كتبه :الشيخ/ محمد صالح المنجد
• جميع الأنبياء يدعون إلى أصل واحد
• لقد كان في قصصهم عبرة
• علاقة هارون بموسى نسباً وديناً
• ميزات هارون - عليه السلام - ومنزلته
• واجعل لي وزيراً من أهلي
• تكليف وتشريف
• موسى في موعد مع ربه
• رجوع موسى وموقفه مع أخيه من صنيع السامري
• هارون قدوة لاستثمار المواهب في الدعوة إلى الله
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
جميع الأنبياء يدعون إلى أصل واحد
فإن الإيمان بالأنبياء من أركان الإيمان، نؤمن بهم على التفصيل الذي ذكره الله تعالى وعلى الإجمال، قال الله تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}(سورة النساء:164).
والأنبياء الذين قص الله علينا خبرهم في كتابه العزيز نحواً من خمسة وعشرين نبياً، منهم هارون - عليه السلام - والأنبياء كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد))[رواه البخاري].
لقد شبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنبياء في أصل دينهم بأولاد الأب وقال: إن أمهاتهم شتى، فالأنبياء أصلهم واحد في شرائعهم، وهو التوحيد أو الإسلام العام، وأما شرائعهم فبينها فروقات ولذلك كانوا كأولاد الأب من أمهات شتى.
لقد كان في قصصهم عبرة
فالرسل متفقون في الدين الجامع للأصول الاعتقادية كالإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، والأصول العملية كتحريم الفواحش والإثم والبغي، فإنها محرمة في جميع الأديان ومن ذلك الزنا والربا.
وقد قص الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - قصصَ من سبقوه؛ لتكون عبرة وتثبتاً، كما قال الله تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}(سورة هود:120) ولذلك يكون وقوف المؤمن على قصص هؤلاء الأنبياء وأخذ العبرة منها شيئاً عظيماً يضيء له طريقه في حياته، فالنفوس تأنس بالاقتداء، وزمننا هذا فيه غربة كثيرة، وانحرافات مطبقة، ولذلك يكون الاستئناس بقصص الأنبياء مما يثبّت النفس على طريق الحق ويؤنسها في غمرة الباطل الكثير، وأيضاً فإن في قصص الأنبياء ما ينشط على العمل بالرغم من صعوبة الواقع، وكذلك يتأيَّد الحق بذكر شواهده، وكثرة من قام به على مرِّ التاريخ، ولذلك ذكر ربنا - جل وعلا - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أنبياء من آدم إلى وقته - عليه الصلاة والسلام - حيث سرد له من الأنبياء الموزعين على مر التاريخ من نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم وأولاده وذريته، وأنبياء بني إسرائيل الكثُر من يعقوب بن إسحاق، وولده يوسف، وكذلك الأسباط الذين هم من أنبياء بني إسرائيل، وكذلك موسى وهارون، ويحيى وزكريا، وسليمان، وداود، وأيوب، وقيل: إدريس، وكان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى - عليه السلام - الذي بُعِث قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى}(سورة يوسف:111)، وهذا الاطلاع على سيرهم يرسخ الحق في القلب؛ فإن تكاثر أدلته أرسخ له وأثبت وأعوَن على القيام به ونصره، وفي ذلك آيات وعبر.
علاقة هارون بموسى نسباً وديناً
وهارون - عليه السلام - من الأنبياء الذين لا يكاد يعرف كثير من الناس عنه شيئاً ولا يعرفون قدره، وهو نبي عظيم شقيق لموسى - عليه السلام -، وُلد في عام ترك قتل الأبناء، وأرسله الله تعالى مع موسى - عليه السلام - كما قال الله - عز وجل -: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ}(سورة المؤمنون:45-46).
لقد كان الفراق طويلاً جداً بين موسى وأخيه هارون في مبدأ الأمر، فإنه افترق عنه نحواً من عشر سنين ربما لا يدري عن خبره شيئاً، فإن موسى - عليه السلام - منذ ولادته فارق بيته، وأُخذ إلى قصر فرعون وتربى هنالك، ولم يرَ أمّه إلا عندما كانت تأتي لترضعه، ثم بعد ذلك لم يكن يرى أخاه هارون كما يريد؛ لأنه في قصر فرعون، وذاك في مساكن بني إسرائيل، ثم إن موسى قد هرب من هؤلاء إلى مدين، ولبث فيهم عشر سنين، لم يرَ أهله فيها، فلما سار موسى بزوجته من مدين وناداه ربه عند الشجرة في البقعة المباركة دخل موسى بعد ذلك مصر ولقيَ أخاه هارون، وكان لقاءً عظيماً.
ولا يُعرف أحد أعظم في منته على أخيه من موسى - عليه السلام - فإنه لم يزل يسأل ربه حين أوحى إليه أن يجعل معه أخاه حتى أجاب الله دعاءه وجعل معه أخاه هارون نبياً.
وهذه العلاقة العظيمة المتمثلة في أخوة النسب التي تقطعت بها الأسباب اليوم بين كثير من الناس وأشقائهم في فرقة من أجل دنيا من ميراث وزوجات ونحو ذلك من الأسباب نجد أن موسى - عليه السلام - قد حفظ تلك الوشيجة والعلاقة وهو يقبل على الله سائلاً أن يجعل معه أخاه هارون نبياً.
والله - عز وجل - وهب له أخاه هارون نبياً رحمة منه - عز وجل - قال الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}(سورة مريم:53) فكان هذا الأخ الصالح والشقيق الطيِّب، والنبي المؤازِر، والوزير المعاوِن، واليد اليمنى، والساعد الكبير والنصير باللسان، والمعين بالرأي والبدن له تلك المشاركة العظيمة بين أخوين في مهمة جليلة جداً هي النبوة والرسالة ومواجهة المعاندين.
ميزات هارون - عليه السلام - ومنزلته
تميز هارون - عليه السلام - بالفصاحة، قال الله عن موسى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا}(سورة القصص:34) ومعنى ذلك أنه أحسن بياناً وأدرى من موسى بلهجة القوم الذين تركهم موسى هذه السنين العشر.
ومن ميزات هارون - عليه السلام - أنه كان رفيقاً ليِّن الجانب، ولذلك لما خاطب موسى في قصة العجل ماذا قال؟ {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي}(سورة طـه:94).
وكان قلب هارون - عليه السلام - رؤوفاً رحيماً رؤوماً مشفقاً، تميز بالرفق، وكان يتحلى بالحكمة والصبر، ولذلك حاول أن يجمع ما تبقى من بني إسرائيل في قصة العجل رغم اضطهادهم له، قال الله تعال: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي}(سورة الأعراف:150) كما أنه تحلَّى بالشجاعة في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع أولئك الفراعنة.
وقد قيل: إن هارون - عليه السلام - كان أكبر من موسى - عليه السلام - بسنة، وقيل بثلاث، وهو في الخبرة ببني القبط وقوم فرعون يفوق موسى - عليه السلام - من جهة أنه كان قبله في مخالطتهم وأكثر منه في مدة المكث معهم ومعايشتهم، وهذه الخبرة مهمة في الدعوة لهؤلاء القوم.
جمع الله لهارون - عليه السلام - بين الصفات الدينية والأخلاقية، فكان صادقاً، أميناً، تقياً، صالحاً، هيّناً، ليّناً، سهلاً، مطيعاً لموسى - عليه السلام -، ويندر أن تجد أخاً أكبر يلين مع أخيه الأصغر ويطيعه، فموسى هو الأمير وهارون هو الوزير، فهو وإن كان أكبر من موسى لكنه يسلم له في القياد.
وقد بلغ من منزلة هارون - عليه السلام - أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - لما لقيه ليلة المعراج في السماء الخامسة قال له: ((مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح))[رواه البخاري].
أثبت الله أثر هارون في الدعوة إليه فقال تعالى عن السحرة: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى}(سورة طـه:70)، وهذا يدل على جهده.
