كتبه الشيخ أبو مالك العوضي (حفظه الله و بارك فيه)
هذا العلم (علم البلاغة) مظلوم بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.
فقد ظُلِم هذا العلم في معرفة قدره.. وظلم في دراسته.. وظلم في تطبيقه..
ظلم من حملته، وظلم من أعدائه..
ظلم من القدماء، وظلم من المعاصرين..
ظلم من العلماء، وظلم من طلبة العلم..
مع أن هذا العلم يكاد يكون أهمَّ العلوم؛ لأنه هو الآلة التي تمكننا من فهم النصوص الشرعية فهما صحيحًا، وكذلك هو الآلة التي تمكننا من تقرير إعجاز القرآن الذي هو أساس الشرع.
أما الظلم في معرفة قدره:
فسببه أن أكثر الناس يظنونه شيئًا كماليًّا، لا يلزم طالبَ العلم أن يدرسه، وإنما غايته تحسين الكلام، ومعرفة البيان، وأن تقول إذا سمعت شعرًا (يا سلام)!
وأما الظلم في دراسته:
فبأن سُلك به غير سبيله الصحيحة، فصار أصحاب يونان هم أئمته وأعلامه، وصارت مادتُه مستقاة من كلام أرسطو وأتباعه، بدلا من أن يُبتنى على كلام العرب وأصوله، وعوضًا من أن يستقى من كلام الأدباء والبلغاء العرب الخلص الذين أفنوا أعمارهم في الفحص عن كلام العرب وتأمله حتى صار لهم كالسليقة لا يستطيعون عنه تحولا.
وأما الظلم في تطبيقه:
فلو طبق هذا العلم على مسائل الفقه لتغير حالُه، ولقل الخلافُ فيه، ولظهر وجهُ الحق جليًّا واضحًا، ولبطلت أقوالٌ كان لها من الشهرة ما كان، ولظهر فسادُ بعض الاستنباطات التي سارت بها الركبان.
وأما ظلمه من حملته:
فلأن أكثرهم ليسوا من الفقه في شيء، فلم يطبقوا كلامهم على نصوص الشرع ومسائله، وإنما جعلوا جل همهم الموازنة بين فلان وفلان من الشعراء، والحكم بتقديم فلان على فلان من الأدباء، وهذا لا بأس به في نفسه، ولكن لا شك أن الأهم تطبيق ذلك على مسائل الشرع.
وأما ظلمه من أعدائه:
فما أكثرَهم! وما أكثرَ دعاواهم وأباطيلهم!
فتارة يتعاطون منه ما لا يحسنون، فيفسدون أكثرَ مما يصلحون، وتارة يعترضون عليه بما يجهلون؛ إذ كل امرئ عدو ما يجهل، فصاروا حربًا عليه وعلى حملته، تارة بالتصريح وتارة بالتلويح.
وأقلهم ضررًا من يعلن العداوة ويقول: هذا علم غث لا فائدة فيه ترتجى، ولا نائل من ورائه يبتغى!
وأكثرهم ضررًا من يقول: هذا العلم أضر على الشرع من أعدائه، إذ جاء بالأقوال الباطلة والمذاهب الفاسدة، فيظن أن دخول الفساد في هذا العلم بسبب ذاته، وراجع إلى أصله!!
وما درى أن الفساد إنما دخله –كأي علم- من دخول غير أهله فيه، ومن استمداده من غير مصادره الصحيحة، ومن تشقيق القول بالتجويز العقلي دون الاستقراء النقلي لكلام العرب.
وأما ظلمه من القدماء:
وهو أقل ما ظلم، فبأن أكثرهم اكتفى في قواعده بالتلويح دون التصريح، فلم يضعوا فيه كتابًا واضح المعاني سالم المباني، يقتفي فيه المتأخرُ أثر المتقدم فيشكر سعيه ويسير على خطاه، بل جعلوا كلامهم رمزًا، فلا يستطيع الوصول إلى مغزاه إلا من أفنى عمره في تحصيله.
ولعل عذر القدماء في هذا أنهم بذلك قد سدوا على غير أهل هذا الفن أن يدخلوا فيه، ولذلك لم يظهر أهلُ الادعاء في هذا العلم إلا بعد أن صار قوانين محفوظة!
وأما ظلمه من المعاصرين:
فلأنك نادرًا ما تجد فيه متخصصًا إلا وهو عن علوم الشرع بمعزل، فلا يخطر بباله أن يطبقه على علوم الشرع، ولا يرد على خاطره أنه يؤسس كثيرًا من كلامه مخالفًا لأصول الشرع وفروعه.
