فى بحث متهافت لإبراهيم أنيس:
القرآن لم يعرف الإعراب إلا بعد قرن من وفاة الرسول!
د. إبراهيم عوض
لا أستطيع أن أتذكر الآن فى أية ظروف قرأتُ كتاب د. إبراهيم أنيس: "من أسرار اللغة" وأنا طالب فى الجامعة فى النصف الثانى من ستينات القرن الماضى أيام كنت شابا صغيرا ينقل خطواته الأولى على طريق البحث العلمى، ولكنى أستطيع بسهولة أن أتذكر أننى لم أكن أنتهى من عنصر من عناصر بحث الدكتور عن أصل الإعراب فى لغتنا الشريفة، الذى يشكل فصلا من فصول ذلك الكتاب، حتى ينبثق فى عقلى للتو الرد على ذلك العنصر، إذ بدا لى الأمر كله سخيفا متهافتا، ومسيئا أيضا كما سوف يتضح فيما يلى من صفحات. صحيح أن دراستى هذه التى يطالعها القارئ العزيز الآن تحتوى على أشياء وتفصيلات لم تجر لى وقتذاك فى بال، إلا أن بعض الخطوط الرئيسية فى هذه الدراسة هى صدى لما ثار فى ذهنى أوانئذ. وحين دعانى صديقى وزميلى الأستاذ الدكتور محمد الحملاوى كعادته إلى الاشتراك فى مؤتمر تعريب العلوم هذا العام (1431هـ- 2010م) صحا منى العزم فجأة على معاودة القراءة فى بحث د. أنيس والكتابة عنه، فأنا أرى أن مثل تلك البحوث لا تكتب عادةً عفو البال، بل غالبا ما تكون لها أبعاد قد تدقّ فى أوليات أمرها فلا تلحظها العين لدى ميلادها، ثم إذا ما مرت السنون انفجرت كالقنابل الموقوتة.
والآن باسم الله الكريم نبدأ، فنعرف بالدكتور أنيس قبل الدخول فى موضوعنا، ونقول: وُلِد د. إبراهيم أنيس بالقاهرة في 1324 هـ- 1906م، والتحق بدار العلوم، وتخرَّج منها سنة 1930م ليعمل مدرّسا في المدارس الثانوية. ثم من جامعة لندن حصل على البكالوريوس سنة 1939م، فالدكتوراه سنة 1941م. وبعد عودته من أوروبا عمل مدرسا في كلية دار العلوم، وبعدها في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية حيث أنشأ بها معمل صوتيات. ثم عاد ثانية إلى دار العلوم، وترقّى في وظائفها إلى أن أصبح أستاذا ورئيسا لقسم اللغويات. ثم تولَّى العمادة وأُعْفِيَ منها بعد مدة، ليليها مرة أخرى، إلى أن قدم استقالته. وقد اختير أنيس خبيرا بمجمع اللغة العربية عام 1958م، ثم نال عضوية المجمع بعدها بثلاث سنوات. وهو أخو د. عبد العظيم أنيس، وابن عمة الممثل فؤاد المهندس، بل إنه هو نفسه مارس التمثيل وهو طالب بالجامعة. وله فى المجلات العربية عدد من البحوث والمقالات اللغوية، أما كتبه فمنها: "الأصوات اللغوية"، و"من أسرار اللغة"، و"موسيقى الشعر"، و"في اللهجات العربية"، و"دلالة الألفاظ"، و"مستقبل اللغة العربية المشتركة"، و"اللغة بين القومية والعالمية". وقد لبى الرجل نداء خالقه فى 20 جمادى الآخرة 1397 هـ- 8 يونيو 1977م.
وللدكتور أنيس دعوى غاية فى العجب أثبتها فى كتابه: "من أسرار اللغة" تحت عنوان "قصة الإعراب" ملخصها أن العرب لم يكونوا يعرفون الإعراب قبل نهاية القرن الأول وبداية القرن الثانى للهجرة، وأنهم كانوا يسكِّنون أوخر الكلمات دائما، اللهم إلا إذا التقى ساكنان يقع أولهما فى آخر كلمة، ويقع الثانى فى بداية الكلمة التالية، وأن النحويين المسلمين هم الذين اخترعوا ذلك الإعراب اختراعا بعد أن لم يكن فكان، وأن السبب فى ذلك أنهم ربما رَأَوْا تغير أواخر الأسماء فى اللغة اليونانية فحفزهم الأمر إلى أن يكون لهم فى نحوهم شىء مشابه لما عند اليونان، فكان ذلك الإعراب (انظر "من أسرار اللغة"/ ط2/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 182 وما بعدها على مدار بضع عشرات من الصفحات).
ومعنى ذلك أن القرآن قد تم العبث به وتحويله عن صورته الأصلية التى كان عليها إلى صورة أخرى لم يكن له بها قبل القرن الثانى الهجرى أىّ عهد. وفى هذا رَجْعُ أصداءٍ لما قاله بعض المستشرقين من أن القرآن حين نزل فى البداية لم يكن مسجوعا، ثم إن النبى بعد هذا قد غيره بحيث صار ذا فواصل (انظر ما كتبه المستشرق بوهل فى مادة "قرآن" فى "The Encyclopaedia of Islam: دائرة المعارف الإسلامية"/ ط1. وانظر تفنيدى لهذا الزعم المتساخف فى كتابى: "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل"/ مكتبة البلد الأمين/ القاهرة/ 1419هـ- 1989م/ 7- 9). كذلك ففى بحث أنيس، فيما يبدو، رَجْعُ أصداء أخرى مما جاءت الإشارة إليه فى مقدمة ترجمة إدوار مونتيه الفرنسية للقرآن من أن ثمة بحثا كان قد كتبه ك. فولرز قبل ذلك بقليل عن "اللغة الشعبية المكتوبة فى الجزيرة العربية قديما" يقول فيه إن القرآن الكريم لم يكن مكتوبا قط على النحو الذى نقرؤه اليوم، ولكنه فى أقدم نسخة منه كان مكتوبا بلهجة مشابهة للهجات الحالية (انظر هذه العبارة فى ترجمتى للمقدمة المذكورة/ ص134 من كتابى: "المستشرقون والقرآن"/ دار القاهرة/ 1423هـ- 2003م). ولتوضيح رأى فولرز أسوق ما وجدته فى مقال كتبه Claude Gilliot بعنوان "Origins and Definitions of the Koranic Text". قال: "K. Vollers considers that the origin of the Koranic language is to be found in a dialect of western Arabia, in Mecca or Medina, reviewed in order to adapt it to the language of ancient Arab poetry". (وهذا رابط المقال على المشباك لمن يريد الرجوع إليه لقراءته والتحقق مما فيه بنفسه:- http://www.miradaglobal.com/index.ph...emid=9&lang=en). وهى لهجة غير معربة (uninflected Volkssprachen) كما أكد فولرز، المستشرق الألمانى الذى كان مديرا لدار الكتب فى يوم من الأيام وأحد الداعين الملتهبين إلى نبذ الفصحى والركون إلى العامية (انظر "A Comparative Lexical Study of Qur'ānic Arabic" لصاحبه Martin R. Zammit (ط. Brill, 2001, P. 40).
ولمزيد من التوضيح لفكرة فولرز أقتطف هذا النص من دراسة لـKees Versteegh منشورة بتاريخ 2 سبتمبر 2005م فى موقع "Islamic Network" عنوانها: "The Language of the Arabs":
"In his book Volkssprache und Schriftsprache im alten Arabien (’Vernacular and written language in Ancient Arabia’, 1906), Vollers claimed that under the surface of the official text of the Qur’an there were traces of a different language, which were preserved in the literature on the variant readings of the text. He called this underlying language Volkssprache and identified it with the colloquial language of the Prophet and the Meccans. In his view, this colloquial language was the precursor of the modern Arabic dialects. The official text of the Qur’an, however, was revealed in a language that was identical with the poetic language of the Nagd, called by Vollers Schriftsprache . The differences between the two ‘languages’ included the absence of the glottal stop in Meccan Arabic, as well as the elision of the indefinite ending n (nunation) and the vocalic endings. Vollers concluded that there had been an original text of the revelation in the colloquial language of the Prophet; during the period of the conquests, this text was transformed into the language of poetry. The motive behind this transformation was, he asserted, the wish to raise the language of the Qur’an to the level of that of the poems".
ولمزيد آخر من التوضيح لفكرة فولرز أنقل أيضا النص التالى من فصل بعنوان "اللغة العربية في الجاهلية" وجدته على موقع جامعة الملك سعود غفلا من اسم صاحبه ومن اسم الكتاب الذى اقتُطِع منه. يقول النص، الذى يبدو وكأنه ترجمة للنص الإنجليزى السابق: "في كتابه: "Volkessprache und schriftsprache im alten Arabien: اللهجات ولغة الكتابة في العربية القديمة" (1906) يَدَّعي فولرز أن تحت التركيب السطحي للقرآن هناك آثار للغة مختلفة، وهي محفوظة في كتب القراءات القرآنية، وقد سمى تلك الآثار باسم volkessprache (الدارجة)، وقال إنها دارجة أهل مكة التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يتكلمها. ويرى فولرز أيضًا أن تلك الدارجة هي السابقة الحقيقية للهجات العربية الحديثة، ومع ذلك فإن القرآن تنزل بلغة مطابقة للغة الشعر الجاهلي النجدية، وهي اللغة التي سماها فولرز: "schriftsprache"، وتتضمن الفروق بين النمطين في رأي فولرز اختفاء الهمزة والتنوين من اللهجة الحجازية، وكذلك غياب التصريف الإعرابي. وخلص فولرز إلى أنه كان هناك نص قديم عامي للقرآن الكريم بلهجة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن هذا النص الدارج تم تحويله إلى لغة الشعر الجاهلي في فترة الفتوحات الإسلامية. يقول فولرز إن الدافع وراء هذا التحويل (أو قل: الترجمة) كان الرغبة في رفع لغة القرآن لمستوى لغة الشعر الجاهلي. ويستمر ليقول إن المسؤولين عن عملية الترجمة تلك كانوا حازمين فيما يخص تحقيق الهمزة والتصريف الإعرابي بالذات، وسمحوا لدون ذلك من السمات أن تظهر في نطق القرآن أو في القراءات البديلة في بعض الأحيان". فى ضوء هذا كله ألا يحق لنا أن نتساءل: من أين يا ترى أتى د. أنيس بمقالته فى عدم إعراب اللغة العربية فى البداية بما يترتب عليه من القول بأن القرآن المجيد لم يكن بالتالى معربا، ثم أُعْرِب فيما بعد؟
وإضافة إلى هذا فمن المعروف أن اللغة العربية لا تجرى فى بناء الجملة دائما على نظام ثابت أو شبه ثابت كاللغات الأوربية التى نعرفها: الفاعل أولا، فالفعل ثانيا، فالمفعول ثالثا، فشبه الجملة رابعا، بل هى لغة مرنة منذ أقدم نصوصها التى وصلتنا من الشعر والأمثال والخطب. فتارة يأتى الفاعل فى بداية الكلام (وهو ما نسميه الآن: مبتدأ)، وتارة يأتى عقب الفعل كما هو الحال فى الجمل الاعتيادية التى لا يميزها شىء ولا ترنو إلى إحداث تأثيرات خاصة لا تستطيعها إلا جمل ذات نظام مختلف قليلا أو كثيرا عن المعتاد الرتيب، فيها تقديم أو تأخير أو حذف أو اعتراض... إلخ. وتارة يأتى الفاعل بعد المفعول به، بل بعده وبعد شبه الجملة والحال والتمييز وأى عنصر آخر يأتى سابقا عليه فى التراكيب المعتادة. وهذا مجرد مثال. فلو طبقنا هذا على القرآن فنرجو أن يقول لنا د. أنيس كيف كان على العرب فى عصر المبعث قبل أن يظهر الإعراب أن يفهموا تلك الجمل والعبارات القرآنية التى لا تجرى على النظام الوَتِيرِىّ الذى يحسنه كل أحد ولا يتميز عادة بشىء؟
هذا، وما أكثر ذلك النوع من الجمل والعبارات على عكس ما يزعم سيادته، إذ حصرها فى أمثلة معدودة كما هو الحال فى الآيات التالية: "فأوجس فى نفسه خيفة موسى"، "فلما جاء آل لوط المرسلون"، "أنَّى يحيى هذه الله بعد موتها"، "حضر يعقوب الموت"، "جاء أحدكم الموت"، "مس الإنسان ضرّ" (من أسرار اللغة/ 226- 227)، مما يسهل على المتلقى فهم معناه دون إعراب. ومع هذا فحتى لو صدقنا دعواه وقلنا إنه لا يوجد فى القرآن سوى هذه الأمثلة وأشباهها، فهل يسهل فهم معناها كما قال؟ إنه ليمكن أن يفهم بعض الناس من المثال الأول أن هناك من أوجس فى نفسه الخيفة التى أوجسها موسى على اعتبار أن "خيفة" مضاف، و"موسى" مضاف إليه. كما أن بعضهم يمكن أن يتصور أن "آل لوط" هم الذين جاؤوا المرسلين لا العكس. لكن وجود الإعراب سوف يحل المشكلة من جذورها ولن يترك بابا للَّبْس والخلط.