وقد تفاوت صفات الأنبياء ومقاماتهم، فلا شك أن موسى - عليه السلام - أفضل وأعلى، قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}(سورة البقرة:253) وموسى كليم الله.
وقد كان موسى صاحب شجاعة وبأس وشدة، وكان هارون ذا حلم ورفق هائباً لموسى مسلساً القيادة له، وهذا المزيج من قوة موسى وحلم هارون ورفقه كان ضرورياً جداً في قيادة بني إسرائيل، ولذلك فإن مما يحتاج إليه القائد إذا كان شديداً أن يختار ولاة ومعاونين له فيهم لين ورأفة ورقة، وإذا كان هيناً ليناً اختار معه من يكون فيه قوة وبأس؛ حتى تعتدل الأمور ولا ينفلت الزمام، وهذا يفسر استعمال أبي بكر الصديق لخالد بن الوليد القوي، ثم مات أبو بكر فتولى عمر فعيَّن أبا عبيدة بدلاً من خالد في بعض المواقع.
قال شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -: كان عمرو بن العاص أحد الأمراء، وأبو عبيدة الجراح أيضاً، وقدم أبو بكر عليهم خالد بن الوليد لشجاعته ومنفعته في الجهاد، فلما توفي أبو بكر ولى عمر بن الخطاب أبا عبيدة أميراً على الجميع؛ لأن عمر كان شديداً في الله، فولى أبا عبيدة لأنه كان ليناً، وكان أبو بكر ليناً وخالد شديداً على الكفار، فولى اللين الشديد، وولى الشديد اللين؛ ليعتدل الأمر، وكلاهما فعل ما هو أحب إلى الله في حقه.[انتهى كلامه - رحمه الله -].
واجعل لي وزيراً من أهلي
عباد الله :
لما كان التعاون في إقامة الدين والدعوة إليه درجة عظيمة طلبها موسى لأخيه، فقال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا}(سورة القصص:34)، ومن ذا الذي يذكر اليوم ميزة أخيه عليه؟ قال: {{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي}(سورة القصص:34) ردءاً يصدقني يعني معيناً يصدقني؛ لأن مواجهة هؤلاء المعاندين الجبابرة تحتاج إلى من يؤيد على الحق ويصدق عليه ويؤمِّن.
وقال الله - سبحانه - عن موسى - عليه السلام -: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي* كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا* وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا* إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا}(سورة طـه:29-35).
فأجاب الله هذا الدعاء الخالص من ذلك الشقيق والأخ المحب لشقيقه فقال الله - عز وجل -: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}(سورة طـه:36).
لقد ناشد موسى ربه فقال: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا}(سورة طـه:29) يعني مؤازراً يؤازرني ومعيناً يعاونني ومساعداً يساعدني على من أرسلت إليهم، ويتحمل معي الأعباء، ويحمل معي الأثقال، ويا لها من مسؤولية كبيرة في الدعوة إلى الله ومواجهة هؤلاء الطغاة.
والوزير مع الملك أو الأمير يحمل ثقله، ويعينه برأيه، وهو مشتق من الوزر الذي هو الثقل، لأنه يحمل الثقل عن أميره، ويعتصم الأمير برأيه ويلجأ إليه في أموره، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق، إن نسي ذكَّره، وإن ذكَر أعانَه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكِّره وإن ذكر لم يعِنْه))[رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح]، ولذلك قال العلماء: ومن سعادة السلطان أن يسهل الله له وزيراً صالحاً ومشيراً ناصحاً.
قال موسى - عليه السلام -: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي}(سورة طـه:29) بكونه أشفق وأوثق وأقرب وأعون، فمعه علاقة إضافية في أخوة الدين وهي أخوة النسب، وإنها لقريبة جداً، وسأله أن يكون من أهله؛ لأنه من باب البر وأحق ببر الإنسان قرابته، فأراد موسى الخير لنفسه والخير لأخيه.
ثم بين من هو فقال: {هَارُونَ أَخِي}(سورة طـه:30)؛ لأنه أجدر بالمناصرة، وأوثق ليتحمل العبء معي، وهكذا استجاب الله - عز وجل - كما قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}(سورة مريم:53) أي: فأجبنا سؤاله وجعلناه معه، ولم يكن لموسى - عليه السلام - وزير سوى أخيه هارون - عليه السلام - كما ذكر ابن كثير - رحمه الله -، قال الله - عز وجل -: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا}(سورة الفرقان:35).
وقد كان هارون عند القوم طاهر النفس، سليم الطوية، شريفاً في قومه معروفاً، ليس له إساءة حتى مع القبط، وقد قضى بينهم عمراً طويلاً لم يعثروا له على زلة.
وكان طلب موسى - عليه السلام - المعاونة للمهمة العظيمة في الدعوة، سواء دعوة بني إسرائيل، أو دعوة أولئك القبط الأشداء، وهذه مهمة تحتاج إلى قوة وثبات، ولذلك قال موسى في سبب الطلب {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}(سورة طـه:31) أي: قوتي وظهري، {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}(سورة طـه:32) يعني في النبوة، فتجعله معي رسولاً أيضاً فأستشير به واستأنس ويكون له وحي أيضاً يسدده فيعاونني بذلك.
تكليف وتشريف
لماذا هذه المشاركة؟ هل هي لشيء من الدنيا، أو لمجرد القرابة فقط؟ كلا، وإنما {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا* وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا* إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا}(سورة طـه:33-35) تعلم حالنا وضعفنا وعجزنا وافتقارنا إليك، أنت أبصر بنا من أنفسنا وأرحم، فمُنَّ عليَّ بأخي هارون، وأجب دعائي في هذا الطلب، وهكذا كان.
ومع قوة موسى - عليه السلام - إلا أنه احتاج إلى مساعد، وهكذا فلا يغتر الإنسان بقوته ولا يكون معجباً بنفسه، وهذا العمل في الفهم والعلم والدعوة والصبر على الأذى فيها يحتاج إلى شخصيات عظيمة، ولذلك كان هارون هو الساعد الأيمن لموسى - عليهما السلام - ولما استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً على المدينة لما خرج بالجيش إلى تبوك، قال علي - رضي الله عنه - للنبي - عليه الصلاة والسلام - متألماً: ((أتخلفني في الصبيان والنساء)) يعني أنت تذهب مع أصحابك في هذه المهمة الشريفة - في الجهاد - لمواجهة هذا العدو الخطير - الروم - وأنا أبقى مع النساء والصبيان؟! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مبيناً المهمة العظيمة التي سيقوم بها علي - رضي الله عنه - في غياب النبي عن المدينة: ((ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي))[رواه البخاري ومسلم].
فيالها من منقبة عظيمة لعلي - رضي الله عنه - ويا لها من منزلة شريفة لابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون من نبينا بمنزلة هارون من موسى، وقد كان أبو بكر - رضي الله عنه - وعمر هما الوزيران الملازمان للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
إن موسى - عليه السلام - لم يستأثر بأعلى مقامات الدنيا - النبوة - بل إن نفسه سمحت وطلبت وأرادت وأحبت المشاركة وقليل من الناس من يحب أن يشاركه غيره في الخير؛ فإن النفس تريد الاستئثار والتفرد، وتكره المشاركة والمنافسة، فأي نفس عظيمة هذه التي كانت بين جنبي موسى - عليه السلام - ليطلب المشاركة في هذا الأمر العظيم وهو أشرف منصب على الإطلاق - منصب النبوة والرسالة - {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ}(سورة القصص:68) والله - عز وجل - هو الذي بيده أمر النبوة وليس ذلك خاضعاً لرغبة بشر أو طلبه، ولكن وافقت رغبة موسى - عليه السلام - مشيئة الله واختياره - سبحانه وتعالى -.
