآلهة باطلة، والإله في قوله: { {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} } إله حق، {{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}} [الحج: 62] .
وقوله: { {هُوَ} }، (هو) ضمير وليس اسماً لله تعالى، بخلاف قوله تعالى: {{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}} [محمد: 19] . فلفظ { {اللَّهُ} } هنا عَلَم، وأما قوله تعالى: {{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *}} [الأنبياء: 25] . فـ (أنا) هنا ضمير.
فعلى هذا نقول: (أنا) و(هو) في قوله: {{لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا}} وقوله: { {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} } كلاهما ضمير رفع منفصل. فكما أن الذاكر لا يجعل (أنا) اسماً لله، فلا يجوز أن يجعل (هو) اسماً لله، وبهذا نعرف بطلان ذكر الصوفية الذين يذكرون الله بلفظ: هُوْ هُوْ. ويرون أن هذا الذكر أفضل الأذكار، وهو ذكر باطل.
وقوله: { {الْحَيُّ} }: (أل) هنا للاستغراق، أي الكامل الحياة، وحياة الله عزّ وجل كاملة في وجودها، وكاملة في زمنها، فهو حي لا أول له، ولا نهاية له. حياته لم تُسْبَقْ بِعَدَمٍ، ولا يلحقها زوال، وهي أيضاً كاملة حال وجودها، لا يدخلها نقص بوجه من الوجوه، فهو كامل في سمعه وعلمه وقدرته وجميع صفاته، إذا رأينا الآدمي بل إذا رأينا غير الله عزّ وجل وجدنا أنه ناقص في حياته زمناً ووجوداً. حياته مسبوقة بعدم، ملحوقة بزوال وفناء، وهي أيضاً ناقصة في وجودها، ليس كامل السمع ولا البصر ولا العلم ولا القدرة، فكلُّ حي سوى الله ناقص.
وقوله: { {الْقَيُّومُ} } على وزن فَيْعُول، وهو مأخوذ من القيام، ومعناه: القائم بنفسه، القائم على غيره، القائم بنفسه فلا يحتاج إلى أحد، والقائم على غيره فكل أحد محتاج إليه.
وفي الجمع بين الاسمين الكريمين { {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} } استغراق لجميع ما يوصف الله به بجميع الكمالات. ففي «الحي» كمال الصفات، وفي «القيوم» كمال الأفعال، وفيهما جميعاً كمال الذات، فهو كامل الصفات والأفعال والذات.
وقوله تعالى: { {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} }:
{ {نَزَّلَ} }: التنزيل يكون من أعلى إلى أسفل، ويكون بالتدريج شيئاً فشيئاً، كما قال الله تعالى: {{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً *}} [الإسراء: 106] . وقال الله تعالى: {{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}} [الفرقان: 32] .
فقوله: { {نَزَّلَ} } يفيد أن هذا القرآن من عند الله، وأنه نزل بالتدريج ليس مرة واحدة.
وقوله: { {عَلَيْكَ} } الضمير يعود على الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد بيّن الله تعالى في آية أخرى أنه نزل على قلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ ليكون أدل على وعيه لهذا القرآن الذي نزل عليه؛ كما قال تعالى: {{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *}} [الشعراء: 193 ـ 194] .
وأما التعبير بـ {{إِلَيْكَ}} في نحو قوله تعالى: {{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}} [الزمر: 2] فهو يفيد الغاية، يعني نهاية الإنزال إلى الرسول.
{ {الْكِتَابَ} } هو هذا القرآن، وهو فِعال بمعنى مفعول، فهو كتاب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: {{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ *}} [الواقعة: 77 ـ 78] أي اللوح المحفوظ، وهو كتاب في الصحف التي بأيدي الملائكة: {{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ *فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ *مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ *}} [عبس: 12 ـ 15] ، وهو كتاب في الصحف التي بأيدينا، فهو مكتوب بأيدينا، ونقرؤه من هذه الكتب.
وقوله: { {بِالْحَقِّ} } الباء يجوز أن تكون بمعنى أنه متلبس بالحق أي مشتمل على الحق، فهو نازل بحق لا بباطل، ويحتمل أن تكون متعلقة بالتنزيل، يعني أنه نزول حقّ ليس بباطل. قال تعالى: {{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ *وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ *}} [الشعراء: 210 ـ 211] بعد: {{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *}} [الشعراء: 192 ـ 193] ، فيكون { {بِالْحَقِّ} } يعني أنه نازل عليك نزولاً حقاً ليس بباطل، فهو لم يكذب عليه الصلاة والسلام بهذا القرآن. ويحتمل أن يكون نازلاً بالحق يعني مشتملاً عليه ومتلبساً به، والمعنيان صحيحان لا يتنافيان. والقاعدة: أن النص إذا دلَّ على معنيين صحيحين لا يتنافيان حُمل عليهما جميعاً.
وقوله تعالى: { {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} }:
{ {مُصَدِّقًا} } حال من الكتاب، ولا يصح أن نجعلها صفة، لأنَّ مصدقاً نكرة، والكتاب معرفة، والصفة يجب أن تتبع الموصوف في التعريف والتنكير.
وقوله: { {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} } يعني للذي بين يديه من الكتب السابقة، وتصديقه لما بين يديه له وجهان:
الوجه الأول: أنه صدقها لأنها أخبرت به فوقع مصدقاً لها.
الوجه الثاني: مصدقاً لما بين يديه أي حاكماً عليها بالصدق.
فهو مصدق لما سبق من الكتب بالوجهين المذكورين؛ لأن الكتب أخبرت به فوقع، وإذا وقع صار تصديقاً لها. الوجه الثاني: أنه حكم بأنها صدق من عند الله عزّ وجل، وهذا التصديق لما بين يديه يشمل الوجهين جميعاً. فالقرآن شاهد بأن التوراة حق، والإنجيل حق، والزبور حق، وصحف إبراهيم حق، وأن الله أنزل على كل رسول كتاباً، كذلك مصدقاً للكتب التي أخبرت به، فإن الكتب السابقة أخبرت بهذا القرآن، أنه سينزل، ووصفت النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي سينزل عليه بأوصافه التي كانوا يعرفونه بها كما يعرفون أبناءهم.
