التمذهب
لقد عرف هذا المصطلح -أي: مصطلح التمذهب- بعد وجود المذاهب الفقهية، وأخصها المذاهب الأربعة: مذهب الإمام أبي حنيفة ، ومذهب الإمام مالك ، ومذهب الإمام الشافعي ، ومذهب الإمام أحمد . والقول في التمذهب يقع في مقامين:
التمذهب الجائز المحمود
المقام الأول: التمذهب الجائز المحمود: وهو اعتبار التمذهب من التراتيب العلمية، فيقصد إليه في مقام التدريس والتعلم، والتدريس حق الشيخ، والتعلم حق الطالب، فالنظر في التمذهب باعتباره من عوارض التراتيب العلمية أمر حسن وسائغ، وإن لم يكن لازماً على الإطلاق، وفائدته ترتيب المسائل العلمية، ومعرفة مبتدأ الأقوال في الكتب ومنتهاها، فيحفظ به المتمذهب ويعرف أصول المسائل، ومبتدأ الأقوال، وما إلى ذلك. ومن فوائده: أنه يقع ضد الفوضى العلمية، ولعل من الحكمة أن نقول: ضد الفوضى، وليس نقيض الفوضى؛ لأن الضد قد يعني أنه إذا ارتفع الضدان فيمكن أن توجد صورة ثالثة، فلا يقال: إنه لا يمكن في الوجود إلا التمذهب أو الفوضى، ومن لم يتمذهب فهو من أهل الفوضى، فإن هذا إغلاق؛ لأنه أولاً لم يقع عند السابقين بهذه الصورة، ثم إنه حتى بعد أن ظهرت المذاهب الأربعة كان هناك اختصاصات، كاختصاصات بعض أهل الحديث بفقه الحديث والتتبع لفقه المحدثين، والعناية به، وكذلك بعض المتمذهبين كثر خروجهم عن رأي المذهب في بعض المسائل، وكثر أخذهم بخلاف المعروف من المذهب في المصطلح. إذاً: القول بأن من لم يتمذهب فهو من أهل الفوضى قول غير صحيح، لكن في أحيان كثيرة يكون التمذهب بديلاً عن الفوضى، وفي كثير من الأحوال تركه يؤدي إلى الفوضى، أما أنه يلزم من تركه الفوضى فهذا ليس شرطاً لازماً على الإطلاق.
اختيار التمذهب بمذهب معين
إذا قلنا: إن المذاهب التي اشتهرت وانتشرت وبقيت هي المذاهب الأربعة، فبماذا يتمذهب طالب العلم ابتداءً؟ نقول: الأصل شرعاً وعقلاً أن يُختار الأفضل والأقرب للسنة والأقرب للصواب.. وهذا متعذر، ولما كان متعذراً كان التعليق به وجهاً من التعصب، ومعنى ذلك: أن من يقول: إن مذهب الإمام أحمد أو مذهب الحنابلة هو أصح المذاهب بإطلاق، فإن هذا فيه تعصب، ومثله من يقول: مذهب الحنفية أو مذهب الشافعية أو المالكية أصح المذاهب، إذاًَ التفضيل المطلق لمذهب واحد من المذاهب الأربعة على غيره عند التحقيق أمر غير ممكن، ومن قال بذلك فهو اجتهاد عنده، وكما أن بعض الحنابلة يقدم مذهب الإمام أحمد ، فإن الشافعية يوجد فيهم من يرجح بالجملة مذهب الشافعي ، وهكذا في سائر المذاهب؛ بل إن الأصل في المتمذهبين أنهم ما تمذهبوا إلا لكونهم يرجحون المذهب على غيره. إذاً: ليس هناك تفضيل مطلق منضبط علمياً عند سائر الفقهاء، أو كقواعد علمية صريحة منضبطة، إنما المحققون يعرفون التفضيل في أبواب معينة، فمثلاً: الإمام ابن تيمية من المحققين، مع أنه حنبلي إلا أنه يقول: وأصول مالك في البيوع والمعاملات أجود من غيره؛ لأنه أخذ فقه ذلك عن أعلم الناس بهذه المسائل في زمنه وهو سعيد بن المسيب . وإذا