ثمار الأوراق



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ثمار الأوراق

ثمار الأوراق

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ثمار الأوراق

منتدى تعليمي يهتم باللغة العربية علومها وآدابها.


    كعب بن زهير يمدح الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم

    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    كعب بن زهير يمدح الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم Empty كعب بن زهير يمدح الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم

    مُساهمة من طرف أحمد الثلاثاء يناير 29, 2013 10:41 am

    كعب بن زهير يمدح الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم

    (1)
    تعتبر قصيدة كَعْبِ بن زُهَيْر في مَدْح الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - والمشهورة بمطلعها "بانت سعاد" مِن طلائع الشِّعر الإسلامي، ومن طلائع ما وعَتْه الذاكرة الأدبيَّةُ في مدح الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد كان من أسباب قولِ كعبٍ لها بين يدَيْ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ بجيرًا أخا كعب بن زهير أسلم قبل كعب، وأرسل إليه أبياتًا يقول فيها:
    فَمَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا؟ فَهَلْ لَكَ فِي الَّتِي
    تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطِلاً وَهْيَ أَحْزَمُ
    إِلَى اللهِ - لاَ العُزَّى وَلاَ اللاَّتِ - وَحْدَهُ
    فَتَنْجُو إِذَا كَانَ النَّجَاءُ وَتَسْلَمُ
    لَدَى يَوْمِ لاَ يَنْجُو وَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ
    مِنَ النَّاسِ إِلاَّ طَاهِرُ القَلْبِ مُسْلِمُ
    فَدِينُ زُهَيْرٍ وَهْوَ لاَ شَيْءَ دِينُهُ
    وَدِينُ أَبِي سُلْمَى عَلَيَّ مُحَرَّمُ

    فما كان من كعب بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رَحُبت - وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد أهدر دمَه - إلاَّ أن جاء مُسلمًا مستخفيًا حتَّى دخل على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنشدها بين يديه.

    وقبل أن نتناول القصيدة بالتَّحليل والعرض، نَعْرِض القصيدة كاملةً بين يدَيْ حديثِنا عنها، ونقسمها إلى مقاطع؛ بحسب موضوعاتها، من خلال رؤيتنا التحليليَّة.

    القصيدة:
    (1) مقدمة غزلية:
    بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي اليَوْمَ مَتْبُولُ
    مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
    وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ البَيْنِ إِذْ رَحَلُوا
    إِلاَّ أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
    تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إِذَا ابْتَسَمَتْ
    كَأَنَّهُ مُنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ
    شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ
    صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهْوَ مَشْمُولُ
    تَنْفِي الرِّيَاحُ القَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطُهُ
    مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ
    أَكْرِمْ بِهَا خُلَّةً لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ
    مَوْعُودَهَا أَوْ لَوَ انَّ النُّصْحَ مَقْبُولُ[1]
    لَكِنَّهَا خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا
    فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلاَفٌ وَتَبْدِيلُ
    فَمَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا
    كَمَا تَلَوَّنُ فِي أَثْوابِهَا الغُولُ
    وَلاَ تَمَسَّكُ بِالعَهْدِ الَّذِي زَعَمَتْ
    إِلاَّ كَمَا يُمْسِكُ الْمَاءَ الغَرَابِيلُ
    فَلاَ يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ
    إِنَّ الأَمَانِيَّ وَالأَحْلاَمَ تَضْلِيلُ
    كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلاً
    وَمَا مَواعِيدُهَا إِلاَّ الأَبَاطِيلُ
    أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُو مَوَدَّتُهَا
    وَمَا إِخَالُ لَدَيْنَا مِنْكِ تَنْوِيلُ
    أَمْسَتْ سُعَادُ بِأرْضٍ لاَ يُبَلَّغُهَا
    إِلاَّ العِتَاقُ النَّجِيبَاتُ الْمَرَاسِيلُ

