أبو العباس السفاح أول خلفاء العباسيين 132-136هـ
هو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ولد بالحميمة من الشراة في الأردن عام 105هـ.
توفي والده محمد بن علي عام 125هـ بالحميمة، وهو الذي بدأ بالدعوة العباسية، وكان السفاح قد ناهز العشرين من العمر، وعرف الكثير من الدعوة وأسرارها، وعهد والده من بعده لابنه إبراهيم (أخي السفاح) الذي عرف فيما بعد بالإمام، وقد عمل على نجاح الدعوة فقوي أمره؛ فأظهر نفسه في الموسم فعرف، كما وقع كتابٌ وجَّهَه إلى أبي مسلم الخراساني في يد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية؛ فأرسل إلى واليه على دمشق، فبعث من أخذه إلى حران (1) (قاعدة مروان) فسجن هناك، وكان قد أوصى من بعده لأخيه السفاح، وأمره أن يسير بأهله إلى الكوفة وذلك عام 129هـ.
سار السفاح من الحميمة باتجاه الكوفة عن طريق دومة الجندل (2) ومعه من أهله ثلاثة عشر رجلاً هم أعمامه وأخواه، وأبناء إخوته وأبناء عمه..
وفي الكوفة بُويِع له بالخلافة يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الآخر عام 132هـ..
وألقى أبو العباس على عادة الخلفاء لدى انتخابهم خطبة في مسجد الكوفة أوضح فيها الهدف الذي من أجله قامت الثورة العباسية وندد بالأمويين الذين وصفهم بمغتصبي الخلافة، ووعد الكوفيين الذين ساندوا الثورة، بزيادة أعطياتهم. (3)
ولم ينس أن يذكرهم بأنه:"السفاح المبيح، والثائر المبير".. (4)
الدعائم التي اعتمد عليها السفاح في خلافته
كان الخليفة أبو العباس مقيمًا بالكوفة، ويبدو أنه أدرك وضعها الشاذ بفعل عدم تأييد غالبية سكانها للثورة العباسية، وكانوا من شيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فانتقل منها إلى مكان قريب عُرِفَ بهاشمية الكوفة، غير أنه لم يمكث فيها طويلاً، وانتقل إلى الأنبار شمالي الكوفة، على نهر الفرات في عام 134هـ، وبنى بجوارها مدينة لنفسه عرفت باسم "هاشمية الأنبار" أقام بها حتى وفاته في عام 136هـ..
قضى أبو العباس معظم عهده في تثبيت حكمه، فحارب القادة العرب الذين ناصروا الأمويين، ثم تخلص من بعض القادة الذين ساندوه في الوصول إلى الحكم بعدما بدرت منهم بوادر انفصالية مثل أبي سلمة الخلال.. (5)
كان السفاحُ جوَّادًا يُضرَب المثلُ بجوده فقد أعطى عبد الله بن حسن بن الحسن ألفي ألف درهم، وكان عفيفًا عنيفًا متعبدًا..
تُوُفي بالجدري عام 136هـ في شهر ذي الحجة، وبذا فقد عاش إحدى وثلاثين سنة، ولى الخلافة منها أربع سنوات وبقي بين بيعته ووجود مروان بن محمد حيًا ثمانية أشهر، أي وجود خليفتين في آنٍ واحد.. (6)
ويبدو من خطبة أبي العباس، ومن كلمة عمه داود بن عليٍّ ثلاث نقاط هي:
1ـ محاولة إظهار أحقية بني العباس بالخلافة دون غيرهم على اعتبار أن الخلافة وراثية، ولم تكن الخلافة في الإسلام ملكًا متوارثًا وإنما هكذا أصبح بعد الحكم الراشدي..
2ـ الهجوم على بني أمية، وعَدُّهم ظالمين مستبدين، أخذوا بغير حق وساروا فيه بكل عسف، وهذا شأن كل حاكم جديد بالنسبة لسابقه يبرر قيامه، ويمكِّن لنفسه..
3ـ الوعد بالحكم بما أنزل الله، واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بالصحابة والسلف الصالح، وهذه قناعة الخلفاء، الذين يظنون أن من سبقوهم لم يطبقوا الإسلام بشكل صحيح،والواقع أن الإسلام لم يُتَّبَعْ في صورته الكاملة بعد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حدث تغيير، ولكنه كان تغييرًا طفيفًا تزداد فيه زاوية الانحراف وتتسع أحيانًا، وتضييق أحيانًا أخرى، ويبقى المظهر العام إسلاميًا كل مدة الخلافة، فالخلفاء متمسكون عامَّةً بتعاليم الإسلام، ويفخرون بذلك؛ لذا فهم يأخذون على غيرهم، ويظنون بأنفسهم أنَّ بإمكانهم أن يطبقوا الإسلام بشكلٍ أفضل، ويعملوا له بصورة أحسن، والواقع أن العباسيين في أيامهم الأولى بصورة عامة كانوا أكثر تدينًا من الأمويين، وأكثر تمسكًا بالإسلام، ولكنهم أقل خدمة للأمة، وقد ظهر هذا من كلمة داود بن عليٍّ من اليوم الأول "ولا نحفر نهرًا" وليس معنى هذا أن الأمويين كانوا جملة أمور دينهم مهملين، وأن العباسيين كانوا تاركين أمور رعيتهم، وإنما القضايا نسبية، فقد كان الأمويون أهل فضل ودين وإن وقعت في أيام بعضهم حوادث كان يجب ألا تقع أما ما نُسِبَ لهم، وما قبل فيهم فهو بمجمله محضُ افتراء من صنع الدساسين والخصوم..
وأشار داود بن عليّ إلى أن منبر الكوفة لم يخطب عليه خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كان قد اتخذ الكوفة مقرًا له، وبعده كانت الكوفة مهملة من قبل الخلفاء حتى قام الخليفة السفاح هذا، وفي هذا الكلام إثارة لأبناء الكوفة ليعضدوا الحكم الجديد الذي هو حكمهم إذ أن بلدتهم قد أصبحت قاعدة الخلافة الإسلامية كلها.. (7)
وفي اليوم الثاني سار السفاح إلى معسكر حمام أعين، واستخلف على الكوفة عمه داود بن علي، وبعث عمه عبد الله بن علي في قوة دعمًا لأبي عون عبد الملك بن يزيد لقتال مروان بن محمد..
وانتصر عبد الله بن علي بن محمد في معركة الزاب (8) ففر مروان إلى مصر واختبأ ببوصير حتى قتل فيها في ذي الحجة عام 132هـ، وبمقتله خلت إمارة المؤمنين للسفاح إذ ليس للمؤمنين إلا أمير واحد لهم في دار الإسلام..
لم تقم حركة قوية ضد السفاح بعد عام 134هـ، وفي الوقت نفسه لم تكن دولته موطدة الأركان...
الدعائم التي اعتمد عليها السفاح في خلافته:
اعتمد السفاح في خلافته على دعائم ثلاث هي:
1ـ أسرته:
لقد كانت أسرة السفاح كبيرة فكانت دعمًا له، ومن يريد أن يؤسس أسرة حاكمة فإن عدد أفراد أسرته يلعب دورًا كبيرًا في تسهيل مهمته فنلاحظ أن سيدنا معاوية رضي الله عنه أسس أسرة لكن لم يطل عهدها، ولم يحكم بعده سوى ابنه يزيد، على حين أن أسرة بني مروان قد استمر أمرها ما يقرب من سبعين سنة لكثرة أولاد عبد الملك بن مروان..
لقد كان للسفاح سبعة أعمام تسلموا له قيادة الجيوش وإمرة الولايات، فضبطوا الأمر..
كما كان السفاح يحب أن يكون دائمًا أحد أهل بيته على الإمارة أو قيادة الجيوش ليضمن الأمر، فعندما أرسل أخاه أبا جعفر دعمًا للحسن بن قحطبة كتب إليه: "إن العسكر عسكرك، والقواد قوادك، ولكن أحببت أن يكون أخي حاضرًا، فاسمع له وأطع، وأحسن مؤازرته"..
2ـ أبو مسلم الخراساني:
الذي استطاع بحكمته وحزمه وقوته أن ينجح في الدعوة للعباسيين وأن يقود الجيوش ضد نصر بن سيار والي الأمويين على خراسان، وأن ينتصر عليه رغم حداثة سنة؛ إذ قامت الدولة العباسية، ولم يتجاوز الثانية والثلاثين، وقُتِل ولم يناهز السابعة والثلاثين من عمره، وبقيت خراسان على عهدها ما بقي فيها أبو مسلم بل كان سيف الدولة المصلت تضرب به من يخرج عن طاعتها..
3ـ العصبية القبلية:
بزغ قرن العصبية أمام الدولة الأموية، وهذا ما أضعفها، وهدّ كيانها، وكان سببًا في سقوطها وزوالها، وأفاد العباسيون منها، إذ رأوا الفرقة والخلاف بين القيسية واليمنية؛ فلما كان آخر ولاة بني أمية من القيسيين فقد ضم العباسيون اليمنيين إلى صفوفهم، فلما قامت دولتهم بقوا محافظين على هؤلاء اليمنيين لذا نجد أكثر قادتهم منهم.. (9)
عبد الله أبو جعفر المنصور 136-158هـ
التعريف به:
هو عبد الله بن محمد بن علي العباسي، أبو جعفر المنصور، ولد في الحميمة عام 95هـ، وأمه أم ولد تدعى سلامة، ترعرع في وسط المجتمع الهاشمي، وطلب العلم وهو شاب من مظانة وتفقه في الدين، ونال قسطًا من علم الحديث، فنشأ أديبًا فصيحًا ملمًا بسِيَر الملوك..
انتقل أبو جعفر مع أخيه وأهله من الحميمة إلى الكوفة، وعندما أفضت الخلافة إلى أخيه أبي العباس، كان ساعده الأشد في تدبير أمور الخلافة، فولاه الجزيرة وأرمينيا وأذربيجان، ووجهه إلى خراسان لأخذ البيعة له، كما عهد إليه من بعده..
توفي السفاح، وأبو جعفر في الحجاز أميرًا على الحج، فأخذ له البيعة ابن أخيه عيسى بن موسى في الأنبار، وكتب إليه بذلك..
اتصف المنصور بالشدة والبأس، واليقظة والحزم والصلاح والاهتمام بمصالح الرعية، كَرِهَ سفك الدماء إلا بالحق، وعرف بالثبات عند الشدائد، ولا شك أن هذه الصفة كانت من أبرز الصفات التي كفلت له النجاح..
الأوضاع الداخلية في عهد المنصور:
عصيان عبد الله بن علي:
تولى أبو جعفر المنصور الخلافة ولم تكن قد توطدت دعائمها بعد، وقد خشي من منافسة عمه عبد الله بن علي الذي كان يطلب الخلافة، كما انتابه الخوف من تعاظم نفوذ أبي مسلم الخراساني، ومن خروج بني عمه آل علي بن أبي طالب على حكمه فكيف واجه المنصور هذه المشاكل الثلاث؟
الواضح أن الخليفة كان يجمع الجرأة وبُعد الهمة والمكر والدهاء، فعزم على ضرب أعدائه بعضهم ببعض، حتى تخلو له الساحة السياسية..
كان لعبد الله بن علي رؤية خاصة في مشكلة الحكم، فهو بالإضافة إلى طمعه بالخلافة، فإنه انزعج من ابني أخيه أبي العباس وأبي جعفر بفعل ميلهم الشديد للفرس..
وكان أبو جعفر على حقٍّ حين خشي من طموحات عمه الذي خرج غازيًا البيزنطيين في عهد أبي العباس على رأس جيش ضم عددًا كبيرًا من العرب، وعندما وصل إلى دلوك بنواحي حلب، علم بوفاة السفاح وبيعة المنصور، فتوقف عن الزحف، ورحل إلى حران حيث اجتمع بأركان حربه، وتقرر ترشيح نفسه للخلافة فبايعه الجند، ومن ثم راح يزحف متجهًا نحو الجزيرة.
وهكذا استخدم عبد الله هذا الجيش الذي أعد أساسًا لغزو البيزنطيين لتحقيق أطماعه في الخلافة، مدعًيا أن أبا العباس أقامه وليًا لعهده حينما أرسله لقتال مروان الثاني..
تصرف المنصور تجاه هذا الخطر تصرفًا حكيمًا، دلَّ على أنه لا يحكِّم العواطف في القضايا الأساسية، فندب أبا مسلم لقتاله رغم حقده عليه، مظهرًا بذلك براعة سياسية، لضرب أعدائه بعضهم ببعض، بالإضافة إلى أنه كان يأمل باستقطاب الخراسانيين في جيش عمه عن طريق حاكم خراسان الذي أبدى استعدادًا للتصدي لحركة التمرد..
وتمكن أبو مسلم بدهائه السياسي والعسكري من التغلب على عبد الله بن علي في معركة جرت بينهما قرب نصيبين في منطقة الجزيرة، وفر عبد الله بعد هزيمته إلى البصرة ملتجئًا إلى أخيه سليمان بن علي، وظل متواريًا عنده إلى أن علم المنصور بذلك فأرسل يطلبه، وأعطاه من الأمان ما وثق به، وعندما جاءه قبض عليه وسجنه، وذلك عام 139هـ وظل مسجونًا حتى عام 147هـ حين قتله المنصور.. (10)
كما نجح أبو جعفر المنصور في القضاء على أبي مسلم عام 137هـ، والطالبيين الخارجين عليه عام 145هـ (محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم) وقد سبق الحديث عن هذه الحركات..
الأوضاع الخارجية في عهد المنصور:
العلاقة مع البيزنطيين:
اتسمت الحروب بين المسلمين والبيزنطيين في عهد المنصور بالمهادنة إذ لم تتعد المناوشات الحدودية المحدودة وذلك يعود إلى اهتمام العباسيين بتدعيم مركزهم الداخلي.. بالمقابل كان اهتمام الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الخامس منصبًا على التجهيزات لحرب البلغار في البلقان من جهة، ومشكلة عبادة الأيقونات من جهة أخرى..
حيال هذا الواقع، كان الخليفة العباسي يتطلع إلى إعادة بناء ما تهدم من حصون، وثغور مستغلاً الهدوء النسبي المتوقع..
والواضح أن المنصور اتبع تجاه الدولة البيزنطية، السياسة التي تتفق مع الوضع الهجومي الذي نفذه الإمبراطور البيزنطي، وهي محاولة إيقاف الهجوم عن طريق إعادة تحصين الثغور، وترميم المخربة منها وإعادة بناء المهدمة، ثم تنظيم وسائل الدفاع عنها، والجدير بالذكر أن مناطق الثغور كانت تنقسم إلى قسمين:
الأولى: منطقة الثغور الجَزَرِيَّة، وهي التي خصصت للدفاع عن الجزيرة أي شماليها، ومن أهم حصونها ملطية، المصيصة، ومرعش..
الثانية: منطقة الثغور الشامية، وتقع غربي الثغور الجزرية، وقد خصصت للدفاع عن بلاد الشام، ومن أهم حصونها طرسوس وأذنة وعين زربة..
لقد حصن المنصور هذه المناطق وخصصها بحكم إداري مستقل وحشد فيها آلاف المقاتلين والمرابطين، ومنحهم الإقطاعات، والمزارع وبني لهم البيوت والإصطبلات، وأنفق عليهم الأموال، ووضع لهم نظامًا عسكريًا ينفذونه..
هذا وقد امتازت منطقة الثغور الشامية بأن الحملات التي كانت تخرج منها برية وبحرية في آنٍ واحد، وقد أدت أساطيل مصر والشام دورًا مشتركًا مهمًا انطلاقًا من هذه المنطقة..
وبهذا النظام الثغري استطاع المنصور أن يضع حدًا لمطامع البيزنطيين.. (11)
بناء مدينة بغداد:
كان من بين أهم الأعمال التي قام بها الخليفة أبو جعفر المنصور،وتركت أثرها في مستقبل الدولة الخلافة العباسية، بناؤه مدينة بغداد والواقع أن تاريخ هذه المدينة باعتبارها قاعدة من القواعد الإسلامية يسير جنبًا إلى جنب مع قيام دولة الخلافة العباسية وسقوطها، وقد ظل العباسيون قبل ذلك ثلاثة عشر عامًا منذ وصولهم إلى الحكم دون عاصمة لملكهم حتى بنوا بغداد..
لقد أدرك المنصور المخاطر التي أحاطت بدولته الناشئة، والتي تهدف إلى تقويض حكم الأسرة العباسية، لذا عمد إلى البحث عن مكان يكون ملائمًَا لعاصمة جديدة تكون تعبيرًا عن سيادة أسرته فاختار موضعًا عند التقاء نهر الصراة بنهر دجلة وأقام فيه مدينة بغداد..
واسم بغداد مشتق على الأرجح من صيغة فارسية مركبة من كلمتين هما "باغ" و"داد" تعني عطية الله، وذكر المؤرخون والجغرافيون العرب عدة اشتقاقات لهذا الاسم، وسماها المنصور "مدينة السلام" تيمنًا بجنة الخلد، أو لأن وادي دجلة كان يقال له: وادي السلام، وكان هذا هو الاسم الرسمي الذي يذكر في الوثائق وعلى المسكوكات والأوزان..
وقد شرع المنصور في بناء عاصمته عام 145هـ، وقد استغرق بناؤها أربعة أعوام تقريبًا انتهى عام 149هـ..
ويعتبر المخطَّط الذي نفذه المنصور مبتكرًا، فقد جعل المدينة مستديرة تحيط بها أسوار مزدوجة تؤلف حلقتين متتابعتين، وهذا اتجاه جديد في فن بناء المدن الإسلامية، ويبدو أنه قد تأثر ببناء بعض المدن الفارسية القديمة مثل: همذان..
شيدت مدينة بغداد على شكل حصن كبير وتألفت من ثلاثة عناصر معمارية هي: التحصينات، الأسوار الخارجية، ثم المنطقة السكنية الداخلية، وضم وسط المدينة قصر الخليفة والجامع وقصور أولاده ودواوين الحكومة، ولم يكن يُسمح لأحد بركوب الخيل أو غيرها من الدواب داخل المدينة الداخلية إلا للخليفة، وإن من يريد القصر عليه الترجل عند مداخل المدينة الداخلية، ويسير على الأقدام باستثناء المهدي، وداود بن علي عم المنصور الذي سمح له بأن يحمل في محفة نظرًا لمرضه..
وعندما فرغ المنصور من بناء بغداد أقطع أهل بيته وأعيان دولته قطائع من الأرض بجوار الأبواب خارج مدينته، ومنح جنوده الأرباض ليبنوا عليها دورهم، وذلك رغبة في تخفيف الضغط عن المدينة من جهة، ومكافأة لهم على ما قدموه من الخدمات الجليلة من جهة أخرى، وسرعان ما عمرت القطائع وازدحمت بالسكان، وأضحت كل قطيعة تعرف باسم الرجل أو الطائفة التي تسكنها..
ويظهر الأثر الفارسي في تخطيط المدينة، إذ فُصِل الخليفةُ عن الرعية، وجُعِل له مقامٌ سامٍ يصعب الوصول إليه،كما أن ضخامة القصر والإيوان تظهر روعة الملك، ثم إن فكرة الاستدارة، وحصر بيوت السكان في أحياء منفصلة، يمكن غلقها ليلاً وحراستها بصورة دقيقة، يشير إلى السلطة المطلقة المتأثرة بالفرس والتي تتعارض مع سماحة الإسلام وما عُرِف عن الأمويين..
وبنى المنصور في عام 151هـ مدينة الرصافة أو بغداد الشرقية لابنه المهدي على الجانب الشرقي من دجلة مقابل مدينة بغداد الغربية، وقد عرفت باسم "عسكر المهدي"، وتعود الأسباب الاستراتيجية لتبرز من جديد في بنائها حيث وضع المهدي جنده فيها ليكون من في خارج مدينة المنصور عونًا في قمع الاضطرابات التي قد تنشب داخلها، ويبدو أن الخليفة أدرك أنه لن يكون آمنًا كل الأمن على نفسه بإقامته في بغداد، وجهزت الرصافة بسور وميدان وبستان وأجرى عليها الماء وربط بين المدينتين بثلاثة جسور على نهر دجلة، ومنح القواد فيها القطائع، وسرعان ما عمرت الرصافة حتى قاربت بغداد في الاتساع، وانتهى بناء الرصافة في عام 159هـ في عهد الخليفة المهدي.. (12)
ولاية العهد:
من الأحداث المؤثرة التي وقعت في عهد المنصور خلعه لابن أخيه عيسى بن موسى من ولاية العهد، وأخذه البيعة لابنه المهدي، بالرغم من أن هذا الأول كان قد أنفذ له ملكه أكثر من مرة، ويبدو أن الخليفة فكر في خلع ابن أخيه في بداية عهده، فيذكر الطبري أنه أوفد عيسى بن موسى لمحاربة العلويين وفي نيته أن يتخلص إما من ولي عهده ليحوِّل الخلافة إلى ابنه المهدي، أو من محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم، وقال: ".لا أبالي أيهما قتل صاحبه"..
لكن كبار رجال الدولة كانوا قد أقسموا في حياة السفاح على بيعة عيسى بن موسى، ولم يكن من السهل عليهم نقضها، ولم يكن ثمة مناص لتحللهم منها إلا بحمل عيسى بن موسى على الانسحاب طوعًا والتخلي عن ولاية العهد، ويبدو أنه لم يكن راغبًا في ذلك مما دفع المنصور إلى استعمال وسائل الترغيب والترهيب التي أدت بدورها إلى اضطراره إلى خلع نفسه، ومبايعة المهدي في عام 147هـ، وأضحت ولاية العهد للمهدي أولاً ثم لعيسى بن موسى من بعده..
وأسرع المنصور فحمل الناس على بيعة المهدي، وأوصاه بوصية تكشف عن السياسة الرشيدة التي يجب عليه تطبيقها تجاه رعيته فحثه على الرأفة بهم، والسهر على راحتهم، وبسط العدل بينهم، والتقرب إلى الله بحسن السيرة وإجلال أهل العلم والدين، وعمارة الأرض وتخفيف الخراج، ونشر الإسلام والجهاد في سبيل إعلاء كلمته..
وفي عام 158هـ تُوُفي المنصور، وهو في طريقه لأداء فريضة الحج... (13)
هو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ولد بالحميمة من الشراة في الأردن عام 105هـ.
توفي والده محمد بن علي عام 125هـ بالحميمة، وهو الذي بدأ بالدعوة العباسية، وكان السفاح قد ناهز العشرين من العمر، وعرف الكثير من الدعوة وأسرارها، وعهد والده من بعده لابنه إبراهيم (أخي السفاح) الذي عرف فيما بعد بالإمام، وقد عمل على نجاح الدعوة فقوي أمره؛ فأظهر نفسه في الموسم فعرف، كما وقع كتابٌ وجَّهَه إلى أبي مسلم الخراساني في يد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية؛ فأرسل إلى واليه على دمشق، فبعث من أخذه إلى حران (1) (قاعدة مروان) فسجن هناك، وكان قد أوصى من بعده لأخيه السفاح، وأمره أن يسير بأهله إلى الكوفة وذلك عام 129هـ.
سار السفاح من الحميمة باتجاه الكوفة عن طريق دومة الجندل (2) ومعه من أهله ثلاثة عشر رجلاً هم أعمامه وأخواه، وأبناء إخوته وأبناء عمه..
وفي الكوفة بُويِع له بالخلافة يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الآخر عام 132هـ..
وألقى أبو العباس على عادة الخلفاء لدى انتخابهم خطبة في مسجد الكوفة أوضح فيها الهدف الذي من أجله قامت الثورة العباسية وندد بالأمويين الذين وصفهم بمغتصبي الخلافة، ووعد الكوفيين الذين ساندوا الثورة، بزيادة أعطياتهم. (3)
ولم ينس أن يذكرهم بأنه:"السفاح المبيح، والثائر المبير".. (4)
الدعائم التي اعتمد عليها السفاح في خلافته
كان الخليفة أبو العباس مقيمًا بالكوفة، ويبدو أنه أدرك وضعها الشاذ بفعل عدم تأييد غالبية سكانها للثورة العباسية، وكانوا من شيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فانتقل منها إلى مكان قريب عُرِفَ بهاشمية الكوفة، غير أنه لم يمكث فيها طويلاً، وانتقل إلى الأنبار شمالي الكوفة، على نهر الفرات في عام 134هـ، وبنى بجوارها مدينة لنفسه عرفت باسم "هاشمية الأنبار" أقام بها حتى وفاته في عام 136هـ..
قضى أبو العباس معظم عهده في تثبيت حكمه، فحارب القادة العرب الذين ناصروا الأمويين، ثم تخلص من بعض القادة الذين ساندوه في الوصول إلى الحكم بعدما بدرت منهم بوادر انفصالية مثل أبي سلمة الخلال.. (5)
كان السفاحُ جوَّادًا يُضرَب المثلُ بجوده فقد أعطى عبد الله بن حسن بن الحسن ألفي ألف درهم، وكان عفيفًا عنيفًا متعبدًا..
تُوُفي بالجدري عام 136هـ في شهر ذي الحجة، وبذا فقد عاش إحدى وثلاثين سنة، ولى الخلافة منها أربع سنوات وبقي بين بيعته ووجود مروان بن محمد حيًا ثمانية أشهر، أي وجود خليفتين في آنٍ واحد.. (6)
ويبدو من خطبة أبي العباس، ومن كلمة عمه داود بن عليٍّ ثلاث نقاط هي:
1ـ محاولة إظهار أحقية بني العباس بالخلافة دون غيرهم على اعتبار أن الخلافة وراثية، ولم تكن الخلافة في الإسلام ملكًا متوارثًا وإنما هكذا أصبح بعد الحكم الراشدي..
2ـ الهجوم على بني أمية، وعَدُّهم ظالمين مستبدين، أخذوا بغير حق وساروا فيه بكل عسف، وهذا شأن كل حاكم جديد بالنسبة لسابقه يبرر قيامه، ويمكِّن لنفسه..
3ـ الوعد بالحكم بما أنزل الله، واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بالصحابة والسلف الصالح، وهذه قناعة الخلفاء، الذين يظنون أن من سبقوهم لم يطبقوا الإسلام بشكل صحيح،والواقع أن الإسلام لم يُتَّبَعْ في صورته الكاملة بعد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حدث تغيير، ولكنه كان تغييرًا طفيفًا تزداد فيه زاوية الانحراف وتتسع أحيانًا، وتضييق أحيانًا أخرى، ويبقى المظهر العام إسلاميًا كل مدة الخلافة، فالخلفاء متمسكون عامَّةً بتعاليم الإسلام، ويفخرون بذلك؛ لذا فهم يأخذون على غيرهم، ويظنون بأنفسهم أنَّ بإمكانهم أن يطبقوا الإسلام بشكلٍ أفضل، ويعملوا له بصورة أحسن، والواقع أن العباسيين في أيامهم الأولى بصورة عامة كانوا أكثر تدينًا من الأمويين، وأكثر تمسكًا بالإسلام، ولكنهم أقل خدمة للأمة، وقد ظهر هذا من كلمة داود بن عليٍّ من اليوم الأول "ولا نحفر نهرًا" وليس معنى هذا أن الأمويين كانوا جملة أمور دينهم مهملين، وأن العباسيين كانوا تاركين أمور رعيتهم، وإنما القضايا نسبية، فقد كان الأمويون أهل فضل ودين وإن وقعت في أيام بعضهم حوادث كان يجب ألا تقع أما ما نُسِبَ لهم، وما قبل فيهم فهو بمجمله محضُ افتراء من صنع الدساسين والخصوم..