وقوله: { {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} } أي لما سبقه؛ لأنَّ الذي بين يديك سابق عليك، لأنه أمامك فهو متقدم عليك.
وقوله تعالى: { {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} }:
قال: { {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} }، { {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ} } اختلاف التعبير يدل على اختلاف المعنى.
قال أهل العلم : إن التوراة والإنجيل نزلتا دفعة واحدة بدون تدريج بخلاف القرآن، فإنه نزل بالتدريج، وهذا من رحمة الله عزّ وجل على هذه الأمة، لأنه إذا نزل بالتدريج صارت أحكامه أيضاً بالتدريج، لكن لو نزل دفعة واحدة لزم الأمة أن تعمل به جميعاً بدون تدريج، وهذه من الآصار التي كتبت على من سبقنا، إذا نزلت عليهم الكتب مرة واحدة ألزموا بالعمل بها من حين أن تنزل فيما ألفوه وفيما لم يألفوه، بخلاف القرآن الكريم.
وقوله: { {التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} }.
التوراة : هي الكتاب الذي أنزله الله على موسى عليه الصلاة والسلام.
والإنجيل : هو الكتاب الذي أنزله الله على عيسى عليه الصلاة والسلام.
وهذان اسمان، قيل: إنهما غير عربيين، وقيل: بل هما عربيان، ولكن الذي يظهر أنهما ليسا بعربيين، ولكنه إذا نزل القرآن بشيء صار اللفظ الذي نزل به القرآن عربياً بالتعريب.
قال تعالى: { {مِنْ قَبْلُ} }:
بضم اللام مبنياً، على القاعدة المعروفة فيها وفي أخواتها: أنه إذا حذف المضاف، وَنُوي معناه بُنيت على الضم.
وقوله تعالى: { {هُدىً لِلنَّاسِ} }:
{ {هُدىً} }: مفعول لأجله متعلق بـ (نزل) و(أنزل)، أي: نزَّل عليك الكتاب هدى للناس، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، فهي مفعول من أجله، أي: من أجل هداية الناس. والمراد بالهداية هنا هداية الدلالة التي يترتب عليها هداية التوفيق.
لكن الأصل في هذه الكتب أنها هداية دلالة، ولهذا قال: { {هُدىً لِلنَّاسِ} } عموماً، حتى الكفار تهديهم وتدلهم، وتبيِّن لهم الحق من الباطل، لكن قد يُوفَّقون لقبول الحق والعمل به، وقد لا يُوفَّقون.
والهدى ضد الضلال، واهتدى بمعنى سار على الطريق الصواب، وضلَّ بمعنى انحرف وتاهَ وضاع، ومنه سميت (الضالة) يعني البعير التائه الضائع.
وقوله: { {هُدىً لِلنَّاسِ} } والمراد بالناس: البشر وهم بنو آدم.
وقوله تعالى: { {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} }:
ليس المراد بالفرقان هنا القرآن، بل المراد: أنزل ما يبيِّن به الفرق بين الحق والباطل. وإنما قلنا ذلك لأننا لو خصصناه بالقرآن لكان في ذلك تكرار مع قوله: { {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} }، مع أن التوراة والإنجيل فيهما أيضاً فرقان، أي: فيهما تفريق بين الحق والباطل. إذن أنزل الفرقان الذي تضمنته هذه الكتب الثلاث وهي القرآن والتوراة والإنجيل.
وكلمة «الفرقان» كلمة واسعة تشمل كل ما به الفرق من جميع الوجوه بين أهل الحق وأهل الباطل، وبين النافع والضار، وبين الأنفع والنافع، وبين الأضر والضار وغير ذلك.
ولما ذكر الله سبحانه وتعالى منَّتَه على عباده بإنزال هذه الكتب العظيمة قال: { {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} } يعني بعد إنزال هذه الكتب الواضحة الهادية المفرقة انقسم الناس إلى قسمين: قسم آمن، وقسم كفر. فَذَكر الله حكم الكافر، وبذكره يتبين حكم المؤمن.
وقوله: { {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} }:
كفروا: يقال: إن أصل الكفر من الستر، ويطلق على الجحود؛ لأن الجاحد ساتر، و{ {كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} } أي جحدوها وأنكروها، وقلنا: إن الكفر من الستر لأن منه الكُفُرَّى. والكُفُرَّى: وعاء طلع النخل؛ لأنه يستر الطلع. فالكافر في الحقيقة ساتر، أي: جاحد للحق مخفٍ له.
{ {كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} }: الآيات جمع آية. والآيات هي العلامات الدالة على وجود الله عزّ وجل، وعلى كماله الذاتي، وعلى كماله الفعلي، والآيات نوعان:
1 ـ آيات كونية:
ومنها السموات والأرض، والشمس والقمر والنجوم، والجبال والشجر والدواب والإنسان، واختلاف اللغات، واختلاف الألوان، والنوم واليقظة، وأشياء كثيرة.
2 ـ آيات شرعية:
وهي الوحي المنزَّل على الرسل.
ووجه كون الآيات الكونية آية: أنه لا يستطيع أحد أن يفعل مثل فعل الله عزّ وجل أبداً. قال تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}} [الحج: 73] .
ووجه كون الآيات الشرعية من آيات الله: أنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثل شرع الله في هداية الخلق وإصلاحهم أبداً، لو اجتمع جميع مفكري العالم ليأتوا بدستور يُصلح الخلق كما يُصلحه الوحي، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. قال تعالى: {{قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *}} [الإسراء: 88] .
