الإمام الراحل "محمود شلتوت" -شيخ الأزهر- فقيه واسع الأفق، ومفسر واسع الاطلاع؛ حارب الجمود والعصبية المذهبية التي جعلت من المذاهب أديانا وفرقت بين المسلمين، وندد بفكرة سد باب الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، واعتبر ذلك حجرا على العقول والأفهام، وتعطيلا لكتاب الله، ومجافاة لنصوصه الداعية إلى البحث والنظر.
ربيب الأزهر
ولد "محمود شلتوت" في (23 إبريل 1893) ببلدة منية بني منصور مركز إيتاي البارود محافظة البحيرة بمصر، دخل كتّاب القرية فتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم وهو في الثانية عشرة من عمره، وفي عام (1906) التحق بالمعهد الديني في الإسكندرية وصار موضع تقدير شيوخه، وعرف بالذكاء وسعة الاطلاع.
شارك في "ثورة 1919" بقلمه ولسانه وجرأته، فكان مثالا للعالم الأزهري ذي المنزلة الكبيرة وسط جماهير الشعب، ولم يكد يمضي على تعيينه مدرسا في المعهد الديني بالإسكندرية ثماني سنوات حتى نقل (1927) إلى الجامع الأزهر مدرسا في القسم العالي في الفقه والأصول.
وبمجرد أن ترأس الأزهر الشيخ "محمد مصطفى المراغي" قدم مذكرته الشهيرة عن إصلاح الأزهر، التي طالب فيها بأن يدرس الفقه الإسلامي دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة، وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم المساس بالأحكام المنصوص عليها في الكتاب والسنة والمجمع عليها، والنظر في الأحكام الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصور والأمكنة والعرف وأمزجة الأمم المختلفة كما فعل السلف من الفقهاء.
كان للشيخ المراغي تأثيره الكبير على الشيخ شلتوت، فقد لفت ذهنه إلى ضرورة التجديد الفقهي؛ كي تكون الشريعة الإسلامية قائمة بحاجات العصر، ولذا عد نفسه أن يكون من جنود المراغي في موكب الإصلاح، وطبيعي أن يغضب لإبعاد المراغي عن الأزهر، ولمعارضة الشيخ الجديد محمد الأحمدي الظواهري للآراء التجديدية للشيخ المراغي.
ولعل هذا ما دعا شلتوت إلى الكتابة عن ضرورة الالتزام بما جاء في المذكرة، وإلى أن يقود حملة صادقة ليدفع بالأزهر في كلية الشريعة إلى نحو آخر من التدريس حتى ضاق به الشيخ الظواهري، فأصدر قراره بفصله من عمله هو ولفيف من العلماء المطالبين مثله بالإصلاح عام (1931) فعمل محاميًا شرعيًا لأربع سنوات، مارس الخطابة في خلالها إلى جانب عمله، حتى أُسندت مشيخة الأزهر مرة أخرى إلى الشيخ محمد مصطفى المراغي عام (1935) فأعيد شلتوت إلى عمله، وعين مدرسا بكلية الشريعة الإسلامية، فأستاذًا فوكيلا للكلية.
من لاهاي إلى المشيخة
انتدب الشيخ شلتوت ممثلا للأزهر في مؤتمر لاهاي العالمي عام (1937) الذي انعقد بهولندا لدراسة القانون الدولي المقارن، حيث جمع أساطين الفقهاء والأصوليين في الشرق والغرب ليوضحوا ما يحبذونه من الأفكار القانونية، وتقدم الشيخ شلتوت ببحث حول: "المسئولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية" موضحا معنى المسئولية في الإسلام وشارحا لنصوص الفقهاء في الضمان والتعويض، ومستشهدا بنصوص القرآن والسنة في تحديد المسئولية، وكان من نتائج البحث إقرار صلاحية الشريعة الإسلامية كمصدر من مصادر التشريع الحديث، واعتبار اللغة العربية لغة رسمية من لغات المؤتمر، وأن يدعى في المؤتمر القادم أكبر عدد من علماء الشريعة الإسلامية.
كما نال من خلال هذه المشاركة عضوية جماعة كبار العلماء في عام (1941)، كما تم تعينه عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام (1946)، وانتدبته الجامعة المصرية لتدريس فقه القرآن والسنة لطلبة دبلوم الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق، ثم عين مراقبا عاما للثقافة والبحوث الإسلامية في الأزهر، ثم وكيلا له عام (1957) واختير في العام نفسه سكرتيرا عاما للمؤتمر الإسلامي.
وفي عام (1958) صدر قرار بتعين شلتوت شيخا للأزهر فقام بتطويره وإصلاحه، وفي عهده صدر القانون رقم 103 لعام 1961 الخاص بتطوير الأزهر وإصلاحه، وهو القانون الذي قامت على أساسه جامعة الأزهر بكلياتها القديمة والجديدة، ولعل أعظم خطوة خطاها الأزهر في عهده هي دخول الفتاة المسلمة معاهد الأزهر وكلياته. جاء ذلك بناء على رؤية الشيخ شلتوت لمهمة الأزهر والمتمثلة في تخريج علماء مبرزين وذوي موهبة عالية في البحث والاجتهاد السليم والتجديد المفيد بالإضافة إلى تخريج دعاة مرشدين أقوياء في العلم والإدراك والتدين.
