السؤال: ما هو شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( آية المنافق ثلاث ، إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان )، وحديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين أيضا فيه زيادة : ( وإذا خاصم فجر ، وإذا عاهد غدر )، ما معنى : ( إذا خاصم فجر ) ؟ نرجو التوضيح ، وجزاكم الله خيرا .
الجواب :
الحمد لله
يمكن أن نتكلم على هذين الحديثين بالمسائل المختصرة الآتية :
أولا :
نص الحديثين
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ) رواه البخاري (33) ومسلم (59)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
( أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ )
رواه البخاري (34) ومسلم (58)
ثانيا :
معنى كون هذه الصفات من علامات النفاق
الكذب ، وإخلاف الوعد ، والخيانة ، والغدر ، والفجور عند المخاصمة : من أبرز صفات المنافقين من أهل المدينة الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، والقرآن مليء بالآيات التي تصف حالهم هذا ، وهم إنما عرفوا بها ، والله عز وجل يقول : ( وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) محمد/30.
فإذا اتصف أحد المسلمين - الذين يشهدون بكلمة التوحيد - بشيء من هذه الصفات : فقد اتصف بصفات المنافقين التي ذمها الله عز وجل ، وعمل أعمالهم ، وحصل له من النفاق بقدر ما عمل .
ولكن ذلك لا يستلزم أن يكون هذا المسلم المتصف بالخيانة أو الكذب مثلا قد خرج عن الإيمان بالكلية ؛ لأن الإيمان يرفعه درجاتٍ عن النفاق ، ولكنه يحاسب على هذه الأخلاق الذميمة ، ولذلك يسمِّي العلماء هذه الآفات المهلكات بـ : " النفاق العملي "، يقصدون أن المتصف بها آثم مستحق للعقوبة ، ولكنه ليس في درجة المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر .
ولذلك ذهب العلماء في تأويل هذا الحديث إلى خمسة أقوال :
1- المقصود بالحديث هو تشبيه المسلم المتصف بهذه الأخلاق الذميمة بالمنافق ، فالحديث على سبيل المجاز وليس على سبيل الحقيقة ، وهذا جواب النووي .
2- المقصود بالنفاق هنا النفاق العملي ، وليس النفاق الاعتقادي ، وهذا جواب القرطبي ، ورجحه الحافظ ابن رجب ، والحافظ ابن حجر العسقلاني ، وهذا أرجح الأقوال .
3- وقيل المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال ، وهذا ارتضاه الخطابي .
4- المراد : من اعتاد هذه الصفات حتى أصبحت له سجية وخلقا دائما ، حتى تهاون بها، واستخف أمرها ، فهذا كأنه مستحل لها ، ومثله يغلب عليه فساد الاعتقاد .
5- المقصود بالحديث ليس المسلمين ، وإنما المنافقون الحقيقيون الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن ضعَّف هذا الوجه الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (1/430)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قال النووي : هذا الحديث عده جماعة من العلماء مشكلا من حيث إن هذه الخصال قد توجد في المسلم المجمع على عدم الحكم بكفره . قال : وليس فيه إشكال ، بل معناه صحيح ، والذي قاله المحققون إن معناه : أنَّ هذه خصال نفاق ، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم .
قلت – أي الحافظ ابن حجر - : ومحصل هذا الجواب الحمل في التسمية على المجاز ، أي : صاحب هذه الخصال كالمنافق ، وهو بناء على أن المراد بالنفاق نفاق الكفر .
وقد قيل في الجواب عنه : إن المراد بالنفاق نفاق العمل كما قدمناه . وهذا ارتضاه القرطبي واستدل له بقول عمر لحذيفة : هل تعلم فيَّ شيئا من النفاق ؟ فإنه لم يرد بذلك نفاق الكفر ، وإنما أراد نفاق العمل .
ويؤيده وصفه بالخالص في الحديث الثاني بقوله : ( كان منافقا خالصا ) .
وقيل : المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال ، وإن الظاهر غير مراد ، وهذا ارتضاه الخطابي .
وذكر أيضا أنه يحتمل أن المتصف بذلك هو من اعتاد ذلك وصار له ديدنا . قال : ويدل عليه التعبير بإذا ، فإنها تدل على تكرر الفعل . كذا قال .
والأولى ما قال الكرماني : إن حذف المفعول من " حدث " يدل على العموم ، أي: إذا حدث في كل شيء كذب فيه . أو يصير قاصرا ، أي إذا وجد ماهية التحديث كذب .
وقيل : هو محمول على من غلبت عليه هذه الخصال ، وتهاون بها ، واستخف بأمرها ، فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالبا .
وهذه الأجوبة كلها مبنية على أن اللام في المنافق للجنس .