لكن الآيات الكونية قد يعقلها كثير من الناس؛ لأنها آيات محسوسة مشهودة، حتى الكافر تقول له: هل تستطيع أن تخلق الذباب، يقول: لا أستطيع. أما الآيات الشرعية فليس كل أحد يدركها، قال تعالى: {{كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ *كِتَابٌ مَرْقُومٌ *وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ *الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ *وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ *إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ *كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *}} [المطففين: 7 ـ 14] ، فالإنسان إذا اجتمعت الذنوب على قلبه ـ نسأل الله أن يطهرنا وإياكم منها ـ صار لا يرى الحق حقًّا ولا الباطل باطلاً، عمي ـ والعياذ بالله ـ يُتلى عليه القرآن فيقول: هذه أساطير الأولين ليس كلام رب العالمين. ولهذا نقول: إن الآيات الشرعية هي التي فيها الامتحان والابتلاء، ومن ثَمَّ لم ينكر أحد ربوبية الله، كلٌّ مُقِرٌّ بأن اللهَ ربُّ العالمين، وأنه الذي خلق السموات والأرض، لكن الآيات الشرعية أُنْكِرَتْ.
فقريش كانوا إذا سُئلوا: مَنْ خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله. لكن قالوا في القرآن: إنه كهانة وشعر وسحر وما أشبه ذلك.
وقوله: { {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} }:
والعذاب هنا بمعنى العقوبة، والشديد: القوي. يعني العقوبة قوية ـ والعياذ بالله ـ وقد ذكر الله تعالى في القرآن، وذكر نبي الله صلّى الله عليه وسلّم في السنّة أصنافاً وأنواعاً من هذا العذاب تقشعر منه الجلود، وتوجل منه القلوب. قال الله تعالى: {{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}} [الكهف: 29] إن يستغيثوا، ولا يستغيثون إلا لشدة الحر والظمأ، فإذا أغيثوا يؤتون بماء يشوي الوجوه، إذا أقبلوا به إلى أفواههم ليشربوه شوى وجوههم والعياذ بالله.
قال تعالى: {{بِئْسَ الشَّرَابُ}} [الكهف: 29] هذا شرابهم.
وقال تعالى: {{إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ *طَعَامُ الأَثِيمِ *كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ *كَغَلْيِ الْحَمِيمِ *}} [الدخان: 43 ـ 46] هذا طعامهم.
وأما لباسهم فقال تعالى: {{سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ}} [إبراهيم: 50] .
ومقرهم: قال تعالى: {{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}} [العنكبوت: 55] .
{{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}} [النساء: 56] .
ولأهل هذا العذاب الصراخ والعويل. قال تعالى: {{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}} فيقال لهم توبيخاً: {{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}} [فاطر: 37] .
والسنّة مملوءة بذكر أصناف العقاب الذي يعاقب به هؤلاء، فهو عذاب شديد.
وقوله: { {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} }:
عزيز: أي: ذو العزة، وهي ثلاثة أصناف:
1 ـ عزة القَدْر. 2 ـ عزة القهر. 3 ـ عزة الامتناع.
عزة القدر:
بمعنى أن الله ذو قَدْرٍ شريف عظيم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «السيد الله» [(3)]. هذه عزة القدر.
وعزة القهر:
بمعنى أنه القاهر لكل شيء، لا يُغْلَب، بل هو الغالب. قال تعالى: {{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}} [الأنعام: 187] .
وقال الشاعر الجاهلي:
أين المفر والإله الطالب***والأشرم المغلوب ليس الغالب
فالله سبحانه غالب على كل شيء.
وعزة الامتناع:
أي: أنه عزّ وجل يمتنع أن يناله سوء أو نقص، ومن هذا المعنى قولهم: هذه أرض عَزَاز، أي: صلبة قوية لا تؤثر فيها المعاول.
وقوله: { {ذُو انْتِقَامٍ} }: أي صاحب انتقام، والانتقام أخذ المجرم بإجرامه. تقول: انتقمت من زيد. يعني: أخذت بحقي منه. قال الله تعالى: {{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}} [السجدة: 22] .
وهنا قال: «ذو انتقام» ولم يقل «ذو الانتقام». وفي الرحمة قال: {{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}} [الكهف: 58] ولم يقل: «ذو رحمة». وإن كان قد قال في آية أخرى: {{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}} [الرعد: 6] ؛ لأن الانتقام ليس من أوصاف الله المطلقة، وليس من أسماء الله المنتقم. فـ (المنتقم) لا يوصف الله به إلا مقيداً؛ فيقال: المنتقم من المجرمين، كما قال تعالى: {{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}} [السجدة: 22] . أما { {ذُو انْتِقَامٍ} } فهي لا تعطي معنى الانتقام المطلق؛ لأن (انتقام) نكرة، فلا تعطي المعنى على الإطلاق، بل له انتقام مقيد بالمجرمين، ونحوهم.
وبهذا نعرف أن الأسماء المسرودة في الحديث الذي رواه الترمذي لا تصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم [(4)]، لأنها ذُكِرَ فيها من أسماء الله المنتقم، وهذا لا يصح، وحُذِفَ من أسماء الله ما ثبتت به الأحاديث فلم يُذكر فيها مثل: الشافي، والرب.
من فوائد الآيات الكريمة:
1 ـ إثبات ألوهية الله عزّ وجل، لقوله: { {اللَّهُ} }.
2 ـ انفراده بهذه الألوهية، لقوله: { {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} }.
3 ـ إثبات اسمين من أسماء الله { {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} }. وقد ورد أنهما اسم الله الأعظم، لاشتمالهما على كمال الذات والصفات والأفعال.
4 ـ إثبات حياته وقيوميته؛ لأنَّ كل اسم فإنه متضمن للصفة، وقد يتضمن أمراً زائداً وهو الحكم الذي يسمى الأثر.
5 ـ أن كل شيء مفتقر إلى الله، وأن الله غني عما سواه، ووجه ذلك: أنّ كمال حياته يستلزم غناه عن كل أحد، وكمال قيوميته يستلزم افتقار كل شيء إليه، وهو كذلك. قال تعالى: {{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ}} [الروم: 25] ، وقال تعالى: {{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}} [الرعد: 33] .