وأما ظلمه من العلماء:
فلأنهم لا ينصحون الطلبة بدراسته، ولا يحثونهم على التعمق فيه، وربما كان هذا بسبب أن بضاعتهم فيه مزجاة، أو أنهم ينتمون إلى فئة المشنعين على أهله وطالبيه.
وأما ظلمه من طلبة العلم:
فلأنهم لا يسمعون نصيحًا في دراسته إن وجدوه، ولا يلقون له بالا إن سمعوه، ولا يعرفون أهميته وخطره حتى إن فرض عليهم فرضا!
وليت شعري ماذا يفهم اللبيب الذكي والنجيب الألمعي إذا قرأ في كلام أهل العلم أن القرآن يحتوي على أبلغ البلاغة وأفصح الفصاحة، وماذا يفهم إذا سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، وقد أوتي جوامع الكلم؟
أيفهم من هذا أن نصوص الشرع قد تأتي مخالفة لقوانين البلاغة، أو قد تأتي على وجوه ضعيفة من البيان والفصاحة؟!!
أيفهم من هذا أن النصوص الشرعية يمكن أن تفسر تفسيرًا يجعلها أشبهَ بكلام السفهاء من كلام العقلاء؟
أيفهم من هذا أن النصوص الشرعية يمكن أن تفهم فهمًا يجعلها أقرب إلى سفساف القول ومستهجن الكلام منها إلى كلام عقلاء العرب فضلا عن أفصح العرب، فضلا عن الخالق العظيم؟!
إن من يفهم هذا الفهم لا يحتاج إلى أن يُكلّم ولا أن يُناظَر؛ لأنه قد خرج عن الإنسانية، فصار أقرب إلى الحيوانية.
ولولا أن لازم المذهب ليس بمذهب، لصار هذا الوصفُ واقعًا على كثير من المنسوبين للعلم، إلا أن كلام غير أهل الفن لا يحسب على أهله، ولا يطعن به على غير أهله.
والأمر مسلّم لكل أهل فن في فنهم لا يَشْرَكهم فيه غيرهم؛ لأن من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب، وكم رأينا ونرى وسنرى من هذا ما لا يحصى ولا يعد!!
بل رأينا ما هو أعجب!! رأينا من يزعم أن كلام أهل الفن في فنهم ليس بلازم!! ويمكن أن يخالفهم من ليس من أهل هذا الفن!
فلا يمتنع -عند هؤلاء- أن يخالف الطبيبُ أهلَ النحو فيأتي بقول في النحو لم يقل به أحد من أهل النحو، ويكون هو الحق الذي لا محيد عنه!
ولا يمتنع أن يخالف النحوي أهل الطب فيأتي بقول في الطب لم يقل به أحد من أهل الطب، ويكون هو القول الصحيح الذي لا يصح غيره!
ولا أعلم خطلا أبعدَ من هذا القول، ولا ضلالا أعظمَ منه؛ لأنه يؤدي إلى ترك الثقة بكل شيء في الوجود، فلا يوجد عند هؤلاء شيءٌ معلوم موثوق في العلم به، ولا يوجد شيء عند هؤلاء يرجع إليه عند الاختلاف، وحاصلُ قولهم يئول إلى تساقط الأدلة والتساوي بين المذاهب.
ولا أريد أن يفهم من كلامي السابق أنني أزعم أن جميع من على ظهر الأرض قديمًا وحديثا قد ظلموا هذا العلم، فإن هذا الفهم بعيد تمامًا عن الصواب، ولا يحتمله كلامي أصلا.
وإنما المراد قلة السالكين لهذه المسالك، وندرة الباحثين عن هذه الدقائق، وقديمًا قيل: إن (علم البيان لا نضج ولا احترق)، والمراد بذلك أن الكلام فيه قليل جدًّا إذا قسناه إلى الكلام في غيره من العلوم، فإنك إذا بحثتَ عن كتب البلاغة لا تكاد تصل بها إلى مائة كتاب إلا بعد شق الأنفس، وأكثرها للمتأخرين، في حين إن كتب كل من الحديث والتفسير والفقه بالألوف، بل قد تجد في المسألة الواحدة عشرات الكتب المفردة فيها.
أخي الكريم!
إذا علمت أن هذا العلم مظلوم، فهلاّ كنت ناصرًا للمظلوم؟!