قالت عائشة - رضي الله عنها -: سمعت أعرابياً يقول: أي أخ كان أنفع في الدنيا لأخيه؟ قالوا: لا ندري، قال: أنا والله أدري، موسى حين سأل النبوة لأخيه، فقال الجماعة صدق والله.
قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبياً.
موسى في موعد مع ربه
وبعد أن أقام بنو إسرائيل في سيناء بعد الرحلة الطويلة من الدعوة الشاقة في المواجهة، أراد الله إنزال كتابه على موسى فواعده جبل الطور، فذهب موسى وترك أخاه هارون خليفة له في قومه، وأوصاه قائلاً: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}(سورة الأعراف:142) واختصر الوصية بقوله: {وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}(سورة الأعراف:142).
وهكذا المستخلف ينوب والوكيل يقوم بالمهام على فعل الأصلح وهذا فيه ملاك الأمر والقيام بمحور الإصلاح واجتناب المفسدين وسبيلهم، وهكذا ينبغي أن تكون النصيحة العظيمة والتذكير بالمهام قبل الانصراف: {وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}(سورة الأعراف:142).
لما غاب موسى عن قومه وذهب لمناجاة ربه زين لهم السامري عبادة العجل فأطاعته الأغلبية، قال الله - سبحانه -: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ}(سورة الأعراف:148) أي: له صوت {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ}(سورة الأعراف:148).
لقد عاش بنو إسرائيل مع الكفرة الفراعنة وتطبعوا بطباع منهم، وتأثروا بصفات لهم، وكانوا أذلاء خانعين تحت قهرهم، وكانت النفوس الأبية تقودهم بين موسى وهارون وهما يتنقلان بين بيوت بني إسرائيل يصبّران القوم، كما أوصى الله موسى وهارون أن يتخذا ويتبوءا لقومهما من مصر بيوتاً، وأن يجعلا البيوت قبلة لإقامة الصلاة؛ فلم يكن هنالك مساجد يسمح بإنشائها من قبل أولئك الفراعنة، فكان موسى وهارون يدوران بين بيوت بني إسرائيل، وما آمن لموسى إلا ذرية من قومه من ذوي الأسنان الحديثة على خوف؛ إذ لم يكن الإيمان هنالك إيماناً آمناً، وإنما كان كما قال الله - تبارك وتعالى -: {عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ}(سورة يونس:83).
كان دور موسى وهارون بين بني إسرائيل عظيماً في إعدادهم لرحلة النجاة، وقام موسى - عليه السلام - مع أخيه بدورين هما: إعداد قومهما وإنذار القوم الآخرين ومواجهة الفراعنة الشداد، فرعون ومن معه من ملئه الأشراف والكبراء والظلمة والسحرة، ومن استعانوا بهم، وكان مشهداً عظيماً حضره موسى وهارون وغلب الوحيُ السحرَ {وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(سورة الأعراف:118).
ثم أمر الله موسى وهارون بأخذ بني إسرائيل، فكانت تلك الرحلة، وعبر بنو إسرائيل البحر، وأغرق الله فرعون ومن معه، ولكن بقايا الوثنية لا تزال في نفوس القوم، فقد مروا على قوم قد اتخذوا لهم صنماً فقالوا: {يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}(سورة الأعراف:138)!!
سبحان الله بعد هذه الرحلة الطويلة، والتربية العظيمة، والعبادة، والمحنة، والنجاة من العدو، والنعمة الكبيرة، وهذه المجاوزة للبحر والنجاة من الغرق بعد النجاة من العدو الكبير، تقولون: اجعل لنا إلهاً؟!!
يا أيها اليهود، ما أكفركم! يا أيها اليهود، ما أبغضكم! يا أيها اليهود، ما أشد جحدكم وجهلكم بالله!
ويبقى موسى وهارون ثابتين على الطريق في بني إسرائيل، يأمرانهم بالمعروف، وينهيانهم عن المنكر، ويقيمان دين الله فيهم، خطوة بخطوة، فلما صار الموعد للقاء الله وتأهلت وتأهبت تلك المجموعة لتلقي الوحي، وكانت التوارة التي ستقام في بني إسرائيل، وهذا الفضل العظيم والنزول الكبير للألواح المسطر فيها الوحي من الله - عز وجل - كما قال الله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ}(سورة الأعراف:145) استخلف موسى أخاه هارون، وذهب في تلك الرحلة بعدما أوصاه، فانتهز السامري غياب موسى فأخذ من الذهب الذي مع بني إسرائيل ما شكل به تمثالاً على هيئة عجل من ولد البقر له فتحتان إحداهما - وهي الأكبر - من دبره بحيث تدخل منها الريح ثم تخرج من الفتحة الثاني الأصغر في رأسه على هيئة خوار البقر، ومن مهر بالصنعة استطاع أن يفعل من أنواع الأصوات ما يشابه الواقع بواسطة دخول الهواء وخروجه، فهذا الذهب معبودهم الذي فتنوا به من قبل، وهكذا صنع السامري، وما أسرع تهافت بني إسرائيل عليه حيث إنه تمثال عجل من ذهب يوافق تلك الآلهة التي كان عليها القوم، فقد وجدوا الآن بغيتهم في هذا الذي صنعه السامري {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}(سورة طـه:88).
كم حاول هارون - عليه السلام - أن يبين للقوم {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي}(سورة طـه:90) لقد كان بياناً واضحاً وكلاماً صادعاً، ولكن هيهات {قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى}(سورة طـه:91) هذه هي حجتهم وهي انتظار موسى ليفصل! أليس الذي قاله هارون كافياً في البيان.
لقد ناشدهم هارون بقوله: يا قومِ، يذكرهم وشيجة القرابة وهو يدعوهم إلى عبادة الله، {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ}(سورة طـه:90) وهكذا يكون استعطاف القلوب من الداعية للمدعوين {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ}(سورة طـه:90) هذه فتنة، {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ}(سورة طـه:90) فوق سبع سماوات وليس هذا التمثال المصنوع، {فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي}(سورة طـه:90).
حاول هارون - عليه السلام - مراراً وتكراراً، وثبت على الحق ودعاهم جهاراً، وخلف موسى بمثل ما أوصاه، اللهم صلِّ وسلّم وبارك على هارون، وعلى سائر أنبيائك ورسلك، وصلِّ اللهم على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله أكبر كبيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخليله ومصطفاه ومجتباه من خلقه، ختم الله به الأنبياء، وأنزل عليه القرآن، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته، وخلفائه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله:
رجوع موسى وموقفه مع أخيه من صنيع السامري
أقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن، وهكذا يكون بقاء القائد في الحق، والمقدم في الدين من أسباب ثبات من حوله، وهكذا ثبت الله بالبقية الباقية من بني إسرائيل، ثبتهم بهارون - عليه السلام - وكانوا ينصحون قومهم، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل حتى كانت رجعة موسى - عليه السلام -.
رجع موسى من رحلة إيمانية عظيمة، وقد تلقى الوحي ومعه الألواح ونفسه متهيئة لإقامة أحكام التوارة في قومه وهو متحمس أشد الحماس لما كان يعيشه من الإيمان العظيم، بما حصل من كلام الله له مباشرة وإيتائه التوارة التي خطها الله له بيده، وهو عائد من تلك الرحلة الإيمانية العظيمة ومعه التكاليف ليقوم بها، إذ به يفاجأ باسوأ منظر، الناس الذين أرسل إليهم بعد هذه الرحلة الطويلة من الاستخراج من مصر وعبور البحر والنجاة، وقد جعل عليهم أخاه حيث لم يأخذ أخاه معه رغم شرف الرحلة من أجل هؤلاء، ليفاجأ باسوأ منظر، وهو أسوأ منكر في قومه {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ}(سورة الأعراف:150)، هكذا تشركون بهذه السرعة؟ وبعجل تمثال لا ينفع ولا يضر وليس له إلا هذا الصوت، بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ}(سورة الأعراف:150) ثم قال: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ}(150) سورة الأعراف:150) ألقى الألواح من الغضب لرؤية المنكر الذي هو الشرك الذي لا يراه اليوم كثير من الناس منكراً ولا قبيحاً، نعم يرون قبح الرشوة، قبح الظلم، قبح الاضطهاد في أمور الدنيا، ولا يرون قبح الشرك - إلا من رحم الله -.
{وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}(سورة الأعراف:150) فهذا هو المسؤول الأول حيث ظنه مقصراً لم يقم بالوصية، لكن هارون - عليه السلام - قال: {ابْنَ أُمَّ}(سورة الأعراف:150) ذكَّره بأنه شقيق له من أمه وأبيه، وقدم ذكر الأم على ذكر الأب؛ لأنها أشفق وأرحم وأرقّ وأعطف، ذكَّره بالعلاقة ليرأف به؛ لأنه ليس مقصراً ولا ظالماً، {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي}(سورة الأعراف:150) إذاً هارون وصلت به القضية إلى أن يكون على وشك الموت، وكادوا يقتلونني، لم يكن بينهم وبين قتلي إلا شيء يسير حيث أوشكوا على فعل ذلك.
{فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(سورة الأعراف:150) أنا لست مقصراً فلا تجعلني معهم في صف واحد، ولا تعاملني معاملتهم.. لا تشمت بي الأعداء - السامري وغيره - الذين ينظرون إلينا الآن ولا تسرهم بما تفعل بي... لا تخلطني مع الظلمة ولا تسقني مساقهم.
{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}(سورة طـه:92-93) لماذا لم تلحقني لتخبرني؟ قال: {إِنِّي خَشِيتُ}(سورة طـه:94) يعني: إذا اتبعتك وتركت بني إسرائيل {أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}(سورة طـه:94) بهذا الترك {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}(سورة طـه:94) أن تكون أميراً وخليفة عليهم في غيابي؛ لأنني إذا تركتهم فإنني أكون قد عصيتك؛ لأنك جعلتني خليفة عليهم في غيابك فكيف أترك ما استخلفتني به عليهم؟ وهذا عذر واضح وحكمة بالغة تدل على عقل هارون - عليه السلام - حيث قال: إني خشيت أن أترك القوم، فأكون سبباً في الفرقة، ولا شك أن هذا هو الاجتهاد الصائب في هذه الحال، فهو محاولة لتخفيف الشر ما أمكن، ومحاولة استنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأن يكون مع البقية الباقية إماماً لهم ومثبتاً، فلو غاب القائد في مثل هذه الحال وسقطت الراية فيمكن أن لا يبقى على الحق أحد.
والغضب من طباع البشر، وموسى - عليه السلام - كان به من القوة في الدين ما فيه، ولذلك رجع إلى نفسه بعدها لما سمع عذر أخيه وبراءة ساحته، وتوجه إلى الله بالدعاء قائلاً: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ}(سورة الأعراف:151) يعني بحيث تكون الرحمة محيطة بنا من جميع الجهات.
وقد ذكر أهل العلم أن هارون - عليه السلام - توفي في التيه قبل موسى - عليه السلام - بثلاث سنين، ودفنه موسى، كما ذكر ذلك ابن كثير والطبري وابن الأثير.
وبقي هارون - عليه السلام - ثابتاً على الحق حتى الممات، وكان مع موسى وفياً لهذه الدعوة، وزيراً ناصحاً، ومعاوناً وقدوة وإماماً في الهدى والتوحيد، وكان عابداً لله مخلصاً له، كان مسلس القياد لأخيه، ولقد وصلت القضية بموسى - عليه السلام - أن يقول في مناسبة من المناسبات: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي}(سورة المائدة:25).
بنو إسرائيل ظلمة منحرفون - إلا من رحم الله - ولذلك لما أمرهم بدخول بيت المقدس الهبة العظيمة من الله، والأرض المقدسة يقولون بكل وقاحة: {إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}(سورة المائدة:24) وكأنهم ينتظرون خروج القوم منها.
وهكذا يجد الداعية أحياناً نفسه وحيداً ليس معه إلا هذا المصدق من أهله، المسلس القياد له، الذي يعاونه ويؤازره ويساعده.
هارون قدوة لاستثمار المواهب في الدعوة إلى الله
لقد استثمر هارون - عليه السلام - الموهبة التي أتاه الله في الدعوة، وهكذا ينبغي على كل واحد منا أن يستثمر ما أتاه الله من المواهب، قال موسى: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ}(سورة الشعراء:13)، وقال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا}(سورة القصص:34) استثمر هارون تلك الفصاحة في الدعوة، فالفصاحة مهمة في الإقناع والتأثير على المدعوين.
وكذلك فإن التعاون في الدعوة إلى الله شيء عظيم، وهكذا يجب علينا جميعاً، وخصوصاً اليوم في وقت تكالب الأعداء، وكثرة الباطل وأهله، قال تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا}(سورة القصص:35)، يعني سلطان الحجة، وسلطان البيان، وسلطان الحفظ والحماية {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا}(سورة القصص:35) أي الكفرة الفراعنة {بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}(سورة القصص:35) هكذا ينصر الله رسله بآياته، وهكذا يكون الوحي معيناً مؤيداً ومؤازراً لأنبيائه.
وهكذا خاض موسى وهارون تلك المهمة العظيمة، وخبر الاثنين أنجع في النفوس من خبر الواحد، وهمة الأنبياء عالية، وكان موسى مع هارون نعم القرينان في هذه المهمة العظيمة في الدعوة إلى الله - عز وجل -.
وعمر بن العزيز كان له أربعة عشر ابناً منهم عبد الملك بن عمر بن العزيز، الابن الصالح كان من أعبد الناس، توفي في خلافة أبيه وعمره سبعة عشرة سنة وستة أشهر، وكان مشيراً على عمر بمصالح المسلمين ووزيراً صالحاً وبطانة خير كما ذكر العلماء.
إن حسن اختيار الصادق الأمين لمهمة الدعوة، وأن يكون من الأقارب من يعين فيها أيضاً هذا شيء مهم، ولذلك فإن عيسى - عليه السلام - كان له حواريون، {قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ}(سورة آل عمران:52)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - معه من أصحابه أيضاً من معه.
إن الثبات على الحق ولو غاب القائد أمر في غاية الأهمية، وإن وحدة الأمر وإسلاس القياد من عوامل النجاح العظيمة، ولقد انقاد هارون لموسى ولم ينافسه، ولم يشق عليه عصا الطاعة، ولم يخالفه حتى في أعظم وأشد الأوقات صعوبة ولذلك قال موسى: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}(سورة المائدة:25) أي: ليس يطيعني منهم أحد إلا هذا الذي هو أخي.
وهكذا يحتاج الداعية إلى متنفس له يشكو إليه ويبث إليه الهموم، ويعاونه على مواجهة الآلام والمصاعب، فنعم المعين هارون بعد الله - عز وجل -.
وكذلك فإننا وجدنا في هذه القصة العظيمة كيف يكون الوعظ للمقصرين والنصح لمن وقع في الشرك والمنكر العظيم، قال الله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}(سورة الأعراف:152).
عباد الله:
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}(سورة يوسف:111) فنسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا من المعتبرين بقصص أنبيائه وحزبه المفلحين.
اللهم إنا نسألك أن تعلي شأننا، وترحم ضعفنا، وتغفر ذنبنا، وتقضي ديننا، وتشفي مريضنا، وترحم ميتنا، وأن تجمع على الحق قلوبنا.
اللهم أدخلنا دار السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم إنا نسألك نوراً تضيء به قلوبنا، وتلمّ به شعثنا، يا أرحم الراحمين، اللهمَّ سدد ألسنتنا واجمع قلوبنا على الحق.