ومنهم من ادعى أنها للعهد فقال : إنه ورد في حق شخص معين ، أو في حق المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وتمسك هؤلاء بأحاديث ضعيفة جاءت في ذلك لو ثبت شيء منها لتعين المصير إليه .
وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي . والله أعلم " انتهى.
" فتح الباري " (1/90-91) .
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله :
" الذي فسره به أهل العلم المعتبرون أن النفاق في الشرع ينقسم إلى قسمين : أحدهما النفاق الأكبر ، وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه ، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم ، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار .
والثاني : النفاق الأصغر ، وهو نفاق العمل : وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة ، ويبطن ما يخالف ذلك .
وحاصل الأمر : أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية كما قاله الحسن ، والنفاق الأصغر وسيلة إلى النفاق الأكبر ، كما أن المعاصي بريد الكفر ، وكما يخشي على من أصر على المعصية أن يُسلب الإيمان عند الموت ، كذلك يخشي على من أصر على خصال النفاق أن يسلب الإيمان فيصير منافقا خالصا . وسئل الإمام أحمد : ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق ؟ قال : ومن يأمن على نفسه النفاق " انتهى باختصار.
" جامع العلوم والحكم " (1/429-432)
ثالثا : أخلاق المنافقين المذمومة هذه ليست على سبيل الحصر ، وإنما على سبيل المثال .
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" وجه الاقتصار على هذه العلامات الثلاثة أنها منبهة على ما عداها ، إذ أصل الديانة منحصر في ثلاث : القول ، والفعل ، والنية . فنبَّه على فساد القول بالكذب ، وعلى فساد الفعل بالخيانة ، وعلى فساد النية بالخلف " انتهى.
" فتح الباري " (1/90)
رابعا : معنى الفجور عند المخاصمة
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله :
" ( إذا خاصم فجر ) يعني بالفجور : أن يَخرج عن الحق عمدا حتى يصيِّرَ الحق باطلا والباطل حقا ، وهذا مما يدعو إليه الكذب ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ) ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ) ، فإذا كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة – سواء كانت خصومته في الدين أو في الدنيا – على أن ينتصر للباطل ، ويخيل للسامع أنه حق ، ويوهن الحق ، ويخرجه في صورة الباطل ، كان ذلك من أقبح المحرمات ، وأخبث خصال النفاق ، وفي سنن أبي داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع ) وفي رواية له أيضا : ( ومن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله )" انتهى باختصار.
" جامع العلوم والحكم " (1/432)
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" ( إذا خاصم فجر ) الخصومة : هي المخاصمة عند القاضي ونحوه ، فإذا خاصم فجر .
والفجور في الخصومة على نوعين :
أحدهما : أن يدعي ما ليس له .
والثاني : أن ينكر ما يجب عليه .
مثال الأول : ادعى شخص على آخر فقال عند القاضي : أنا أطلب من هذا الرجل ألف ريال ، وهو كاذب ، وحلف على هذه الدعوى ، وأتى بشاهد زور ، فحَكَم له القاضي ، فهذا خاصم ففجر ؛ لأنه ادعى ما ليس له ، وحلف عليه .
مثال الثاني : أن يكون عند شخص ألف ريال فيأتيه صاحب الحق فيقول : أوفني حقي ، فيقول : ليس لك عندي شيء ، فإذا اختصما عند القاضي ولم يكن للمدعى بينة حلف هذا المنكر الكاذب في إنكاره أنه ليس في ذمته له شيء ، فيحكم القاضي ببراءته ، فهذه خصومة فجور ، والعياذ بالله .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من حلف على يمين صبر ليقتطع بها حق امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ) نعوذ بالله .
وهذه الخصال الأربع إذا اجتمعت في المرء كان منافقا خالصا ؛ لأنه استوفى خصال النفاق والعياذ بالله ، وإذا كان فيه واحدة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها " انتهى باختصار.
" شرح رياض الصالحين " (4/49-50) .
خامسا : في هذا الحديث دليل على أن المسلم قد تجتمع فيه خصال الخير والشر
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" فيه أيضا دليل على أن الإنسان قد يجتمع فيه خصال إيمان وخصال نفاق ، لقوله : ( كان فيه خصلة من النفاق ) هذا مذهب أهل السنة والجماعة : أن الإنسان يكون فيه خصلة نفاق وخصلة فسوق ، وخصلة عدالة ، وخصلة عداوة ، وخصلة ولاية ، يعني أن الإنسان ليس بالضرورة أن يكون كافرا خالصا ، أو مؤمنا خالصا ، بل قد يكون فيه خصال من الكفر ، وهو مؤمن ، وخصال من الإيمان " انتهى.