هذا العلم (علم البلاغة) مظلوم بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.
فقد ظُلِم هذا العلم في معرفة قدره.. وظلم في دراسته.. وظلم في تطبيقه..
ظلم من حملته، وظلم من أعدائه..
ظلم من القدماء، وظلم من المعاصرين..
ظلم من العلماء، وظلم من طلبة العلم..
مع أن هذا العلم يكاد يكون أهمَّ العلوم؛ لأنه هو الآلة التي تمكننا من فهم النصوص الشرعية فهما صحيحًا، وكذلك هو الآلة التي تمكننا من تقرير إعجاز القرآن الذي هو أساس الشرع.
أما الظلم في معرفة قدره:
فسببه أن أكثر الناس يظنونه شيئًا كماليًّا، لا يلزم طالبَ العلم أن يدرسه، وإنما غايته تحسين الكلام، ومعرفة البيان، وأن تقول إذا سمعت شعرًا (يا سلام)!
وأما الظلم في دراسته:
فبأن سُلك به غير سبيله الصحيحة، فصار أصحاب يونان هم أئمته وأعلامه، وصارت مادتُه مستقاة من كلام أرسطو وأتباعه، بدلا من أن يُبتنى على كلام العرب وأصوله، وعوضًا من أن يستقى من كلام الأدباء والبلغاء العرب الخلص الذين أفنوا أعمارهم في الفحص عن كلام العرب وتأمله حتى صار لهم كالسليقة لا يستطيعون عنه تحولا.
وأما الظلم في تطبيقه:
فلو طبق هذا العلم على مسائل الفقه لتغير حالُه، ولقل الخلافُ فيه، ولظهر وجهُ الحق جليًّا واضحًا، ولبطلت أقوالٌ كان لها من الشهرة ما كان، ولظهر فسادُ بعض الاستنباطات التي سارت بها الركبان.
وأما ظلمه من حملته:
فلأن أكثرهم ليسوا من الفقه في شيء، فلم يطبقوا كلامهم على نصوص الشرع ومسائله، وإنما جعلوا جل همهم الموازنة بين فلان وفلان من الشعراء، والحكم بتقديم فلان على فلان من الأدباء، وهذا لا بأس به في نفسه، ولكن لا شك أن الأهم تطبيق ذلك على مسائل الشرع.
وأما ظلمه من أعدائه:
فما أكثرَهم! وما أكثرَ دعاواهم وأباطيلهم!
فتارة يتعاطون منه ما لا يحسنون، فيفسدون أكثرَ مما يصلحون، وتارة يعترضون عليه بما يجهلون؛ إذ كل امرئ عدو ما يجهل، فصاروا حربًا عليه وعلى حملته، تارة بالتصريح وتارة بالتلويح.
وأقلهم ضررًا من يعلن العداوة ويقول: هذا علم غث لا فائدة فيه ترتجى، ولا نائل من ورائه يبتغى!
وأكثرهم ضررًا من يقول: هذا العلم أضر على الشرع من أعدائه، إذ جاء بالأقوال الباطلة والمذاهب الفاسدة، فيظن أن دخول الفساد في هذا العلم بسبب ذاته، وراجع إلى أصله!!
وما درى أن الفساد إنما دخله –كأي علم- من دخول غير أهله فيه، ومن استمداده من غير مصادره الصحيحة، ومن تشقيق القول بالتجويز العقلي دون الاستقراء النقلي لكلام العرب.
وأما ظلمه من القدماء:
وهو أقل ما ظلم، فبأن أكثرهم اكتفى في قواعده بالتلويح دون التصريح، فلم يضعوا فيه كتابًا واضح المعاني سالم المباني، يقتفي فيه المتأخرُ أثر المتقدم فيشكر سعيه ويسير على خطاه، بل جعلوا كلامهم رمزًا، فلا يستطيع الوصول إلى مغزاه إلا من أفنى عمره في تحصيله.
ولعل عذر القدماء في هذا أنهم بذلك قد سدوا على غير أهل هذا الفن أن يدخلوا فيه، ولذلك لم يظهر أهلُ الادعاء في هذا العلم إلا بعد أن صار قوانين محفوظة!
وأما ظلمه من المعاصرين:
فلأنك نادرًا ما تجد فيه متخصصًا إلا وهو عن علوم الشرع بمعزل، فلا يخطر بباله أن يطبقه على علوم الشرع، ولا يرد على خاطره أنه يؤسس كثيرًا من كلامه مخالفًا لأصول الشرع وفروعه.