اللهم إنا نسألك أن تعز دينك، وأن تنصر السنة في العالمين، اللهم إنا نسألك أن تكبت المنافقين، وأن تقمع أعداء الدين، وأن تنشر رحمتك علينا يا رب العالمين، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
• جميع الأنبياء يدعون إلى أصل واحد
• لقد كان في قصصهم عبرة
• علاقة هارون بموسى نسباً وديناً
• ميزات هارون - عليه السلام - ومنزلته
• واجعل لي وزيراً من أهلي
• تكليف وتشريف
• موسى في موعد مع ربه
• رجوع موسى وموقفه مع أخيه من صنيع السامري
• هارون قدوة لاستثمار المواهب في الدعوة إلى الله
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
جميع الأنبياء يدعون إلى أصل واحد
فإن الإيمان بالأنبياء من أركان الإيمان، نؤمن بهم على التفصيل الذي ذكره الله تعالى وعلى الإجمال، قال الله تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}(سورة النساء:164).
والأنبياء الذين قص الله علينا خبرهم في كتابه العزيز نحواً من خمسة وعشرين نبياً، منهم هارون - عليه السلام - والأنبياء كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد))[رواه البخاري].
لقد شبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنبياء في أصل دينهم بأولاد الأب وقال: إن أمهاتهم شتى، فالأنبياء أصلهم واحد في شرائعهم، وهو التوحيد أو الإسلام العام، وأما شرائعهم فبينها فروقات ولذلك كانوا كأولاد الأب من أمهات شتى.
لقد كان في قصصهم عبرة
فالرسل متفقون في الدين الجامع للأصول الاعتقادية كالإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، والأصول العملية كتحريم الفواحش والإثم والبغي، فإنها محرمة في جميع الأديان ومن ذلك الزنا والربا.
وقد قص الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - قصصَ من سبقوه؛ لتكون عبرة وتثبتاً، كما قال الله تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}(سورة هود:120) ولذلك يكون وقوف المؤمن على قصص هؤلاء الأنبياء وأخذ العبرة منها شيئاً عظيماً يضيء له طريقه في حياته، فالنفوس تأنس بالاقتداء، وزمننا هذا فيه غربة كثيرة، وانحرافات مطبقة، ولذلك يكون الاستئناس بقصص الأنبياء مما يثبّت النفس على طريق الحق ويؤنسها في غمرة الباطل الكثير، وأيضاً فإن في قصص الأنبياء ما ينشط على العمل بالرغم من صعوبة الواقع، وكذلك يتأيَّد الحق بذكر شواهده، وكثرة من قام به على مرِّ التاريخ، ولذلك ذكر ربنا - جل وعلا - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أنبياء من آدم إلى وقته - عليه الصلاة والسلام - حيث سرد له من الأنبياء الموزعين على مر التاريخ من نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم وأولاده وذريته، وأنبياء بني إسرائيل الكثُر من يعقوب بن إسحاق، وولده يوسف، وكذلك الأسباط الذين هم من أنبياء بني إسرائيل، وكذلك موسى وهارون، ويحيى وزكريا، وسليمان، وداود، وأيوب، وقيل: إدريس، وكان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى - عليه السلام - الذي بُعِث قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى}(سورة يوسف:111)، وهذا الاطلاع على سيرهم يرسخ الحق في القلب؛ فإن تكاثر أدلته أرسخ له وأثبت وأعوَن على القيام به ونصره، وفي ذلك آيات وعبر.
علاقة هارون بموسى نسباً وديناً
وهارون - عليه السلام - من الأنبياء الذين لا يكاد يعرف كثير من الناس عنه شيئاً ولا يعرفون قدره، وهو نبي عظيم شقيق لموسى - عليه السلام -، وُلد في عام ترك قتل الأبناء، وأرسله الله تعالى مع موسى - عليه السلام - كما قال الله - عز وجل -: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ}(سورة المؤمنون:45-46).
لقد كان الفراق طويلاً جداً بين موسى وأخيه هارون في مبدأ الأمر، فإنه افترق عنه نحواً من عشر سنين ربما لا يدري عن خبره شيئاً، فإن موسى - عليه السلام - منذ ولادته فارق بيته، وأُخذ إلى قصر فرعون وتربى هنالك، ولم يرَ أمّه إلا عندما كانت تأتي لترضعه، ثم بعد ذلك لم يكن يرى أخاه هارون كما يريد؛ لأنه في قصر فرعون، وذاك في مساكن بني إسرائيل، ثم إن موسى قد هرب من هؤلاء إلى مدين، ولبث فيهم عشر سنين، لم يرَ أهله فيها، فلما سار موسى بزوجته من مدين وناداه ربه عند الشجرة في البقعة المباركة دخل موسى بعد ذلك مصر ولقيَ أخاه هارون، وكان لقاءً عظيماً.
ولا يُعرف أحد أعظم في منته على أخيه من موسى - عليه السلام - فإنه لم يزل يسأل ربه حين أوحى إليه أن يجعل معه أخاه حتى أجاب الله دعاءه وجعل معه أخاه هارون نبياً.
وهذه العلاقة العظيمة المتمثلة في أخوة النسب التي تقطعت بها الأسباب اليوم بين كثير من الناس وأشقائهم في فرقة من أجل دنيا من ميراث وزوجات ونحو ذلك من الأسباب نجد أن موسى - عليه السلام - قد حفظ تلك الوشيجة والعلاقة وهو يقبل على الله سائلاً أن يجعل معه أخاه هارون نبياً.
والله - عز وجل - وهب له أخاه هارون نبياً رحمة منه - عز وجل - قال الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}(سورة مريم:53) فكان هذا الأخ الصالح والشقيق الطيِّب، والنبي المؤازِر، والوزير المعاوِن، واليد اليمنى، والساعد الكبير والنصير باللسان، والمعين بالرأي والبدن له تلك المشاركة العظيمة بين أخوين في مهمة جليلة جداً هي النبوة والرسالة ومواجهة المعاندين.
ميزات هارون - عليه السلام - ومنزلته
تميز هارون - عليه السلام - بالفصاحة، قال الله عن موسى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا}(سورة القصص:34) ومعنى ذلك أنه أحسن بياناً وأدرى من موسى بلهجة القوم الذين تركهم موسى هذه السنين العشر.
ومن ميزات هارون - عليه السلام - أنه كان رفيقاً ليِّن الجانب، ولذلك لما خاطب موسى في قصة العجل ماذا قال؟ {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي}(سورة طـه:94).
وكان قلب هارون - عليه السلام - رؤوفاً رحيماً رؤوماً مشفقاً، تميز بالرفق، وكان يتحلى بالحكمة والصبر، ولذلك حاول أن يجمع ما تبقى من بني إسرائيل في قصة العجل رغم اضطهادهم له، قال الله تعال: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي}(سورة الأعراف:150) كما أنه تحلَّى بالشجاعة في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع أولئك الفراعنة.
وقد قيل: إن هارون - عليه السلام - كان أكبر من موسى - عليه السلام - بسنة، وقيل بثلاث، وهو في الخبرة ببني القبط وقوم فرعون يفوق موسى - عليه السلام - من جهة أنه كان قبله في مخالطتهم وأكثر منه في مدة المكث معهم ومعايشتهم، وهذه الخبرة مهمة في الدعوة لهؤلاء القوم.
جمع الله لهارون - عليه السلام - بين الصفات الدينية والأخلاقية، فكان صادقاً، أميناً، تقياً، صالحاً، هيّناً، ليّناً، سهلاً، مطيعاً لموسى - عليه السلام -، ويندر أن تجد أخاً أكبر يلين مع أخيه الأصغر ويطيعه، فموسى هو الأمير وهارون هو الوزير، فهو وإن كان أكبر من موسى لكنه يسلم له في القياد.
وقد بلغ من منزلة هارون - عليه السلام - أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - لما لقيه ليلة المعراج في السماء الخامسة قال له: ((مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح))[رواه البخاري].
أثبت الله أثر هارون في الدعوة إليه فقال تعالى عن السحرة: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى}(سورة طـه:70)، وهذا يدل على جهده.