وأشار داود بن عليّ إلى أن منبر الكوفة لم يخطب عليه خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كان قد اتخذ الكوفة مقرًا له، وبعده كانت الكوفة مهملة من قبل الخلفاء حتى قام الخليفة السفاح هذا، وفي هذا الكلام إثارة لأبناء الكوفة ليعضدوا الحكم الجديد الذي هو حكمهم إذ أن بلدتهم قد أصبحت قاعدة الخلافة الإسلامية كلها.. (7)
وفي اليوم الثاني سار السفاح إلى معسكر حمام أعين، واستخلف على الكوفة عمه داود بن علي، وبعث عمه عبد الله بن علي في قوة دعمًا لأبي عون عبد الملك بن يزيد لقتال مروان بن محمد..
وانتصر عبد الله بن علي بن محمد في معركة الزاب (8) ففر مروان إلى مصر واختبأ ببوصير حتى قتل فيها في ذي الحجة عام 132هـ، وبمقتله خلت إمارة المؤمنين للسفاح إذ ليس للمؤمنين إلا أمير واحد لهم في دار الإسلام..
لم تقم حركة قوية ضد السفاح بعد عام 134هـ، وفي الوقت نفسه لم تكن دولته موطدة الأركان...
الدعائم التي اعتمد عليها السفاح في خلافته:
اعتمد السفاح في خلافته على دعائم ثلاث هي:
1ـ أسرته:
لقد كانت أسرة السفاح كبيرة فكانت دعمًا له، ومن يريد أن يؤسس أسرة حاكمة فإن عدد أفراد أسرته يلعب دورًا كبيرًا في تسهيل مهمته فنلاحظ أن سيدنا معاوية رضي الله عنه أسس أسرة لكن لم يطل عهدها، ولم يحكم بعده سوى ابنه يزيد، على حين أن أسرة بني مروان قد استمر أمرها ما يقرب من سبعين سنة لكثرة أولاد عبد الملك بن مروان..
لقد كان للسفاح سبعة أعمام تسلموا له قيادة الجيوش وإمرة الولايات، فضبطوا الأمر..
كما كان السفاح يحب أن يكون دائمًا أحد أهل بيته على الإمارة أو قيادة الجيوش ليضمن الأمر، فعندما أرسل أخاه أبا جعفر دعمًا للحسن بن قحطبة كتب إليه: "إن العسكر عسكرك، والقواد قوادك، ولكن أحببت أن يكون أخي حاضرًا، فاسمع له وأطع، وأحسن مؤازرته"..
2ـ أبو مسلم الخراساني:
الذي استطاع بحكمته وحزمه وقوته أن ينجح في الدعوة للعباسيين وأن يقود الجيوش ضد نصر بن سيار والي الأمويين على خراسان، وأن ينتصر عليه رغم حداثة سنة؛ إذ قامت الدولة العباسية، ولم يتجاوز الثانية والثلاثين، وقُتِل ولم يناهز السابعة والثلاثين من عمره، وبقيت خراسان على عهدها ما بقي فيها أبو مسلم بل كان سيف الدولة المصلت تضرب به من يخرج عن طاعتها..
3ـ العصبية القبلية:
بزغ قرن العصبية أمام الدولة الأموية، وهذا ما أضعفها، وهدّ كيانها، وكان سببًا في سقوطها وزوالها، وأفاد العباسيون منها، إذ رأوا الفرقة والخلاف بين القيسية واليمنية؛ فلما كان آخر ولاة بني أمية من القيسيين فقد ضم العباسيون اليمنيين إلى صفوفهم، فلما قامت دولتهم بقوا محافظين على هؤلاء اليمنيين لذا نجد أكثر قادتهم منهم.. (9)
عبد الله أبو جعفر المنصور 136-158هـ
التعريف به:
هو عبد الله بن محمد بن علي العباسي، أبو جعفر المنصور، ولد في الحميمة عام 95هـ، وأمه أم ولد تدعى سلامة، ترعرع في وسط المجتمع الهاشمي، وطلب العلم وهو شاب من مظانة وتفقه في الدين، ونال قسطًا من علم الحديث، فنشأ أديبًا فصيحًا ملمًا بسِيَر الملوك..
انتقل أبو جعفر مع أخيه وأهله من الحميمة إلى الكوفة، وعندما أفضت الخلافة إلى أخيه أبي العباس، كان ساعده الأشد في تدبير أمور الخلافة، فولاه الجزيرة وأرمينيا وأذربيجان، ووجهه إلى خراسان لأخذ البيعة له، كما عهد إليه من بعده..
توفي السفاح، وأبو جعفر في الحجاز أميرًا على الحج، فأخذ له البيعة ابن أخيه عيسى بن موسى في الأنبار، وكتب إليه بذلك..
اتصف المنصور بالشدة والبأس، واليقظة والحزم والصلاح والاهتمام بمصالح الرعية، كَرِهَ سفك الدماء إلا بالحق، وعرف بالثبات عند الشدائد، ولا شك أن هذه الصفة كانت من أبرز الصفات التي كفلت له النجاح..
الأوضاع الداخلية في عهد المنصور:
عصيان عبد الله بن علي:
تولى أبو جعفر المنصور الخلافة ولم تكن قد توطدت دعائمها بعد، وقد خشي من منافسة عمه عبد الله بن علي الذي كان يطلب الخلافة، كما انتابه الخوف من تعاظم نفوذ أبي مسلم الخراساني، ومن خروج بني عمه آل علي بن أبي طالب على حكمه فكيف واجه المنصور هذه المشاكل الثلاث؟
الواضح أن الخليفة كان يجمع الجرأة وبُعد الهمة والمكر والدهاء، فعزم على ضرب أعدائه بعضهم ببعض، حتى تخلو له الساحة السياسية..