رجعنا إلى من قبل الأئمة الأربعة فسنجد أنهم يفضلون عطاء في المناسك، فإن فقه عطاء في المناسك من أجود الفقه، كذلك أيضاً قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [الأنعام:145]، نجد أن المذاهب اختلفت فيها، فالحنابلة في المشهور من مذهبهم يحرمون ما استخبثته العرب، والشافعية في المشهور من مذهبهم يجعلون المناط على الضرر، والإمام مالك توسع في ذلك حتى إنه في مذهبه أحلت كثير من الحيوانات التي حرمت في جمهور المذاهب. إذاً: التفضيل الممكن يكون في أبواب معينة، كأن يقال مثلاً: في باب المياه مذهب فلان أجود من مذهب فلان، وهذا يصل إليه المحققون، كـابن تيمية رحمه الله فإنه يستعمل هذا كثيراً، ومن قبله الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام يشير في بعض كلامه -كما في كتاب الأموال- إلى شيء من هذا. ولما تعذر التفضيل المطلق فإن معيار الاختيار من أخصه قصد ما عليه أهل البلد، فمن نشأ في بيئةٍ حنبلية فالأولى له أن يتمذهب بمذهب الحنابلة، وفي البيئة الشافعية أو المالكية أو الحنفية كذلك؛ وذلك لمصالح شرعية بينة، من أخصها: أنه أضبط لعلمه؛ لأن ذلك المذهب كتبه منتشرة في ذلك المصر، والشيوخ الذين يدرسونه موجودون، وطرق التدريس له فيما بعد لحفظ العلم متاحة، وإذا أفتى به فإنه لا يفرق العامة ولا يلبس عليهم، وهكذا درج المتقدمون قبل هذه التمذهبات، فقد كان الإمام مالك رحمه الله في المدينة يحرص على فقه المدنيين، حتى إنه قدم عمل أهل المدينة وجعله حجة في بعض المسائل، فهذا من الفقه الفاضل، وهو نوع من الاقتداء الحسن، وما زال المسلمون سائرين عليه.
حكم التمذهب كترتيب علمي
ما حكم التمذهب كترتيب علمي؟ الترتيب العملي له وجهان: الوجه الأول: إذا جاء من عارف فقيه فإن الترتيب بمعنى أنه يفقه أصول المذهب، فيفقه الحنفي درجة القياس في مذهب أبي حنيفة وأين يستعمل، كما أن الحنبلي يفقه درجة قول الصحابي وأين يستعمل، ويفقه المنطوق والمفهوم، وهل يعمل المذهب بالمفهوم أم لا؟ والمقصود: أنه يدرس أصول فقه المذهب، وذلك مثل تمذهب ابن عبد البر على مذهب الإمام مالك ، فليس تمذهبه مجرد أنه قرأ فروعاً متنية على فقيه مالكي؛ بل إنه يعرف أصول مذهب الإمام مالك ، فهذه الدرجة العالية في الترتيب العلمي للتمذهب أنه يقصد إلى فقه أصول المذهب، ومن باب أولى أن يأخذ بعد ذلك الفروع. الوجه الثاني -وهو الشائع الآن عند كثير من المجالسين لفقهاء المذاهب في أمصار المسلمين-: أن بعض طلاب العلم لا يصل إلى أنه يعرف أصول المذهب بقدر ما هو يحفظ فروع المذهب على طريقةٍ معينة، فهذا أيضاً وجه من الترتيب العلمي. فالترتيب العلمي قد يكون ترتيباً باعتبار أصول المذهب، وهذه حال الكبار من المتمذهبين، وقد يكون ترتيباً باعتبار الأخذ بفروع المذهب وإن لم يدخل في تفاصيل أصول المذهب. فإذا أخذ التمذهب كترتيب علمي يبنى عليه ولا يترك بيّن الدليل من أجله، إنما كترتيب علمي ليعرف نظم المسائل ولينضبط قوله، فهذا كترتيب علمي لا يجوز إنكاره. ولقائل أن يقول: ما هو الدليل على ذلك؟ وهنا نرجع إلى قضية الدليل النصي والدليل الاستقرائي، ومن الدليل الاستقرائي: أن هذه المذاهب استقرت في القرن الرابع الهجري، وهذا لا يجادل فيه أحد، فمتى نقل أن أعياناً من العلماء المعتبرين قد صرحوا بتحريم التمذهب كترتيب علمي؟ أما كتقليد وتعصب وترك لظاهر الأدلة فهذا معلوم من الدين بالضرورة تحريمه، ولا يحتاج أن ينقل عن فلان أو فلان من الناس، ولذلك فإن بعض من يحرمون التمذهب يقولون: قال ابن القيم كذا، مع أن ابن القيم حنبلي فما الذي كان ينكره وهو حنبلي؟ أو يقولون: قال شيخ الإسلام ابن تيمية أو ابن رجب كذا، مع أنهما حنبليان، فالتمذهب بمعنى التقليد والتدين والالتزام والاختصاصات والتعصبات، هذا المفهوم هو المخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، أما التمذهب كترتيب علمي مع عدم الإلزام به إلا من باب ترك الفوضى العلمية وما إلى ذلك، فهذا إلى القرن العاشر -فيما أعلم- لم يحفظ عن إمام معتبر أنه منع منه، إنما الذي صرح المتقدمون كالأئمة الأربعة أنفسهم والفقهاء من أصحابهم المحققين، كبعض الذين ذكروا في المصنفات التي ذمت التقليد والمقلدين وما إلى ذلك -الذي صرحوا بمنعه والتحذير منه هو التمذهب بمعنى التقليد والتعصب وتقديم المذهب على الدليل.. ونحو ذلك. أما التمذهب كترتيب علمي فلم ينكر على هذا الوجه، بل إن جماهير علماء المسلمين في سائر بيئاتهم كانوا يتمذهبون على هذه المذاهب، مع أنهم درجات، فمنهم المحققون الذين انتظموا على فقه المذاهب بشكل صحيح، ومنهم دون ذلك.
التمذهب المذموم
المقام الثاني: التمذهب المذموم: وهو التمذهب على معنى التدين، أي: أنه يلتزم التمذهب على وجه الاختصاص بقول أحد، فيجعل هذا أخص تديناً من غيره، ويتعصب له حتى إنه يترك ظاهر الدليل من أجل قوله ونحو ذلك، فهذا الاستمساك المحض، والمغالبة المحضة بالمذهب، أو ذم المذاهب الأخرى، أو تشتيت المسلمين بالتمذهب.. ونحو ذلك من العوارض البينة، هذا لا شك أنه مذموم شرعاً وعقلاً، وليس هو من باب التوسعة على المسلمين كالمقام الأول، بل إنه يدخل في باب التضييق عليهم. ولذلك إذا ورد سؤال: هل التمذهب توسعة على المسلمين أم أنه تضييق عليهم؟ فيقال: فيه تفصيل: فإن اعتبر بالمفهوم الأول الشرعي المتعقل فهو توسعة على المسلمين، وإن اعتبر بالمفهوم الثاني التعصبي المضيق الذي يتجاهل القول الآخر مطلقاً، ويتجاهل ظاهر الدليل أحياناً إلى غيره، ويتكلف في إبعاد القول الثاني، وغير ذلك من أوجه الغلو التي حدثت في التاريخ، حتى كان بعض الشافعية لا يزوجون الحنفي -وإن كانوا يتمسكون بأن الحنفية لا يشترطون الولي في النكاح وما إلى ذلك، لكن هذه تعصبات زائدة- وحتى صار بعضهم يسأل: هل نصلي خلف الشافعي وهو يقنت في الصبح أم لا نصلي خلفه؟! فهذه التكلفات هي تضييق وليست توسعة على المسلمين.
http://audio.islamweb.net/audio/index.php?page=FullContent&audioid=137936
.