وقد تفاوت صفات الأنبياء ومقاماتهم، فلا شك أن موسى - عليه السلام - أفضل وأعلى، قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}(سورة البقرة:253) وموسى كليم الله.
وقد كان موسى صاحب شجاعة وبأس وشدة، وكان هارون ذا حلم ورفق هائباً لموسى مسلساً القيادة له، وهذا المزيج من قوة موسى وحلم هارون ورفقه كان ضرورياً جداً في قيادة بني إسرائيل، ولذلك فإن مما يحتاج إليه القائد إذا كان شديداً أن يختار ولاة ومعاونين له فيهم لين ورأفة ورقة، وإذا كان هيناً ليناً اختار معه من يكون فيه قوة وبأس؛ حتى تعتدل الأمور ولا ينفلت الزمام، وهذا يفسر استعمال أبي بكر الصديق لخالد بن الوليد القوي، ثم مات أبو بكر فتولى عمر فعيَّن أبا عبيدة بدلاً من خالد في بعض المواقع.
قال شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -: كان عمرو بن العاص أحد الأمراء، وأبو عبيدة الجراح أيضاً، وقدم أبو بكر عليهم خالد بن الوليد لشجاعته ومنفعته في الجهاد، فلما توفي أبو بكر ولى عمر بن الخطاب أبا عبيدة أميراً على الجميع؛ لأن عمر كان شديداً في الله، فولى أبا عبيدة لأنه كان ليناً، وكان أبو بكر ليناً وخالد شديداً على الكفار، فولى اللين الشديد، وولى الشديد اللين؛ ليعتدل الأمر، وكلاهما فعل ما هو أحب إلى الله في حقه.[انتهى كلامه - رحمه الله -].
واجعل لي وزيراً من أهلي
عباد الله :
لما كان التعاون في إقامة الدين والدعوة إليه درجة عظيمة طلبها موسى لأخيه، فقال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا}(سورة القصص:34)، ومن ذا الذي يذكر اليوم ميزة أخيه عليه؟ قال: {{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي}(سورة القصص:34) ردءاً يصدقني يعني معيناً يصدقني؛ لأن مواجهة هؤلاء المعاندين الجبابرة تحتاج إلى من يؤيد على الحق ويصدق عليه ويؤمِّن.
وقال الله - سبحانه - عن موسى - عليه السلام -: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي* كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا* وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا* إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا}(سورة طـه:29-35).
فأجاب الله هذا الدعاء الخالص من ذلك الشقيق والأخ المحب لشقيقه فقال الله - عز وجل -: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}(سورة طـه:36).
لقد ناشد موسى ربه فقال: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا}(سورة طـه:29) يعني مؤازراً يؤازرني ومعيناً يعاونني ومساعداً يساعدني على من أرسلت إليهم، ويتحمل معي الأعباء، ويحمل معي الأثقال، ويا لها من مسؤولية كبيرة في الدعوة إلى الله ومواجهة هؤلاء الطغاة.
والوزير مع الملك أو الأمير يحمل ثقله، ويعينه برأيه، وهو مشتق من الوزر الذي هو الثقل، لأنه يحمل الثقل عن أميره، ويعتصم الأمير برأيه ويلجأ إليه في أموره، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق، إن نسي ذكَّره، وإن ذكَر أعانَه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكِّره وإن ذكر لم يعِنْه))[رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح]، ولذلك قال العلماء: ومن سعادة السلطان أن يسهل الله له وزيراً صالحاً ومشيراً ناصحاً.
قال موسى - عليه السلام -: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي}(سورة طـه:29) بكونه أشفق وأوثق وأقرب وأعون، فمعه علاقة إضافية في أخوة الدين وهي أخوة النسب، وإنها لقريبة جداً، وسأله أن يكون من أهله؛ لأنه من باب البر وأحق ببر الإنسان قرابته، فأراد موسى الخير لنفسه والخير لأخيه.
ثم بين من هو فقال: {هَارُونَ أَخِي}(سورة طـه:30)؛ لأنه أجدر بالمناصرة، وأوثق ليتحمل العبء معي، وهكذا استجاب الله - عز وجل - كما قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}(سورة مريم:53) أي: فأجبنا سؤاله وجعلناه معه، ولم يكن لموسى - عليه السلام - وزير سوى أخيه هارون - عليه السلام - كما ذكر ابن كثير - رحمه الله -، قال الله - عز وجل -: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا}(سورة الفرقان:35).
وقد كان هارون عند القوم طاهر النفس، سليم الطوية، شريفاً في قومه معروفاً، ليس له إساءة حتى مع القبط، وقد قضى بينهم عمراً طويلاً لم يعثروا له على زلة.
وكان طلب موسى - عليه السلام - المعاونة للمهمة العظيمة في الدعوة، سواء دعوة بني إسرائيل، أو دعوة أولئك القبط الأشداء، وهذه مهمة تحتاج إلى قوة وثبات، ولذلك قال موسى في سبب الطلب {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}(سورة طـه:31) أي: قوتي وظهري، {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}(سورة طـه:32) يعني في النبوة، فتجعله معي رسولاً أيضاً فأستشير به واستأنس ويكون له وحي أيضاً يسدده فيعاونني بذلك.
تكليف وتشريف
لماذا هذه المشاركة؟ هل هي لشيء من الدنيا، أو لمجرد القرابة فقط؟ كلا، وإنما {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا* وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا* إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا}(سورة طـه:33-35) تعلم حالنا وضعفنا وعجزنا وافتقارنا إليك، أنت أبصر بنا من أنفسنا وأرحم، فمُنَّ عليَّ بأخي هارون، وأجب دعائي في هذا الطلب، وهكذا كان.
ومع قوة موسى - عليه السلام - إلا أنه احتاج إلى مساعد، وهكذا فلا يغتر الإنسان بقوته ولا يكون معجباً بنفسه، وهذا العمل في الفهم والعلم والدعوة والصبر على الأذى فيها يحتاج إلى شخصيات عظيمة، ولذلك كان هارون هو الساعد الأيمن لموسى - عليهما السلام - ولما استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً على المدينة لما خرج بالجيش إلى تبوك، قال علي - رضي الله عنه - للنبي - عليه الصلاة والسلام - متألماً: ((أتخلفني في الصبيان والنساء)) يعني أنت تذهب مع أصحابك في هذه المهمة الشريفة - في الجهاد - لمواجهة هذا العدو الخطير - الروم - وأنا أبقى مع النساء والصبيان؟! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مبيناً المهمة العظيمة التي سيقوم بها علي - رضي الله عنه - في غياب النبي عن المدينة: ((ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي))[رواه البخاري ومسلم].
فيالها من منقبة عظيمة لعلي - رضي الله عنه - ويا لها من منزلة شريفة لابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون من نبينا بمنزلة هارون من موسى، وقد كان أبو بكر - رضي الله عنه - وعمر هما الوزيران الملازمان للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
إن موسى - عليه السلام - لم يستأثر بأعلى مقامات الدنيا - النبوة - بل إن نفسه سمحت وطلبت وأرادت وأحبت المشاركة وقليل من الناس من يحب أن يشاركه غيره في الخير؛ فإن النفس تريد الاستئثار والتفرد، وتكره المشاركة والمنافسة، فأي نفس عظيمة هذه التي كانت بين جنبي موسى - عليه السلام - ليطلب المشاركة في هذا الأمر العظيم وهو أشرف منصب على الإطلاق - منصب النبوة والرسالة - {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ}(سورة القصص:68) والله - عز وجل - هو الذي بيده أمر النبوة وليس ذلك خاضعاً لرغبة بشر أو طلبه، ولكن وافقت رغبة موسى - عليه السلام - مشيئة الله واختياره - سبحانه وتعالى -.