    (2) في وصف الناقة:
    وَلَنْ يُبَلِّغَهَا إِلاَّ غُذَافِرَةٌ
    لَهَا عَلَى الأَيْنِ إِرْقَالٌ وَتَبْغِيلُ
    مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ
    عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلاَمِ مَجْهُولُ
    تَرْمِي الغُيوبَ بِعَيْنَيْ مُفْرَدٍ لَهِقٍ
    إِذَا تَوَقَّدَتِ الْحِزَّانُ وَالْمِيلُ
    ضَخْمٌ مُقَلَّدُهَا فَعْمٌ مُقَيَّدُهَا
    فِي خَلْقِهَا عَنْ بَنَاتِ الفَحْلِ تَفْضِيلُ
    غَلْبَاءُ وَجْنَاءُ عَلْكُومٌ مُذَكَّرَةٌ
    فِي دَفِّهَا سَعَةٌ قُدَّامُهَا مِيلُ
    وَجِلْدُها مِنْ أُطُومٍ لاَ يُؤَيِّسُهُ
    طِلْحٌ بِضَاحِيَةِ الْمَتْنَيْنِ مَهْزُولُ
    حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا مِنْ مُهَجَّنَةٍ
    وَعَمُّهَا خَالُهَا قَوْدَاءُ شِمْلِيلُ
    يَمْشِي القُرَادُ عَلَيْهَا ثُمَّ يُزْلِقُهُ
    مِنْهَا لَبَانٌ وَأَقْرَابٌ زَهَالِيلُ
    عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ بِالنَّحْضِ عَنْ عُرُضٍ
    مِرْفَقُهَا عَنْ بَنَاتِ الزُّورِ مَفْتُولُ
    كَأَنَّمَا فَاتَ عَيْنَيْهَا وَمَذْبَحَهَا
    مِنْ خَطْمِهَا وَمِنَ اللَّحْيَيْنِ بِرْطِيلُ
    تُمِرُّ مِثْلَ عَسِيبِ النَّخْلِ ذَا خُصَلٍ
    فِي غَارِزٍ لَمْ تُخَوِّنْهُ الأَحَالِيلُ
    قَنْوَاءُ فِي حُرَّتَيْهَا لِلبَصِيرِ بِهَا
    عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدَّيْنِ تَسْهِيلُ
    تُخْدِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهْيَ لاَحِقَةٌ
    ذَوَابِلٌ مَسُّهُنَّ الأَرْضَ تَحْلِيلُ
    سُمْرُ العُجَايَاتِ يَتْرُكْنَ الْحَصَى زِيَمًا
    لَمْ يَقِهِنَّ رُؤُوسَ الأُكْمِ تَنْعِيلُ
    كَأَنَّ أَوْبَ ذِرَاعَيْها إِذَا عَرِقَتْ
    وَقَدْ تَلَفَّعَ بِالقُورِ العَسَاقِيلُ
    يَوْمًا يَظَلُّ بِهِ الْحِرْباءُ مُصْطَخِدًا
    كَأَنَّ ضَاحِيَهُ بِالشَّمْسِ مَمْلُولُ
    وَقَالَ لِلقَوْمِ حِادِيهِمْ وَقَدْ جَعَلَتْ
    وُرْقَ الْجَنادِبِ يَرْكُضْنَ الْحَصَى: قِيلُوا
    شَدَّ النَّهَارِ، ذِرَاعَا عَيْطَلٍ نَصِفٍ
    قَامَتْ فَجَاوَبَهَا نُكْدٌ مَثَاكِيلُ
    نَوَّاحَةٌ رِخْوَةُ الضَّبْعَيْنِ لَيْسَ لَهَا
    لَمَّا نَعَى بِكْرَهَا النَّاعُونَ مَعْقُولُ
    تَفْرِي اللُّبَانَ بِكَفَّيْها وَمِدْرَعُها
    مُشَقَّقٌ عَنْ تَرَاقِيهَا رَعَابِيلُ
    تَسْعَى الوُشَاةُ جَنابَيْهَا وَقَوْلُهُمُ
    إِنَّكَ يَا بْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ

    (3) اعتذار للرسول:
    وَقَالَ كُلُّ خَلِيلٍ كُنْتُ آمُلُهُ
    لاَ أُلْفِيَنَّكَ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ
    فَقُلْتُ خَلُّوا سَبيلِي لاَ أَبَا لَكُمُ
    فَكُلُّ مَا قَدَّرَ الرَّحْمنُ مَفْعُولُ
    كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلاَمَتُهُ
    يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
    أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَنِي
    وَالعَفْوُ عَنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ
    وَقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ مُعْتَذِرًا
    وَالعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَقْبُولُ
    مَهْلاً هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الْ
    قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ
    لاَ تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الوُشَاةِ وَلَمْ
    أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الأَقَاوِيلُ
    لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ
    أَرَى وَأَسْمَعُ مَا لَمْ يَسْمَعِ الفِيلُ
    لَظَلَّ يُرْعَدُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
    مِنَ الرَّسُولِ بِإِذْنِ اللهِ تَنْوِيلُ

    (4) مدحٌ للرسول:
    حَتَّى وَضَعْتُ يَمِينِي لاَ أُنَازِعُهُ
    فِي كَفِّ ذِي نقِمَاتٍ قِيلُهُ القِيلُ
    لَذَاكَ أَهْيَبُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ
    وَقِيلَ إنَّكَ مَسْبُورٌ وَمَسْؤُولُ
    مِنْ خَادِرٍ مِنْ لُيُوثِ الأُسْدِ مَسْكَنُهُ
    مِنْ بَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
    يَغْدُو فَيُلْحِمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا
    لَحْمٌ مَنَ القَوْمِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ
    إِذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لاَ يَحِلُّ لَهُ
    أَنْ يَتْرُكَ القِرْنَ إلاَّ وَهْوَ مَفْلُولُ
    مِنْهُ تَظَلُّ سِبَاعُ الْجَوِّ ضَامِزَةً
    وَلاَ تَمَشَّى بِوَادِيهِ الأَرَاجِيلُ
    وَلاَ يَزَالُ بِوَادِيهِ أَخُو ثِقَةٍ
    مُطَرَّحُ البَزِّ وَالدِّرْسَانِ مَأْكُولُ
    إِنَّ الرَّسُولَ لَسَيْفٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ
    مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُولُ

    (5) مدح الصحب الكريم:
    فِي فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ
    بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا: زُولُوا
    زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلاَ كُشُفٌ
    عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلاَ مِيلٌ مَعَازِيلُ
    شُمُّ العَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمُ
    مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
    بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لَهَا حَلَقٌ
    كَأَنَّهَا حَلَقُ القَفْعَاءِ مَجْدُولُ
    يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُمْ
    ضَرْبٌ إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ
    لاَ يَفْرَحُونَ إِذَا نَالَتْ رِمَاحُهُمُ
    قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجَازِيعًا إِذَا نِيلُوا
    لاَ يَقَعُ الطَّعْنُ إِلاَّ فِي نُحُورِهِمُ
    وَمَا لَهُمْ عَنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ

    (2)
    كَعْب بن زُهَيْر هو الصحابيُّ الجليل، وأحَدُ فحول الشُّعراء المُخَضرمين المجودين، وأبوه زُهَير بن أبي سُلْمى، الشاعر الجاهليُّ المعروف.

    ويتَّفِق الرُّواة على أنَّ الشِّعر لم يتصل في ولَدِ أحدٍ من فحول شعراء الجاهليَّة اتِّصالَه في ولد زهير بن أبي سلمى؛ فكَعبٌ وأبوه زهير وجَدُّه أبو سُلْمى، وعمَّتاه الخنساء وسلمى، وخال أبيه "بشامة بن الغدير"، وابنا عمَّتِه "تماضر" الخنساء، وأخوها صخر، وابنا ابنته سلمى العوثبان، وقريض، وأخوه بجير، وولده عقبة (المضرب)، وحفيده العوام بن عقبة، هؤلاء كلُّهم شعراء.

    وقد رَوى قصيدةَ "بانت سعادُ" كثيرٌ من مصادر الشعر الجاهلي؛ فقد رواها "التبريزيُّ" عن الحجَّاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن عقبة بن كعب بن زهير، أحَدِ أحفاد كعب.

    وقد اتَّفقَ الرُّواة والنُّقاد على أنَّ كعبًا أحَدُ الفحول المجودين في الشِّعر، ويصِفُون شعره بقوَّة التماسك، وجزالة اللفظ والمعنى، والمعروف عن كعبٍ أنَّه قال الشعر وهو صغير، وكان أبوه ينهاه ويضربه؛ مخافة أن يقول ما لا خير فيه.

    قال أبو العباس ثعلب:
    وتحرَّك كعب بن زهير بن أبي سُلْمى، وهو يتكلَّم بالشعر، فكان زهيرٌ يَنْهاه؛ مخافة أن يكون لم يستَحْكِم شعره، فيُروى له ما لا خير فيه، فكان يضربه في ذلك، ففعل ذلك به مرارًا؛ يضربه ويزبره، فغلبه، فطال ذلك عليه، فأخذه، فحبسَه، ثم قال: والذي أحلف به لا تتكلَّم ببيت شعر، ولا يبلغني أنَّك تريغ الشِّعر - أيْ: تَطْلبه - إلاَّ ضربتُك ضربًا ينكلك عن ذلك، فمكث محبوسًا عدَّة أيام، ثم أخبر أنه يتكلَّم به، فدعاه، فضربه ضربًا شديدًا، ثم أطلقه، وسرحه في بَهْمِه وهو غُليم صغير، فانطلق فرعاها، ثم راح بها عشيَّة، وهو يرتجز:
    كَأَنَّمَا أَحْدُو بِبَهْمِي عِيرَا
    مِنَ القُرَى مُوقَرَةً شَعِيرَا
    (البَهْم: الصِّغار من ولَدِ الضَّأن).

    فخرجَ زُهَير إليه وهو غضبان، فدعا بناقته، وكفلها بكسائه؛ أيْ: كسا سنامَها بكسائه، وقعد عليها، حتى انتهى إلى ابنه كعب، فأخذ بيده، فأردفه خلفه، ثم خرج يضرب ناقته، وهو يريد أن يتعنَّت كعبًا، ويعلم ما عنده، ويطَّلِع على شعره، فقال زهيرٌ حين برَز مِن الحيِّ:
    وَإِنِّي لَتُعْدِينِي عَلَى الْهَمِّ جَسْرَةٌ
    تَخُبُّ بِوَصَّالٍ صَرُومٍ وَتُعْنِقُ

    ثم ضرب كعبًا، وقال: أَجِز يا لُكَع، فقال كعب:
    كَبُنْيَانَةِ القَرْئِيِّ مَوْضِعُ رَحْلِهَا
    وَآثَارُ نِسْعَيْهَا مِنَ الدَّفِّ أَبْلَقُ

    فقال زهير:
    عَلَى لاَحِبٍ مِثْلِ الْمَجَرَّةِ خِلْتُهُ
    إِذَا مَا عَلاَ نَشْزًا مِنَ الأَرْضِ مُهْرِقُ

    ثم ضرب كعبًا، وقال: أجِزْ يا لُكَع، فقال كعب:
    مُنِيرٌ هدَاهُ لَيْلُهُ كَنَهَارِهِ
    جَمِيعٌ إِذَا يَعْلُو الْحُزُونَةَ أَخْرَقُ

    ثم بدأ زهيرٌ في نعت النَّعام، وترَك نعت الإبل، فقال زهيرٌ يتعسَّف به عمدًا:
    وَظَلَّ بِوَعْسَاءِ الكَثِيبِ كَأَنَّهُ
    خِبَاءٌ عَلَى صَقْبَيْ بُوَانٍ مُرَوَّقِ

    فقال كعب:
    تَرَاخَى بِهِ حُبُّ الضَّحَاءِ وَقَدْ رَأَى
    سَمَاوَةَ قِشْرَاءِ الوَظِيفَيْنِ عَوْهَقُ
    سماوة: شخص، قشراء الوظيفين: يعني الساقين. عوهق: طويلة العنق.