لقد عرف هذا المصطلح -أي: مصطلح التمذهب- بعد وجود المذاهب الفقهية، وأخصها المذاهب الأربعة: مذهب الإمام أبي حنيفة ، ومذهب الإمام مالك ، ومذهب الإمام الشافعي ، ومذهب الإمام أحمد . والقول في التمذهب يقع في مقامين:
التمذهب الجائز المحمود
المقام الأول: التمذهب الجائز المحمود: وهو اعتبار التمذهب من التراتيب العلمية، فيقصد إليه في مقام التدريس والتعلم، والتدريس حق الشيخ، والتعلم حق الطالب، فالنظر في التمذهب باعتباره من عوارض التراتيب العلمية أمر حسن وسائغ، وإن لم يكن لازماً على الإطلاق، وفائدته ترتيب المسائل العلمية، ومعرفة مبتدأ الأقوال في الكتب ومنتهاها، فيحفظ به المتمذهب ويعرف أصول المسائل، ومبتدأ الأقوال، وما إلى ذلك. ومن فوائده: أنه يقع ضد الفوضى العلمية، ولعل من الحكمة أن نقول: ضد الفوضى، وليس نقيض الفوضى؛ لأن الضد قد يعني أنه إذا ارتفع الضدان فيمكن أن توجد صورة ثالثة، فلا يقال: إنه لا يمكن في الوجود إلا التمذهب أو الفوضى، ومن لم يتمذهب فهو من أهل الفوضى، فإن هذا إغلاق؛ لأنه أولاً لم يقع عند السابقين بهذه الصورة، ثم إنه حتى بعد أن ظهرت المذاهب الأربعة كان هناك اختصاصات، كاختصاصات بعض أهل الحديث بفقه الحديث والتتبع لفقه المحدثين، والعناية به، وكذلك بعض المتمذهبين كثر خروجهم عن رأي المذهب في بعض المسائل، وكثر أخذهم بخلاف المعروف من المذهب في المصطلح. إذاً: القول بأن من لم يتمذهب فهو من أهل الفوضى قول غير صحيح، لكن في أحيان كثيرة يكون التمذهب بديلاً عن الفوضى، وفي كثير من الأحوال تركه يؤدي إلى الفوضى، أما أنه يلزم من تركه الفوضى فهذا ليس شرطاً لازماً على الإطلاق.
اختيار التمذهب بمذهب معين
إذا قلنا: إن المذاهب التي اشتهرت وانتشرت وبقيت هي المذاهب الأربعة، فبماذا يتمذهب طالب العلم ابتداءً؟ نقول: الأصل شرعاً وعقلاً أن يُختار الأفضل والأقرب للسنة والأقرب للصواب.. وهذا متعذر، ولما كان متعذراً كان التعليق به وجهاً من التعصب، ومعنى ذلك: أن من يقول: إن مذهب الإمام أحمد أو مذهب الحنابلة هو أصح المذاهب بإطلاق، فإن هذا فيه تعصب، ومثله من يقول: مذهب الحنفية أو مذهب الشافعية أو المالكية أصح المذاهب، إذاًَ التفضيل المطلق لمذهب واحد من المذاهب الأربعة على غيره عند التحقيق أمر غير ممكن، ومن قال بذلك فهو اجتهاد عنده، وكما أن بعض الحنابلة يقدم مذهب الإمام أحمد ، فإن الشافعية يوجد فيهم من يرجح بالجملة مذهب الشافعي ، وهكذا في سائر المذاهب؛ بل إن الأصل في المتمذهبين أنهم ما تمذهبوا إلا لكونهم يرجحون المذهب على غيره. إذاً: ليس هناك تفضيل مطلق منضبط علمياً عند سائر الفقهاء، أو كقواعد علمية صريحة منضبطة، إنما المحققون يعرفون التفضيل في أبواب معينة، فمثلاً: الإمام ابن تيمية من المحققين، مع أنه حنبلي إلا أنه يقول: وأصول مالك في البيوع والمعاملات أجود من غيره؛ لأنه أخذ فقه ذلك عن أعلم الناس بهذه المسائل في زمنه وهو سعيد بن المسيب . وإذا رجعنا