" شرح رياض الصالحين " (4/50) .
وينظر الأجوبة الآتية : (12387) ، (23317) ، (30861)
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
الجواب :
الحمد لله
يمكن أن نتكلم على هذين الحديثين بالمسائل المختصرة الآتية :
أولا :
نص الحديثين
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ) رواه البخاري (33) ومسلم (59)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
( أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ )
رواه البخاري (34) ومسلم (58)
ثانيا :
معنى كون هذه الصفات من علامات النفاق
الكذب ، وإخلاف الوعد ، والخيانة ، والغدر ، والفجور عند المخاصمة : من أبرز صفات المنافقين من أهل المدينة الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، والقرآن مليء بالآيات التي تصف حالهم هذا ، وهم إنما عرفوا بها ، والله عز وجل يقول : ( وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) محمد/30.
فإذا اتصف أحد المسلمين - الذين يشهدون بكلمة التوحيد - بشيء من هذه الصفات : فقد اتصف بصفات المنافقين التي ذمها الله عز وجل ، وعمل أعمالهم ، وحصل له من النفاق بقدر ما عمل .
ولكن ذلك لا يستلزم أن يكون هذا المسلم المتصف بالخيانة أو الكذب مثلا قد خرج عن الإيمان بالكلية ؛ لأن الإيمان يرفعه درجاتٍ عن النفاق ، ولكنه يحاسب على هذه الأخلاق الذميمة ، ولذلك يسمِّي العلماء هذه الآفات المهلكات بـ : " النفاق العملي "، يقصدون أن المتصف بها آثم مستحق للعقوبة ، ولكنه ليس في درجة المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر .
ولذلك ذهب العلماء في تأويل هذا الحديث إلى خمسة أقوال :
1- المقصود بالحديث هو تشبيه المسلم المتصف بهذه الأخلاق الذميمة بالمنافق ، فالحديث على سبيل المجاز وليس على سبيل الحقيقة ، وهذا جواب النووي .
2- المقصود بالنفاق هنا النفاق العملي ، وليس النفاق الاعتقادي ، وهذا جواب القرطبي ، ورجحه الحافظ ابن رجب ، والحافظ ابن حجر العسقلاني ، وهذا أرجح الأقوال .
3- وقيل المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال ، وهذا ارتضاه الخطابي .
4- المراد : من اعتاد هذه الصفات حتى أصبحت له سجية وخلقا دائما ، حتى تهاون بها، واستخف أمرها ، فهذا كأنه مستحل لها ، ومثله يغلب عليه فساد الاعتقاد .
5- المقصود بالحديث ليس المسلمين ، وإنما المنافقون الحقيقيون الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن ضعَّف هذا الوجه الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (1/430)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قال النووي : هذا الحديث عده جماعة من العلماء مشكلا من حيث إن هذه الخصال قد توجد في المسلم المجمع على عدم الحكم بكفره . قال : وليس فيه إشكال ، بل معناه صحيح ، والذي قاله المحققون إن معناه : أنَّ هذه خصال نفاق ، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم .
قلت – أي الحافظ ابن حجر - : ومحصل هذا الجواب الحمل في التسمية على المجاز ، أي : صاحب هذه الخصال كالمنافق ، وهو بناء على أن المراد بالنفاق نفاق الكفر .
وقد قيل في الجواب عنه : إن المراد بالنفاق نفاق العمل كما قدمناه . وهذا ارتضاه القرطبي واستدل له بقول عمر لحذيفة : هل تعلم فيَّ شيئا من النفاق ؟ فإنه لم يرد بذلك نفاق الكفر ، وإنما أراد نفاق العمل .
ويؤيده وصفه بالخالص في الحديث الثاني بقوله : ( كان منافقا خالصا ) .
وقيل : المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال ، وإن الظاهر غير مراد ، وهذا ارتضاه الخطابي .
وذكر أيضا أنه يحتمل أن المتصف بذلك هو من اعتاد ذلك وصار له ديدنا . قال : ويدل عليه التعبير بإذا ، فإنها تدل على تكرر الفعل . كذا قال .
والأولى ما قال الكرماني : إن حذف المفعول من " حدث " يدل على العموم ، أي: إذا حدث في كل شيء كذب فيه . أو يصير قاصرا ، أي إذا وجد ماهية التحديث كذب .
وقيل : هو محمول على من غلبت عليه هذه الخصال ، وتهاون بها ، واستخف بأمرها ، فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالبا .
وهذه الأجوبة كلها مبنية على أن اللام في المنافق للجنس .