على أن الأمثلة التى ضربها الأستاذ الدكتور ليست كل الأمثلة التى يمكن الاستشهاد بها فى هذا السياق، بل هناك أمثلةٌ أخرى جِدُّ كثيرة. خذ مثلا قوله عز وجل: "مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ" (البقرة/ 105)، فكيف نفهم "المشركين" لو كانت بدون إعراب؟ أنقول إنها داخلة فى "الذين كفروا"، أى معطوفة على "أهل الكتاب"؟ أم هل نقول إنها خارجة عن "الذين كفروا"، ومعطوفة عليها لا على أهل الكتاب؟ وخذ عندك كذلك: "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ" (البقرة/ 127)، واسأل نفسك: ما موقع إسماعيل هنا؟ آشترك مع أبيه فى رفع البيت، أم مع البيت فى رفع أبيه له هو أيضا، إذ رَفَع البيت رفعا ماديا، ورَفَعَه هو رفعا معنويا؟ وخذ عندك ثالثا الآية التالية: "وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ" (البقرة/ 132)، وقل لى: هل وصَّى إبراهيم بنيه ووصى معهم يعقوبَ أيضا، فعندنا موصٍّ واحد؟ أم هل وصى إبراهيم بنيه، ووصى يعقوبُ بنيه هو أيضا، فعندنا إذن موصِّيان؟ وخذ عندك رابعا قوله تعالى: "رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ" (آل عمران/ 192)، فما المقصود به؟ هل المقصود أنك أنت يا رب الذى تدخل الناس النار، فقد أخزيتَ فلانا؟ أم هل المقصود أن من تدخله النار يا رب فقد أخزيتَه؟ لا يفصل فى الأمر هنا إلا ضبط آخر الفعل المضارع: ضَمًّا أو سكونًا على الترتيب. وخذ عندك قوله جل شأنه: "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا"، فكيف نفهم قوله: "ومن الأنعام حَمُولَةً وفَرْشًا" فى حالة غياب الإعراب؟ سوف يتبادر إلى الذهن أن المقصود هو أن الأنعام تُسْتَخْدَم حمولة وفرشا لا أن الله خلق لنا منها حمولة وفرشا. وخذ عندك سادسا هاتين الجملتين من الآية الأولى من سورة "الأعراف" وتخيلهما بدون إعراب: "كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ"، ثم قل: هل المعنى هو أنه "لن يكون فى صدرك حرج"، على أساس أنه نفى؟ أم هل المراد: "لا ينبغى أن يكون فى صدرك حرج"، بوصفه نهيا؟ وخذ عندك أيضا هذه الآية: "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ"، فلولا أن "الإنجيل" مكسورة الآخر لظننا أن المعنى المراد هو أن الإنجيل بداية جملة جديدة، وأنه هو الذى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحل الطيبات ويحرم الخبائث ويضع الإصر... إلى آخره.
أما تهوين د. أنيس من شأن الروايات التى تتحدث عن واضعى النحو والأسباب التى حملتهم على التفكير فى ذلك، رغبة منه فى التشكيك فى وجود النحو أصلا قبل القرن الثانى للهجرة، ومنها الرواية التى تقول إن بنت أبى الأسود الدؤلى قالت له يوما: "ما أحسنُ السماءِ"، فكان جوابه: "أحسنُها نجومها"، فأفهمته أنها لا تسأل عن أجمل شىء فى السماء، بل تتعجب من جمالها، وكذلك إنكاره أن يكون أبو الأسود قد سمع قارئا يقول: "أن الله برىءٌ من المشركين ورسولِه"، فارتاع وفكر فى وضع النحو، أما تهوينه من شأن هاتين الروايتين وأمثالهما ووصْفه لها بأنها مجرد قصص مسلية طريفة (من أسرار اللغة/ 228) فلا أستطيع أن أرافئه عليه، بل أرى أنه حتى لو ثبت أنها روايات مصنوعة فمن الممكن جدا أن تقع، بل هى تقع كثيرا، إن لم يكن بنصها فعلى شاكلتها. وعلى هذا فليس ثم معنى للتهوين من شأن مثل تلك الروايات أبدا.
ومما يترتب على فكرة إبراهيم أنيس الشاذة أن الشعر العربى لم يكن موزونا قبل ذلك التاريخ، ثم لما اخْتُرِع النحو تصادف أن اتَّزَن الشعر بعدما كان مكسورا لا يعرف الإيقاع المنتظم. إن الدكتور، عند توضيح فكرته هنا، يأتى إلى بضعة أبيات اختارها عمدا فيحاول أن يقنعنا أنها عند التزام السكون فى أواخر كلماتها لن تضار كثيرا من ناحية الإيقاع الموسيقى. لكنه لم ينكر أن هناك خللا إيقاعيا قد حدث، وكلّ ما هنالك أنه أراد التهوين من شنعه. ثم إنه لم يقل لنا: ماذا عن تلك المصادفة السعيدة التى على أساسها قد استقام الشعر الجاهلى عند دخول الإعراب على لغة العرب بعدما كان بدونه ملتويا فى إيقاعه وموسيقاه؟ على كل حال سوف أورد الآن بضعة أبيات أخرى، ولتكن من معلقة امرئ القيس لنرى معا كيف يكون حالها من دون الإعراب، ثم كيف يكون حالها به. وها هى ذى الأبيات المذكورة ساكنة أواخر الكلمات عارية عن الإعراب:
فَمِثلُكْ حُبلى قَد طَرَقتْ وَمُرضِعْ * فَأَلهَيتُها عَن ذي تَمائِمْ مُحوِلْ
وَيَومْ عَلى ظَهرِ الكَثيبِْ تَعَذَّرَتْ * عَلَيَّ وَآلَتْ حَلفَةْ لَم تُحَلَّلْ
وَبَيضَةْ خِدرْ لا يُرامْ خِباءْها * تَمَتَّعتُ مِن لَهوْ بِها غَيرْ مُعجَلْ
تَجاوَزت أَحراسْ إِلَيها وَمَعشَرْ * عَلَيَّ حِراصْ لَو يُسِرّونَ مَقتَلي
فَقالَت: يَمينَ اللَهْ ما لَكْ حيلَةْ * وَما إِن أَرى عَنكَ الغِوايَةْ تَنجَلي
خَرَجت بِها أَمشي تَجُرّْ وَراءْنا * عَلى أَثَرَينا ذَيلْ مِرْطِ مُرَحَّلْ
إِذا اِلتَفَتَت نَحوي تَضَوَّعْ ريحْها * نَسيمَ الصَبا جاءَت بِرَيّا القَرَنفُلْ
بالله عليك أهذا شعر؟ بالله عليك أهذه موسيقى؟ إننى لأشعر أننا جالسون على مِصْطَبَة فى قرية من القرى نستمع إلى كلام سخيف يظنه صاحبه العامىّ الفَدْم شعرا، وما هو من الشعر فى دِقٍّ أو جِلٍّ. ولا تنس أيضا القافية التى اضطربت اضطرابا رهيبا بسبب جرينا على تسكين أواخر كلماتها طبقا لنظرية أنيس، إذ وجدناها مرة تنتهى بالسكون، وأخرى بمدة الياء، وهو ما لا أدرى كيف يحله لنا د. أنيس بنظريته الـمُخَرْبَقَة. أما القصيدة على وضعها بعد الإعراب (المخترَع فى زعم د. أنيس) فهى من الإبداع الفنى فى الذروة:
فَمِثلِكِ حُبلى قَد طَرَقتُ وَمُرضِعٍ * فَأَلهَيتُها عَن ذي تَمائِمَ مُحْوِلِ
وَيَوماً عَلى ظَهرِ الكَثيبِ تَعَذَّرَت * عَلَيَّ وَآلَت حَلفَةً لَم تُخَلَّلِ
وَبَيضَةِ خِدرٍ لا يُرامُ خِباؤُها * تَمَتَّعتُ مِن لَهوٍ بِها غَيرَ مُعجَلِ
تَجاوَزتُ أَحراساً إِلَيها وَمَعشَراً * عَلَيَّ حِراصًا لَو يُسِرّونَ مَقتَلي
فَقالَت يَمينَ اللَهِ ما لَكَ حيلَةٌ * وَما إِن أَرى عَنكَ الغِوايَةَ تَنجَلي
خَرَجتُ بِها أَمشي تَجُرُّ وَراءَنا * عَلى أَثَرَينا ذَيلَ مِرطٍ مُرَحَّلِ
إِذا اِلتَفَتَت نَحوي تَضَوَّعَ ريحُها * نَسيمَ الصَبا جاءَت بِرَيّا القَرَنفُلِ
فانظر، يا رعاك الله، إلى هذه المفارقة: كيف أن الشعر الجاهلى، ومثلُه فى ذلك الشعر الإسلامى والأموى، وربما بعض العباسى بناء على نظرية الدكتور أنيس، إن تركتَه على وضعه الأصلى، أى إن اتبعت الحق من وجهة نظر الدكتور، لم تجد بين يديك إلا هذه الفقاقيع السخيفة البائرة التى لا تنتمى إلى الشعر ولا تساوى شيئا فى ميدان الفن والإبداع والموسيقى، أما إن اتبعت الباطل حسبما تهرف نظرية الأستاذ الدكتور، وأجريت هذا الشعر على النظام الإعرابى (المخترع على حد زعمه) تحَصَّلَ لك فى الحال ذلك الإبداع الفاتن. فيا لها من مصادفة عجيبة عجب المنهج العلمى الذى استخدمه الأستاذ الدكتور فى بحثه العبقرى الذى لا يخر الماء: أن تستقيم أمور الشعر العربى القديم على الباطل، وتلتوى مع الحق. ومع هذا يصر إبراهيم أنيس على أن يركب دماغه ويزعم أن العربية لم تكن تعرف الإعراب إلا بعد الإسلام بقرن أو يزيد. عجايب!
وهكذا يتبين لنا أنْ لو كانت العربية ساكنةَ أواخر الكلمات دائما فلا تتحرك تلك الأواخر إلا عند التقاء ساكنين لما كان الشعر الجاهلى والإسلامى والأموى وشطرا غير قليل من الشعر العباسى موززنا، وأن تلك الأشعار، وياللعجب، قد اكتسبت بهذا التغيير الطارئ العجيب جمالا وانتظمت موسيقاه انتظاما لم تكن تعرفه من قبل؟ فأية مصادفة حسناء هذه؟ ثم جاء الخليل بن أحمد فتم الحسن على يديه وبلغ الغاية، إذ استطاع أن يستخرج من هذا النظام الإيقاعى القائم على المصادفة علمًا للعروض والقافية مستقيما غاية الاستقامة، دقيقا منتهى الدقة. على أن الأمر لا يقف هنا، بل إن الشعر الجاهلى، بدون الإعراب، ليستغلق فى كثير من الأحيان على قارئيه ومستمعيه بسبب ما فيه من تقديم وتأخير للكلمات عن مواضعها أو الإتيان بجمل وعبارات اعتراضية، مما لا يزيل غموضَه ولَبْسَه إلا الإعراب، الذى لم يكن موجودا فى ذلك الحين طبقا لفكرة الأستاذ الدكتور المتهايلة.
ومعنى ذلك ثالثا أن الأمة كلها قد تواطأت على الكذب، إذ زعم الزاعمون من علمائها النحويين أن العرب كانوا يعرفون الإعراب منذ وقت طويل قبل الإسلام، ووافقتهم الأمة كلها على هذا: وافقتهم بالإيجاب فرددت هذه المقولة معهم كذبًا منها ومَيْنًا، أو بالسلب فسكتت على هذه الكذبة البلقاء وتركتها تروج وتسود فلا يعود ثم موضع للفكرة الحقيقية بعد هذا أبدا. أما إذا لم ترد، أيها القارئ، أن تَصِم الأمةَ الإسلاميةَ كلها بالكذب والتواطؤ على الكذب فيمكنك أن تقسمها فريقين: فريق من الكذابين الوقحين، وفريق آخر من البله المعاتيه الذين ابتلعوا طعم تلك الكذبة البلقاء دون أن يفتحوا فمهم بكلمة لأنهم بله معاتيه. ومتى كان البله المعاتيه يفقهون شيئا أو يتنبهون إلى شىء؟ وهذا كله يشبه ما طلع علينا به عام 1926م المستشرق البريطانى ديفيد صمويل مرجليوث حين زعم أنه لم يكن هناك شعر جاهلى ولا إسلامى قط، وأن هذا الشعر الذى ينتمى إلى هذين العصرين إنما صنع صنعا فى العصر العباسى. وقد رددتُ على سخفه بذات الطريقة التى فندتُ بها مزاعم إبراهيم أنيس فى الفقرة الحالية (انظر كتابى: "أصول الشعر العربى- ديفيد صمويل مرجليوث: ترجمة وتعليق ودراسة/ الفصول الخاصة بدراسة مقال مرجليوث). وبالمناسبة فإن موقف أنيس من كتاب فولرز يشبه إلى حد بعيد موقف طه حسين من بحث مرجليوث، إذ أخذه ومطه وأضاف إليه كثيرا من التفاصيل وحور فيه بعض الشىء، ثم أصدره كتابا يحمل اسمه هو كتاب "فى الشعر الجاهلى".
ومن المضحك أن يستدير د. أنيس ويأتينا من الناحية الأخرى قائلا إنه ببحثه هذا العجيب لا يهدف إلى محوٍ أو تغييرٍ فيما تواضع الناس عليه من قواعد إعرابية، بل يهدف إلى البحث العلمى البحت مستعينا بأحدث الآراء فى علم الأصوات (من أسرار اللغة/ 230). وهو كلام أعجب من نظريته المتهافتة، إذ يشبه أن يأتى إنسان إلى زوج لا يجد فى زوجته ما يريب، بل يعيش معها عيشة هانئة سعيدة، فيعكر عليه صفوه بإثارة ريبته فيها، ويملأ نفسه بالهواجس والقلق ويحيل حياته جحيما مستعرا، ثم يستدير من الناحية الأخرى فيطمئنه بكلمتين لا تقدمان ولا تؤخران قائلا إنه لا يهدف من وراء هذا الذى قاله أن يدفعه إلى تطليق زوجته، حاشا لله، ولا إلى التزوج عليها بأخرى، أعوذ بالله، بل إلى دراسة الأمر دراسة علمية، ونعم بالله!