6 ـ إثبات علو الله؛ لقوله: { {نَزَّلَ} }، { {وَأَنْزَلَ} }. والنزول لا يكون إلا من أعلى.
7 ـ أن القرآن الكريم منزل؛ لقوله: { {نَزَّلَ عَلَيْكَ} }، ومجرد كونه منزلاً لا يستلزم ألا يكون مخلوقاً؛ لأن الله قد ينزل المخلوق. قال تعالى: {{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا}} [ق: 9] ، وقال تعالى: {{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ}} [الرعد: 17] والماء مخلوق. لكن بالنظر لكون القرآن كلاماً يستلزم ألا يكون مخلوقاً؛ لأن الكلام صفة المتكلم، وصفة الخالق غير مخلوقة.
إذن فيؤخذ أن القرآن غير مخلوق لكونه نزل من عند الله وهو كلام، والكلام صفة المتكلم، والصفة تابعة للموصوف.
8 ـ فضل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وميزته؛ لقوله: { {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} }، والله سبحانه وتعالى قد يضيف الإنزال إلى الناس كما قال تعالى في سورة البقرة: {{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}} [البقرة: 136] ، وفي سورة آل عمران: {{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}} [آل عمران: 84] ، لكنه أنزل إلى الرسول مباشرة وإلينا بواسطة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو الذي بلغه إلينا، ومعلوم أن الأصل أشرف من الفرع.
9 ـ أن هذا الكتاب الذي أنزله الله على محمد صلّى الله عليه وسلّم مشتمل على الحق، لقوله: { {بِالْحَقِّ} }. فقد جاء بالحق، ونزل به. قال تعالى: {{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}} [الإسراء: 105] ، فالحق في الأخبار الصدق، والحق في الأحكام العدل، كما قال تعالى: {{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}} [الأنعام: 115] .
10 ـ أن القرآن نفسه حق. يؤخذ من قوله: { {بِالْحَقِّ} } يعني: أنه نزل نزولاً بحق ليس نزولاً كذباً باطلاً.
11 ـ فضيلة القرآن لوصفه بالحق نزولاً وتضمناً، ولوصفه بالتصديق لما بين يديه.
12 ـ الإشارة إلى أن هذا القرآن قد أخبرت عنه الكتب السابقة.
13 ـ جواز التعبير بما يخالف الظاهر إذا دلّ عليه السياق كما في قوله: { {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} }، لأن الكلمة دلت على معناها في سياقها، وإن كان يخالف أصل الوضع.
14 ـ أن التوراة النازلة على موسى، والإنجيل النازل على عيسى عليهما الصلاة والسلام حق؛ لقوله: { {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} }.
15 ـ الإشارة إلى أن التوراة والإنجيل قد نسخا بالقرآن، وقد صرح بذلك في سورة المائدة. قال تعالى: {{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ}} [المائدة: 48] .
مسألة: المعروف عند السلف أن التوراة والإنجيل من كلام الله، لكن لا أذكر حتى الآن دليلاً على وصفهما بأنهما من كلام الله، إنما وصفهما الله بأنها منزَّلة، وأنها كتب، والله تعالى يقول: {{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ}} [الأعراف: 145] ، وجاء في الحديث: «إن الله كتب التوراة بيده» [(5)]. فأنا أتوقف في هذا، لكن السلف كلامهم واضح يقولون: إن التوراة والإنجيل من كلام الله. ويكفي أن نؤمن بأنها نازلة من عند الله.
16 ـ رحمة الله عزّ وجل بعباده، وعنايته بهم حيث كان ينزل الكتب على رسله هدى للناس.
17 ـ إثبات الحكمة لله تعالى في أحكامه الشرعية كما تثبت في أحكامه الكونية، لقوله: { {هُدىً لِلنَّاسِ} }.
ومن أسماء الله تعالى الحكيم، وهو ذو الحكمة. والحكمة هي إصابة الصواب، وإن شئت فقل: وضع الشيء في موضعه، وإن شئت فقل: إتقان الشيء وإحكامه. فإذا وقع من أفعال الله أو من شرع الله ما لا نعلم له حكمة فليس ذلك إلا لقصور فهمنا، وعجزنا عن إدراك الحكمة. وإذا وقع ما نظن أنه على خلاف الحكمة فما ذاك إلا لسوء فهمنا، فالذي يظن أنه ليس له حكمة قاصر الفهم، والذي يظن أنه على خلاف الحكمة سيئ الفهم، أما سليم الفهم الذي يعطيه الله تعالى فهماً فستتبين له الحكمة، ومع ذلك لا يمكن أن ندرك كل وجوه الحكمة؛ لأن حكمة الله عزّ وجل لا تدرك غايتها، والإنسان بشر ناقص، وكم من أحكام شرعية تظن أن حكمتها كذا وكذا ثم يتبين لك أن لها حِكَماً أخرى، أو ربما يتبين لك أن هذه ليست الحكمة بل الحكمة شيء آخر، إنما يجب عليك أن تؤمن بأنه ما من حكم لله كوني أو شرعي إلا وله حكمة.
ولا يلزم على هذا أن تذهب مذهب المعتزلة في وجوب فعل الصلاح، أو وجوب فعل الأصلح، على الله لأمرين:
الأول: قد تظن أن هذا هو الأصلح، وليس الأصلح. ولنضرب لهذا مثلاً: نحن نظن أن الأصلح نزول الغيث، وخصب الأرض، فإذا امتنع المطر وأجدبت الأرض فقد يكون هذا هو المصلحة! ونحن لا نعلم.
إذن لا يمكن أن نقول: يجب على الله كذا لأنه أصلح، إذ قد يكون ما قلنا إنه الأصلح هو الأفسد!.