وأما ظلمه من العلماء:
فلأنهم لا ينصحون الطلبة بدراسته، ولا يحثونهم على التعمق فيه، وربما كان هذا بسبب أن بضاعتهم فيه مزجاة، أو أنهم ينتمون إلى فئة المشنعين على أهله وطالبيه.
وأما ظلمه من طلبة العلم:
فلأنهم لا يسمعون نصيحًا في دراسته إن وجدوه، ولا يلقون له بالا إن سمعوه، ولا يعرفون أهميته وخطره حتى إن فرض عليهم فرضا!
وليت شعري ماذا يفهم اللبيب الذكي والنجيب الألمعي إذا قرأ في كلام أهل العلم أن القرآن يحتوي على أبلغ البلاغة وأفصح الفصاحة، وماذا يفهم إذا سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، وقد أوتي جوامع الكلم؟
أيفهم من هذا أن نصوص الشرع قد تأتي مخالفة لقوانين البلاغة، أو قد تأتي على وجوه ضعيفة من البيان والفصاحة؟!!
أيفهم من هذا أن النصوص الشرعية يمكن أن تفسر تفسيرًا يجعلها أشبهَ بكلام السفهاء من كلام العقلاء؟
أيفهم من هذا أن النصوص الشرعية يمكن أن تفهم فهمًا يجعلها أقرب إلى سفساف القول ومستهجن الكلام منها إلى كلام عقلاء العرب فضلا عن أفصح العرب، فضلا عن الخالق العظيم؟!
إن من يفهم هذا الفهم لا يحتاج إلى أن يُكلّم ولا أن يُناظَر؛ لأنه قد خرج عن الإنسانية، فصار أقرب إلى الحيوانية.
ولولا أن لازم المذهب ليس بمذهب، لصار هذا الوصفُ واقعًا على كثير من المنسوبين للعلم، إلا أن كلام غير أهل الفن لا يحسب على أهله، ولا يطعن به على غير أهله.
والأمر مسلّم لكل أهل فن في فنهم لا يَشْرَكهم فيه غيرهم؛ لأن من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب، وكم رأينا ونرى وسنرى من هذا ما لا يحصى ولا يعد!!
بل رأينا ما هو أعجب!! رأينا من يزعم أن كلام أهل الفن في فنهم ليس بلازم!! ويمكن أن يخالفهم من ليس من أهل هذا الفن!
فلا يمتنع -عند هؤلاء- أن يخالف الطبيبُ أهلَ النحو فيأتي بقول في النحو لم يقل به أحد من أهل النحو، ويكون هو الحق الذي لا محيد عنه!
ولا يمتنع أن يخالف النحوي أهل الطب فيأتي بقول في الطب لم يقل به أحد من أهل الطب، ويكون هو القول الصحيح الذي لا يصح غيره!
ولا أعلم خطلا أبعدَ من هذا القول، ولا ضلالا أعظمَ منه؛ لأنه يؤدي إلى ترك الثقة بكل شيء في الوجود، فلا يوجد عند هؤلاء شيءٌ معلوم موثوق في العلم به، ولا يوجد شيء عند هؤلاء يرجع إليه عند الاختلاف، وحاصلُ قولهم يئول إلى تساقط الأدلة والتساوي بين المذاهب.
ولا أريد أن يفهم من كلامي السابق أنني أزعم أن جميع من على ظهر الأرض قديمًا وحديثا قد ظلموا هذا العلم، فإن هذا الفهم بعيد تمامًا عن الصواب، ولا يحتمله كلامي أصلا.
وإنما المراد قلة السالكين لهذه المسالك، وندرة الباحثين عن هذه الدقائق، وقديمًا قيل: إن (علم البيان لا نضج ولا احترق)، والمراد بذلك أن الكلام فيه قليل جدًّا إذا قسناه إلى الكلام في غيره من العلوم، فإنك إذا بحثتَ عن كتب البلاغة لا تكاد تصل بها إلى مائة كتاب إلا بعد شق الأنفس، وأكثرها للمتأخرين، في حين إن كتب كل من الحديث والتفسير والفقه بالألوف، بل قد تجد في المسألة الواحدة عشرات الكتب المفردة فيها.
أخي الكريم!
إذا علمت أن هذا العلم مظلوم، فهلاّ كنت ناصرًا للمظلوم؟!