ومنهم من ادعى أنها للعهد فقال : إنه ورد في حق شخص معين ، أو في حق المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وتمسك هؤلاء بأحاديث ضعيفة جاءت في ذلك لو ثبت شيء منها لتعين المصير إليه .
وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي . والله أعلم " انتهى.
" فتح الباري " (1/90-91) .
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله :
" الذي فسره به أهل العلم المعتبرون أن النفاق في الشرع ينقسم إلى قسمين : أحدهما النفاق الأكبر ، وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه ، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم ، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار .
والثاني : النفاق الأصغر ، وهو نفاق العمل : وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة ، ويبطن ما يخالف ذلك .
وحاصل الأمر : أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية كما قاله الحسن ، والنفاق الأصغر وسيلة إلى النفاق الأكبر ، كما أن المعاصي بريد الكفر ، وكما يخشي على من أصر على المعصية أن يُسلب الإيمان عند الموت ، كذلك يخشي على من أصر على خصال النفاق أن يسلب الإيمان فيصير منافقا خالصا . وسئل الإمام أحمد : ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق ؟ قال : ومن يأمن على نفسه النفاق " انتهى باختصار.
" جامع العلوم والحكم " (1/429-432)
ثالثا : أخلاق المنافقين المذمومة هذه ليست على سبيل الحصر ، وإنما على سبيل المثال .
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" وجه الاقتصار على هذه العلامات الثلاثة أنها منبهة على ما عداها ، إذ أصل الديانة منحصر في ثلاث : القول ، والفعل ، والنية . فنبَّه على فساد القول بالكذب ، وعلى فساد الفعل بالخيانة ، وعلى فساد النية بالخلف " انتهى.
" فتح الباري " (1/90)
رابعا : معنى الفجور عند المخاصمة
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله :
" ( إذا خاصم فجر ) يعني بالفجور : أن يَخرج عن الحق عمدا حتى يصيِّرَ الحق باطلا والباطل حقا ، وهذا مما يدعو إليه الكذب ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ) ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ) ، فإذا كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة – سواء كانت خصومته في الدين أو في الدنيا – على أن ينتصر للباطل ، ويخيل للسامع أنه حق ، ويوهن الحق ، ويخرجه في صورة الباطل ، كان ذلك من أقبح المحرمات ، وأخبث خصال النفاق ، وفي سنن أبي داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع ) وفي رواية له أيضا : ( ومن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله )" انتهى باختصار.
" جامع العلوم والحكم " (1/432)
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" ( إذا خاصم فجر ) الخصومة : هي المخاصمة عند القاضي ونحوه ، فإذا خاصم فجر .
والفجور في الخصومة على نوعين :
أحدهما : أن يدعي ما ليس له .
والثاني : أن ينكر ما يجب عليه .
مثال الأول : ادعى شخص على آخر فقال عند القاضي : أنا أطلب من هذا الرجل ألف ريال ، وهو كاذب ، وحلف على هذه الدعوى ، وأتى بشاهد زور ، فحَكَم له القاضي ، فهذا خاصم ففجر ؛ لأنه ادعى ما ليس له ، وحلف عليه .
مثال الثاني : أن يكون عند شخص ألف ريال فيأتيه صاحب الحق فيقول : أوفني حقي ، فيقول : ليس لك عندي شيء ، فإذا اختصما عند القاضي ولم يكن للمدعى بينة حلف هذا المنكر الكاذب في إنكاره أنه ليس في ذمته له شيء ، فيحكم القاضي ببراءته ، فهذه خصومة فجور ، والعياذ بالله .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من حلف على يمين صبر ليقتطع بها حق امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ) نعوذ بالله .
وهذه الخصال الأربع إذا اجتمعت في المرء كان منافقا خالصا ؛ لأنه استوفى خصال النفاق والعياذ بالله ، وإذا كان فيه واحدة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها " انتهى باختصار.
" شرح رياض الصالحين " (4/49-50) .
خامسا : في هذا الحديث دليل على أن المسلم قد تجتمع فيه خصال الخير والشر
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" فيه أيضا دليل على أن الإنسان قد يجتمع فيه خصال إيمان وخصال نفاق ، لقوله : ( كان فيه خصلة من النفاق ) هذا مذهب أهل السنة والجماعة : أن الإنسان يكون فيه خصلة نفاق وخصلة فسوق ، وخصلة عدالة ، وخصلة عداوة ، وخصلة ولاية ، يعني أن الإنسان ليس بالضرورة أن يكون كافرا خالصا ، أو مؤمنا خالصا ، بل قد يكون فيه خصال من الكفر ، وهو مؤمن ، وخصال من الإيمان " انتهى.
" شرح رياض الصالحين " (4/50) .
وينظر الأجوبة الآتية : (12387) ، (23317) ، (30861)
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب