عناصر الثقافة الهيلينية في شعر صلاح عبد الصبور - الجزء الاول
تظل القصيدة في مختلف اشكالها، نتاجا للتفاعل الخلاق بين التجربة والثقافة.
فالتجربة هي تجل للذات، بينما الثقافة تعبير عن الموضوع. ولأن كلا منها متغير بالضرورة، بتغير الذوات والعصور، والاماكن، تصبح القصيدة (الحقة) هي القصيدة المتفردة. وعلى ذلك، فانه مهما ساد نمط من الثقافة في عصر ما، فان الذات تقوم باعادة انتاج تلك الثقافة، كي تنحي بعض عناصرها. مقابل اعلاء عناصر أخرى. وتلك العملية التي تشبه التباديل والتوافيق الرياضية، عادة ما تؤدي بالشاعر الى التفرد، كما تحيل القصيدة الى بصمة فنية، تتشابه - من حيث الشكل العام - مع بصمات اخرى، لكنها تظل - في العمق منها - كونا مغلقا، وقائما بذاته.
ولأن التجربة التي تشكل الخبرة العاطفية رهن بذات الشاعر وحدها، ومن هنا يصعب تحليلها، فان ما يمكن اخضاعه للتحليل - بالفعل - هو الثقافة. وتعود أهمية تحليلها الى كونها هي التي تشكل رؤية الشاعر للعالم، وبالتالي فانها تستدعي الادوات التي تؤمر تلك الرؤية. ثم أنها. في نهاية الأمر - هي الروح التي تشيع في التجربة الذاتية، سحر الانتقال من الخاص الى العام، فتضفي عليها الحيوية والديمومة.
ان ثقافة الشاعر لا يمكن ان تكون نتاج عنصر ثقافي محدد، ولكنها جماع لخبرات عديدة، تتمثل في خبرة الحياة والقراءة والمشاهدات. ولان هذه الخبرات غنية ومتجددة دوما، فان الذاكرة - عادة - ما تقوم بتنحية بعض العناصر، مقابل سيادة عناصر اخرى. على ان العناصر التي يتم ازاحتها، لا تختفي تماما، لكنها قد تكون أخطر تأثيرا، حيث انها تعمل في اللاشعور، وبالتالي يصعب على الشاعر ان يتقطع أية مساحة - ولو محدودة - من حريتها. وقد تتمكن بعض العناصر الثقافية من السيطرة على الوعي الظاهر، كما تسيطر عن اللاشعور. وفي هذه الحالة، تصبد دراسة السمات الثقافية لدى الشاعر اكثر يسرا. وهذا الافصاح لا يشي بالسطحية، بقدر ما يشير الى تحديد عوالم الشاعر، وبالتالي يشير الى امكانية الولوج فيها. وهبتا لهذا التصور، فاننا نرى أن عالم صلاح عبدالصبور الشعري هو الاكثر تحديدا لان عناصر الثقافية تبدو واضحة في مختلف مستويات الشعور واللاشعور. ان هذه العناصر هي مزيج من عناصر عربية واسلامية، تشكل ثقافة الموروث في الاطار العام، اضافة الى بعض العناصر الفلكلورية، وهذا المريع من الثقافة الاقليمية، يتنافذ مع ثقافة كونية وافدة، تتمثل في الثقافة الهيلينية.
لذا فانه من خلال تداخل الكوني والاقليمي، تتأسس ثقافة صلاح عبدالصبور في العمق منها، عن عنصرين أساسين: الثقافة الصوفية ذات المنحى الاشراقي، وتنتج عن ثقافة الموروث، والثقافة الهيلينية ذات المنطق العقلي، تفرزها ثقافة الوافد.
ولاننا نتصور ان عناصر الثقافة الهيلينية، الى جانب الصوفية هي أهم مرتكزات الذاكرة الشعرية لدى صلاح عبدالصبور، فاننا سوف نتناولها بالبحث. ونحن نرى بداية انه يكن اختزال العناصر الثقافية بها، الى عنصرين أساسيين:
1- المعرفة بالتصورات.
2- اسطرة الواقع.