الثاني: إذا تحققنا أنه الأصلح فإنه يجب بمقتضى الحكمة لا بمقتضى العقل. فنحن لا نوجب على الله بعقولنا، والعقل لا يوجب على الله شيئاً؛ لأن العقل مخلوق ناقص، فلا يوجب على الكامل الأزلي الأبدي شيئاً، فإذا وجب فعل الأصلح فإنما الذي أوجبه على نفسه الله. قال الله تعالى: {{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}} [الأنعام: 54] . وقال تعالى: {{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى *}} [الليل: 12] . فأوجب على نفسه أن يهدي الناس ويدلهم، فإذا ثبت أن هذا هو الأصلح فقد وجب على الله بمقتضى حكمته وإيجابه على نفسه، لا بمقتضى عقولنا وإيجابنا عليه، وبهذا ننفك عن قول المعتزلة الذين يرون أن العقل هو الذي يوجب الشيء أو الذي يمنع الشيء، أو الذي يقبح الشيء أو الذي يحسِّن الشيء. ومن ذلك مثلاً: البيان للخلق، بيان الشرائع للخلق وما يجب عليهم نحو ربهم، وما يجب عليهم نحو عباد الله، واجب على الله بمقتضى الحكمة، {{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى *}} [الليل: 12] .
18 ـ أن هداية القرآن نوعان: عامة، وخاصة. فالعامة مثل هذه الآية: { {هُدىً لِلنَّاسِ} }. والخاصة مثل قوله: {{هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ}} [البقرة: 2] والفرق بينهما أن الهداية التي بمعنى الدلالة عامة؛ لقوله تعالى: {{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}} [النساء: 165] ، والهداية التي بمعنى التوفيق والاهتداء خاصة بالمتقين.
19 ـ أن الكتب كلها فرقان تتضمن الفرق بين الحق والباطل، وبين الصدق والكذب، وبين المؤمن والكافر، وبين الضار والنافع، كل ما يمكن أن يكون فيه فرق فإن الكتب تفرقه.
20 ـ أنه يمتنع أن تجمع الكتب السماوية بين مختلفين، أو أن تفرق بين متماثلين أبداً؛ لأن الفرقانَ هو الذي يفرق بين شيئين مختلفين. أما شيئان لا يختلفان فلا تفريق بينهما، ويتفرع على هذه الفائدة إثبات القياس؛ لأن القياس إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة، فهو جمع بين متماثلين، وعدم الأخذ بالقياس تفريق بين متماثلين.
21 ـ أنه كلما اهتدى الإنسان للفروق كان أعظم اهتداء بالكتب المنزلة من الله؛ لأن الكتب كلها فرقان. فمثلاً: إذا كان الإنسان يفرق بين الشرك الأصغر والأكبر، وبين النفاق الاعتقادي والعملي، وبين الكفر الأكبر والأصغر، وبين الحلال والحرام، كان أشد اهتداء بالكتب ممن لا يفرق.
وربما يؤخذ من هذا أيضاً الإشارة إلى أنه ينبغي الاعتناء بمعرفة الفروق بين الأشياء المتشابهة، وهذا فن أخذ به بعض أهل العلم ولا سيما في كتب الفقه، فيذكرون مثلاً: الفروق بين البيع والإجارة، بين الإجارة والجعالة، بين الرهن والضمان، بين الضمان والكفالة، بين الفرض والتطوع، وهذه من فنون العلم الشريفة التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها، كذلك في العقائد والتوحيد يفرق بين الشرك الأكبر والأصغر، فرجل حلف بغير الله نقول: هو مشرك. ورجل عبد صنماً نقول ـ أيضاً ـ: هو مشرك، لكن بينهما فرق عظيم. العابد للصنم شركه أكبر، والحالف بغير الله شركه أصغر إلا أن يضاف إلى حلفه بغير الله جَعْله المحلوف به كالله تعالى في التعظيم، فحينئذ يكون شركاً أكبر لا من حيث القسم، ولكن من حيث إنه جعل رتبة المحلوف به كرتبة الخالق.
22 ـ بيان عقوبة الكفار وهي العذاب الشديد، وذكر عقوبة الكافر تستلزم التحذير من الكفر.
23 ـ الإشارة إلى أن الناس ينقسمون إلى قسمين:
كافر له العذاب الشديد، ومؤمن له الثواب الجزيل؛ لأنه إذا ذكر عقوبة الضد، فإن ضده تثبت له ضد تلك العقوبة، ولهذا لما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وفي بضع أحدكم صدقة» ، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر، قال: «أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» [(6)]. وقد يكون هذا من جملة الفرقان الذي يحصل حيث نفرق بين الكفار وبين المؤمنين، فكما اختلفوا وتفرقوا في أعمالهم فإنه يلزم أن يفترقوا في ثواب تلك الأعمال.
24 ـ إثبات اسم من أسماء الله وهو: (العزيز) بالمعاني الثلاثة السابقة.
25 ـ أن الله تعالى موصوف بالانتقام؛ لقوله: { {ذُو انْتِقَامٍ} } ولكنه ليس على سبيل الإطلاق كما تقدم بل هو منتقم ممن يستحق ذلك وهم المجرمون كما قال تعالى: {{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}} [السجدة: 22] .
* * *
قال تعالى: { {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ *} } [آل عمران: 5] .
هذه جملة خبرية مؤكدة بـ { {إِنَّ} }، وخبرها منفي { {لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ} }، والخفاء ضد الظهور. و{ {شَيْءٌ} } نكرة في سياق النفي فتعم كل شيء في الأرض والسماء، وقوله: { {وَلاَ فِي السَّمَاءِ} } متعلقة بـ«يخفى» يعني لا يخفى عليه شيء لا في هذا ولا في هذا. والمراد بالأرض والسماء الجنس، فيشمل الأرضين والسموات جميعاً. وإنما خصَّ الأرض والسماء لأنهما مشهودان لنا، وما عدا ذلك لا نعلمه إلا عن طريق الغيب.
وفي هذه الآية الكريمة يخبر الله عزّ وجل أنَّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهي صفة سلبية المراد بها بيان كمال علمه؛ لأن الصفات المنفية لا يراد بها مجرد النفي، وإنما يراد بها بيان كمال ضد ذلك المنفي.