كان لعبد الله بن علي رؤية خاصة في مشكلة الحكم، فهو بالإضافة إلى طمعه بالخلافة، فإنه انزعج من ابني أخيه أبي العباس وأبي جعفر بفعل ميلهم الشديد للفرس..
وكان أبو جعفر على حقٍّ حين خشي من طموحات عمه الذي خرج غازيًا البيزنطيين في عهد أبي العباس على رأس جيش ضم عددًا كبيرًا من العرب، وعندما وصل إلى دلوك بنواحي حلب، علم بوفاة السفاح وبيعة المنصور، فتوقف عن الزحف، ورحل إلى حران حيث اجتمع بأركان حربه، وتقرر ترشيح نفسه للخلافة فبايعه الجند، ومن ثم راح يزحف متجهًا نحو الجزيرة.
وهكذا استخدم عبد الله هذا الجيش الذي أعد أساسًا لغزو البيزنطيين لتحقيق أطماعه في الخلافة، مدعًيا أن أبا العباس أقامه وليًا لعهده حينما أرسله لقتال مروان الثاني..
تصرف المنصور تجاه هذا الخطر تصرفًا حكيمًا، دلَّ على أنه لا يحكِّم العواطف في القضايا الأساسية، فندب أبا مسلم لقتاله رغم حقده عليه، مظهرًا بذلك براعة سياسية، لضرب أعدائه بعضهم ببعض، بالإضافة إلى أنه كان يأمل باستقطاب الخراسانيين في جيش عمه عن طريق حاكم خراسان الذي أبدى استعدادًا للتصدي لحركة التمرد..
وتمكن أبو مسلم بدهائه السياسي والعسكري من التغلب على عبد الله بن علي في معركة جرت بينهما قرب نصيبين في منطقة الجزيرة، وفر عبد الله بعد هزيمته إلى البصرة ملتجئًا إلى أخيه سليمان بن علي، وظل متواريًا عنده إلى أن علم المنصور بذلك فأرسل يطلبه، وأعطاه من الأمان ما وثق به، وعندما جاءه قبض عليه وسجنه، وذلك عام 139هـ وظل مسجونًا حتى عام 147هـ حين قتله المنصور.. (10)
كما نجح أبو جعفر المنصور في القضاء على أبي مسلم عام 137هـ، والطالبيين الخارجين عليه عام 145هـ (محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم) وقد سبق الحديث عن هذه الحركات..
الأوضاع الخارجية في عهد المنصور:
العلاقة مع البيزنطيين:
اتسمت الحروب بين المسلمين والبيزنطيين في عهد المنصور بالمهادنة إذ لم تتعد المناوشات الحدودية المحدودة وذلك يعود إلى اهتمام العباسيين بتدعيم مركزهم الداخلي.. بالمقابل كان اهتمام الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الخامس منصبًا على التجهيزات لحرب البلغار في البلقان من جهة، ومشكلة عبادة الأيقونات من جهة أخرى..
حيال هذا الواقع، كان الخليفة العباسي يتطلع إلى إعادة بناء ما تهدم من حصون، وثغور مستغلاً الهدوء النسبي المتوقع..
والواضح أن المنصور اتبع تجاه الدولة البيزنطية، السياسة التي تتفق مع الوضع الهجومي الذي نفذه الإمبراطور البيزنطي، وهي محاولة إيقاف الهجوم عن طريق إعادة تحصين الثغور، وترميم المخربة منها وإعادة بناء المهدمة، ثم تنظيم وسائل الدفاع عنها، والجدير بالذكر أن مناطق الثغور كانت تنقسم إلى قسمين:
الأولى: منطقة الثغور الجَزَرِيَّة، وهي التي خصصت للدفاع عن الجزيرة أي شماليها، ومن أهم حصونها ملطية، المصيصة، ومرعش..
الثانية: منطقة الثغور الشامية، وتقع غربي الثغور الجزرية، وقد خصصت للدفاع عن بلاد الشام، ومن أهم حصونها طرسوس وأذنة وعين زربة..
لقد حصن المنصور هذه المناطق وخصصها بحكم إداري مستقل وحشد فيها آلاف المقاتلين والمرابطين، ومنحهم الإقطاعات، والمزارع وبني لهم البيوت والإصطبلات، وأنفق عليهم الأموال، ووضع لهم نظامًا عسكريًا ينفذونه..
هذا وقد امتازت منطقة الثغور الشامية بأن الحملات التي كانت تخرج منها برية وبحرية في آنٍ واحد، وقد أدت أساطيل مصر والشام دورًا مشتركًا مهمًا انطلاقًا من هذه المنطقة..
وبهذا النظام الثغري استطاع المنصور أن يضع حدًا لمطامع البيزنطيين.. (11)
بناء مدينة بغداد:
كان من بين أهم الأعمال التي قام بها الخليفة أبو جعفر المنصور،وتركت أثرها في مستقبل الدولة الخلافة العباسية، بناؤه مدينة بغداد والواقع أن تاريخ هذه المدينة باعتبارها قاعدة من القواعد الإسلامية يسير جنبًا إلى جنب مع قيام دولة الخلافة العباسية وسقوطها، وقد ظل العباسيون قبل ذلك ثلاثة عشر عامًا منذ وصولهم إلى الحكم دون عاصمة لملكهم حتى بنوا بغداد..
لقد أدرك المنصور المخاطر التي أحاطت بدولته الناشئة، والتي تهدف إلى تقويض حكم الأسرة العباسية، لذا عمد إلى البحث عن مكان يكون ملائمًَا لعاصمة جديدة تكون تعبيرًا عن سيادة أسرته فاختار موضعًا عند التقاء نهر الصراة بنهر دجلة وأقام فيه مدينة بغداد..