* المعرفة بالتصورات:
يرى هيجل ان الفلسفة معرفة بالتصورات، بينما الفن معرفة بالصور. والفارق بين الحالتين، ان التصورات هي سمة أمنية، تتسم بانها تجرد مفردات العالم والعلاقات الرابطة فيما بينها، ثم تحيل كل ذلك الى افكار، اما الصور، فهي على العكس - سمة حامية، تجسد الافكار من خلال رؤيتها بالحواس، وتردها الى العالم مرة اخرى، كي تستحيل الى علاقات ومفردات.
ومن أهم خصائص المعرفة بالتصورات ان التجريد ينشأ - بالاساس - عبر التركيز على علاقات العلية والسببية، وهي علاقات بالضرورة غير شعرية. وعلى الرغم من ذلك، فان صلاح عبدالصبور يعترف بشغفه بتك العلاقات الى درجة "المرض":
"انا مريض بالسؤال عن العلة في كل شيء. وهو مرض اورثتني اياه قراءات فلسفية عابرة واصابة عارضة بالتأمل، لم استطع ان أعالجها في صباي وشبابي، فبقيت معي حتى اعتاب شيخوختي، واظنها متظل معي حتى ابواب الآخرة". ومن الواضح ان تحليل كتاب (حياتي في الشعر) في نفس الاتجاه، سوف يؤدي الى نتائج يقينية، لا تحتل اللبس. فالى جانب (مرض العلة) كما وصفه، نجده في موضع آخر يؤكد على ذلك التصور: (الكون لا يجبني، ولأني احمل بين جوانحي- كما قال شيللي - شهوة لاصلاح العالم، وهذه الشهوة هي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لان كلا منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه عنه، بل يجتمد في ان يرى وسيلة لاصلاحه... ان التعبير بالصور أعمق اثرا من التعبير باللغة المجردة، وكثيرا ما أدرك الانبياء والفلاسفة ذلك، فاصطنعوا منهي الشعراء، ففي آثار كل نبي عظيم او فيلسوف كبير قبس من الشعر). ان عبدالصبور يوحد بين الشاعر والنبي والفيلسوف على مستوى الغايات (اصلاح العالم)، ثم يوحد بينهم ايضا على مستوى الوسائل (المجاز). ومع الاتفاق في الغايات والوسائل، فان الاخلاتفات بينهما لن تكون - بالتالي - سوى اختلافات عرضية. وعلى ذلك، فانه كما يمكننا ان نجد داخل كل نبي وفيلسوف شاعرا، فاننا بالمثل - يمكن ان نلمح داخل كل شاعر نبيا او فيلسوفا. فالسياق العام الذي يؤدي اليه تحليل قصائد عبدالصبور، اضافة الى مقولاته، يجعل من القصيدة نقطة التقاء لثلاثة من أساليب المعرفة:
1- المعرفة بالصور، التي ينتمي اليها الشاعر.
2- المعرفة بالتصورات، التي ينتمي اليها الفيلسوف.
3- المعرفة بالالهام، التي ينتمي اليها النبي.
واذا كان من الممكن تلمس لخلال الشاعر والفيلسوف بسهولة، داخل شعر صلاح عبدالصبور، الا ان المعرفة بالالهام لم تستدع النبوة، بقدر ما استدعت (الخرقة). وبالتالي فقد شغل المتصوفة مكانة الانبياء، داخل نصه الشعري، ومن هنا، يظل شعر صلاح عبدالصبور نسيجا متداخلا من المنطق العاطفي والمنطق العقلي، مضافا اليهما المنطق الاشراقي، كما يصبح التجانس الكوني على المستوى الشعري، مرادفا لوحدة الوجود على المستوى الفلسفي، والحلول على مستوى التصوف.