ثم إنك بعد ذلك تقلب صفحات البحث من اليمين للشمال، ومن الشمال لليمين، ومن فوق لتحت، ومن تحت لفوق، بحثا عن المراجع الحديثة المزعومة فلا تجد منها شيئا، بل كل ما تلقاه أينما اتجهت هو الكتب العربية القديمة التى اتهم الأستاذ الدكتور أصحابها أشنع الاتهامات، فلا تملك نفسك من أن تتساءل: ترى لِمَ يعتمد الأستاذ الدكتور على تلك الكتب إذا كان مؤلفوها بهذا السوء الذى نسبهم إليه ووصمهم به؟
أخشى ما أخشاه فى ظل ما نسمعه هذه الأيام من الدعوات المريبة إلى هجر الفصحى والركون إلى العامية أن يكون بحث د. أنيس هو قنبلة موقوتة وُضِعَتْ فى مكانها الحساس الخطير بهدوء شديد بعدما ألصق صاحبها عليها وُرَيْقَة تصنّفها على أنها كرة يلعب بها أطفال الأسرة الذين سيهلّون على الدنيا يوما ويَعِنّ لهم بعد أن يكبروا قليلا أن يجروا ويتقافزوا ويصرّفوا طاقاتهم المحبوسة، حتى إذا حل الميعاد انفجرت القنبلة فقتلت من قتلت، وبترت أطراف من بترت، وشوهت وجه من شوهت. إن فى مصر الآن من يسعى لجزر رقبة الفصحى، بل لجزر رقبة العروبة ذاتها وما يرتبط بالعروبة من أدب ودين وتشريع وتاريخ وأبطال وقيم. وهل هناك ما هو أحرى بإثارة الشك فى الفصحى والركون إلى العامية من أن يقال: إنه لم يكن هناك يوما إعراب، بل الأمر كله لا يعدو أن يكون تسرعا من قبل علمائنا وسوء فهم من جانبهم ظنوا به تحريك أواخر الكلمات تخلصا من التقاء الساكنين وما أشبه: إعرابا يشير إلى وظيفة الكلمة فى الجملة؟
إن د. إبراهيم أنيس يزعم أن العرب كانوا ينهون كل كلمات لغتهم بالسكون، لكنهم حين يصلون الكلام كانوا يحركون أواخر تلك الكلمات بهذه الحركة أو تلك، إلا أن هذه ليست حركات الإعراب، بل مجرد حركات صوتية تناسب الحرف الذى تتلوه من الكلمة السابقة أو تسبقه من الكلمة التالية. ترى كيف عرف هذا؟ الحق أنه لا توجدأدنى إشارة إلى أن العرب كانوا يسكنون أواخر كل الكلمات، فمن أين أتى سيادته بهذا الافتراض؟ أوكلما ثار فى خيالاتنا وأوهامنا خيال من الخيالات أو وهم من الأوهام نندفع إلى ترديده وكأنه حقيقة قاطعة لا ريب فيها؟ أوهذا هو العلم ومقتضيات المنهج العلمى؟ أيكفى أن يقول الواحد منا: "يبدو" أو"يظهر" أو "يخيَّل إلىّ" وما أشبه، ثم ينطلق فيسرد سخافاته سردا دون أدنى ذرة من تردد أو تفكر؟ يقول د. إبراهيم أنيس: "يظهر، والله أعلم، أن تحريك أواخر الكلمات كان صفة من صفات الوصل فى الكلام شعرا أو نثرا، فإذا وقف المتكلم أو اختتم جملته لم يحتج إلى تلك الحركات، بل يقف على آخر كلمة من قوله بما يسمى: السكون. كما يظهر أن الأصل فى كل الكلمات أن تنتهى بهذا السكون وأن المتكلم لا يلجأ إلى تحريك الكلمات إلا لضرورة صوتية يتطلبها الوصل" (من أسرار اللغة/ 204).
والملاحظ أن قاسم أمين قام قبل بضعة عقود من ظهور كتاب إبراهيم أنيس بحملة على الإعراب متهما إياه بأنه مصدر كل ما يقع من لحن في قراءة العربية، ومتخذا من عدم وجود الإعراب في بعض اللغات الأوربية حجة يدعم بها رأيه. وحَسْبَ رأيه ينبغى علينا نحن أهل العربية "أن نبقى أواخر الكلمات ساكنة لا تتحرك بأي عامل من العوامل". وبهذه الطريقة، وهي طريقة جميع اللغات الإفرنجية والتركية كما قال، يمكن، فى رأيه، حذف قواعد النواصب والجوازم والحال والاشتغال دون أن تضار اللغة أى ضرر لأن مفرداتها سوف تبقى كما هى. يقول هذا وكأن اللغة مجرد مفردات فحسب (ذكر قاسم أمين هذا الرأى فى كتابه: "كلمات" المنشور ضمن الأعمال الكاملة لقاسم أمين/ تحقيق د. محمد عمارة/ ط2/ دار الشروق/ 1989م/ 143).
إذن فالدكتور أنيس، حين كتب ما كتب، لم يكن ابن بجدتها، بل قد تسلم الراية من أمثال قاسم أمين وطوَّر ما قاله هو ومن يلفون لفّه كسلامة موسى، الذى هاجم فى كتابه الركيك الفكر الفاسد الذوق الذى يسمى: "اللغة العربية والبلاغة العصرية" لغة القرآن الكريم بكل وقاحة زاعما بالإفك والبهتان أولا أنها متخلفة، وثانيا أن الإعراب هو أهم أسرار تخلفها وتخلفنا نحن أيضا (انظر كتابه المذكور/ سلامة موسى للنشر والتوزيع/ 1964م/ 9، 11، 77 وما بعدها، 84، 93، 130 وما يليها، وبالذات 124...). يقول هذا وكأنها متخلفة فعلا، فى الوقت الذى كان يؤلف مقالاته وكتبه بها، وينظر إلى ما كتبه على أنه انعكاس لأرقى ما وصل إليه الفكر البشرى فى اللغات الأوربية التى كان يترجم منها ويلخص ما تشتمل عليه بغض النظر عن مدى دقته وصدقه وموضوعيته فى هذا التلخيص والعرض أو عدمه، مما يدل على أن كل ما قاله فى هذا الصدد هو كلام ماسخ سمج. نعم، إن ما كتبه أنيس لهو امتداد لما كتبه سلامة موسى وقاسم أمين وأمثالهما، وإن حاول أن تأخذ المسألة لديه مظهرا علميا رغم أن كل كلمة بل كل حرف فيما كتبه إنما يدابر العلم والمنطق والعقل مدابرة لا تفاهم فيها بتاتا.
ويورد د. أنيس نصا من قطرب النحوى العربى المعروف عن أصل الإعراب فى لغة العرب يقول فيه: "إنما أعربت العرب كلامها لأن الاسم في حال الوقف يلزمه السكون، فجعلوه في الوصل محرَّكا حتى لا يبطئوا في الإدراج، وعاقبوا بين الحركة والسكون وجعلوا لكل واحد أليق الأحوال به، ولم يلتزموا حركة واحدة لأنهم أرادوا الاتساع، فلم يضيقوا على أنفسهم وعلى المتكلم بحظر الحركات إلا حركة واحدة". هذا هو النص الذى نقله إبراهيم أنيس عن كتاب "إحياء النحو" لإبراهيم مصطفى، الذى نقله بدوره عن كتاب السيوطى: "الأشباه والنظائر". إلا أن النص الوارد فى كتاب الزجاجى: "الإيضاح فى علل النحو" أطول من ذلك وأكثر تفصيلا. وقد أورد الزجاجى رأى قطرب فى سياق كلامه عن إجماع النحويين على أن وظيفة الإعراب توضيح وظائف الكلمات فى الجملة. يقول الزجاجى (الإيضاح فى علل النحو/ تحقيق د. مازن المبارك/ ط3/ دار النفائس/ 1399هـ- 1979م/ 79- 81): "فإن قال قائل: فقد ذكرت أن الإعراب داخل فى الكلام، فما الذى دعا إليه واحتيج إله من أجله؟ الجواب ان يقال: إن الأسماء لما كانت تعتور المعانى فتكون فاعلة ومفعولة ومضافة ومضافا إليها ولم تكن فى صورها وأبنيتها أدلة على المعانى، بل كانت مشتركة، جُعِلَت حركات الإعراب فيها تنبئ عن هذه المعانى، فقالوا: ضرب زيد عمرا، فدلوا بتغيير أول الفعل ورفع زيد على أن الفعل ما لم يسم فاعله وأن المفعول قد ناب منابه. وقالوا: هذا غلام زيد، فدلوا بخفض زيد على إضافة الغلام إليه، وكذلك سائر المعانى جعلوا هذه الحركات دلائل عليها وكذلك سائر المعانى جعلوا هذه الحركات دلائل عليها ليتسعوا فى كلامهم، ويقدموا الفاعل إن أرادوا ذلك أو المفعول عند الحاجة إلى تقديمه، وتكون الحركات دالة على المعانى. هذا قول جميع النحويين إلا قطربا، فإنه عاب عليهم هذا الاعتلال وقال: لم يعرب الكلام للدلالة على المعانى والفرق بين بعضها وبعض لأنا نجد فى كلامهم أسماء متفقة فى الإعراب مختلفة المعانى، وأسماء مختلفة الإعراب متفقة فى المعانى: فمما اتفق إعرابه واتفق معناه قولك: إن زيدا أخولك، ولعل زيدا أخوك، وكأن زيدا أخوك. اتفق إعرابه واختلف معناه. ومما اختلف إعرابه واتفق معناه قولك: ما زيد قائما، وما زيد قائم. اختلف إعرابه واتفق معناه. ومثله: رأيته منذ يومين، ومنذ يومان. ولا مالَ عندك، ولا مالٌ عندك. وما فى الدار أحدا إلا زيدٌ، وما فى الدار أحدٌ إلا زيدا. ومثله: إن القوم كلَّهم ذاهبون، وإن القوم كلُّهم ذاهبون. ومثله: "إن الأمر كلَّه لله"، و"إن الأمر كلُّه لله". قرئ بالوجهين جميعا. ومثله: ليس زيد بجبانٍ ولا بخيلٍ، ولا بخيلاً. ومثل هذا كثير جدا مما اتفق إعرابه واختلف معناه، ومما اختلف إعرابه واتفق معناه. قال: فلو كان الإعراب إنما دخل الكلامَ للفرق بين المعانى لوجب أن يكون لكل معنى إعراب يدل عليه لا يزول إلا بزواله. قال قطرب: وإنما أعربت العرب كلامها لأن الاسم فى حال الوقف يلزمه السكون للوقف، فلو جعلوا وصله بالسكون أيضا لكان يلزمه الإسكان فى الوقف والوصل، وكانوا يبطئون عند الإدراج. فلما وصلوا وأمكنهم التحريك جعلوا التحريك معاقبا للإسكان ليعتدل الكلام. ألا تراهم بَنَوْا كلامهم على متحرك وساكن، ومتحرك وساكنين، ولم يجمعوا بين ساكنين فى حشو الكلمة ولا فى حشو بيت، ولا بين أربعة أحرف متحركة لأنهم فى اجتماع الساكنين يبطئون وتذهب المهلة فى كلامهم، فجعلوا الحركة عقب السكون. قيل له: فهلاّ لزموا حركة واحدة لأنها مجزئة لهم إذ كان الغرض إنما هو حركة تعتقب سكونا؟ فقال: لو فعلوا ذلك لضيّقوا على أنفسهم فأرادوا الاتساع فى الحركات وألا يحظروا على المتكلم الكلام إلا بحركة واحدة. هذا مذهب قطرب واحتجاجه. وقال المخالفون له ردا عليه: لو كان كما زعم لجاز خَفْض الفاعل مرة، ورَفْعُه أخرى ونَصْبُه، وجاز نَصْبُ المضاف إليه، لأن القصد فى هذا إنما هو الحركة تعاقب سكونا يعتدل به الكلام. وأى حركة أتى المتكلمُ أجزأته، فهو مخير فى ذلك. وفى هذا فساد للكلام وخروج عن أوضاع العرب وحكمة نظام كلامهم. واحتجوا لما ذكره قطرب من اتفاق الإعراب بأن قالوا إنما كان أصل دخول الإعراب واتفاق المعانى فى الأسماء التى تُذْكَر بعد الأفعال لأنه يُذْكَر بعدها اسمان: أحدهما فاعل، والآخر مفعول، فمعناهما مختلف، فوجب الفرق بينهما، ثم جُعِل سائر الكلام على ذلك. وأما الحروف التى ذكرها فمحمولة على الأفعال. ولكل شىء مما ذكر علة تمر بك إن شاء الله تعالى".
وواقع الأمر أن هناك فارقا ضخما بين ما قاله د. أنيس وما يقول به قطرب: فأنيس يزعم أن الإعراب لم يكن موجودا فى لغة العرب، ثم أوجده علماء النحو بعد الإسلام: فى نهاية القرن الأول الهجرى أو بداية القرن الثانى. أما قطرب فلم ينسب الإعراب إلى النحاة، بل إلى العرب. أى أن ذلك أمر أصيل عندهم، وليس شيئا طارئا كما يزعم أنيس. ومقصوده أن ظهور الإعراب أمر يقوم على التطور الطبيعى لا على القصد والتخطيط، واشترك فيه العرب جميعا كما يقع فى أية ظاهرة لغوية لا أنه انفرد به علماء النحو وحدهم واخترعوه اختراعا. وفضلا عن ذلك لم يشر قطرب من قريب أو من بعيد فى كثير أو قليل إلى أن النحاة عندنا تأثروا على نحو أو على آخر بالنحو اليونانى أو غير اليونانى.
ومن الواضح أن فيما قاله قطرب نسفًا لما زعمه د. أنيس، الذى عزا اختلاق الإعراب إلى النحاة، على حين أن قطربا، الذى كان قريب عهد بأولئك النحاة المظلومين، إذ كان من أهل القرن الثانى الهجرى، قد أرجعه كما رأينا إلى السليقة العربية. ولو كان الأمر على ما زعم أنيس لقد كان قطرب، ورأيه فى الإعراب هو ما نعرف، أول من يذكر هذا ويحتج به ويتخذه دليلا لا يُصَدّ ولا يُرَدّ على صحة ما قاله فى موضوع الإعراب. وأيا ما يكن الحال فقد انفرد قطرب بهذا الرأى ولم يقل به من النحاة أحد سواه طبقا لما ذكره الزجاجى فى النص الذى أوردنه آنفا.
أما قول قطرب إن هناك أسماء تشترك فى الإعراب وتختلف فى المعانى، مثل الأسماء التى تعقب "إن" و"لكن" و"لعل" و"ليت"، وأسماء تتفق فى المعنى وتختلف فى الإعراب، مثل خبر "ما" النافية، الذى قد يجىء مرفوعا، وقد يجىء منصوبا، فالرد عليه هو أن المعنى الذى يقصده النحاة ليس هو التوكيد الذى فى "إن"، والرجاء الذى فى "لعل"، والتشبيه الذى فى "كأن"... إلخ، بل تحول الاسم من مبتدإ إلى اسم لهذه الحروف، أو أن يكون الاسم فاعلا، بمعنى أنه هو الذى يأتى بعد الفعل ويحقق الفعل أو يتحقَّق الفعل من خلاله، أو أن يكون مفعولا، بمعنى أنه هو الذى وقع عليه الفعل... إلخ. أما ما يقوله قطرب فيحتاج إلى عدد غير متوفر من الحركات، إذ أنى لنا بالحركات الكافية إذا ما خصصنا كل كلمة بإعراب يقتصر عليها فلا تشاركها فيه كلمة أخرى؟ وبالنسبة إلى ارتفاع الاسم الواقع بعد "ما" النافية وانتصابه فأمره غير ما فهمه قطرب، إذ الارتفاع من عمل قوم، والانتصاب من عمل قوم آخرين، والأولون هم التميميون، والآخرون هم الحجازيون. وبالمثل ليس فى ارتفاع المستثنى وانتصابه عند مجىء المستثنى منه منفيا حجة لقطرب، إذ إن سبب ارتفاعه هو أنه بدل من المستتثنى منه، وانتصابه سببه إخراجه من المستثنى منه. وهكذا ترى أن الاسم قد ارتفع لوجه، وانتصب لوجه آخر مختلف...
أما لو كانت غاية الإعراب مجرد الاتساع فى الحركة لرأينا الفاعل يرفع مرة، وينصب أخرى، ويجر ثالثة... وهكذا، إذ ما دامت الغاية هى الاتساع فلم اهتموا بالانضباط فى استعمال الحركات على النحو الذى نراه فى الإعراب؟ إن كلام قطرب معناه أن ما يقع الآن من جماهير المتعلمين ومن كثير من الكتاب من رفع المبتدإ والفاعل ونائب الفاعل مرة، ونصبها مرة، وجرها مرة كيفما اتفق، هو أمر لا غبار عليه، إذ به يتحقق الاتساع الذى أراده العرب من الإعراب، والسلام. ولقد وجدت إبراهيم مصطفى يقول هنا بما توصلت أنا أيضا إليه، إذ وصف قول قطرب الذى نقله عنه إبراهيم أنيس بأنه "رأىٌ يشرح ما بين الحركة والسكون، ولكنه يفضى إلى إبطال الإعراب وإلى التوسيع على القائل أن يحرك آخر الكلمة على ما يشاء فى كل موضع، وذلك ما لم يقبله أحد من النحاة. وما أظن قطربا كان وفيا لرأيه هذا إلى آخر ما يقتضيه" (إبراهيم مصطفى/ إحياء النحو/ ط2/ القاهرة/ 1413هـ- 1992م/ 51- 52).
ولنفترض أن ما قاله قطرب فى الأمثلة التى أوردها صحيح، فما نسبة ما ذكره إلى حجم علم النحو؟ إنه لقطرة من سيل، وإلا فكيف نفرق بين "إن" الشرطية و"إن" النافية؟ أو كيف نفرق بين "لام الأمر" و"لام التعليل"؟ أو كيف نفرق بين "واو رب" و"واو الاستئناف"؟ أو كيف نفرق بين هذه و"واو العطف"؟ أو "كيف نفرق بين هذه الواو و"وواو المعية"؟ أو كيف نفرق بين "فاء العطف" و"فاء السببية"؟ وهذا كله، ولم نتجاوز الحروف إلى الأسماء والأفعال، بل لم نستقص كل الحروف، بل اجتزأنا ببعضها ليس إلا. ولنفترض ثانية أن ما قاله قطرب صحيح، أفلا يستحق الحرص على جمال النظام والتناسق والاطراد أن تكون هناك قواعد تحكم الإعراب بحيث يتوفر لكلامنا العنصر الجمالى بدلا من أن نكتفى بتأدية المعنى تأدية إجمالية أو تأدية مقاربة؟ إن بعض الناس يكتفون بتناول الطعام على قارعة الطريق مفترشين الأرض واضعين طعامهم أمامهم عليها. وهم بذلك يكونون قد أكلوا، ولم ينقصهم من ناحية الأكل شىء. بل إن الإنسان لن ينقصه أيضا من هذه الناحية شىء لو دُلِق الطعام أمامه على الأرض فانكبّ عليه يلعقه بلسانه كما يصنع الحيوان ذوو الأربع. إلا أن الشخص المتحضر لا يكتفى بهذا، بل يخلق لنفسه خَلْقًا طائفة من الشعائر لدن تناول الطعام من موسيقى وزهور وشموع وشوكة وسكين وأطباق ثمينة وخادم يلبس تاجا قماشيا أبيض فوق رأسه ويتمنطق بحزام أحمر. ثم إنه يتناول ألوان الطعام لونا بعد لون حسب ترتيب معين لا دفعة واحدة... وهكذا. فإذا صح كلام قطرب فليكن الإعراب، فى جانب منه، مثل هذا.
والطريف أن قطربا، رغم كل هذا، كان يقول بما يقول به النحاة الآخرون من الإعراب، فكأنه لم يُؤْثَر عنه شىء مما نقلناه عن الزجاجى منسوبا إليه. وهذه أمثلة على ما نقول: ففى إعراب قوله تعالى: "وإذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله" فى الآية 83 من سورة "البقرة" نقرأ فى تفسير "مفاتيح الغيب" ما يلى: "اختلفوا في موضع "يعبدون" من الإعراب على خمسة أقوال: القول الأول: قال الكسائي: رَفْعُه على "أن لا يعبدوا"، كأنه قيل: "أخذنا ميثاقهم بأن لا يعبدوا". إلا أنه لما أسقطت "أن" رفع الفعل كما قال طرفة:
ألا أيهذا اللائمي أَحْضُر الوغى * وأن أشهد اللذات، هل أنت مُخْلِدي؟
أراد: "أن أحضر"، ولذلك عطف عليه "أن". وأجاز هذا الوجه الأخفش والفَرّاء والزَّجّاج وقُطْرُب وعلي بن عيسى وأبو مسلم.
القول الثاني: موضعه رَفْعٌ على أنه جواب القسم، كأنه قيل: "وإذ أقسمنا عليهم لا يعبدون". وأجاز هذا الوجه المبرد والكسائي والفراء والزَّجّاج، وهو أحد قولي الأخفش. القول الثالث قول قطرب: أنه يكون في موضع الحال فيكون موضعه نصبًا، كأنه قال: أخذنا ميثاقكم غير عابدين إلا الله".
وفى إعراب قوله تعالى: "فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ" فى الآية 81 من سورة "التوبة" نقرأ فى نفس التفسير ما يأتى: "قوله: "خِلَـٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ" فيه قولان: الأول، وهو قول قطرب والمؤرج والزجاج، يعني مخالفة لرسول الله حين سار وأقاموا. قالوا: وهو منصوب لأنه مفعول له، والمعنى بأن قعدوا لمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم". وفى إعراب قوله تعالى: "فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ" فى الآية 87 من سورة "الكهف" نقرأ فى تفسير الشوكانى هذا النص: "قال النحاس: اختلف في معنى "فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ" على قولين: الأوّل مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى: أتاه الفسق لما أمر فعصى فكان سبب الفسق أمر ربه، كما تقول: أطعمه عن جوع. والقول الآخر قول قطرب إن المعنى على حذف المضاف، أي فسق عن ترك أمره".
وقطرب هذا الذى ينكر أن يكون لإعراب الكلمات أية دلالة معنوية هو نفسه الذى كان يرى مثلا أن "الواو" العاطفة تدل على الترتيب، بمعنى أن قولنا: "جاء زيد وعمرو" معناه أن زيدا جاء قبل عمرو لا أن كلا منهما جاء، والسلام، ولا يهم مَنْ جاء قبل مَنْ، أو أنهما جاءا معا (انظر السيوطى فى "همع الهوامع"). أى أن لها معنى، بغض النظر عن أنه قد خالف فى رأيه هذا ما يقوله غيره من النحويين من أنها تفيد مطلق الجمع. وبالمثل نرى قطربا (مثل الكوفيين) يجزم بـ"كيف" سواء اتصلت بها "ما" أو لم تتصل على ما يقول السيوطى فى هذا الكتاب. كذلك يروى قطرب، على ما أورده السيوطى فى كتابه السالف الذكر، أن ما بعد "بَلْهَ" (الذى ينصبه قوم على أنه مفعول لها على أساس أنها اسم فعل أمر) يُرْفَع لأن معناها: "كيف". ومنه قول الشاعر:
تَذَرُ الجماجمَ ضاحيًا هاماتُها * بَلْـــهَ الأَكُفُّ كأنّهــــا لم تُخْـــــلَقِ
ولهذا لم يكن الأمر مستغربا عندى حين قرأت أنه ألف كتابا فى النحو عنوانه "الجماهير". ولو لم يكن يرى فى الإعراب ما يراه النحاة فلماذا صنف مثل ذلك الكتاب؟ ويحكى أبو المحاسن التنوخى فى ترجمته لقطرب فى "تاريخ العلماء النحويين" ظروف تصنيفه قائلا: "كان سبب تصنيف هذا الكتاب أن الرشيد قال له يوما: كيف تُصَغِّرُ الدُنيا؟ فقال: هي مصغرة يا أمير المؤمنين. فقال له: اعمل كتابا لعبد الله ومحمد، فإنهما من أحوج الورى إليه. فعمله، وليس بالطائل". وله أيضا كتاب فى "إعراب القرآن" طبقا لما جاء خلال ترجمتة السيوطى له فى "بغية الوعاة"، وهو أمر له دلالته فيما نحن بسبيله.
والآن هل الكلام الذى حَبَّرَه د. إبراهيم أنيس يمكن أن يصمد للنظر؟ تعالوا نر. أولا: إذا كان ما يقوله الدكتور صحيحا فلماذا ظلت طائفة من الكلمات مسكنة الأواخر، مثل "هَلْ، بَلْ، قدْ، قَطْ، عَنْ، مِنْ، مَنْ، كَمْ، كَىْ، لَدُنْ، أَوْ، َلَوْ، مُذْ، صَهْ، مَهْ، وَىْ، نَعَمْ، أَجَلْ، لَمْ، إِنْ، لنْ، أَنْ، لكنْ"، وكذلك الأفعال المضارعة المجزومة وأفعال الأمر كلها تقريبا.... وثانيا: لماذا جرى العرب على تحريك نهايات كل الكلمات الساكنة الأواخر كلما وصلوها بما بعدها سواء كان أول ما بعدها ساكنا أو متحركا؟ ثم على أى أساس كانوا ينوّعون حركة أواخر الكلمات؟ يقول د. أنيس إن بعض الحروف يناسبها حركة معينة تختلف عن الحركة التى تناسب بعض الحروف الأخرى. لكن الواقع أن هذا ليس بالأمر المطرد، وإلا لتنبه إليه علماؤنا القدامى وعرفوا السر وراءه ولكانوا إذن قد استراحوا وأراحوا ولم يُقْدِموا بغشم واعتساف على ما أقدموا عليه من اختراع هذا الذى يسمونه: "إعرابا"، بكل ما يتعلق به من تفريعات وتقعيدات وتعقيدات ووجع دماغ.
خذ مثلا حركة الهاء فى "عليه" لدن الوصل بساكن بعدها. إنها كسرة عند بعض القبائل، وضمة عند بعض القبائل الأخرى. والضم موجود مثلا فى قوله تعالى فى إحدى قراءات الآية العاشرة من سورة "الفتح": "عاهَدَ عليهُ اللهَ". كما أن الحرف الأخير من فعل الأمر المضعف الآخر فى حالة الإبقاء على إدغامه ودخول هاء الغائب عليه يحرَّك لدن بعض القبائل بالكسر، ولدن غيرها بالفتح، ولدن ثالثة بالضم. وكلهم بحمد الله عرب، فيقال: مُدَّهُ يا فلان، ومُدِّهِ، ومُدُّهُ. أى أن كل الحركات جائزة هنا. وفى تنوين العلَم الموصوفِ بابنٍ مضافٍ إلى علَم، نحو: محمدٌ بن عبد الله تحرك نون التنوين الساكنة: إما بالكسر على أصل التخلص من التقاء الساكنين، وهو الأكثر، وإما بالضم. ويجوز الضم والكسر فى واو الجماعة المفتوح ما قبلها، نحو: "اخْشَوُا الله" و"اخْشَوِا اللهَ".
كذلك كيف يفسر سيادته اختلاف نوع الحركة فى أواخر الكلمات أحيانا من الفصحى إلى العامية؟ فمثلا حين تلتقى فى الفصحى سكنة نون "مِنْ" بسكنة بعدها نفتح النون، مثل: "مِنَ الباب"، على حين أننا نكسر هذه النون فى العامية فنقول: "منِ الباب". ونحن فى الحالين عرب لم يتغير فينا شىء.
وثالثا: لو كان هذا الذى يقوله الدكتور صحيحا لَكُنّا لا نرى إعرابا إلا حيث يلتقى ساكنان. أليس الإعراب هو امتداد تحريك أواخر الكلمات، وأواخر الكلمات لم تكن تتحرك إلا حين تلتقى بساكنٍ فى أوائل الكلمات التالية لها؟ لكننا ننظر فنرى أن الإعراب، الذى هو عنده امتداد لتحريك أواخر الكلمات فى الوصل، موجود فى كل حال: سواء التقى ساكنان أو لم يكن هناك مثل ذلك الالتقاء. فما قوله فى هذا؟ ورابعا: لو كان ما يقوله صحيحا، فلماذا لم يجر الإعراب على القاعدة المتهالكة التى يدعيها، قاعدة مناسبة الحركات المعينة لحروف معينة؟ إن الإعراب لا يبالى بهذا الكلام المتهافت، بل يجرى على قواعد أخرى منضبطة لا علاقة بينها وبين الحرفين المتتاليين فى آخر الكلمة السابقة وأول الكلمة اللاحقة على ما هو معروف. وخامسا: ترى كيف يعلل الدكتور تفريق العرب بين ما يسمى بـ"المعرب" وما يسمى بـ"المبنىّ" إذ يأتون إلى آخر الألفاظ التى تنتمى للمبنىّ ويبقونها على وضع واحد، على حين ينوعون حركة آخر الكلمات المنتمية إلى المعرب؟ ألا إن هذه لضربة قاصمة لنظريته الضحلة التى لا أدرى أى شيطان أوحى بها وسوَّل الكتابة فيها والدعوة إليها والمنافحة عنها والعمل على تسويقها؟ وسادسا: لماذا كان هناك تنوين؟ وما وجه الحاجة إليه بناء على نظرية الدكتور؟ إن وجود التنوين ليمثل، فى ضوء نظرية الدكتور، مفارقة عجيبة. كيف؟ أليس يقول إن الكلمات العربية كانت كلها فى الأصل ساكنة الأواخر، ثم حُرِّكَتْ تلك الأواخر عند التقاء الساكنين؟ فلماذا لم يكتف العرب فى هذه الحالة بتحريك أواخر الكلمات دون تنوين وأصروا بدلا من ذلك على الإتيان بالتنوين الذى هو إضافة سكون
القرآن لم يعرف الإعراب إلا بعد قرن من وفاة الرسول!