والغرض من هذه الجملة تربية الإنسان نفسه في امتثال أمر الله واجتناب نهيه، وأنك لا تظن أن عملك يخفى على الله، بل هو معلوم له، فعليك أن تقوم بطاعته وتجتنب معصيته. لا تقل: أنا في بيتي أو في غرفتي لا يطلع عليّ أحد، فالله تعالى مطلع عليك: { {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ *} }.
من فوائد الآية الكريمة:
1 ـ التحذير من مخالفة الله؛ لأنَّ الله يعلم بمخالفتك إياه.
2 ـ الرد على غلاة القدرية الذين يقولون: إن الله لا يعلم الشيء الذي يفعله العبد إلا بعد وقوعه.
3 ـ أن الله تعالى عالم بالكليات والجزئيات؛ لقوله: { {شَيْءٌ} }، لأنَّ النكرة في سياق النفي تعم كل شيء.
4 ـ أن صفات الله عزّ وجل إما مثبتة وإما منفية، فالمثبتة يسمونها ثبوتية، والمنفية يسمونها سلبية، والسلبية متضمنة لثبوت كمال الضد، فلكمال علمه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
* * *
ثم قال الله عزّ وجل: { {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} } [آل عمران: 6] .
وهذا من جملة معلوماته التي تخفى على كثير من الناس وهي معلومة له.
وقوله: { {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ} } أي: يجعلكم على صورة معينة يختارها ويريدها.
وقوله: { {فِي الأَرْحَامِ} } حال من الضمير «الكاف» في يصوركم، يعني حال كونكم في الأرحام.
{ {الأَرْحَامِ} }: جمع رحم، وهو وعاء الجنين في بطن أمه. وقد بيّن الله تعالى في آية ثانية أن الجنين في بطن أمه في ظلمات ثلاث، وهي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، وهو الوعاء المائي الذي يكون فيه الجنين.
وقوله تعالى: { {كَيْفَ يَشَاءُ} } هذه حال من فاعل { {يَشَاءُ} } يعني أنه يصورنا على أي كيفية شاء، فلا خيار لنا في اختيار الصورة المعينة للجنين الذي في البطن.
وقوله تعالى: { {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} }:
هذه الجملة خبرية فيها الحصر الذي طريقه النفي والإثبات.
والـ { {إِلَهَ} }: بمعنى مألوه. وقوله: { {إِلاَّ هُوَ} } الضمير { {هُوَ} } بدل من الخبر المحذوف، أي لا إله حق إلا هو.
{ {الْعَزِيزُ} }: سبق لنا قريباً معناه.
{ {الْحَكِيمُ} }: فعيل بمعنى مُفْعِل، وفعيل بمعنى فاعل، أما فعيل بمعنى فاعل فهو كثير في اللغة العربية، مثل: قدير بمعنى قادر، وسميع بمعنى سامع، وأما سميع بمعنى مُسْمِع فهي واردة في اللغة العربية. قال الشاعر:
أمن ريحانة الداعي السميعُ***يؤرقني وأصحابي هجوع[(7)]
فالسميع : بمعنى المُسمع الذي يُسمعني.
فتكون (حكيم) هنا بمعنى مُحكِم وبمعنى حاكم، فالله عزّ وجل حاكم محكم لما حكم. وحكم الله تعالى ينقسم إلى قسمين:
1 ـ حكم كوني:
وهو ما قضاه الله على عباده كوناً، وهذا يخضع له كل أحد من مؤمن وكافر، وبَرٍ وفاجرٍ، ولا يستطيع أحد أن يهرب منه أبداً.
2 ـ حكم شرعي:
وهو ما قضاه الله على عباده شرعاً، وهذا هو الذي اختلف فيه الناس، فمنهم كافر ومنهم مؤمن، منهم من خضع لهذا الحكم الشرعي وقام بما يجب عليه نحوه، ومنهم من استكبر عنه، وكذب به، ولم يرفع به رأساً.
وفي الآية هنا يكون (حكيم) بمعنى ذي الحكمة أي متقن لكل ما حكم به. فكل ما حكم الله به من حكم كوني أو شرعي فهو على أتم وجه وأتقنه وأحسنه.
قال تعالى: {{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ *ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ *}} [الملك: 3 ـ 4] . وقال: {{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ *}} [المائدة: 50] .
والحكمة سواء في الحكم الكوني أو في الحكم الشرعي إما صورية؛ بأن يكون الشيء على صورة مطابقة للحكمة، أو غائية بأن تكون الغاية منه غاية حميدة، فإذا نظرنا إلى الشرع فإن جميع ما شرعه على الصورة المطابقة للحكمة كالصلاة والزكاة والصيام والحج، ثم الغرض منها ـ وهو إصلاح القلوب وإصلاح الأعمال وإصلاح الفرد وإصلاح المجتمع ـ أيضاً موافق للحكمة.
من فوائد الآية الكريمة:
1 ـ بيان قدرة الله عزّ وجل حيث يصور المخلوقات في الأرحام.
2 ـ أن صور المخلوقات يكون تصويرها بأمر الله وإذنه كيف يشاء، هذا أبيض وهذا أسود، وهذا جميل وهذا قبيح، وهذا طويل وهذا قصير، وهذا غليظ وهذا دقيق وهكذا، بل ويشمل أن هذا ذكر وهذا أنثى؛ لأن صورة الذكر تختلف عن صورة الأنثى.
3 ـ بيان رحمة الله عزّ وجل حيث يتولى شؤون الجنين ويصوره، لا يخرج غير مصور. لو شاء الله لخرج الجنين غير مصور ثم يصور شيئاً فشيئاً، كما ينمو عقله، ولكن من حكمة الله ورحمته أنه لا يخرج إلا على الصورة التي أرادها الله عزّ وجل.