    فقال زهير:
    تَحِنُّ إِلَى مِثْلِ الْحَبَابِيرِ جُثَّمٌ
    لَدَى مُنْتِجٍ مِنْ قَبْضِهَا الْمُتَفَلَّقِ

    ثم قال: أجز يا لكع، فقال كعب:
    تَحَطَّمَ عَنْهَا قَيْضُهَا عَنْ خَرَاطِمٍ
    وَعَنْ حَدَقٍ كَالنَّبْخِ لَمْ يَتَفَتَّقِ
    (النَّبْخ: يعني الجُدَري، شبَّه عين ولد النَّعامة بالجدري، لم يتفتق: لم يتفقَّأ).

    فأخذ زهيرٌ بيد ابنه، ثم قال: أذِنتُ لك في قول الشِّعر، فلما نزل كعب، وانتهى إلى أهله - وهو صغير يومئذٍ - قال:
    أَبِيتُ فَلاَ أَهْجُو الصَّدِيقَ وَمَنْ يَبِعْ
    بِعِرْضِ أَبِيهِ فِي الْمعَاشِرِ يُنْفقِ[2]

    وقد عد ابنُ سلاَّمٍ الجُمحيُّ كعبَ بن زهير - رضي الله عنه - في الطبقة الثانية من الشعراء، وقد امتدَّ به العمر حتى زمن معاوية بن أبي سفيان.

    (3)
    لقد قسَّمنا القصيدة إلى عددٍ من المَقاطع، تتضمَّن الأغراض التي احتوَتْها القصيدة، وهي على النَّحو التالي:
    1- مقدِّمة غزَلِيَّة.
    2- في وصف النَّاقة.
    3- اعتذار للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.
    4- مَدْح للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.
    5- مدح الصحابة.

    ورغم هذه الأغراض المتعدِّدة في القصيدة، فإنَّها تضمُّها وَحْدةٌ نفسيَّة وشُعورية واحدة، كما نلحظ براعة كعبٍ في الانتقال من كلِّ غرَضٍ إلى الغرض الَّذي يليه، فهو ينتقِل من الغزَل إلى وصف النَّاقة في بيتٍ يربط بين الغرَضين:
    أَمْسَتْ سُعَادُ بِأرْضٍ لاَ يُبَلَّغُهَا
    إِلاَّ العِتَاقُ النَّجِيبَاتُ الْمَرَاسِيلُ

    ويَنتقل من وصف الناقة إلى الاعتذار للرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله:
    تَسْعَى الوُشَاةُ جَنابَيْهَا وَقَوْلُهُمُ
    إِنَّكَ يَا بْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ

    والضمير في "جنابَيْها" يعود على الناقة وعلى سعاد، والذي نَجِده يوحِّد بينهما في لُغَةٍ رمزيَّة سامية في ختام المقطع الثَّاني الذي يصف فيه النَّاقةَ قبل الانتِقال إلى الاعتذار.

    وهكذا يَفْعل في بقيَّة أجزاء القصيدة في بناء مُحْكَم فيصلٍ بين الأبيات بعضها البعض، بانتقالاتٍ مُحْكمة النَّسْج تشهد لها لغة القصيدة التي تمتلئ بغريب الألفاظ؛ مما يدلُّ على أنَّ معجم كعب ليس معجمًا سهلاً، بل هو معجمٌ عميق كما يتبيَّن من قراءة ديوانه كلِّه.

    إلاَّ أنَّ كعبًا في القسم الخاص بالاعتذار والمدح، ترقُّ لغتُه، وتشفُّ وتَصْفو من غريب الألفاظ، ووحشيِّ الكلام.

    ويبدأ كعبٌ قصيدته بالغزَل، فيقول:
    بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي اليَوْمَ مَتْبُولُ
    مُتَيَّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
    وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ البَيْنِ إِذْ رَحَلُوا
    إِلاَّ أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
    تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إِذَا ابْتَسَمَتْ
    كَأَنَّهُ مُنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ
    شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ
    صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهْوَ مَشْمُولُ

    نجد في هذه المقدِّمة الغزَلية انتقالَ كعبٍ من صورة إلى صورة في انتقالات سريعة؛ فهو بعد أن يبيِّن حالَ قلبه بعد بَيْن سعاد، يصوِّره كالأسير المتيَّم المكبَّل بالقيود، ويُقارن بين حاله في هذا الأمر وحالِ سعاد الطَّليقة الراحلة عن مَرابعها، غضيضةَ الطَّرْف، مكحولةَ العينين، مبتسمةَ الشَّفتين، فتبين عن أسنانِها التي كأنها قد نهلَتْ من خمر مصفَّاة، مُزِجَت بالماء، ثم يَسترسل في وَصْف ذلك الماء:
    شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ
    صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهْوَ مَشْمُولُ
    تَنْفِي الرِّيَاحُ القَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطُهُ
    مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ

    إنَّ هذا الماء الذي مُزِجت به الخمر التي شرِبَت منها سعاد، كأنَّه مأخوذٌ من تلك البُحَيرة الصافية، أو ذلك الغدير الهادئ الذي يمتلئ بماءٍ صاف، قد شَمِلته ريحُ الشمال، فبَردته وجلَتْ عنه الرِّياحُ القذى بعدما تجمَّع بكثرة على إثر سيولٍ من ماء السَّماء.