التقريب.. أولا
جاء إسهام الشيخ شلتوت الأكثر تميزا في التقريب بين المذاهب الإسلامية، فقد كان يرى أن تفرق المسلمين وتشرذمهم هو السبب الأساسي وراء تأخرهم واغتصاب حقوقهم، ومن أجل هذا بذل قصارى جهده في التقريب بين أهل السنة والشيعة، حيث إنهما يؤمنان بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلوات الله وسلامه عليه نبيا ورسولا، والخلاف بينهما مما يمكن تلافيه، وما يترتب على وجوده من الضرر أقل مما يترتب على زواله من النفع.
وكانت دعوة التقريب بين السنة والشيعة "الإثني عشرية" قد بدأت في مصر عام (1946) وقد دعمتها جماعة الإخوان المسلمين في ذلك الوقت بقيادة الإمام حسن البنا، وتبناها الكثير من علماء الأزهر ورجاله.
ولم يكن من أهداف تلك الدعوة أن يترك السني مذهبه أو يترك الشيعي مذهبه، وإنما كانت تهدف إلى أن يتحد الجميع حول الأصول المتفق عليها، ويعذر بعضهم بعضا فيما وراء ذلك مما ليس شرطا من شروط الإيمان، ولا ركنا من أركان الإسلام، ولا إنكارا لما هو معلوم من الدين بالضرورة.
وواجهت الدعوة إلى التقريب في بدايتها معارضة من كلا الفريقين السني والشيعي لسوء فهمهم لمقصدها.. حيث أشيع أنها تريد إلغاء المذاهب أو إدماج بعضها.
وقد مثلت فتوى الشيخ شلتوت أساسا لدعوة التقريب، باعتبار الشيعة الإثني عشرية مذهبا إسلاميا يجوز التقرب به إلى الله تعالى، والتي تنص على "أن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه إتباع مذهب معين، بل إن لكل مسلم الحق في أن يقلد أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلا صحيحا، والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة ولمن قلد مذهبا من هذه المذاهب أن ينقله إلى غيره - أي مذهب كان- ولا حرج عليه في شيء من ذلك"، وأضاف "أن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية مذهب يجوز التعبدية شرعا كسائر مذاهب أهل السنة".
كما أدخل الإمام شلتوت فقه الشيعة في مناهج الدراسة بالأزهر إلى جانب فقه المذاهب الإسلامية للتقريب بين جماعات المسلمين، وأصدر من خلال مجلة "رسالة الإسلام" لسان حال جماعة التقريب تفسيرا للقرآن اتخذ من خلاله منحى يساير جماعة التقريب في طرح الخلافات المذهبية، فلا يقحم فيه القرآن أو على القرآن من رأي خارج عنه أو مصطلح انتزع من مصدر آخر فجعل كلمات القرآن يفسر بعضها بعضا، كما أطلق الحرية للقرآن في أن يدلي بما يريد دون أن يحمل على ما يراد وبهذه المثابة يصبح تفسير القرآن تفسيرًا للمسلمين أجمعين، وعليه يقام أساس التوفيق بين المسلمين.
فتاوى جدلية
وقد أحدثت آراء الشيخ شلتوت في فتاويه تارة وفي مقالاته تارة أخرى جدلا كبيرا بين الفقهاء والعلماء؛ لأن النزعة التجديدية لدى الرجل الكبير لابد أن تصطدم بنزعة محافظة لدى قوم يحملون من الغيرة على الحقيقة مثل ما يحمل.
ومنها فتواه المتعلقة بالمصارف المالية والقروض البنكية، وموقف الشرع من السهم والسندات منها بربح، وعن حكم الشرع في الأسهم والسندات، والتي أثارت جدلا كبيرا، وحمل عليها كثير من العلماء في مقدمتهم الفقيه والعلامة الإمام محمد أبو زهرة رئيس تحرير مجلة لواء الإسلام فكتب تحت عنوان "المفتي يفتي بالحق لا بما يشتهى" ردا على فتوى الشيخ شلتوت.
أما النموذج الثاني ففتواه بشأن نزول سيدنا "عيسى عليه السلام" آخر الزمان، والتي جاء فيها أنه ليس في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رفع بجسمه إلى السماء، وأنه حي إلى الآن فيها، وأنه سينزل منها آخر الزمان إلى الأرض.
وأن كل ما تفيده الآيات الواردة في هذا الشأن هو وعد الله عيسى بأنه متوفيه ورافعه إليه وعاصمة من الذين كفروا، وأن هذا الوعد قد تحقق فلم يقتله أعداؤه ولم يصلبوه ولكن وفاه الله أجله ورفعه إليه. وأن من أنكر أن عيسى قد رفع بجسمه إلى السماء وأنه فيها حي إلى الآن وأنه سينزل منها آخر الزمان فإنه لا يكون بذلك منكرا لما ثبت بالدليل القطعي فلا يخرج عن إسلامه وإيمانه وينبغي ألا يحكم عليه بالردة بل هو مسلم مؤمن ولا شية في إيمانه عند الله.