فإذا قال قائل : { {كَيْفَ يَشَاءُ} } يستفاد منها أن هذا التصوير لا يرجع إلى فعل العبد وإنما يرجع لمشيئة الله عزّ وجل وهو كذلك، ولكن هذا لا ينافي أن تكون الصورة قريبة من صورة الأب أو من صورة الأم أو الجد أو الجدة، يعني أن يكون هذا الجنين قد نزعه عرق من آبائه وأمهاته وأقاربه، هذا لا يمنع، لأن الله عزّ وجل قد جعل لكل شيء سبباً، ويدل لهذا قصة الرجل الذي جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاماً أسود ـ وكان الرجل وزوجته أبيضين ـ كأنه يعرِّض بزوجته ما الذي أتى بالأسود لها؟ فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هل لك من إبل؟» ، قال: نعم، قال: «فما ألوانها؟» قال: حمر، قال: «هل فيها من أورق؟ (الأورق: الفضي بين البياض والسواد)»، قال: نعم، قال: «أَنَّى لها ذلك؟» ، قال: لعله نزعه عرق، فقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «فابنك هذا لعله نزعه عرق» [(8)]. فاقتنع الرجل، لأن هذا قياس جلي واضح.
الشاهد قوله: «لعله نزعه عرق» ، فيستفاد من ذلك أن هذه الكيفية التي يريدها الله عزّ وجل في الأرحام لا يمنع أن يكون قد نزعها عرق من آبائه أو أمهاته أو أجداده أو جداته.
4 ـ إثبات المشيئة لله تعالى؛ لقوله: { {كَيْفَ يَشَاءُ} }، وقد سبق لنا أن المشيئة إذا أطلقت فهي مقرونة بالحكمة، فما من شيء يشاؤه الله إلا لحكمة.
فإن قال قائل : هل في الآية دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يعمل عملية تجميل لقوله: { {كَيْفَ يَشَاءُ} }، حيث جعل التصوير راجعاً إلى مشيئته وحده. قد يقال ذلك، وقد لا يقال؛ لأن الله تعالى أخبر في آيات كثيرة بأنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، يعني يضيق، ولا نقول: إن الإنسان ممنوع من أن يفعل الأسباب التي يكون بها بسط الرزق؛ لأن البسط راجع إلى مشيئة الله! ولكن هناك فرق بين مسألة بسط الرزق وطلب البسط وهذه المسألة؛ لأن النصوص وردت بمنع التجميل، فقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام، أنه «لعن النَّامصة والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة، والواشمة والمستوشمة» [(9)]. وهذا يدل على أن الإنسان ممنوع من التجميل، والمراد التجميل الذي يكون دائماً. أما التجميل الطارئ كتجمل المرأة بالحناء وشبهه فلا بأس به.
فإذا قال قائل : هل في الآية ما يدل على منع إزالة العيوب لقوله: { {كَيْفَ يَشَاءُ} }، كما إذا خرج صبي له ستة أصابع في كل يد فهل يجوز أن نقطع الإصبع الزائد؟
فهذا ليس من باب التجميل ولكنه من باب إزالة العيب. وإزالة العيب جاءت السنّة بجوازه، فإن الرجل الذي قطع أنفه أذن له الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتخذ أنفاً من وَرِق ـ يعني من فضة ـ فأنتن! فأذن له أن يتخذ أنفاً من ذهب [(10)]. فهذا يدل على أن إزالة العيب ليست كجلب الجمال. وعلى هذا فيجوز قطع الإصبع الزائدة، ولكن بعض أهل العلم صرح بالتحريم إلا أنهم علَّلوا ذلك بأنه يُخشى على من قطعت إصبعه أن يموت بنزيف الدم! وهذه العلة منتفية في الزمن الحاضر، وعليه فيجوز قطع الإصبع الزائدة، ومثله لو فرض أن هناك لحمة زائدة في الأذن أو في الرأس أو في الرقبة فتجوز إزالتها.
5 ـ إثبات انفراد الله عزّ وجل بالألوهية؛ لقوله: { {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} }.
6 ـ إثبات الاسمين الكريمين العزيز والحكيم، وما تضمناه من صفة.
وكل اسم من أسماء الله دال على الذات وعلى الوصف المشتق منه، فإن كان متعدياً ففيه دلالة ثالثة وهي الأثر المترتب على ذلك.
فـ {{السَّمِيعُ}} مثلاً: فيه إثبات الاسم وهو السميع، والصفة وهي السمع، والأثر وهو أنه يسمع، وهكذا العليم. أما ما لا يتعدى للغير ففيه إثبات الاسم والصفة فقط، مثل: الحي، العظيم، العلي.
* * *
ثم قال تعالى: { {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ *} } [آل عمران: 7] .
الضمير { {هُوَ} } يعود على الله، وتأمل هنا ترابط الآيات مع بعضها البعض، لما ذكر الله عزّ وجل أنه هو المصور ـ والتصوير ابتداء الخلق ـ ذكر بعده إنزال الكتاب الذي به الهداية كقوله: {{الرَّحْمَانُ *عَلَّمَ الْقُرْآنَ *خَلَقَ الإِنْسَانَ *عَلَّمَهُ الْبَيَانَ *}} [الرحمن: 1 ـ 4] ، فأحياناً يبيِّن الله النعمة الدينية قبل، وأحياناً يبيِّن الله النعمة الدنيوية قبل، فبدأ الله هنا بالتصوير ثم ذكر إنزال القرآن، وفي سورة الرحمن ذكر تعليم القرآن قبل خلق الإنسان.
{ {الْكِتَابَ} }: هو القرآن، ثم قسّم الله هذا الكتاب فقال: { {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} }، يعني: ومنه أُخر متشابهات. وهنا يتعين أن نقول: ومنه أُخر ليتم التقسيم.
فـ (أُخَر) مبتدأ خبره محذوف يعني: ومنه أخر متشابهات، نظير قوله تعالى: {{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}} [هود: 105] فـ(سعيد) هنا ليست معطوفة على (شقي) لأنها لو كانت معطوفة عليها لفسد التقسيم، ولكن التقدير: منهم شقي ومنهم سعيد.