    ثم يعود مرَّة ثانية بعد الاستِرْسال في صورةِ الماء إلى وصف حال العلاقة - الخلَّة - التي قامت بينه وبين سعاد، وكيف انتهت بإخلاف الوعد؛ لأنَّها لا تدوم على حالٍ كما يبدو شبح الغول في الصحراء ليلاً.
    يَا وَيْحَهَا خُلَّةً لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ
    مَا وَعَدَتْ أَوْ لَوَ انَّ النُّصْحَ مَقْبُولُ
    لَكِنَّهَا خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا
    فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلاَفٌ وَتَبْدِيلُ
    فَمَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا
    كَمَا تَلَوَّنُ فِي أَثْوابِهَا الغُولُ

    والغول: السعلاة، وهي شِبْه أُسْطورة كانت تزعُمها العرب في الجاهليَّة، فيقولون أنَّ الغول تغتالهم، وتتَراءى لهم في الفلَوات، وتتلوَّن لهم بألوانٍ شتَّى، وتضِلُّهم عن الطريق.

    ثم يواصل كعبٌ وصف مواعيدها ووعودِها:
    وَلاَ تَمَسَّكُ بِالعَهْدِ الَّذِي زَعَمَتْ
    إِلاَّ كَمَا يُمْسِكُ الْمَاءَ الغَرَابِيلُ
    فَلاَ يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ
    إِنَّ الأَمَانِيَّ وَالأَحْلاَمَ تَضْلِيلُ
    كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلاً
    وَمَا مَواعِيدُهَا إِلاَّ الأَبَاطِيلُ

    و"عرقوب" هو عُرْقوب بن النَّضر، يقول الرُّواة عنه: إنَّه رجلٌ من العَمالقة، نزل بالمدينة قبل أن يَنْزِلَها اليهود بعد عيسى بن مريم - عليه السَّلام - وكان له نَخْل، وإنه وعد صديقًا له ثَمرَ نخلةٍ من نخله، فلما حملَتْ وصارت بلحًا، أراد الرجل أن يصرمها، فقال عرقوب له: دَعْها حتى تصير رُطَبًا، فلما صارت رُطبًا، قال له: دعه حتى يصير تمرًا، فلما صار تمرًا، انطلق إليه عرقوب ليلاً، فجذَّه ليلاً، فجاء الرجل بعد أيام، فلم ير إلا عودًا قائمًا، فذهب موعِدُ عرقوب مثلاً.

    والشاعر في رجائه وأمله أصبحَتْ كفَّاه خالِيَتين من كلِّ ما تعلق به من وعودِ محبوبتِه سعاد التي يرمز لها - فيما نرى - إلى الدُّنيا التي ظلَّ متشبِّثًا بها، رغم مُراوغتها، وها هو الآن قد يَئِس منها، وقد علم أنَّها قد ضيَّعت أحلامه وأمانيه، وأن عقاب النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - له يُخايِلُه في كلِّ موطن، وهو - بسبب طلَبِه لِسَعادة الدُّنيا، وتشَبُّثِه بها - يوشك أن يقع في الهلكة.
    أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُو مَوَدَّتُهَا
    وَمَا إِخَالُ لَدَيْنَا مِنْكِ تَنْوِيلُ
    فَلاَ يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ
    إِنَّ الأَمَانِيَّ وَالأَحْلاَمَ تَضْلِيلُ
    أَمْسَتْ سُعَادُ بِأرْضٍ لاَ يُبَلَّغُهَا
    إِلاَّ العِتَاقُ النَّجِيبَاتُ الْمَرَاسِيلُ

    هكذا استَيْئس الشاعر من طَلِبَتِه، وها هو يقطع شوطًا آخَر مع النَّاقة، ووَصْفِها؛ لعلَّ في ذلك ما يفرج كرْبَه، ويُنقِذُه من الحصار الذي يجد فيه نفْسَه، والذي وضعه فيه قولُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن لقِيَ كعب بن زُهَير فلْيَقتله))، هكذا لم يجد كعبٌ مَهْربًا لنفسه، إلاَّ ناقته، وهي الأخرى لم تُنجه؛ فقد أحاط الوُشاة بِجَنبيها كما جاء في آخِر الأبيات التي وصَف فيها الناقة:
    وَقَالَ كُلُّ خَلِيلٍ كُنْتُ آمُلُهُ
    لاَ أُلْفِيَنَّكَ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ
    فَقُلْتُ خَلُّوا سَبيلِي لاَ أَبَا لَكُمُ
    فَكُلُّ مَا قَدَّرَ الرَّحْمنُ مَفْعُولُ

    إنَّه أيقن أنْ لا مهرب له من وعيد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

    ولْنَعد؛ لنقف وقفة أمام وصفه لناقته في المقطع الثاني من القصيدة.

    إنَّ ناقة كعب على مدار ما يُقارب عشرين بيتًا تمثِّل حالةَ محاولةِ الهرب والوصول إلى مباهج سُعاد (الدُّنيا)، التي ضاقَتْ على مالكِها وهو وَصْف لها يتناسب مع الحال النفسيَّة التي يمرُّ بها كعب، وهو طريدٌ يَخشى أن يصل إليه وعيدُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولذا فناقتُه شديدة غليظة، "عُذافرة"؛ سريعةٌ في سيرها، رغم الإعياء ذات هِمَّة وهي تسير بين الغليظ من الأرض، ناظرة إلى الأفق وما يختبئ فيه من الغيوب، كما أنَّ هذه الناقة طويلةُ العنُق، تُشْبِه حِمار الوحش:
    مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ
    عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلاَمِ مَجْهُولُ
    تَرْمِي الغُيوبَ بِعَيْنَيْ مُفْرَدٍ لَهِقٍ
    إِذَا تَوَقَّدَتِ الْحِزَّانُ وَالْمِيلُ
    ضَخْمٌ مُقَلَّدُهَا فَعْمٌ مُقَيَّدُهَا
    فِي خَلْقِهَا عَنْ بَنَاتِ الفَحْلِ تَفْضِيلُ
    غَلْبَاءُ وَجْنَاءُ عَلْكُومٌ مُذَكَّرَةٌ
    فِي دَفِّهَا سَعَةٌ قُدَّامَهَا مِيلُ
    وَجِلْدُها مِنْ أُطُومٍ لاَ يُؤَيِّسُهُ
    طِلْحٌ بِضَاحِيَةِ الْمَتْنَيْنِ مَهْزُولُ
    حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا مِنْ مُهَجَّنَةٍ
    وَعَمُّهَا خَالُهَا قَوْدَاءُ شِمْلِيلُ
    يَمْشِي القُرَادُ عَلَيْهَا ثُمَّ يُزْلِقُهُ
    مِنْهَا لَبَانٌ وَأَقْرَابٌ زَهَالِيلُ
    عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ بِالنَّحْضِ عَنْ عُرُضٍ
    مِرْفَقُهَا عَنْ بَنَاتِ الزُّورِ مَفْتُولُ
    كَأَنَّمَا فَاتَ عَيْنَيْهَا وَمَذْبَحَهَا
    مِنْ خَطْمِهَا وَمِنَ اللَّحْيَيْنِ بِرْطِيلُ
    تُمِرُّ مِثْلَ عَسِيبِ النَّخْلِ ذَا خُصَلٍ
    فِي غَارِزٍ لَمْ تُخَوِّنْهُ الأَحَالِيلُ

    ويظلُّ كعب مسترسلاً في وصف الناقة إلى أن يقول:
    تَفْرِي اللُّبَانَ بِكَفَّيْها وَمِدْرَعُها
    مُشَقَّقٌ عَنْ تَرَاقِيهَا رَعَابِيلُ
    تَسْعَى الوُشَاةُ جَنابَيْهَا وَقَوْلُهُمُ
    إِنَّكَ يَا بْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ

    وهنا يبدأ مقطع الاعتذار للرَّسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكعب يقدِّم بين يدَيِ اعتذاره للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بمعتقده في أنَّ قدَرَ الله واقعٌ لا مَحالة، وهكذا يُبَرهن في مطلع حديثه عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - واعتذاره له عن صحَّةِ مُعتقَدِه، ويقينِه بالموت:
    وَقَالَ كُلُّ خَلِيلٍ كُنْتُ آمُلُهُ
    لاَ أُلْفِيَنَّكَ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ
    فَقُلْتُ خَلُّوا سَبيلِي لاَ أَبَا لَكُمُ
    فَكُلُّ مَا قَدَّرَ الرَّحْمنُ مَفْعُولُ
    كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلاَمَتُهُ
    يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ

    ثم يَلِج إلى موضوع القصيدة الرئيس؛ الاعتذار للرَّسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومدحه، ومَدْح صحابته.

    ويبدأ كعبٌ أبياتَ الاعتذار بالإقرار برسالة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمَلِه في العفو عنده، على ما بلغه من أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - توعَّده بالقتل.

    ونُلاحظ في هذا القِسْم من القصيدة أنَّ لُغَة القصيدة تصبح قريبةَ المأخذ سهلةَ الأسلوب، ولا يبعد كعب كثيرًا في اعتذاره عن أسلوب من سبَقه من الشُّعَراء، كالنابغة؛ يقول النابغة في الاعتذار للنُّعمان:
    أُنْبِئْتُ أَنَّ أَبَا قَابُوسَ أَوْعَدَنِي
    وَلاَ قَرَارَ عَلَى زَأْرٍ مِنَ الأَسَدِ

    ويقول كعب:
    أُنْبِئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَنِي
    وَالعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ

    ولكنَّ كعبًا يُدْرِك أن الموقف بين يدَيْ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَخْتلف عن موقف النَّابغة بين يدَي النعمان؛ إنَّه يقف بين يدي رسولٍ مُكلَّمٍ بكتاب من السَّماء.
    مَهْلاًَ هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الْ
    قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ

    ثم يعود مرَّة ثانية لأسلوب الاعتذار الذي سنَّه النابغة، فبيَّن أنَّ الوُشاة هي التي زادَتْ في الأقوال، وأنَّه لم يُذْنِب:
    لاَ تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الوُشَاةِ فَلَمْ
    أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الأَقَاوِيلُ

    ثم بيَّن أنه قد أتاه من وعيد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما يظلُّ يرعد منه، إلاَّ أن يعفو عنه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بإذن الله - عزَّ وجلَّ -:
    لَذَاكَ أَهْيَبُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ
    وَقِيلَ إنَّكَ مَسْبُورٌ وَمَسْؤُولُ
    لَظَلَّ يُرْعَدُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
    مِنَ الرَّسُولِ بِإِذْنِ اللهِ تَنْوِيلُ
    حَتَّى وَضَعْتُ يَمِينِي لاَ أُنَازِعُهُ
    فِي كَفِّ ذِي نَقِمَاتٍ قِيلُهُ القِيلُ
    لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ
    أَرَى وَأَسْمَعُ مَا لَمْ يَسْمَعِ الفِيلُ

    لقد وضع يدَه في يد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وضْعَ طاعةٍ، لا منازعة، وغمَرَه من هيبة النبيِّ الكريم ما جعله يستدعي وصْفَ الأسد الذي ذكَره النابغة في شطْرٍ من بيت؛ ليُفصِّله كعبٌ في عدَّة أبيات:
    مِنْ خَادِرٍ مِنْ لُيُوثِ الأُسْدِ مَسْكَنُهُ
    مِنْ بَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
    و"عثَّر" وادٍ تسكنه الأسود، مشهورٌ عند العرب.

    يَغْدُو فَيُلْحِمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا
    لَحْمٌ مَنَ القَوْمِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ
    إِذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لاَ يَحِلُّ لَهُ
    أَنْ يَتْرُكَ القِرْنَ إلاَّ وَهْوَ مَفْلُولُ
    مِنْهُ تَظَلُّ سِبَاعُ الْجَوِّ ضَامِزَةً
    وَلاَ تَمَشَّى بِوَادِيهِ الأَرَاجِيلُ

    وبعد رَسْم هذه الصُّورة الشِّعرية الجميلة لِشَجاعة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقوَّتِه بأنَّه أقوى وأشجع من "خادر"، وفي رواية أخرى للقصيدة (ضَيْغم)، وهو الأسد، ويسترسل في وصف الأسد وشدَّتِه، وأنَّه لا يَرضى بالهزيمة.
    إِذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لاَ يَحِلُّ لَهُ
    أَنْ يَتْرُكَ القِرْنَ إِلاَّ وَهْوَ مَفْلُولُ

    وأنَّه - الأسد - تخافُه وتهابه حُمْر الوحش، ولا تسير بِواديه إلاَّ صامتة من هيبته وخشيته، والرِّجال مُمْتنعة من المشي بواديه.

    بعد كلِّ ذلك يدخل كعبٌ إلى البيت المضيء في القصيدة، في ختام مدْحِه للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
    إِنَّ الرَّسُولَ لَسَيْفٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ
    مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُولُ

    ويُروى هذا البيت:
    إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ
    مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُولُ

    وأيًّا كانت الرِّواية الصحيحة لهذا البيت؛ فهو خير ختامٍ للاعتذار والمديح؛ ليختم القصيدة كلَّها بعد ذلك بكلماتٍ جميلة، يصف بها أصحابَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من المهاجرين:
    فِي فِتْيَةٍ مِنْ قُريْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ
    بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا: زُولُوا
    شُمُّ العَرَانِينِ أَبْطَالٌ لُبُوسُهُمُ
    مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
    بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لَهَا حَلَقٌ
    كَأَنَّهَا حَلَقُ القَفْعَاءِ مَجْدُولُ
    يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُمْ
    ضَرْبٌ إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ

    ثم يصف إقدامهم وشجاعتهم:
    لاَ يَفْرَحُونَ إِذَا نَالَتْ رِمَاحُهُمُ
    قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجَازِيعًا إِذَا نِيلُوا
    لاَ يَقَعُ الطَّعْنُ إِلاَّ فِي نُحُورِهِمُ
    وَمَا لَهُمْ عَنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ

    ويُقال: إنه عرَّض بالأنصار في قوله: "إذا عرَّد السُّود التنابيل"؛ وذلك أنَّ رجلاً من الأنصار كان قد طلَب من النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندما دخل عليه كعبٌ وعرف أنه هو كعب، أن يأمره بقتله، فقال كعب في بيته ما قال، ثم لما سمعت الأنصار هذه القصيدة شقَّ عليهم؛ حيث لم يَذْكُرهم مع إخوانهم من المهاجرين، وكلَّموا النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقالوا: ألا ذكَرْتَنا مع إخواننا من قريش! فقال كعب يذكر الأنصار في قصيدة تقارب الثلاثين بيتًا، وهي موجودة بكاملها في ديوان كعب الذي شرَحه أبو سعيد السكري.