على ان الجمع بين عناصر شتى داخل تركيبة الشاعر، انما هو صدى لتأثير الثقافة الهيلينية، التي تجعل من الفيلسوف نقطة التقاء للرياضي والطبيب والعالم واللغوي... الخ، ولهذا السبب، كان من الطبيعي ان يتداخل المنطق العاطفي، الذي يعتمد على التفكير بالصور مع المنطق العقلي، الذي يتأسس على المعرفة بالتصورات، اي ان المنطق الاشراقي لا يسلم - بدوره - من تأثير المنطق العقلي، عند صلاح عبدالصبور، لذا يمكن لنا أن نلمع الحلاج وهو يتوق الى ان (... يوفق بين القدرة والفكرة، ويزاوج بين الحكمة والفعل). هذا ما أدى به الى ان يحاول ان يحدث (تكاملا بين اللوجوس والبراكسيس... بين الكلمة والفعل برباط وثيق). واذا كانت مأساة الحلاج" تقع في منطقة وسطى بين الشعر والتصوف، فانها - من ناحية اخري - تزاوج بين التصوف والفلسفة فالسجين الثاني في المسرحية، كان يعود الى امه في نهاية كل يوم، ليحدثها عن: الجوهر والذات
الماهية والاسطقسات،
القاتيغوريا،
ويوناني لا يفهم
ومن ناحية اخرى، نجد ان الخيط الرئيسي داخل مسرحية "بعد ان يموت الملك"،. يتمثل في (الصراع بين "الايروس" و"الثاناتوس".. بين مبدأ الحياة الذي يمثله الشاعر، ومبدأ الموت الذي يمثله الملك)، كما يتصور ماهر شفيق فريد. واذا كنا في حاجة للاستشهاد بمقولة أخرى لصلاح عدالصبور، لنؤكد على المنحى العقلي لشعره، والذي يعكس تأثره بالثقافة الهيللينية بالتفاعل مع ذروة تجليها، وهي الفلسفة، نجد انه يرى ان:
(التجربة الشعورية لا تعني بالضرورة التجربة العاطفية الشخصية وحدها، وانما تعني كل فكرة عقلية أثرت في رؤية الانسان للكون او الكائنات. فضلا عن الاحداث المعاينة، التي قد تدفع الشاعر او الفنان الى التفكير). وهو هنا- ينقل برؤية الشاعر الى تخوم الفيلسوف. وبعد ان استشهدنا بالعديد من مقولات صلاح عبدالصبور، لكي نؤكد على اتجاه المعرفة بالتصورات، خصوصا ان النماذج المسرحية التي أوردناها، تؤكد على ذلك بالفعل، فاننا في حاجة الى تلمس هذا الاتجاه من خلال شعراء حتى تتأكد تلك الفرضية، التي نرى انها تنسحب على كل انتاجه: نثرا وشعرا وسرحا.
على أن آلية المعرفة والتفكير بواسطة التصورات عنده. تتوزع على ثلاثة محاور رئيسية:
* التناص.
* المقولات المهيمنة.
* المعارضة الاسلوبية.
والتناص عنده يكاد يقوم بوظيفة واحدة، هي احداث نوع من المعارضة الشعرية، لنصوص فلسفية سابقة عليه: هل ماء النهر هو النهر؟ (ص 420)
وهذا السطر الشعري اعادة انتاج لمقولة هيراقليطس: «انك لن تعبر النهر مرتين».