ولم تكد هذه الفتوى تذاع حتى كانت مثار لغط قوي في مجلات كثيرة، وقد تورط شيخ الإسلام التركي مصطفى صبري حين هاجم شلتوت، وأخذ يزعم أن الفتوى كتبت بروح قاديانية، وأن المسلمين في الهند سيحزنون لمن ينصر القاديانية عليهم.
أما النموذج الثالث فهو ما أثاره مقال الشيخ شلتوت عن الهجرة وشخصيات الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث ذهب إلى أن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شخصيات متعددة، شخصية الرسول وشخصية الإمام العام وشخصية المفتي وشخصية القاضي، فهو بالشخصية الأولى مبلغ عن الله لا يخرج فيما أوحي إليه عن حدود ما أمر به أو نهي عنه، والمسلمون مكلفون به كما تلقوه عنه، وهو بالشخصية الثانية رئيس المسلمين وزعيم قوميتهم يعمل على تركيز أمته وطبعها بطابع مميز، وهو بشخصية المفتي إما أن يجيب بلسان الوحي فليس له اجتهاد في ذلك إلا في تطبيق النص على جزئيات الحوادث، وإما فقيه يجتهد ويقدر ويلاحظ أحوال السائلين فيجيبهم بما يراه كما يفعل سائر المجتهدين، وهو بشخصية القاضي حكم بين المتخاصمين يسمع دعاواهم، ويتعرف الحق ويقدر ظروف القضية وأحوال المتقاضين، وأحكامه في هذه الدائرة لا عموم لها في الأشخاص كما يقول علماء الأصول، فليس لها صفة في التشريع العام.
وتعرض هذا الرأي لانتقادات كبيرة، ومن ذلك ما كتبه الشيخ "محمد الخضر حسين" –الذي تولى مشيخة الزهر بعد ذلك-، حيث جرى على طريقته الخاصة في الوقوف لدى كل لفظ من الألفاظ ومناقشة كل ما يحتمله من المعاني، وهو منحى يوضح وجه الخلاف بين شلتوت والخضر، إذ يعتمد الأول على روح النص العام، ويقف الثاني عند مدلوله الحرفي.
ولم يضق شلتوت بما قاله الخضر حيث صدر عن روح مخلصة، ولم يفهم ذلك من تملقوا الشيخ شلتوت إذ حاولوا الوقيعة بين الرجلين، حيث تقدم الشيخ الخضر حسين إلى هيئة كبار العلماء بكتابه "القياس في اللغة والنحو" وكان الشيخ شلتوت المناقش الأول في الجماعة فحسبه البعض متعصبا، وظنوا أنه يرفض كتاب معارضه، ولكن الشيخ قال لهم قولته الذائعة: من أسقط محمد الخضر حسين فقد أسقط نفسه!!
الفخريات والمؤلفات
مُنح الإمام شلتوت الدكتوراة الفخرية من عدد من الجامعات، منها جامعة شيلي بأمريكا اللاتينية، والجامعة الإسلامية بإندونيسيا، وجامعة سومطرة الشمالية، وكلية كامل الإسلام بالفلبين، كما منح أعلى الأوسمة من الملوك والرؤساء، ومنهم الملك محمد الخامس ملك المغرب والملك محمد ظاهر شاه ملك أفغانستان والرئيس السوداني الفريق إبراهيم عبود، ورئيس جمهورية الكاميرون أحمدو أهيدجو.
وقد ترك الإمام شلتوت وراءه (26) مؤلفا ما بين كتاب ورسالة، يتجلى فيها جميعها شخصيته العلمية وتمكنه من كل ما يعرض له من بحوث واجتهاد في استنباط الأحكام الفقهية، ومن بين هذه المؤلفات: "فقه القرآن والسنة" و"مقارنة المذاهب" و"الفتاوى" و"القرآن والمرأة" و"تنظيم النسل" و"الإسلام عقيدة وشريعة" و"الإسلام والوجود الدولي للمسلمين" و"المسئولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية" و"هذا هو الإسلام تنظيم العلاقات الدولية في الإسلام" و"القرآن والقتال" و"الإسلام والتكافل الاجتماعي" و"تفسير القرآن الكريم" و"الدعوة المحمدية" و"أحاديث الصباح في المذياع".
وقد ترجم بعض هذه الكتب إلى اللغة الإنجليزية والإندونيسية وإلى البشتو لغة أفغانستان، ومما يذكر للشيخ الإمام أنه لم يكن يطلب على الإذن بترجمات كتبه جزاء غير جزاء الله تعالى في نشر دينه، كما أن كتبه كان الأزهر قد طبعها تبرعا من الشيخ بها لإدارة الثقافة الإسلامية. وقد توفى الإمام "محمود شلتوت" في (26 من رجب سنة 1383 هـ = 12 من ديسمبر سنة 1963).
المصدر: إسلام اون لاين