د. إبراهيم عوض
لا أستطيع أن أتذكر الآن فى أية ظروف قرأتُ كتاب د. إبراهيم أنيس: "من أسرار اللغة" وأنا طالب فى الجامعة فى النصف الثانى من ستينات القرن الماضى أيام كنت شابا صغيرا ينقل خطواته الأولى على طريق البحث العلمى، ولكنى أستطيع بسهولة أن أتذكر أننى لم أكن أنتهى من عنصر من عناصر بحث الدكتور عن أصل الإعراب فى لغتنا الشريفة، الذى يشكل فصلا من فصول ذلك الكتاب، حتى ينبثق فى عقلى للتو الرد على ذلك العنصر، إذ بدا لى الأمر كله سخيفا متهافتا، ومسيئا أيضا كما سوف يتضح فيما يلى من صفحات. صحيح أن دراستى هذه التى يطالعها القارئ العزيز الآن تحتوى على أشياء وتفصيلات لم تجر لى وقتذاك فى بال، إلا أن بعض الخطوط الرئيسية فى هذه الدراسة هى صدى لما ثار فى ذهنى أوانئذ. وحين دعانى صديقى وزميلى الأستاذ الدكتور محمد الحملاوى كعادته إلى الاشتراك فى مؤتمر تعريب العلوم هذا العام (1431هـ- 2010م) صحا منى العزم فجأة على معاودة القراءة فى بحث د. أنيس والكتابة عنه، فأنا أرى أن مثل تلك البحوث لا تكتب عادةً عفو البال، بل غالبا ما تكون لها أبعاد قد تدقّ فى أوليات أمرها فلا تلحظها العين لدى ميلادها، ثم إذا ما مرت السنون انفجرت كالقنابل الموقوتة.
والآن باسم الله الكريم نبدأ، فنعرف بالدكتور أنيس قبل الدخول فى موضوعنا، ونقول: وُلِد د. إبراهيم أنيس بالقاهرة في 1324 هـ- 1906م، والتحق بدار العلوم، وتخرَّج منها سنة 1930م ليعمل مدرّسا في المدارس الثانوية. ثم من جامعة لندن حصل على البكالوريوس سنة 1939م، فالدكتوراه سنة 1941م. وبعد عودته من أوروبا عمل مدرسا في كلية دار العلوم، وبعدها في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية حيث أنشأ بها معمل صوتيات. ثم عاد ثانية إلى دار العلوم، وترقّى في وظائفها إلى أن أصبح أستاذا ورئيسا لقسم اللغويات. ثم تولَّى العمادة وأُعْفِيَ منها بعد مدة، ليليها مرة أخرى، إلى أن قدم استقالته. وقد اختير أنيس خبيرا بمجمع اللغة العربية عام 1958م، ثم نال عضوية المجمع بعدها بثلاث سنوات. وهو أخو د. عبد العظيم أنيس، وابن عمة الممثل فؤاد المهندس، بل إنه هو نفسه مارس التمثيل وهو طالب بالجامعة. وله فى المجلات العربية عدد من البحوث والمقالات اللغوية، أما كتبه فمنها: "الأصوات اللغوية"، و"من أسرار اللغة"، و"موسيقى الشعر"، و"في اللهجات العربية"، و"دلالة الألفاظ"، و"مستقبل اللغة العربية المشتركة"، و"اللغة بين القومية والعالمية". وقد لبى الرجل نداء خالقه فى 20 جمادى الآخرة 1397 هـ- 8 يونيو 1977م.
وللدكتور أنيس دعوى غاية فى العجب أثبتها فى كتابه: "من أسرار اللغة" تحت عنوان "قصة الإعراب" ملخصها أن العرب لم يكونوا يعرفون الإعراب قبل نهاية القرن الأول وبداية القرن الثانى للهجرة، وأنهم كانوا يسكِّنون أوخر الكلمات دائما، اللهم إلا إذا التقى ساكنان يقع أولهما فى آخر كلمة، ويقع الثانى فى بداية الكلمة التالية، وأن النحويين المسلمين هم الذين اخترعوا ذلك الإعراب اختراعا بعد أن لم يكن فكان، وأن السبب فى ذلك أنهم ربما رَأَوْا تغير أواخر الأسماء فى اللغة اليونانية فحفزهم الأمر إلى أن يكون لهم فى نحوهم شىء مشابه لما عند اليونان، فكان ذلك الإعراب (انظر "من أسرار اللغة"/ ط2/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 182 وما بعدها على مدار بضع عشرات من الصفحات).
ومعنى ذلك أن القرآن قد تم العبث به وتحويله عن صورته الأصلية التى كان عليها إلى صورة أخرى لم يكن له بها قبل القرن الثانى الهجرى أىّ عهد. وفى هذا رَجْعُ أصداءٍ لما قاله بعض المستشرقين من أن القرآن حين نزل فى البداية لم يكن مسجوعا، ثم إن النبى بعد هذا قد غيره بحيث صار ذا فواصل (انظر ما كتبه المستشرق بوهل فى مادة "قرآن" فى "The Encyclopaedia of Islam: دائرة المعارف الإسلامية"/ ط1. وانظر تفنيدى لهذا الزعم المتساخف فى كتابى: "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل"/ مكتبة البلد الأمين/ القاهرة/ 1419هـ- 1989م/ 7- 9). كذلك ففى بحث أنيس، فيما يبدو، رَجْعُ أصداء أخرى مما جاءت الإشارة إليه فى مقدمة ترجمة إدوار مونتيه الفرنسية للقرآن من أن ثمة بحثا كان قد كتبه ك. فولرز قبل ذلك بقليل عن "اللغة الشعبية المكتوبة فى الجزيرة العربية قديما" يقول فيه إن القرآن الكريم لم يكن مكتوبا قط على النحو الذى نقرؤه اليوم، ولكنه فى أقدم نسخة منه كان مكتوبا بلهجة مشابهة للهجات الحالية (انظر هذه العبارة فى ترجمتى للمقدمة المذكورة/ ص134 من كتابى: "المستشرقون والقرآن"/ دار القاهرة/ 1423هـ- 2003م). ولتوضيح رأى فولرز أسوق ما وجدته فى مقال كتبه Claude Gilliot بعنوان "Origins and Definitions of the Koranic Text". قال: "K. Vollers considers that the origin of the Koranic language is to be found in a dialect of western Arabia, in Mecca or Medina, reviewed in order to adapt it to the language of ancient Arab poetry". (وهذا رابط المقال على المشباك لمن يريد الرجوع إليه لقراءته والتحقق مما فيه بنفسه:- http://www.miradaglobal.com/index.ph...emid=9&lang=en). وهى لهجة غير معربة (uninflected Volkssprachen) كما أكد فولرز، المستشرق الألمانى الذى كان مديرا لدار الكتب فى يوم من الأيام وأحد الداعين الملتهبين إلى نبذ الفصحى والركون إلى العامية (انظر "A Comparative Lexical Study of Qur'ānic Arabic" لصاحبه Martin R. Zammit (ط. Brill, 2001, P. 40).
ولمزيد من التوضيح لفكرة فولرز أقتطف هذا النص من دراسة لـKees Versteegh منشورة بتاريخ 2 سبتمبر 2005م فى موقع "Islamic Network" عنوانها: "The Language of the Arabs":
"In his book Volkssprache und Schriftsprache im alten Arabien (’Vernacular and written language in Ancient Arabia’, 1906), Vollers claimed that under the surface of the official text of the Qur’an there were traces of a different language, which were preserved in the literature on the variant readings of the text. He called this underlying language Volkssprache and identified it with the colloquial language of the Prophet and the Meccans. In his view, this colloquial language was the precursor of the modern Arabic dialects. The official text of the Qur’an, however, was revealed in a language that was identical with the poetic language of the Nagd, called by Vollers Schriftsprache . The differences between the two ‘languages’ included the absence of the glottal stop in Meccan Arabic, as well as the elision of the indefinite ending n (nunation) and the vocalic endings. Vollers concluded that there had been an original text of the revelation in the colloquial language of the Prophet; during the period of the conquests, this text was transformed into the language of poetry. The motive behind this transformation was, he asserted, the wish to raise the language of the Qur’an to the level of that of the poems".
ولمزيد آخر من التوضيح لفكرة فولرز أنقل أيضا النص التالى من فصل بعنوان "اللغة العربية في الجاهلية" وجدته على موقع جامعة الملك سعود غفلا من اسم صاحبه ومن اسم الكتاب الذى اقتُطِع منه. يقول النص، الذى يبدو وكأنه ترجمة للنص الإنجليزى السابق: "في كتابه: "Volkessprache und schriftsprache im alten Arabien: اللهجات ولغة الكتابة في العربية القديمة" (1906) يَدَّعي فولرز أن تحت التركيب السطحي للقرآن هناك آثار للغة مختلفة، وهي محفوظة في كتب القراءات القرآنية، وقد سمى تلك الآثار باسم volkessprache (الدارجة)، وقال إنها دارجة أهل مكة التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يتكلمها. ويرى فولرز أيضًا أن تلك الدارجة هي السابقة الحقيقية للهجات العربية الحديثة، ومع ذلك فإن القرآن تنزل بلغة مطابقة للغة الشعر الجاهلي النجدية، وهي اللغة التي سماها فولرز: "schriftsprache"، وتتضمن الفروق بين النمطين في رأي فولرز اختفاء الهمزة والتنوين من اللهجة الحجازية، وكذلك غياب التصريف الإعرابي. وخلص فولرز إلى أنه كان هناك نص قديم عامي للقرآن الكريم بلهجة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن هذا النص الدارج تم تحويله إلى لغة الشعر الجاهلي في فترة الفتوحات الإسلامية. يقول فولرز إن الدافع وراء هذا التحويل (أو قل: الترجمة) كان الرغبة في رفع لغة القرآن لمستوى لغة الشعر الجاهلي. ويستمر ليقول إن المسؤولين عن عملية الترجمة تلك كانوا حازمين فيما يخص تحقيق الهمزة والتصريف الإعرابي بالذات، وسمحوا لدون ذلك من السمات أن تظهر في نطق القرآن أو في القراءات البديلة في بعض الأحيان". فى ضوء هذا كله ألا يحق لنا أن نتساءل: من أين يا ترى أتى د. أنيس بمقالته فى عدم إعراب اللغة العربية فى البداية بما يترتب عليه من القول بأن القرآن المجيد لم يكن بالتالى معربا، ثم أُعْرِب فيما بعد؟
وإضافة إلى هذا فمن المعروف أن اللغة العربية لا تجرى فى بناء الجملة دائما على نظام ثابت أو شبه ثابت كاللغات الأوربية التى نعرفها: الفاعل أولا، فالفعل ثانيا، فالمفعول ثالثا، فشبه الجملة رابعا، بل هى لغة مرنة منذ أقدم نصوصها التى وصلتنا من الشعر والأمثال والخطب. فتارة يأتى الفاعل فى بداية الكلام (وهو ما نسميه الآن: مبتدأ)، وتارة يأتى عقب الفعل كما هو الحال فى الجمل الاعتيادية التى لا يميزها شىء ولا ترنو إلى إحداث تأثيرات خاصة لا تستطيعها إلا جمل ذات نظام مختلف قليلا أو كثيرا عن المعتاد الرتيب، فيها تقديم أو تأخير أو حذف أو اعتراض... إلخ. وتارة يأتى الفاعل بعد المفعول به، بل بعده وبعد شبه الجملة والحال والتمييز وأى عنصر آخر يأتى سابقا عليه فى التراكيب المعتادة. وهذا مجرد مثال. فلو طبقنا هذا على القرآن فنرجو أن يقول لنا د. أنيس كيف كان على العرب فى عصر المبعث قبل أن يظهر الإعراب أن يفهموا تلك الجمل والعبارات القرآنية التى لا تجرى على النظام الوَتِيرِىّ الذى يحسنه كل أحد ولا يتميز عادة بشىء؟
هذا، وما أكثر ذلك النوع من الجمل والعبارات على عكس ما يزعم سيادته، إذ حصرها فى أمثلة معدودة كما هو الحال فى الآيات التالية: "فأوجس فى نفسه خيفة موسى"، "فلما جاء آل لوط المرسلون"، "أنَّى يحيى هذه الله بعد موتها"، "حضر يعقوب الموت"، "جاء أحدكم الموت"، "مس الإنسان ضرّ" (من أسرار اللغة/ 226- 227)، مما يسهل على المتلقى فهم معناه دون إعراب. ومع هذا فحتى لو صدقنا دعواه وقلنا إنه لا يوجد فى القرآن سوى هذه الأمثلة وأشباهها، فهل يسهل فهم معناها كما قال؟ إنه ليمكن أن يفهم بعض الناس من المثال الأول أن هناك من أوجس فى نفسه الخيفة التى أوجسها موسى على اعتبار أن "خيفة" مضاف، و"موسى" مضاف إليه. كما أن بعضهم يمكن أن يتصور أن "آل لوط" هم الذين جاؤوا المرسلين لا العكس. لكن وجود الإعراب سوف يحل المشكلة من جذورها ولن يترك بابا للَّبْس والخلط.
على أن الأمثلة التى ضربها الأستاذ الدكتور ليست كل الأمثلة التى يمكن الاستشهاد بها فى هذا السياق، بل هناك أمثلةٌ أخرى جِدُّ كثيرة. خذ مثلا قوله عز وجل: "مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ" (البقرة/ 105)، فكيف نفهم "المشركين" لو كانت بدون إعراب؟ أنقول إنها داخلة فى "الذين كفروا"، أى معطوفة على "أهل الكتاب"؟ أم هل نقول إنها خارجة عن "الذين كفروا"، ومعطوفة عليها لا على أهل الكتاب؟ وخذ عندك كذلك: "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ" (البقرة/ 127)، واسأل نفسك: ما موقع إسماعيل هنا؟ آشترك مع أبيه فى رفع البيت، أم مع البيت فى رفع أبيه له هو أيضا، إذ رَفَع البيت رفعا ماديا، ورَفَعَه هو رفعا معنويا؟ وخذ عندك ثالثا الآية التالية: "وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ" (البقرة/ 132)، وقل لى: هل وصَّى إبراهيم بنيه ووصى معهم يعقوبَ أيضا، فعندنا موصٍّ واحد؟ أم هل وصى إبراهيم بنيه، ووصى يعقوبُ بنيه هو أيضا، فعندنا إذن موصِّيان؟ وخذ عندك رابعا قوله تعالى: "رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ" (آل عمران/ 192)، فما المقصود به؟ هل المقصود أنك أنت يا رب الذى تدخل الناس النار، فقد أخزيتَ فلانا؟ أم هل المقصود أن من تدخله النار يا رب فقد أخزيتَه؟ لا يفصل فى الأمر هنا إلا ضبط آخر الفعل المضارع: ضَمًّا أو سكونًا على الترتيب. وخذ عندك قوله جل شأنه: "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا"، فكيف نفهم قوله: "ومن الأنعام حَمُولَةً وفَرْشًا" فى حالة غياب الإعراب؟ سوف يتبادر إلى الذهن أن المقصود هو أن الأنعام تُسْتَخْدَم حمولة وفرشا لا أن الله خلق لنا منها حمولة وفرشا. وخذ عندك سادسا هاتين الجملتين من الآية الأولى من سورة "الأعراف" وتخيلهما بدون إعراب: "كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ"، ثم قل: هل المعنى هو أنه "لن يكون فى صدرك حرج"، على أساس أنه نفى؟ أم هل المراد: "لا ينبغى أن يكون فى صدرك حرج"، بوصفه نهيا؟ وخذ عندك أيضا هذه الآية: "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ"، فلولا أن "الإنجيل" مكسورة الآخر لظننا أن المعنى المراد هو أن الإنجيل بداية جملة جديدة، وأنه هو الذى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحل الطيبات ويحرم الخبائث ويضع الإصر... إلى آخره.
أما تهوين د. أنيس من شأن الروايات التى تتحدث عن واضعى النحو والأسباب التى حملتهم على التفكير فى ذلك، رغبة منه فى التشكيك فى وجود النحو أصلا قبل القرن الثانى للهجرة، ومنها الرواية التى تقول إن بنت أبى الأسود الدؤلى قالت له يوما: "ما أحسنُ السماءِ"، فكان جوابه: "أحسنُها نجومها"، فأفهمته أنها لا تسأل عن أجمل شىء فى السماء، بل تتعجب من جمالها، وكذلك إنكاره أن يكون أبو الأسود قد سمع قارئا يقول: "أن الله برىءٌ من المشركين ورسولِه"، فارتاع وفكر فى وضع النحو، أما تهوينه من شأن هاتين الروايتين وأمثالهما ووصْفه لها بأنها مجرد قصص مسلية طريفة (من أسرار اللغة/ 228) فلا أستطيع أن أرافئه عليه، بل أرى أنه حتى لو ثبت أنها روايات مصنوعة فمن الممكن جدا أن تقع، بل هى تقع كثيرا، إن لم يكن بنصها فعلى شاكلتها. وعلى هذا فليس ثم معنى للتهوين من شأن مثل تلك الروايات أبدا.
ومما يترتب على فكرة إبراهيم أنيس الشاذة أن الشعر العربى لم يكن موزونا قبل ذلك التاريخ، ثم لما اخْتُرِع النحو تصادف أن اتَّزَن الشعر بعدما كان مكسورا لا يعرف الإيقاع المنتظم. إن الدكتور، عند توضيح فكرته هنا، يأتى إلى بضعة أبيات اختارها عمدا فيحاول أن يقنعنا أنها عند التزام السكون فى أواخر كلماتها لن تضار كثيرا من ناحية الإيقاع الموسيقى. لكنه لم ينكر أن هناك خللا إيقاعيا قد حدث، وكلّ ما هنالك أنه أراد التهوين من شنعه. ثم إنه لم يقل لنا: ماذا عن تلك المصادفة السعيدة التى على أساسها قد استقام الشعر الجاهلى عند دخول الإعراب على لغة العرب بعدما كان بدونه ملتويا فى إيقاعه وموسيقاه؟ على كل حال سوف أورد الآن بضعة أبيات أخرى، ولتكن من معلقة امرئ القيس لنرى معا كيف يكون حالها من دون الإعراب، ثم كيف يكون حالها به. وها هى ذى الأبيات المذكورة ساكنة أواخر الكلمات عارية عن الإعراب:
فَمِثلُكْ حُبلى قَد طَرَقتْ وَمُرضِعْ * فَأَلهَيتُها عَن ذي تَمائِمْ مُحوِلْ
وَيَومْ عَلى ظَهرِ الكَثيبِْ تَعَذَّرَتْ * عَلَيَّ وَآلَتْ حَلفَةْ لَم تُحَلَّلْ
وَبَيضَةْ خِدرْ لا يُرامْ خِباءْها * تَمَتَّعتُ مِن لَهوْ بِها غَيرْ مُعجَلْ
تَجاوَزت أَحراسْ إِلَيها وَمَعشَرْ * عَلَيَّ حِراصْ لَو يُسِرّونَ مَقتَلي
فَقالَت: يَمينَ اللَهْ ما لَكْ حيلَةْ * وَما إِن أَرى عَنكَ الغِوايَةْ تَنجَلي
خَرَجت بِها أَمشي تَجُرّْ وَراءْنا * عَلى أَثَرَينا ذَيلْ مِرْطِ مُرَحَّلْ
إِذا اِلتَفَتَت نَحوي تَضَوَّعْ ريحْها * نَسيمَ الصَبا جاءَت بِرَيّا القَرَنفُلْ
بالله عليك أهذا شعر؟ بالله عليك أهذه موسيقى؟ إننى لأشعر أننا جالسون على مِصْطَبَة فى قرية من القرى نستمع إلى كلام سخيف يظنه صاحبه العامىّ الفَدْم شعرا، وما هو من الشعر فى دِقٍّ أو جِلٍّ. ولا تنس أيضا القافية التى اضطربت اضطرابا رهيبا بسبب جرينا على تسكين أواخر كلماتها طبقا لنظرية أنيس، إذ وجدناها مرة تنتهى بالسكون، وأخرى بمدة الياء، وهو ما لا أدرى كيف يحله لنا د. أنيس بنظريته الـمُخَرْبَقَة. أما القصيدة على وضعها بعد الإعراب (المخترَع فى زعم د. أنيس) فهى من الإبداع الفنى فى الذروة:
فَمِثلِكِ حُبلى قَد طَرَقتُ وَمُرضِعٍ * فَأَلهَيتُها عَن ذي تَمائِمَ مُحْوِلِ
وَيَوماً عَلى ظَهرِ الكَثيبِ تَعَذَّرَت * عَلَيَّ وَآلَت حَلفَةً لَم تُخَلَّلِ
وَبَيضَةِ خِدرٍ لا يُرامُ خِباؤُها * تَمَتَّعتُ مِن لَهوٍ بِها غَيرَ مُعجَلِ
تَجاوَزتُ أَحراساً إِلَيها وَمَعشَراً * عَلَيَّ حِراصًا لَو يُسِرّونَ مَقتَلي
فَقالَت يَمينَ اللَهِ ما لَكَ حيلَةٌ * وَما إِن أَرى عَنكَ الغِوايَةَ تَنجَلي
خَرَجتُ بِها أَمشي تَجُرُّ وَراءَنا * عَلى أَثَرَينا ذَيلَ مِرطٍ مُرَحَّلِ
إِذا اِلتَفَتَت نَحوي تَضَوَّعَ ريحُها * نَسيمَ الصَبا جاءَت بِرَيّا القَرَنفُلِ
فانظر، يا رعاك الله، إلى هذه المفارقة: كيف أن الشعر الجاهلى، ومثلُه فى ذلك الشعر الإسلامى والأموى، وربما بعض العباسى بناء على نظرية الدكتور أنيس، إن تركتَه على وضعه الأصلى، أى إن اتبعت الحق من وجهة نظر الدكتور، لم تجد بين يديك إلا هذه الفقاقيع السخيفة البائرة التى لا تنتمى إلى الشعر ولا تساوى شيئا فى ميدان الفن والإبداع والموسيقى، أما إن اتبعت الباطل حسبما تهرف نظرية الأستاذ الدكتور، وأجريت هذا الشعر على النظام الإعرابى (المخترع على حد زعمه) تحَصَّلَ لك فى الحال ذلك الإبداع الفاتن. فيا لها من مصادفة عجيبة عجب المنهج العلمى الذى استخدمه الأستاذ الدكتور فى بحثه العبقرى الذى لا يخر الماء: أن تستقيم أمور الشعر العربى القديم على الباطل، وتلتوى مع الحق. ومع هذا يصر إبراهيم أنيس على أن يركب دماغه ويزعم أن العربية لم تكن تعرف الإعراب إلا بعد الإسلام بقرن أو يزيد. عجايب!
وهكذا يتبين لنا أنْ لو كانت العربية ساكنةَ أواخر الكلمات دائما فلا تتحرك تلك الأواخر إلا عند التقاء ساكنين لما كان الشعر الجاهلى والإسلامى والأموى وشطرا غير قليل من الشعر العباسى موززنا، وأن تلك الأشعار، وياللعجب، قد اكتسبت بهذا التغيير الطارئ العجيب جمالا وانتظمت موسيقاه انتظاما لم تكن تعرفه من قبل؟ فأية مصادفة حسناء هذه؟ ثم جاء الخليل بن أحمد فتم الحسن على يديه وبلغ الغاية، إذ استطاع أن يستخرج من هذا النظام الإيقاعى القائم على المصادفة علمًا للعروض والقافية مستقيما غاية الاستقامة، دقيقا منتهى الدقة. على أن الأمر لا يقف هنا، بل إن الشعر الجاهلى، بدون الإعراب، ليستغلق فى كثير من الأحيان على قارئيه ومستمعيه بسبب ما فيه من تقديم وتأخير للكلمات عن مواضعها أو الإتيان بجمل وعبارات اعتراضية، مما لا يزيل غموضَه ولَبْسَه إلا الإعراب، الذى لم يكن موجودا فى ذلك الحين طبقا لفكرة الأستاذ الدكتور المتهايلة.
ومعنى ذلك ثالثا أن الأمة كلها قد تواطأت على الكذب، إذ زعم الزاعمون من علمائها النحويين أن العرب كانوا يعرفون الإعراب منذ وقت طويل قبل الإسلام، ووافقتهم الأمة كلها على هذا: وافقتهم بالإيجاب فرددت هذه المقولة معهم كذبًا منها ومَيْنًا، أو بالسلب فسكتت على هذه الكذبة البلقاء وتركتها تروج وتسود فلا يعود ثم موضع للفكرة الحقيقية بعد هذا أبدا. أما إذا لم ترد، أيها القارئ، أن تَصِم الأمةَ الإسلاميةَ كلها بالكذب والتواطؤ على الكذب فيمكنك أن تقسمها فريقين: فريق من الكذابين الوقحين، وفريق آخر من البله المعاتيه الذين ابتلعوا طعم تلك الكذبة البلقاء دون أن يفتحوا فمهم بكلمة لأنهم بله معاتيه. ومتى كان البله المعاتيه يفقهون شيئا أو يتنبهون إلى شىء؟ وهذا كله يشبه ما طلع علينا به عام 1926م المستشرق البريطانى ديفيد صمويل مرجليوث حين زعم أنه لم يكن هناك شعر جاهلى ولا إسلامى قط، وأن هذا الشعر الذى ينتمى إلى هذين العصرين إنما صنع صنعا فى العصر العباسى. وقد رددتُ على سخفه بذات الطريقة التى فندتُ بها مزاعم إبراهيم أنيس فى الفقرة الحالية (انظر كتابى: "أصول الشعر العربى- ديفيد صمويل مرجليوث: ترجمة وتعليق ودراسة/ الفصول الخاصة بدراسة مقال مرجليوث). وبالمناسبة فإن موقف أنيس من كتاب فولرز يشبه إلى حد بعيد موقف طه حسين من بحث مرجليوث، إذ أخذه ومطه وأضاف إليه كثيرا من التفاصيل وحور فيه بعض الشىء، ثم أصدره كتابا يحمل اسمه هو كتاب "فى الشعر الجاهلى".
ومن المضحك أن يستدير د. أنيس ويأتينا من الناحية الأخرى قائلا إنه ببحثه هذا العجيب لا يهدف إلى محوٍ أو تغييرٍ فيما تواضع الناس عليه من قواعد إعرابية، بل يهدف إلى البحث العلمى البحت مستعينا بأحدث الآراء فى علم الأصوات (من أسرار اللغة/ 230). وهو كلام أعجب من نظريته المتهافتة، إذ يشبه أن يأتى إنسان إلى زوج لا يجد فى زوجته ما يريب، بل يعيش معها عيشة هانئة سعيدة، فيعكر عليه صفوه بإثارة ريبته فيها، ويملأ نفسه بالهواجس والقلق ويحيل حياته جحيما مستعرا، ثم يستدير من الناحية الأخرى فيطمئنه بكلمتين لا تقدمان ولا تؤخران قائلا إنه لا يهدف من وراء هذا الذى قاله أن يدفعه إلى تطليق زوجته، حاشا لله، ولا إلى التزوج عليها بأخرى، أعوذ بالله، بل إلى دراسة الأمر دراسة علمية، ونعم بالله!