كما ان التناص، يطال أشهر مقولات سقراط الفلسفية على الاطلاق، والتي يوردها صلاح عبدالصبور بنفس كلماتها: يا أيها الانسان / اعرف نفسك (ص 258)
اضافة الى انه يستقدم نفس الصياغة اللغوية لقانون (بقاء المادة):
حزني لا يفنى / ولا يستحدث (ص 449) أما النصوص التي تعتمد عن «المقولات المهيمنة » فكثيرة، حيث يتم الاتكاء على عدة مقولات فلسفية، تمثل محاور مركزية داخل نص سلاح عبدالصبور الشعري. وأهم تلك المقولات هي مقولة "اليقين":
حينما التقينا يا حبيبتي، أيقنت / مفترقان (ص 415) ثم يترو في موضع آخر:
لكنني أبحث عن يقين (ص 415)
وهو لا يتصور ان البحث عن اليقين فعل فردي، لان الذات الجمعية - بدورها- انما تحاول العثور على يقينها الخاص. وحين لا تجده، تفقد تواؤمها مع المستقبل:
حين فقدنا جوهر اليقين / تشوهت أجنة الحبالى في البطون (ص 428)
واليقين عند صلاح عبدالصبور قد يقترن بالفعل، لكنه نتيجة لعناصر الصراع بداخله بين المنطق العقلي والمنطق الاشواقي، قد يؤدي الى انتصار "القلب". كرمز للمعرفة بالالهام - على العقل:
نكسر، ثم نشكر قلبنا الهادي / ليرسينا على شط اليقين، فقد أضل العقل مسرانا (ص 343)
والى جانب مقولة (اليقين)، هناك مقولات مهيمنة أخرى مثل (الحكمة)، تتحرك داخل القصيدة بطريقة مركزية: ارتفعت حكمته متى مست قلبه،/ فتسمم بالحكمة (ص 535)
ويتراسل عبر مقولة الحكمة المغلق العقلي والمنطق الاشراقي أيضا:
شعرت بأنني ملأت شهاب القلب / بالحكمة (ص 345)
والشاعر يتصور ان الحكمة تسير في اتجاه محدد، فاذا انعكس مسارها كانت النتائج مروعة:
ومات، اذ ساموه ان يغترف الحكمة / بالمقلوب / نامي، ايا صديقتي المقربة / بدائك الأليم / واستفرغي حكمتهم في ثوبك القديم (ص 443)
وتظل هيمنة المقولة ممتدة عبر كل أعمال عبدالصبور الشعرية:
شبعت حكمة وفطنة / رويت رؤية وفكرا (ص 544)
وتتكرر نفس العبارة تقريبا في موضع آخر:
وربما / لو زدت حكمة وفطنة ورؤية / وفكرل / عرفت ان قلبك الأسيان / كمثل قلبي (ص544)
وكما ترتبط الحكمة بالحياة، عند صلاح عبدالصبور، فانها ترتبه - أيضا- بالموت:
هل استخفى في ذكرى أيام الفرح الوردية؟ / أم استلقى في حكمة أيام الحزن الزرقاء / مقهورا، انتظر هدأة موتي (ص 563)
ولأن العلاقة بين الشاعر والحكيم وطيدة عند صلاح عبدالصبور، فانه من الطبيعي ان تمحى الفواصل بين الشعر والحكمة. لذلك نرى ان المنطق العاطفي كثيرا ما يتدخل والمنطق العقلي:
انحسر الحب / ولم يبق سوى الشعر / هرما، وحكيما مقهورا (ص 574)
أما الموت فحين يعمل الى ذروة تجريده، يستحيل الى مقولة (العدم) وتظل العلاقة بين الموت والحياة، حين يتم تجسيدها، خاضعة لرؤية (بيتس)، التي يستند اليها صلاح عبدالصبور في احدى قصائده:
الانسان هو الموت (ص 517)
ومن خلال هذا التصور، فان شعره ينحاز باتجاه فعل الفناء، فلا يثير العلاقة بين الموت والحياة كقضية وجودية وكونية كبرى، بل كبدهية لا تحتمل الاثبات:
فلو عاش الذي ماتا،/ فأين يعيش من ولدا؟ (ص 339)
ومن هنا يطرح الشاعر تساؤلا آخر، ليحاول ان يثبت ما لا يمكن اثباته:
وما الانسان ان عاشا../ وان ماتا؟ (ص 340)
على ان العلاقة بين فعل الموت / الحياة والتي تمثل دورة الكون، يتم التعبير عنها من خلال التراسل فيما بينهما، والذي يتم ادراكه بالوسائل العقلية:
من موته انبثقت صحوتي (ص 217)
وعندما ينتفي هذا التراسل، ينفرد الموت وحده بالهيمنة على الذاكرة الشعرية. وهنا تحل لفظة (العدم) - بظلها الفلسفي- بديلا عن الموت فان كان الموت فعلا انسانيا، أي يمكن تجسيده وتصوره داخل العالم، فان عبدالصبور يجرده تماما من خلال استخدام مقولة (العدم) وبالتالي، ينتفي عن الموت تجسيده، ويستحيل الى فكرة مجردة:
في الصباح يعقد الندمان مجلس الندم / ليسمعوا حكاية الضياع في بحر العدم (ص 17)