    يقول كعب:
    مَنْ سَرَّهُ كَرَمُ الْحَيَاةِ فَلاَ يَزَلْ
    فِي مِقْنَبٍ مِنْ صَالِحِي الأَنْصَارِ
    تَزِنُ الْجِبَالَ رَزَانَةً أَحْلاَمُهُمْ
    وَأَكُفُّهُمْ خَلَفٌ مِنَ الأَمْطَارِ
    الْمُكْرِهِينَ السَّمْهَرِيَّ بِأَذْرُعٍ
    كَصَوَاقِلِ الْهِنْدِيِّ غَيْرِ قِصَارِ
    وَالنَّاظِرِينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرَّةٍ
    كَالْجَمْرِ غَيْرِ كَلِيلَةِ الأَبْصَارِ
    وَالذَّائِدِينَ النَّاسَ عَنْ أَدْيَانِهِمْ
    بِالْمَشْرَفِيِّ وَبِالقَنَا الْخَطَّارِ
    وَالبَاذِلِينَ نُفُوسَهُمْ لِنَبِيِّهِمْ
    يَوْمَ الْهِيَاجِ وَقُبَّةِ الْجَبَّارِ

    هذا، وقد اشتُهِرت هذه القصيدة "بانت سعاد" باسم "البُرْدة"؛ لِما يُرْوى أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كسَا كعبًا بردتَه التي ظلَّت عند كعب حتَّى اشتراها منه أبو سفيان بن حرب بعد ذلك بعشرين ألفًا.

    وقد حَسُن إسلام كعبٍ - رضي الله عنه - وأخذ يَصْدر بعد لقائه بالنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن دينه، ويرسل فيها أطرافًا من المواعظ؛ مِن مِثل قوله:
    لَوْ كُنْتُ أَعْجَبُ مِنْ شَيءٍ لأَعْجَبَنِي
    سَعْيُ الفَتَى وَهْوَ مُخْبُوءٌ لَهُ القَدَرُ
    يَسْعَى الفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ مُدْرِكَهَا
    وَالنَّفْسُ وَاحِدَة ٌ وَالْهَمُّ مُنْتَشِرُ
    وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلٌ
    لاَ تَنْتَهِي العَيْنُ حَتَّى يَنْتَهِي الأثَرُ

    ومِثْل قوله:
    أَعْلَمُ أَنِّي مَتَى مَا يَأْتِنِي قَدَرِي
    فَلَيْسَ يَحْبِسُهُ شُحٌّ وَلاَ شَفَقُ
    بَيْنَا الفَتَى مُعْجَبٌ بِالعَيْشِ مُغْتَبِطٌ
    إِذِ الفَتَى لِلمَنَايَا مُسْلَمٌ غَلِقُ
    وَالْمَرْءُ وَالْمَالُ يَنْمِي ثُمَّ يُذْهِبُهُ
    مَرُّ الدُّهُورِ وَيُفْنِيهِ فَيَنْسَحِقُ
    فَلاَ تَخَافِي عَلَيْنَا الفَقْرَ وَانْتَظِرِي
    فَضْلَ الَّذِي بِالغِنَى مِنْ عِنْدِهِ نَثِقُ
    إِنْ يَفْنَ مَا عِنْدَنَا فَاللهُ يَرْزُقُنَا
    وَمِنْ سِوَانَا وَلَسْنَا نَحْنُ نَرْتَزِقُ

    ومثل قوله:
    فَأَقْسَمْتُ بِالرَّحْمَنِ لاَ شَيْءَ غَيْرُهُ
    يَمِينَ امْرِئٍ بَرٍّ وَلاَ أَتَحَلَّلُ
    لأَسْتَشْعِرَنْ أَعْلَى دَرِيسَيَّ مُسْلِمًا
    لِوَجْهِ الَّذِي يُحْيِي الأَنَامَ وَيَقْتُلُ
    هُوَ الْحَافِظُ الوَسْنَانَ بِاللَّيْلِ مَيِّتًا
    عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ مِنَ النَّوْمِ مُثْقَلُ
    مِنَ الأَسْوَدِ السَّارِي وَإِنْ كَانَ ثَائِرًا
    عَلَى حَدِّ نَابَيْهِ السَّمَامُ الْمُثَمَّلُ

    وواضحٌ أنَّ هذه الأبيات وغيرها في ديوان كعب تنمُّ عن ولائه لدينه، وأنَّه أسلم وجهه لربِّه؛ إذْ نراه في شعره الجاهلي مُفاخِرًا متوعِّدًا مهددًا، حتى إذا أسلم أخذَتْ نفسُه تصفو، وأخذ يستشعر معاني الإسلام الروحيَّة وقِيَمه المُثْلى.


    [1] وفي رواية:
    يَا وَيْحَهَا خُلَّةً لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ
    مَا وَعَدَتْ أَوْ لَوَ انَّ النُّصْحَ مَقْبُولُ
    [2] "ديوان كعب بن زهير" بشرح السكري، مقدِّمة الديوان.
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16801
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39133
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    كعب بن زهير يمدح الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم Empty رد: كعب بن زهير يمدح الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم

    مُساهمة من طرف أحمد الثلاثاء يناير 29, 2013 10:43 am

    http://drct.alukah.net/Literature_Language/0/34013/

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 15, 2024 12:19 am