ثم إنك بعد ذلك تقلب صفحات البحث من اليمين للشمال، ومن الشمال لليمين، ومن فوق لتحت، ومن تحت لفوق، بحثا عن المراجع الحديثة المزعومة فلا تجد منها شيئا، بل كل ما تلقاه أينما اتجهت هو الكتب العربية القديمة التى اتهم الأستاذ الدكتور أصحابها أشنع الاتهامات، فلا تملك نفسك من أن تتساءل: ترى لِمَ يعتمد الأستاذ الدكتور على تلك الكتب إذا كان مؤلفوها بهذا السوء الذى نسبهم إليه ووصمهم به؟
أخشى ما أخشاه فى ظل ما نسمعه هذه الأيام من الدعوات المريبة إلى هجر الفصحى والركون إلى العامية أن يكون بحث د. أنيس هو قنبلة موقوتة وُضِعَتْ فى مكانها الحساس الخطير بهدوء شديد بعدما ألصق صاحبها عليها وُرَيْقَة تصنّفها على أنها كرة يلعب بها أطفال الأسرة الذين سيهلّون على الدنيا يوما ويَعِنّ لهم بعد أن يكبروا قليلا أن يجروا ويتقافزوا ويصرّفوا طاقاتهم المحبوسة، حتى إذا حل الميعاد انفجرت القنبلة فقتلت من قتلت، وبترت أطراف من بترت، وشوهت وجه من شوهت. إن فى مصر الآن من يسعى لجزر رقبة الفصحى، بل لجزر رقبة العروبة ذاتها وما يرتبط بالعروبة من أدب ودين وتشريع وتاريخ وأبطال وقيم. وهل هناك ما هو أحرى بإثارة الشك فى الفصحى والركون إلى العامية من أن يقال: إنه لم يكن هناك يوما إعراب، بل الأمر كله لا يعدو أن يكون تسرعا من قبل علمائنا وسوء فهم من جانبهم ظنوا به تحريك أواخر الكلمات تخلصا من التقاء الساكنين وما أشبه: إعرابا يشير إلى وظيفة الكلمة فى الجملة؟
إن د. إبراهيم أنيس يزعم أن العرب كانوا ينهون كل كلمات لغتهم بالسكون، لكنهم حين يصلون الكلام كانوا يحركون أواخر تلك الكلمات بهذه الحركة أو تلك، إلا أن هذه ليست حركات الإعراب، بل مجرد حركات صوتية تناسب الحرف الذى تتلوه من الكلمة السابقة أو تسبقه من الكلمة التالية. ترى كيف عرف هذا؟ الحق أنه لا توجدأدنى إشارة إلى أن العرب كانوا يسكنون أواخر كل الكلمات، فمن أين أتى سيادته بهذا الافتراض؟ أوكلما ثار فى خيالاتنا وأوهامنا خيال من الخيالات أو وهم من الأوهام نندفع إلى ترديده وكأنه حقيقة قاطعة لا ريب فيها؟ أوهذا هو العلم ومقتضيات المنهج العلمى؟ أيكفى أن يقول الواحد منا: "يبدو" أو"يظهر" أو "يخيَّل إلىّ" وما أشبه، ثم ينطلق فيسرد سخافاته سردا دون أدنى ذرة من تردد أو تفكر؟ يقول د. إبراهيم أنيس: "يظهر، والله أعلم، أن تحريك أواخر الكلمات كان صفة من صفات الوصل فى الكلام شعرا أو نثرا، فإذا وقف المتكلم أو اختتم جملته لم يحتج إلى تلك الحركات، بل يقف على آخر كلمة من قوله بما يسمى: السكون. كما يظهر أن الأصل فى كل الكلمات أن تنتهى بهذا السكون وأن المتكلم لا يلجأ إلى تحريك الكلمات إلا لضرورة صوتية يتطلبها الوصل" (من أسرار اللغة/ 204).
والملاحظ أن قاسم أمين قام قبل بضعة عقود من ظهور كتاب إبراهيم أنيس بحملة على الإعراب متهما إياه بأنه مصدر كل ما يقع من لحن في قراءة العربية، ومتخذا من عدم وجود الإعراب في بعض اللغات الأوربية حجة يدعم بها رأيه. وحَسْبَ رأيه ينبغى علينا نحن أهل العربية "أن نبقى أواخر الكلمات ساكنة لا تتحرك بأي عامل من العوامل". وبهذه الطريقة، وهي طريقة جميع اللغات الإفرنجية والتركية كما قال، يمكن، فى رأيه، حذف قواعد النواصب والجوازم والحال والاشتغال دون أن تضار اللغة أى ضرر لأن مفرداتها سوف تبقى كما هى. يقول هذا وكأن اللغة مجرد مفردات فحسب (ذكر قاسم أمين هذا الرأى فى كتابه: "كلمات" المنشور ضمن الأعمال الكاملة لقاسم أمين/ تحقيق د. محمد عمارة/ ط2/ دار الشروق/ 1989م/ 143).
إذن فالدكتور أنيس، حين كتب ما كتب، لم يكن ابن بجدتها، بل قد تسلم الراية من أمثال قاسم أمين وطوَّر ما قاله هو ومن يلفون لفّه كسلامة موسى، الذى هاجم فى كتابه الركيك الفكر الفاسد الذوق الذى يسمى: "اللغة العربية والبلاغة العصرية" لغة القرآن الكريم بكل وقاحة زاعما بالإفك والبهتان أولا أنها متخلفة، وثانيا أن الإعراب هو أهم أسرار تخلفها وتخلفنا نحن أيضا (انظر كتابه المذكور/ سلامة موسى للنشر والتوزيع/ 1964م/ 9، 11، 77 وما بعدها، 84، 93، 130 وما يليها، وبالذات 124...). يقول هذا وكأنها متخلفة فعلا، فى الوقت الذى كان يؤلف مقالاته وكتبه بها، وينظر إلى ما كتبه على أنه انعكاس لأرقى ما وصل إليه الفكر البشرى فى اللغات الأوربية التى كان يترجم منها ويلخص ما تشتمل عليه بغض النظر عن مدى دقته وصدقه وموضوعيته فى هذا التلخيص والعرض أو عدمه، مما يدل على أن كل ما قاله فى هذا الصدد هو كلام ماسخ سمج. نعم، إن ما كتبه أنيس لهو امتداد لما كتبه سلامة موسى وقاسم أمين وأمثالهما، وإن حاول أن تأخذ المسألة لديه مظهرا علميا رغم أن كل كلمة بل كل حرف فيما كتبه إنما يدابر العلم والمنطق والعقل مدابرة لا تفاهم فيها بتاتا.
ويورد د. أنيس نصا من قطرب النحوى العربى المعروف عن أصل الإعراب فى لغة العرب يقول فيه: "إنما أعربت العرب كلامها لأن الاسم في حال الوقف يلزمه السكون، فجعلوه في الوصل محرَّكا حتى لا يبطئوا في الإدراج، وعاقبوا بين الحركة والسكون وجعلوا لكل واحد أليق الأحوال به، ولم يلتزموا حركة واحدة لأنهم أرادوا الاتساع، فلم يضيقوا على أنفسهم وعلى المتكلم بحظر الحركات إلا حركة واحدة". هذا هو النص الذى نقله إبراهيم أنيس عن كتاب "إحياء النحو" لإبراهيم مصطفى، الذى نقله بدوره عن كتاب السيوطى: "الأشباه والنظائر". إلا أن النص الوارد فى كتاب الزجاجى: "الإيضاح فى علل النحو" أطول من ذلك وأكثر تفصيلا. وقد أورد الزجاجى رأى قطرب فى سياق كلامه عن إجماع النحويين على أن وظيفة الإعراب توضيح وظائف الكلمات فى الجملة. يقول الزجاجى (الإيضاح فى علل النحو/ تحقيق د. مازن المبارك/ ط3/ دار النفائس/ 1399هـ- 1979م/ 79- 81): "فإن قال قائل: فقد ذكرت أن الإعراب داخل فى الكلام، فما الذى دعا إليه واحتيج إله من أجله؟ الجواب ان يقال: إن الأسماء لما كانت تعتور المعانى فتكون فاعلة ومفعولة ومضافة ومضافا إليها ولم تكن فى صورها وأبنيتها أدلة على المعانى، بل كانت مشتركة، جُعِلَت حركات الإعراب فيها تنبئ عن هذه المعانى، فقالوا: ضرب زيد عمرا، فدلوا بتغيير أول الفعل ورفع زيد على أن الفعل ما لم يسم فاعله وأن المفعول قد ناب منابه. وقالوا: هذا غلام زيد، فدلوا بخفض زيد على إضافة الغلام إليه، وكذلك سائر المعانى جعلوا هذه الحركات دلائل عليها وكذلك سائر المعانى جعلوا هذه الحركات دلائل عليها ليتسعوا فى كلامهم، ويقدموا الفاعل إن أرادوا ذلك أو المفعول عند الحاجة إلى تقديمه، وتكون الحركات دالة على المعانى. هذا قول جميع النحويين إلا قطربا، فإنه عاب عليهم هذا الاعتلال وقال: لم يعرب الكلام للدلالة على المعانى والفرق بين بعضها وبعض لأنا نجد فى كلامهم أسماء متفقة فى الإعراب مختلفة المعانى، وأسماء مختلفة الإعراب متفقة فى المعانى: فمما اتفق إعرابه واتفق معناه قولك: إن زيدا أخولك، ولعل زيدا أخوك، وكأن زيدا أخوك. اتفق إعرابه واختلف معناه. ومما اختلف إعرابه واتفق معناه قولك: ما زيد قائما، وما زيد قائم. اختلف إعرابه واتفق معناه. ومثله: رأيته منذ يومين، ومنذ يومان. ولا مالَ عندك، ولا مالٌ عندك. وما فى الدار أحدا إلا زيدٌ، وما فى الدار أحدٌ إلا زيدا. ومثله: إن القوم كلَّهم ذاهبون، وإن القوم كلُّهم ذاهبون. ومثله: "إن الأمر كلَّه لله"، و"إن الأمر كلُّه لله". قرئ بالوجهين جميعا. ومثله: ليس زيد بجبانٍ ولا بخيلٍ، ولا بخيلاً. ومثل هذا كثير جدا مما اتفق إعرابه واختلف معناه، ومما اختلف إعرابه واتفق معناه. قال: فلو كان الإعراب إنما دخل الكلامَ للفرق بين المعانى لوجب أن يكون لكل معنى إعراب يدل عليه لا يزول إلا بزواله. قال قطرب: وإنما أعربت العرب كلامها لأن الاسم فى حال الوقف يلزمه السكون للوقف، فلو جعلوا وصله بالسكون أيضا لكان يلزمه الإسكان فى الوقف والوصل، وكانوا يبطئون عند الإدراج. فلما وصلوا وأمكنهم التحريك جعلوا التحريك معاقبا للإسكان ليعتدل الكلام. ألا تراهم بَنَوْا كلامهم على متحرك وساكن، ومتحرك وساكنين، ولم يجمعوا بين ساكنين فى حشو الكلمة ولا فى حشو بيت، ولا بين أربعة أحرف متحركة لأنهم فى اجتماع الساكنين يبطئون وتذهب المهلة فى كلامهم، فجعلوا الحركة عقب السكون. قيل له: فهلاّ لزموا حركة واحدة لأنها مجزئة لهم إذ كان الغرض إنما هو حركة تعتقب سكونا؟ فقال: لو فعلوا ذلك لضيّقوا على أنفسهم فأرادوا الاتساع فى الحركات وألا يحظروا على المتكلم الكلام إلا بحركة واحدة. هذا مذهب قطرب واحتجاجه. وقال المخالفون له ردا عليه: لو كان كما زعم لجاز خَفْض الفاعل مرة، ورَفْعُه أخرى ونَصْبُه، وجاز نَصْبُ المضاف إليه، لأن القصد فى هذا إنما هو الحركة تعاقب سكونا يعتدل به الكلام. وأى حركة أتى المتكلمُ أجزأته، فهو مخير فى ذلك. وفى هذا فساد للكلام وخروج عن أوضاع العرب وحكمة نظام كلامهم. واحتجوا لما ذكره قطرب من اتفاق الإعراب بأن قالوا إنما كان أصل دخول الإعراب واتفاق المعانى فى الأسماء التى تُذْكَر بعد الأفعال لأنه يُذْكَر بعدها اسمان: أحدهما فاعل، والآخر مفعول، فمعناهما مختلف، فوجب الفرق بينهما، ثم جُعِل سائر الكلام على ذلك. وأما الحروف التى ذكرها فمحمولة على الأفعال. ولكل شىء مما ذكر علة تمر بك إن شاء الله تعالى".
وواقع الأمر أن هناك فارقا ضخما بين ما قاله د. أنيس وما يقول به قطرب: فأنيس يزعم أن الإعراب لم يكن موجودا فى لغة العرب، ثم أوجده علماء النحو بعد الإسلام: فى نهاية القرن الأول الهجرى أو بداية القرن الثانى. أما قطرب فلم ينسب الإعراب إلى النحاة، بل إلى العرب. أى أن ذلك أمر أصيل عندهم، وليس شيئا طارئا كما يزعم أنيس. ومقصوده أن ظهور الإعراب أمر يقوم على التطور الطبيعى لا على القصد والتخطيط، واشترك فيه العرب جميعا كما يقع فى أية ظاهرة لغوية لا أنه انفرد به علماء النحو وحدهم واخترعوه اختراعا. وفضلا عن ذلك لم يشر قطرب من قريب أو من بعيد فى كثير أو قليل إلى أن النحاة عندنا تأثروا على نحو أو على آخر بالنحو اليونانى أو غير اليونانى.
ومن الواضح أن فيما قاله قطرب نسفًا لما زعمه د. أنيس، الذى عزا اختلاق الإعراب إلى النحاة، على حين أن قطربا، الذى كان قريب عهد بأولئك النحاة المظلومين، إذ كان من أهل القرن الثانى الهجرى، قد أرجعه كما رأينا إلى السليقة العربية. ولو كان الأمر على ما زعم أنيس لقد كان قطرب، ورأيه فى الإعراب هو ما نعرف، أول من يذكر هذا ويحتج به ويتخذه دليلا لا يُصَدّ ولا يُرَدّ على صحة ما قاله فى موضوع الإعراب. وأيا ما يكن الحال فقد انفرد قطرب بهذا الرأى ولم يقل به من النحاة أحد سواه طبقا لما ذكره الزجاجى فى النص الذى أوردنه آنفا.
أما قول قطرب إن هناك أسماء تشترك فى الإعراب وتختلف فى المعانى، مثل الأسماء التى تعقب "إن" و"لكن" و"لعل" و"ليت"، وأسماء تتفق فى المعنى وتختلف فى الإعراب، مثل خبر "ما" النافية، الذى قد يجىء مرفوعا، وقد يجىء منصوبا، فالرد عليه هو أن المعنى الذى يقصده النحاة ليس هو التوكيد الذى فى "إن"، والرجاء الذى فى "لعل"، والتشبيه الذى فى "كأن"... إلخ، بل تحول الاسم من مبتدإ إلى اسم لهذه الحروف، أو أن يكون الاسم فاعلا، بمعنى أنه هو الذى يأتى بعد الفعل ويحقق الفعل أو يتحقَّق الفعل من خلاله، أو أن يكون مفعولا، بمعنى أنه هو الذى وقع عليه الفعل... إلخ. أما ما يقوله قطرب فيحتاج إلى عدد غير متوفر من الحركات، إذ أنى لنا بالحركات الكافية إذا ما خصصنا كل كلمة بإعراب يقتصر عليها فلا تشاركها فيه كلمة أخرى؟ وبالنسبة إلى ارتفاع الاسم الواقع بعد "ما" النافية وانتصابه فأمره غير ما فهمه قطرب، إذ الارتفاع من عمل قوم، والانتصاب من عمل قوم آخرين، والأولون هم التميميون، والآخرون هم الحجازيون. وبالمثل ليس فى ارتفاع المستثنى وانتصابه عند مجىء المستثنى منه منفيا حجة لقطرب، إذ إن سبب ارتفاعه هو أنه بدل من المستتثنى منه، وانتصابه سببه إخراجه من المستثنى منه. وهكذا ترى أن الاسم قد ارتفع لوجه، وانتصب لوجه آخر مختلف...