قالت عائشة - رضي الله عنها -: سمعت أعرابياً يقول: أي أخ كان أنفع في الدنيا لأخيه؟ قالوا: لا ندري، قال: أنا والله أدري، موسى حين سأل النبوة لأخيه، فقال الجماعة صدق والله.
قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبياً.
موسى في موعد مع ربه
وبعد أن أقام بنو إسرائيل في سيناء بعد الرحلة الطويلة من الدعوة الشاقة في المواجهة، أراد الله إنزال كتابه على موسى فواعده جبل الطور، فذهب موسى وترك أخاه هارون خليفة له في قومه، وأوصاه قائلاً: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}(سورة الأعراف:142) واختصر الوصية بقوله: {وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}(سورة الأعراف:142).
وهكذا المستخلف ينوب والوكيل يقوم بالمهام على فعل الأصلح وهذا فيه ملاك الأمر والقيام بمحور الإصلاح واجتناب المفسدين وسبيلهم، وهكذا ينبغي أن تكون النصيحة العظيمة والتذكير بالمهام قبل الانصراف: {وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}(سورة الأعراف:142).
لما غاب موسى عن قومه وذهب لمناجاة ربه زين لهم السامري عبادة العجل فأطاعته الأغلبية، قال الله - سبحانه -: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ}(سورة الأعراف:148) أي: له صوت {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ}(سورة الأعراف:148).
لقد عاش بنو إسرائيل مع الكفرة الفراعنة وتطبعوا بطباع منهم، وتأثروا بصفات لهم، وكانوا أذلاء خانعين تحت قهرهم، وكانت النفوس الأبية تقودهم بين موسى وهارون وهما يتنقلان بين بيوت بني إسرائيل يصبّران القوم، كما أوصى الله موسى وهارون أن يتخذا ويتبوءا لقومهما من مصر بيوتاً، وأن يجعلا البيوت قبلة لإقامة الصلاة؛ فلم يكن هنالك مساجد يسمح بإنشائها من قبل أولئك الفراعنة، فكان موسى وهارون يدوران بين بيوت بني إسرائيل، وما آمن لموسى إلا ذرية من قومه من ذوي الأسنان الحديثة على خوف؛ إذ لم يكن الإيمان هنالك إيماناً آمناً، وإنما كان كما قال الله - تبارك وتعالى -: {عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ}(سورة يونس:83).
كان دور موسى وهارون بين بني إسرائيل عظيماً في إعدادهم لرحلة النجاة، وقام موسى - عليه السلام - مع أخيه بدورين هما: إعداد قومهما وإنذار القوم الآخرين ومواجهة الفراعنة الشداد، فرعون ومن معه من ملئه الأشراف والكبراء والظلمة والسحرة، ومن استعانوا بهم، وكان مشهداً عظيماً حضره موسى وهارون وغلب الوحيُ السحرَ {وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(سورة الأعراف:118).
ثم أمر الله موسى وهارون بأخذ بني إسرائيل، فكانت تلك الرحلة، وعبر بنو إسرائيل البحر، وأغرق الله فرعون ومن معه، ولكن بقايا الوثنية لا تزال في نفوس القوم، فقد مروا على قوم قد اتخذوا لهم صنماً فقالوا: {يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}(سورة الأعراف:138)!!
سبحان الله بعد هذه الرحلة الطويلة، والتربية العظيمة، والعبادة، والمحنة، والنجاة من العدو، والنعمة الكبيرة، وهذه المجاوزة للبحر والنجاة من الغرق بعد النجاة من العدو الكبير، تقولون: اجعل لنا إلهاً؟!!
يا أيها اليهود، ما أكفركم! يا أيها اليهود، ما أبغضكم! يا أيها اليهود، ما أشد جحدكم وجهلكم بالله!
ويبقى موسى وهارون ثابتين على الطريق في بني إسرائيل، يأمرانهم بالمعروف، وينهيانهم عن المنكر، ويقيمان دين الله فيهم، خطوة بخطوة، فلما صار الموعد للقاء الله وتأهلت وتأهبت تلك المجموعة لتلقي الوحي، وكانت التوارة التي ستقام في بني إسرائيل، وهذا الفضل العظيم والنزول الكبير للألواح المسطر فيها الوحي من الله - عز وجل - كما قال الله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ}(سورة الأعراف:145) استخلف موسى أخاه هارون، وذهب في تلك الرحلة بعدما أوصاه، فانتهز السامري غياب موسى فأخذ من الذهب الذي مع بني إسرائيل ما شكل به تمثالاً على هيئة عجل من ولد البقر له فتحتان إحداهما - وهي الأكبر - من دبره بحيث تدخل منها الريح ثم تخرج من الفتحة الثاني الأصغر في رأسه على هيئة خوار البقر، ومن مهر بالصنعة استطاع أن يفعل من أنواع الأصوات ما يشابه الواقع بواسطة دخول الهواء وخروجه، فهذا الذهب معبودهم الذي فتنوا به من قبل، وهكذا صنع السامري، وما أسرع تهافت بني إسرائيل عليه حيث إنه تمثال عجل من ذهب يوافق تلك الآلهة التي كان عليها القوم، فقد وجدوا الآن بغيتهم في هذا الذي صنعه السامري {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}(سورة طـه:88).
كم حاول هارون - عليه السلام - أن يبين للقوم {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي}(سورة طـه:90) لقد كان بياناً واضحاً وكلاماً صادعاً، ولكن هيهات {قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى}(سورة طـه:91) هذه هي حجتهم وهي انتظار موسى ليفصل! أليس الذي قاله هارون كافياً في البيان.
لقد ناشدهم هارون بقوله: يا قومِ، يذكرهم وشيجة القرابة وهو يدعوهم إلى عبادة الله، {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ}(سورة طـه:90) وهكذا يكون استعطاف القلوب من الداعية للمدعوين {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ}(سورة طـه:90) هذه فتنة، {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ}(سورة طـه:90) فوق سبع سماوات وليس هذا التمثال المصنوع، {فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي}(سورة طـه:90).
حاول هارون - عليه السلام - مراراً وتكراراً، وثبت على الحق ودعاهم جهاراً، وخلف موسى بمثل ما أوصاه، اللهم صلِّ وسلّم وبارك على هارون، وعلى سائر أنبيائك ورسلك، وصلِّ اللهم على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله أكبر كبيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخليله ومصطفاه ومجتباه من خلقه، ختم الله به الأنبياء، وأنزل عليه القرآن، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته، وخلفائه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله:
رجوع موسى وموقفه مع أخيه من صنيع السامري
أقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن، وهكذا يكون بقاء القائد في الحق، والمقدم في الدين من أسباب ثبات من حوله، وهكذا ثبت الله بالبقية الباقية من بني إسرائيل، ثبتهم بهارون - عليه السلام - وكانوا ينصحون قومهم، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل حتى كانت رجعة موسى - عليه السلام -.
رجع موسى من رحلة إيمانية عظيمة، وقد تلقى الوحي ومعه الألواح ونفسه متهيئة لإقامة أحكام التوارة في قومه وهو متحمس أشد الحماس لما كان يعيشه من الإيمان العظيم، بما حصل من كلام الله له مباشرة وإيتائه التوارة التي خطها الله له بيده، وهو عائد من تلك الرحلة الإيمانية العظيمة ومعه التكاليف ليقوم بها، إذ به يفاجأ باسوأ منظر، الناس الذين أرسل إليهم بعد هذه الرحلة الطويلة من الاستخراج من مصر وعبور البحر والنجاة، وقد جعل عليهم أخاه حيث لم يأخذ أخاه معه رغم شرف الرحلة من أجل هؤلاء، ليفاجأ باسوأ منظر، وهو أسوأ منكر في قومه {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ}(سورة الأعراف:150)، هكذا تشركون بهذه السرعة؟ وبعجل تمثال لا ينفع ولا يضر وليس له إلا هذا الصوت، بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ}(سورة الأعراف:150) ثم قال: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ}(150) سورة الأعراف:150) ألقى الألواح من الغضب لرؤية المنكر الذي هو الشرك الذي لا يراه اليوم كثير من الناس منكراً ولا قبيحاً، نعم يرون قبح الرشوة، قبح الظلم، قبح الاضطهاد في أمور الدنيا، ولا يرون قبح الشرك - إلا من رحم الله -.
{وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}(سورة الأعراف:150) فهذا هو المسؤول الأول حيث ظنه مقصراً لم يقم بالوصية، لكن هارون - عليه السلام - قال: {ابْنَ أُمَّ}(سورة الأعراف:150) ذكَّره بأنه شقيق له من أمه وأبيه، وقدم ذكر الأم على ذكر الأب؛ لأنها أشفق وأرحم وأرقّ وأعطف، ذكَّره بالعلاقة ليرأف به؛ لأنه ليس مقصراً ولا ظالماً، {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي}(سورة الأعراف:150) إذاً هارون وصلت به القضية إلى أن يكون على وشك الموت، وكادوا يقتلونني، لم يكن بينهم وبين قتلي إلا شيء يسير حيث أوشكوا على فعل ذلك.
{فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(سورة الأعراف:150) أنا لست مقصراً فلا تجعلني معهم في صف واحد، ولا تعاملني معاملتهم.. لا تشمت بي الأعداء - السامري وغيره - الذين ينظرون إلينا الآن ولا تسرهم بما تفعل بي... لا تخلطني مع الظلمة ولا تسقني مساقهم.
{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}(سورة طـه:92-93) لماذا لم تلحقني لتخبرني؟ قال: {إِنِّي خَشِيتُ}(سورة طـه:94) يعني: إذا اتبعتك وتركت بني إسرائيل {أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}(سورة طـه:94) بهذا الترك {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}(سورة طـه:94) أن تكون أميراً وخليفة عليهم في غيابي؛ لأنني إذا تركتهم فإنني أكون قد عصيتك؛ لأنك جعلتني خليفة عليهم في غيابك فكيف أترك ما استخلفتني به عليهم؟ وهذا عذر واضح وحكمة بالغة تدل على عقل هارون - عليه السلام - حيث قال: إني خشيت أن أترك القوم، فأكون سبباً في الفرقة، ولا شك أن هذا هو الاجتهاد الصائب في هذه الحال، فهو محاولة لتخفيف الشر ما أمكن، ومحاولة استنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأن يكون مع البقية الباقية إماماً لهم ومثبتاً، فلو غاب القائد في مثل هذه الحال وسقطت الراية فيمكن أن لا يبقى على الحق أحد.
والغضب من طباع البشر، وموسى - عليه السلام - كان به من القوة في الدين ما فيه، ولذلك رجع إلى نفسه بعدها لما سمع عذر أخيه وبراءة ساحته، وتوجه إلى الله بالدعاء قائلاً: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ}(سورة الأعراف:151) يعني بحيث تكون الرحمة محيطة بنا من جميع الجهات.
وقد ذكر أهل العلم أن هارون - عليه السلام - توفي في التيه قبل موسى - عليه السلام - بثلاث سنين، ودفنه موسى، كما ذكر ذلك ابن كثير والطبري وابن الأثير.
وبقي هارون - عليه السلام - ثابتاً على الحق حتى الممات، وكان مع موسى وفياً لهذه الدعوة، وزيراً ناصحاً، ومعاوناً وقدوة وإماماً في الهدى والتوحيد، وكان عابداً لله مخلصاً له، كان مسلس القياد لأخيه، ولقد وصلت القضية بموسى - عليه السلام - أن يقول في مناسبة من المناسبات: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي}(سورة المائدة:25).
بنو إسرائيل ظلمة منحرفون - إلا من رحم الله - ولذلك لما أمرهم بدخول بيت المقدس الهبة العظيمة من الله، والأرض المقدسة يقولون بكل وقاحة: {إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}(سورة المائدة:24) وكأنهم ينتظرون خروج القوم منها.
وهكذا يجد الداعية أحياناً نفسه وحيداً ليس معه إلا هذا المصدق من أهله، المسلس القياد له، الذي يعاونه ويؤازره ويساعده.
هارون قدوة لاستثمار المواهب في الدعوة إلى الله
لقد استثمر هارون - عليه السلام - الموهبة التي أتاه الله في الدعوة، وهكذا ينبغي على كل واحد منا أن يستثمر ما أتاه الله من المواهب، قال موسى: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ}(سورة الشعراء:13)، وقال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا}(سورة القصص:34) استثمر هارون تلك الفصاحة في الدعوة، فالفصاحة مهمة في الإقناع والتأثير على المدعوين.
وكذلك فإن التعاون في الدعوة إلى الله شيء عظيم، وهكذا يجب علينا جميعاً، وخصوصاً اليوم في وقت تكالب الأعداء، وكثرة الباطل وأهله، قال تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا}(سورة القصص:35)، يعني سلطان الحجة، وسلطان البيان، وسلطان الحفظ والحماية {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا}(سورة القصص:35) أي الكفرة الفراعنة {بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}(سورة القصص:35) هكذا ينصر الله رسله بآياته، وهكذا يكون الوحي معيناً مؤيداً ومؤازراً لأنبيائه.
وهكذا خاض موسى وهارون تلك المهمة العظيمة، وخبر الاثنين أنجع في النفوس من خبر الواحد، وهمة الأنبياء عالية، وكان موسى مع هارون نعم القرينان في هذه المهمة العظيمة في الدعوة إلى الله - عز وجل -.
وعمر بن العزيز كان له أربعة عشر ابناً منهم عبد الملك بن عمر بن العزيز، الابن الصالح كان من أعبد الناس، توفي في خلافة أبيه وعمره سبعة عشرة سنة وستة أشهر، وكان مشيراً على عمر بمصالح المسلمين ووزيراً صالحاً وبطانة خير كما ذكر العلماء.
إن حسن اختيار الصادق الأمين لمهمة الدعوة، وأن يكون من الأقارب من يعين فيها أيضاً هذا شيء مهم، ولذلك فإن عيسى - عليه السلام - كان له حواريون، {قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ}(سورة آل عمران:52)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - معه من أصحابه أيضاً من معه.
إن الثبات على الحق ولو غاب القائد أمر في غاية الأهمية، وإن وحدة الأمر وإسلاس القياد من عوامل النجاح العظيمة، ولقد انقاد هارون لموسى ولم ينافسه، ولم يشق عليه عصا الطاعة، ولم يخالفه حتى في أعظم وأشد الأوقات صعوبة ولذلك قال موسى: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}(سورة المائدة:25) أي: ليس يطيعني منهم أحد إلا هذا الذي هو أخي.
وهكذا يحتاج الداعية إلى متنفس له يشكو إليه ويبث إليه الهموم، ويعاونه على مواجهة الآلام والمصاعب، فنعم المعين هارون بعد الله - عز وجل -.
وكذلك فإننا وجدنا في هذه القصة العظيمة كيف يكون الوعظ للمقصرين والنصح لمن وقع في الشرك والمنكر العظيم، قال الله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}(سورة الأعراف:152).
عباد الله:
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}(سورة يوسف:111) فنسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا من المعتبرين بقصص أنبيائه وحزبه المفلحين.
اللهم إنا نسألك أن تعلي شأننا، وترحم ضعفنا، وتغفر ذنبنا، وتقضي ديننا، وتشفي مريضنا، وترحم ميتنا، وأن تجمع على الحق قلوبنا.
اللهم أدخلنا دار السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم إنا نسألك نوراً تضيء به قلوبنا، وتلمّ به شعثنا، يا أرحم الراحمين، اللهمَّ سدد ألسنتنا واجمع قلوبنا على الحق.
اللهم إنا نسألك أن تعز دينك، وأن تنصر السنة في العالمين، اللهم إنا نسألك أن تكبت المنافقين، وأن تقمع أعداء الدين، وأن تنشر رحمتك علينا يا رب العالمين، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.