إلى من قبل الأئمة الأربعة فسنجد أنهم يفضلون عطاء في المناسك، فإن فقه عطاء في المناسك من أجود الفقه، كذلك أيضاً قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [الأنعام:145]، نجد أن المذاهب اختلفت فيها، فالحنابلة في المشهور من مذهبهم يحرمون ما استخبثته العرب، والشافعية في المشهور من مذهبهم يجعلون المناط على الضرر، والإمام مالك توسع في ذلك حتى إنه في مذهبه أحلت كثير من الحيوانات التي حرمت في جمهور المذاهب. إذاً: التفضيل الممكن يكون في أبواب معينة، كأن يقال مثلاً: في باب المياه مذهب فلان أجود من مذهب فلان، وهذا يصل إليه المحققون، كـابن تيمية رحمه الله فإنه يستعمل هذا كثيراً، ومن قبله الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام يشير في بعض كلامه -كما في كتاب الأموال- إلى شيء من هذا. ولما تعذر التفضيل المطلق فإن معيار الاختيار من أخصه قصد ما عليه أهل البلد، فمن نشأ في بيئةٍ حنبلية فالأولى له أن يتمذهب بمذهب الحنابلة، وفي البيئة الشافعية أو المالكية أو الحنفية كذلك؛ وذلك لمصالح شرعية بينة، من أخصها: أنه أضبط لعلمه؛ لأن ذلك المذهب كتبه منتشرة في ذلك المصر، والشيوخ الذين يدرسونه موجودون، وطرق التدريس له فيما بعد لحفظ العلم متاحة، وإذا أفتى به فإنه لا يفرق العامة ولا يلبس عليهم، وهكذا درج المتقدمون قبل هذه التمذهبات، فقد كان الإمام مالك رحمه الله في المدينة يحرص على فقه المدنيين، حتى إنه قدم عمل أهل المدينة وجعله حجة في بعض المسائل، فهذا من الفقه الفاضل، وهو نوع من الاقتداء الحسن، وما زال المسلمون سائرين عليه.
حكم التمذهب كترتيب علمي
ما حكم التمذهب كترتيب علمي؟ الترتيب العملي له وجهان: الوجه الأول: إذا جاء من عارف فقيه فإن الترتيب بمعنى أنه يفقه أصول المذهب، فيفقه الحنفي درجة القياس في مذهب أبي حنيفة وأين يستعمل، كما أن الحنبلي يفقه درجة قول الصحابي وأين يستعمل، ويفقه المنطوق والمفهوم، وهل يعمل المذهب بالمفهوم أم لا؟ والمقصود: أنه يدرس أصول فقه المذهب، وذلك مثل تمذهب ابن عبد البر على مذهب الإمام مالك ، فليس تمذهبه مجرد أنه قرأ فروعاً متنية على فقيه مالكي؛ بل إنه يعرف أصول مذهب الإمام مالك ، فهذه الدرجة العالية في الترتيب العلمي للتمذهب أنه يقصد إلى فقه أصول المذهب، ومن باب أولى أن يأخذ بعد ذلك الفروع. الوجه الثاني -وهو الشائع الآن عند كثير من المجالسين لفقهاء المذاهب في أمصار المسلمين-: أن بعض طلاب العلم لا يصل إلى أنه يعرف أصول المذهب بقدر ما هو يحفظ فروع المذهب على طريقةٍ معينة، فهذا أيضاً وجه من الترتيب العلمي. فالترتيب العلمي قد يكون ترتيباً باعتبار أصول المذهب، وهذه حال الكبار من المتمذهبين، وقد يكون ترتيباً باعتبار الأخذ بفروع المذهب وإن لم يدخل في تفاصيل أصول المذهب. فإذا أخذ التمذهب كترتيب علمي يبنى عليه ولا يترك بيّن الدليل من أجله، إنما كترتيب علمي ليعرف نظم المسائل ولينضبط قوله، فهذا كترتيب علمي لا يجوز إنكاره. ولقائل أن يقول: ما هو الدليل على ذلك؟ وهنا نرجع إلى قضية الدليل النصي والدليل الاستقرائي، ومن الدليل الاستقرائي: أن هذه المذاهب استقرت في القرن الرابع الهجري، وهذا لا يجادل فيه أحد، فمتى نقل أن أعياناً من العلماء المعتبرين قد صرحوا بتحريم التمذهب كترتيب علمي؟ أما كتقليد وتعصب وترك لظاهر الأدلة فهذا معلوم من الدين بالضرورة تحريمه، ولا يحتاج أن ينقل عن فلان أو فلان من الناس، ولذلك فإن بعض من يحرمون التمذهب يقولون: قال ابن القيم كذا، مع أن ابن القيم حنبلي فما الذي كان ينكره وهو حنبلي؟ أو يقولون: قال شيخ الإسلام ابن تيمية أو ابن رجب كذا، مع أنهما حنبليان، فالتمذهب بمعنى التقليد والتدين والالتزام والاختصاصات والتعصبات، هذا المفهوم هو المخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، أما التمذهب كترتيب علمي مع عدم الإلزام به إلا من باب ترك الفوضى العلمية وما إلى ذلك، فهذا إلى القرن العاشر -فيما أعلم- لم يحفظ عن إمام معتبر أنه منع منه، إنما الذي صرح المتقدمون كالأئمة الأربعة أنفسهم والفقهاء من أصحابهم المحققين، كبعض الذين ذكروا في المصنفات التي ذمت التقليد والمقلدين وما إلى ذلك -الذي صرحوا بمنعه والتحذير منه هو التمذهب بمعنى التقليد والتعصب وتقديم المذهب على الدليل.. ونحو ذلك. أما التمذهب كترتيب علمي فلم ينكر على هذا الوجه، بل إن جماهير علماء المسلمين في سائر بيئاتهم كانوا يتمذهبون على هذه المذاهب، مع أنهم درجات، فمنهم المحققون الذين انتظموا على فقه المذاهب بشكل صحيح، ومنهم دون ذلك.
التمذهب المذموم
المقام الثاني: التمذهب المذموم: وهو التمذهب على معنى التدين، أي: أنه يلتزم التمذهب على وجه الاختصاص بقول أحد، فيجعل هذا أخص تديناً من غيره، ويتعصب له حتى إنه يترك ظاهر الدليل من أجل قوله ونحو ذلك، فهذا الاستمساك المحض، والمغالبة المحضة بالمذهب، أو ذم المذاهب الأخرى، أو تشتيت المسلمين بالتمذهب.. ونحو ذلك من العوارض البينة، هذا لا شك أنه مذموم شرعاً وعقلاً، وليس هو من باب التوسعة على المسلمين كالمقام الأول، بل إنه يدخل في باب التضييق عليهم. ولذلك إذا ورد سؤال: هل التمذهب توسعة على المسلمين أم أنه تضييق عليهم؟ فيقال: فيه تفصيل: فإن اعتبر بالمفهوم الأول الشرعي المتعقل فهو توسعة على المسلمين، وإن اعتبر بالمفهوم الثاني التعصبي المضيق الذي يتجاهل القول الآخر مطلقاً، ويتجاهل ظاهر الدليل أحياناً إلى غيره، ويتكلف في إبعاد القول الثاني، وغير ذلك من أوجه الغلو التي حدثت في التاريخ، حتى كان بعض الشافعية لا يزوجون الحنفي -وإن كانوا يتمسكون بأن الحنفية لا يشترطون الولي في النكاح وما إلى ذلك، لكن هذه تعصبات زائدة- وحتى صار بعضهم يسأل: هل نصلي خلف الشافعي وهو يقنت في الصبح أم لا نصلي خلفه؟! فهذه التكلفات هي تضييق وليست توسعة على المسلمين.
http://audio.islamweb.net/audio/index.php?page=FullContent&audioid=137936
.