أما لو كانت غاية الإعراب مجرد الاتساع فى الحركة لرأينا الفاعل يرفع مرة، وينصب أخرى، ويجر ثالثة... وهكذا، إذ ما دامت الغاية هى الاتساع فلم اهتموا بالانضباط فى استعمال الحركات على النحو الذى نراه فى الإعراب؟ إن كلام قطرب معناه أن ما يقع الآن من جماهير المتعلمين ومن كثير من الكتاب من رفع المبتدإ والفاعل ونائب الفاعل مرة، ونصبها مرة، وجرها مرة كيفما اتفق، هو أمر لا غبار عليه، إذ به يتحقق الاتساع الذى أراده العرب من الإعراب، والسلام. ولقد وجدت إبراهيم مصطفى يقول هنا بما توصلت أنا أيضا إليه، إذ وصف قول قطرب الذى نقله عنه إبراهيم أنيس بأنه "رأىٌ يشرح ما بين الحركة والسكون، ولكنه يفضى إلى إبطال الإعراب وإلى التوسيع على القائل أن يحرك آخر الكلمة على ما يشاء فى كل موضع، وذلك ما لم يقبله أحد من النحاة. وما أظن قطربا كان وفيا لرأيه هذا إلى آخر ما يقتضيه" (إبراهيم مصطفى/ إحياء النحو/ ط2/ القاهرة/ 1413هـ- 1992م/ 51- 52).
ولنفترض أن ما قاله قطرب فى الأمثلة التى أوردها صحيح، فما نسبة ما ذكره إلى حجم علم النحو؟ إنه لقطرة من سيل، وإلا فكيف نفرق بين "إن" الشرطية و"إن" النافية؟ أو كيف نفرق بين "لام الأمر" و"لام التعليل"؟ أو كيف نفرق بين "واو رب" و"واو الاستئناف"؟ أو كيف نفرق بين هذه و"واو العطف"؟ أو "كيف نفرق بين هذه الواو و"وواو المعية"؟ أو كيف نفرق بين "فاء العطف" و"فاء السببية"؟ وهذا كله، ولم نتجاوز الحروف إلى الأسماء والأفعال، بل لم نستقص كل الحروف، بل اجتزأنا ببعضها ليس إلا. ولنفترض ثانية أن ما قاله قطرب صحيح، أفلا يستحق الحرص على جمال النظام والتناسق والاطراد أن تكون هناك قواعد تحكم الإعراب بحيث يتوفر لكلامنا العنصر الجمالى بدلا من أن نكتفى بتأدية المعنى تأدية إجمالية أو تأدية مقاربة؟ إن بعض الناس يكتفون بتناول الطعام على قارعة الطريق مفترشين الأرض واضعين طعامهم أمامهم عليها. وهم بذلك يكونون قد أكلوا، ولم ينقصهم من ناحية الأكل شىء. بل إن الإنسان لن ينقصه أيضا من هذه الناحية شىء لو دُلِق الطعام أمامه على الأرض فانكبّ عليه يلعقه بلسانه كما يصنع الحيوان ذوو الأربع. إلا أن الشخص المتحضر لا يكتفى بهذا، بل يخلق لنفسه خَلْقًا طائفة من الشعائر لدن تناول الطعام من موسيقى وزهور وشموع وشوكة وسكين وأطباق ثمينة وخادم يلبس تاجا قماشيا أبيض فوق رأسه ويتمنطق بحزام أحمر. ثم إنه يتناول ألوان الطعام لونا بعد لون حسب ترتيب معين لا دفعة واحدة... وهكذا. فإذا صح كلام قطرب فليكن الإعراب، فى جانب منه، مثل هذا.
والطريف أن قطربا، رغم كل هذا، كان يقول بما يقول به النحاة الآخرون من الإعراب، فكأنه لم يُؤْثَر عنه شىء مما نقلناه عن الزجاجى منسوبا إليه. وهذه أمثلة على ما نقول: ففى إعراب قوله تعالى: "وإذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله" فى الآية 83 من سورة "البقرة" نقرأ فى تفسير "مفاتيح الغيب" ما يلى: "اختلفوا في موضع "يعبدون" من الإعراب على خمسة أقوال: القول الأول: قال الكسائي: رَفْعُه على "أن لا يعبدوا"، كأنه قيل: "أخذنا ميثاقهم بأن لا يعبدوا". إلا أنه لما أسقطت "أن" رفع الفعل كما قال طرفة:
ألا أيهذا اللائمي أَحْضُر الوغى * وأن أشهد اللذات، هل أنت مُخْلِدي؟
أراد: "أن أحضر"، ولذلك عطف عليه "أن". وأجاز هذا الوجه الأخفش والفَرّاء والزَّجّاج وقُطْرُب وعلي بن عيسى وأبو مسلم.
القول الثاني: موضعه رَفْعٌ على أنه جواب القسم، كأنه قيل: "وإذ أقسمنا عليهم لا يعبدون". وأجاز هذا الوجه المبرد والكسائي والفراء والزَّجّاج، وهو أحد قولي الأخفش. القول الثالث قول قطرب: أنه يكون في موضع الحال فيكون موضعه نصبًا، كأنه قال: أخذنا ميثاقكم غير عابدين إلا الله".
وفى إعراب قوله تعالى: "فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ" فى الآية 81 من سورة "التوبة" نقرأ فى نفس التفسير ما يأتى: "قوله: "خِلَـٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ" فيه قولان: الأول، وهو قول قطرب والمؤرج والزجاج، يعني مخالفة لرسول الله حين سار وأقاموا. قالوا: وهو منصوب لأنه مفعول له، والمعنى بأن قعدوا لمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم". وفى إعراب قوله تعالى: "فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ" فى الآية 87 من سورة "الكهف" نقرأ فى تفسير الشوكانى هذا النص: "قال النحاس: اختلف في معنى "فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ" على قولين: الأوّل مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى: أتاه الفسق لما أمر فعصى فكان سبب الفسق أمر ربه، كما تقول: أطعمه عن جوع. والقول الآخر قول قطرب إن المعنى على حذف المضاف، أي فسق عن ترك أمره".
وقطرب هذا الذى ينكر أن يكون لإعراب الكلمات أية دلالة معنوية هو نفسه الذى كان يرى مثلا أن "الواو" العاطفة تدل على الترتيب، بمعنى أن قولنا: "جاء زيد وعمرو" معناه أن زيدا جاء قبل عمرو لا أن كلا منهما جاء، والسلام، ولا يهم مَنْ جاء قبل مَنْ، أو أنهما جاءا معا (انظر السيوطى فى "همع الهوامع"). أى أن لها معنى، بغض النظر عن أنه قد خالف فى رأيه هذا ما يقوله غيره من النحويين من أنها تفيد مطلق الجمع. وبالمثل نرى قطربا (مثل الكوفيين) يجزم بـ"كيف" سواء اتصلت بها "ما" أو لم تتصل على ما يقول السيوطى فى هذا الكتاب. كذلك يروى قطرب، على ما أورده السيوطى فى كتابه السالف الذكر، أن ما بعد "بَلْهَ" (الذى ينصبه قوم على أنه مفعول لها على أساس أنها اسم فعل أمر) يُرْفَع لأن معناها: "كيف". ومنه قول الشاعر:
تَذَرُ الجماجمَ ضاحيًا هاماتُها * بَلْـــهَ الأَكُفُّ كأنّهــــا لم تُخْـــــلَقِ
ولهذا لم يكن الأمر مستغربا عندى حين قرأت أنه ألف كتابا فى النحو عنوانه "الجماهير". ولو لم يكن يرى فى الإعراب ما يراه النحاة فلماذا صنف مثل ذلك الكتاب؟ ويحكى أبو المحاسن التنوخى فى ترجمته لقطرب فى "تاريخ العلماء النحويين" ظروف تصنيفه قائلا: "كان سبب تصنيف هذا الكتاب أن الرشيد قال له يوما: كيف تُصَغِّرُ الدُنيا؟ فقال: هي مصغرة يا أمير المؤمنين. فقال له: اعمل كتابا لعبد الله ومحمد، فإنهما من أحوج الورى إليه. فعمله، وليس بالطائل". وله أيضا كتاب فى "إعراب القرآن" طبقا لما جاء خلال ترجمتة السيوطى له فى "بغية الوعاة"، وهو أمر له دلالته فيما نحن بسبيله.
والآن هل الكلام الذى حَبَّرَه د. إبراهيم أنيس يمكن أن يصمد للنظر؟ تعالوا نر. أولا: إذا كان ما يقوله الدكتور صحيحا فلماذا ظلت طائفة من الكلمات مسكنة الأواخر، مثل "هَلْ، بَلْ، قدْ، قَطْ، عَنْ، مِنْ، مَنْ، كَمْ، كَىْ، لَدُنْ، أَوْ، َلَوْ، مُذْ، صَهْ، مَهْ، وَىْ، نَعَمْ، أَجَلْ، لَمْ، إِنْ، لنْ، أَنْ، لكنْ"، وكذلك الأفعال المضارعة المجزومة وأفعال الأمر كلها تقريبا.... وثانيا: لماذا جرى العرب على تحريك نهايات كل الكلمات الساكنة الأواخر كلما وصلوها بما بعدها سواء كان أول ما بعدها ساكنا أو متحركا؟ ثم على أى أساس كانوا ينوّعون حركة أواخر الكلمات؟ يقول د. أنيس إن بعض الحروف يناسبها حركة معينة تختلف عن الحركة التى تناسب بعض الحروف الأخرى. لكن الواقع أن هذا ليس بالأمر المطرد، وإلا لتنبه إليه علماؤنا القدامى وعرفوا السر وراءه ولكانوا إذن قد استراحوا وأراحوا ولم يُقْدِموا بغشم واعتساف على ما أقدموا عليه من اختراع هذا الذى يسمونه: "إعرابا"، بكل ما يتعلق به من تفريعات وتقعيدات وتعقيدات ووجع دماغ.
خذ مثلا حركة الهاء فى "عليه" لدن الوصل بساكن بعدها. إنها كسرة عند بعض القبائل، وضمة عند بعض القبائل الأخرى. والضم موجود مثلا فى قوله تعالى فى إحدى قراءات الآية العاشرة من سورة "الفتح": "عاهَدَ عليهُ اللهَ". كما أن الحرف الأخير من فعل الأمر المضعف الآخر فى حالة الإبقاء على إدغامه ودخول هاء الغائب عليه يحرَّك لدن بعض القبائل بالكسر، ولدن غيرها بالفتح، ولدن ثالثة بالضم. وكلهم بحمد الله عرب، فيقال: مُدَّهُ يا فلان، ومُدِّهِ، ومُدُّهُ. أى أن كل الحركات جائزة هنا. وفى تنوين العلَم الموصوفِ بابنٍ مضافٍ إلى علَم، نحو: محمدٌ بن عبد الله تحرك نون التنوين الساكنة: إما بالكسر على أصل التخلص من التقاء الساكنين، وهو الأكثر، وإما بالضم. ويجوز الضم والكسر فى واو الجماعة المفتوح ما قبلها، نحو: "اخْشَوُا الله" و"اخْشَوِا اللهَ".
كذلك كيف يفسر سيادته اختلاف نوع الحركة فى أواخر الكلمات أحيانا من الفصحى إلى العامية؟ فمثلا حين تلتقى فى الفصحى سكنة نون "مِنْ" بسكنة بعدها نفتح النون، مثل: "مِنَ الباب"، على حين أننا نكسر هذه النون فى العامية فنقول: "منِ الباب". ونحن فى الحالين عرب لم يتغير فينا شىء.
وثالثا: لو كان هذا الذى يقوله الدكتور صحيحا لَكُنّا لا نرى إعرابا إلا حيث يلتقى ساكنان. أليس الإعراب هو امتداد تحريك أواخر الكلمات، وأواخر الكلمات لم تكن تتحرك إلا حين تلتقى بساكنٍ فى أوائل الكلمات التالية لها؟ لكننا ننظر فنرى أن الإعراب، الذى هو عنده امتداد لتحريك أواخر الكلمات فى الوصل، موجود فى كل حال: سواء التقى ساكنان أو لم يكن هناك مثل ذلك الالتقاء. فما قوله فى هذا؟ ورابعا: لو كان ما يقوله صحيحا، فلماذا لم يجر الإعراب على القاعدة المتهالكة التى يدعيها، قاعدة مناسبة الحركات المعينة لحروف معينة؟ إن الإعراب لا يبالى بهذا الكلام المتهافت، بل يجرى على قواعد أخرى منضبطة لا علاقة بينها وبين الحرفين المتتاليين فى آخر الكلمة السابقة وأول الكلمة اللاحقة على ما هو معروف. وخامسا: ترى كيف يعلل الدكتور تفريق العرب بين ما يسمى بـ"المعرب" وما يسمى بـ"المبنىّ" إذ يأتون إلى آخر الألفاظ التى تنتمى للمبنىّ ويبقونها على وضع واحد، على حين ينوعون حركة آخر الكلمات المنتمية إلى المعرب؟ ألا إن هذه لضربة قاصمة لنظريته الضحلة التى لا أدرى أى شيطان أوحى بها وسوَّل الكتابة فيها والدعوة إليها والمنافحة عنها والعمل على تسويقها؟ وسادسا: لماذا كان هناك تنوين؟ وما وجه الحاجة إليه بناء على نظرية الدكتور؟ إن وجود التنوين ليمثل، فى ضوء نظرية الدكتور، مفارقة عجيبة. كيف؟ أليس يقول إن الكلمات العربية كانت كلها فى الأصل ساكنة الأواخر، ثم حُرِّكَتْ تلك الأواخر عند التقاء الساكنين؟ فلماذا لم يكتف العرب فى هذه الحالة بتحريك أواخر الكلمات دون تنوين وأصروا بدلا من ذلك على الإتيان بالتنوين الذى هو إضافة سكون