واسم بغداد مشتق على الأرجح من صيغة فارسية مركبة من كلمتين هما "باغ" و"داد" تعني عطية الله، وذكر المؤرخون والجغرافيون العرب عدة اشتقاقات لهذا الاسم، وسماها المنصور "مدينة السلام" تيمنًا بجنة الخلد، أو لأن وادي دجلة كان يقال له: وادي السلام، وكان هذا هو الاسم الرسمي الذي يذكر في الوثائق وعلى المسكوكات والأوزان..
وقد شرع المنصور في بناء عاصمته عام 145هـ، وقد استغرق بناؤها أربعة أعوام تقريبًا انتهى عام 149هـ..
ويعتبر المخطَّط الذي نفذه المنصور مبتكرًا، فقد جعل المدينة مستديرة تحيط بها أسوار مزدوجة تؤلف حلقتين متتابعتين، وهذا اتجاه جديد في فن بناء المدن الإسلامية، ويبدو أنه قد تأثر ببناء بعض المدن الفارسية القديمة مثل: همذان..
شيدت مدينة بغداد على شكل حصن كبير وتألفت من ثلاثة عناصر معمارية هي: التحصينات، الأسوار الخارجية، ثم المنطقة السكنية الداخلية، وضم وسط المدينة قصر الخليفة والجامع وقصور أولاده ودواوين الحكومة، ولم يكن يُسمح لأحد بركوب الخيل أو غيرها من الدواب داخل المدينة الداخلية إلا للخليفة، وإن من يريد القصر عليه الترجل عند مداخل المدينة الداخلية، ويسير على الأقدام باستثناء المهدي، وداود بن علي عم المنصور الذي سمح له بأن يحمل في محفة نظرًا لمرضه..
وعندما فرغ المنصور من بناء بغداد أقطع أهل بيته وأعيان دولته قطائع من الأرض بجوار الأبواب خارج مدينته، ومنح جنوده الأرباض ليبنوا عليها دورهم، وذلك رغبة في تخفيف الضغط عن المدينة من جهة، ومكافأة لهم على ما قدموه من الخدمات الجليلة من جهة أخرى، وسرعان ما عمرت القطائع وازدحمت بالسكان، وأضحت كل قطيعة تعرف باسم الرجل أو الطائفة التي تسكنها..
ويظهر الأثر الفارسي في تخطيط المدينة، إذ فُصِل الخليفةُ عن الرعية، وجُعِل له مقامٌ سامٍ يصعب الوصول إليه،كما أن ضخامة القصر والإيوان تظهر روعة الملك، ثم إن فكرة الاستدارة، وحصر بيوت السكان في أحياء منفصلة، يمكن غلقها ليلاً وحراستها بصورة دقيقة، يشير إلى السلطة المطلقة المتأثرة بالفرس والتي تتعارض مع سماحة الإسلام وما عُرِف عن الأمويين..
وبنى المنصور في عام 151هـ مدينة الرصافة أو بغداد الشرقية لابنه المهدي على الجانب الشرقي من دجلة مقابل مدينة بغداد الغربية، وقد عرفت باسم "عسكر المهدي"، وتعود الأسباب الاستراتيجية لتبرز من جديد في بنائها حيث وضع المهدي جنده فيها ليكون من في خارج مدينة المنصور عونًا في قمع الاضطرابات التي قد تنشب داخلها، ويبدو أن الخليفة أدرك أنه لن يكون آمنًا كل الأمن على نفسه بإقامته في بغداد، وجهزت الرصافة بسور وميدان وبستان وأجرى عليها الماء وربط بين المدينتين بثلاثة جسور على نهر دجلة، ومنح القواد فيها القطائع، وسرعان ما عمرت الرصافة حتى قاربت بغداد في الاتساع، وانتهى بناء الرصافة في عام 159هـ في عهد الخليفة المهدي.. (12)
ولاية العهد:
من الأحداث المؤثرة التي وقعت في عهد المنصور خلعه لابن أخيه عيسى بن موسى من ولاية العهد، وأخذه البيعة لابنه المهدي، بالرغم من أن هذا الأول كان قد أنفذ له ملكه أكثر من مرة، ويبدو أن الخليفة فكر في خلع ابن أخيه في بداية عهده، فيذكر الطبري أنه أوفد عيسى بن موسى لمحاربة العلويين وفي نيته أن يتخلص إما من ولي عهده ليحوِّل الخلافة إلى ابنه المهدي، أو من محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم، وقال: ".لا أبالي أيهما قتل صاحبه"..
لكن كبار رجال الدولة كانوا قد أقسموا في حياة السفاح على بيعة عيسى بن موسى، ولم يكن من السهل عليهم نقضها، ولم يكن ثمة مناص لتحللهم منها إلا بحمل عيسى بن موسى على الانسحاب طوعًا والتخلي عن ولاية العهد، ويبدو أنه لم يكن راغبًا في ذلك مما دفع المنصور إلى استعمال وسائل الترغيب والترهيب التي أدت بدورها إلى اضطراره إلى خلع نفسه، ومبايعة المهدي في عام 147هـ، وأضحت ولاية العهد للمهدي أولاً ثم لعيسى بن موسى من بعده..
وأسرع المنصور فحمل الناس على بيعة المهدي، وأوصاه بوصية تكشف عن السياسة الرشيدة التي يجب عليه تطبيقها تجاه رعيته فحثه على الرأفة بهم، والسهر على راحتهم، وبسط العدل بينهم، والتقرب إلى الله بحسن السيرة وإجلال أهل العلم والدين، وعمارة الأرض وتخفيف الخراج، ونشر الإسلام والجهاد في سبيل إعلاء كلمته..
وفي عام 158هـ تُوُفي المنصور، وهو في طريقه لأداء فريضة الحج... (13)