والاشتباه قد يكون اشتباه في المعنى، بحيث يكون المعنى غير واضح، أو اشتباه في التعارض، بحيث يظن الظان أن القرآن يعارض بعضه بعضاً، وهذا لا يمكن أن يكون؛ لأن الله عزّ وجل قال: {{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}} [النساء: 82] . والقرآن يصدق بعضه بعضاً.
والتعارض الذي يفهمه من قد يفهمه من الناس يكون للأسباب التالية:
1 ـ إما لقصور في العلم. 2 ـ أو قصور في الفهم. 3 ـ أو تقصير في التدبر. 4 ـ أو سوء في القصد، بحيث يظن أن القرآن يتعارض، فإذا ظن هذا الظن لم يوفق للجمع بين النصوص، فيحرم الخير لأنه ظن ما لا يليق بالقرآن.
قال تعالى: { {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} }:
(الآيات) : جمع آية وهي العلامة، وكل آية في القرآن فهي علامة على مُنْزِلها لما فيها من الإعجاز والتحدي، وقوله: { {مُحْكَمَاتٌ} } أي: متقنات في الدلالة والحكم والخبر، فأخبارها وأحكامها متقنة معلومة ليس فيها إشكال.
وقوله تعالى: { {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} }:
يعني: أن أحكامها غير معلومة، وأخبارها غير معلومة، فصار المحكم هو المتقن في الدلالة سواء كان خبراً أو حكماً، والمتشابه هو الذي دلالته غير واضحة سواء كان خبراً أو حكماً.
ولهذا نجد أن بعض الآيات لا تدل دلالة صريحة على الحكم الذي اسْتُدِلَّ بها عليه، وبعض الآيات الخبرية أيضاً لا تدل دلالة صريحة على الخبر الذي استدل بها عليه.
قال تعالى: { {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} }:
قدَّم وصف هذه المحكمات وبيان حالها ليتبادر إلى الذهن أول ما يتبادر أنه يرد المتشابهات إلى المحكمات لأنها أمٌّ، وأمُّ الشيء مرجعه وأصله. كما قال الله تعالى: {{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ *}} [الرعد: 39] : أي المرجع وهو اللوح المحفوظ الذي ترجع الكتابات كلها إليه، ومنه سميت الفاتحة أم الكتاب، لأن مرجع القرآن إليها. فهذه المحكمات يجب أن ترد إليها المتشابهات.
قال تعالى: { {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} }:
ينقسم الناس بالنسبة إلى هذه المتشابهات إلى قسمين:
1 ـ قسم يتبعون المتشابه ويضعونه أمام الناس ويعرضونه عليهم. فيقولون: كيف كذا وكيف كذا؟
2 ـ وقسم آخر يقولون: آمنا به كل من عند ربنا، فإذا كان من عند ربنا فلا يمكن أن يتناقض، ولا يمكن أن يتخالف، بل هو متحد متفق، فيرد المتشابه منه إلى المحكم، ويكون جميعه محكماً.
وقوله: { {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} } الزيغ: بمعنى الميل، من قولهم: زاغت الشمس إذا مالت عن كبد السماء.
أي: في قلوبهم ميل عن الحق، فهم لا يريدون الحق، وإنما يتبعون المتشابه، فتجدهم ـ والعياذ بالله ـ يأخذون آيات القرآن التي فيها اشتباه حتى يضربوا بعضها ببعض وما أكثر هؤلاء!! ليصدوا عن سبيل الله ويشككوا الناس في كلام الله عزّ وجل، وأما الذين ليس في قلوبهم زيغ وهم الراسخون في العلم الذين عندهم من العلم ما يتمكنون به أن يجمعوا بين الآيات المتشابهة، وأن يعرفوا معناها، فهؤلاء لا يكون عندهم هذا التشابه بل يقولون: { {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} } فلا يرون في القرآن شيئاً متعارضاً متناقضاً.
وكل أهل البدع من الرافضة والخوارج والمعتزلة والجهمية وغيرهم كلهم اتبعوا ما تشابه منه، لكن مستقل ومستكثر، فهؤلاء يتبعون ما تشابه لهذين الغرضين أو لأحدهما:
1 ـ { {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} } أي: صد الناس عن دين الله، لأن الفتنة بمعنى الصد عن دين الله، كما قال الله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ *}} [البروج: 10] . فتنوهم: يعني صدُّوهم عن دين الله.
2 ـ { {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} }، أي: طلب تأويله لما يريدون، فهم يفسِّرونه على مرادهم لا على مراد الله تعالى.
قال تعالى: { {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} }:
اختلف السلف في الوقف عليها، فأكثر السلف وقف على قوله: { {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} }، ثم نبتدئ فنقول: { {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} } وعلى هذا تكون الواو في { {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} } للاستئناف، { {وَالرَّاسِخُونَ} }: مبتدأ، وجملة { {يَقُولُونَ} } خبر المبتدأ، ويصبح المعنى أن هذا المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله عزّ وجل، وأما الراسخون في العلم الذين لم يعلموا تأويله يقولون: { {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} }، وليس في كلام ربنا تناقض ولا تضارب، فيسلِّمون الأمر إلى الله عزّ وجل؛ لأنه هو العالم بما أراد، وينقسم الناس إذن إلى قسمين:
1 ـ { {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} }.
2 ـ { {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} }.
ووصل بعض السلف ولم يقف، فقرأ: { {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} } فتكون الواو للعطف، والراسخون: معطوفة على لفظ الجلالة، أي: لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، بخلاف الذين في قلوبهم زيغ فهؤلاء لا يعلمون. والحقيقة أن ظاهر القراءتين التعارض لأن:
القراءة الأولى: تقتضي أنه لا يعلم تأويل هذا المتشابه إلا الله.
والقراءة الثانية: تقتضي أن هذا المتشابه يعلم تأويله الله والراسخون في العلم.
فيكون ظاهر القولين التعارض، ولكن الصحيح أنه لا تعارض بينهما، وأن هذا الخلاف مبني على الاختلاف في م