الحرية نحو صياغة عالم جديد - الجزء الاول
مثلما شغلت الحرية اذهان المفكرين الاسلاميين, فانها شغلت اذهان المفكرين في الجانب الشمالي من الكرة الارضية، وهذه مسألة جد طبيعية نظرا لملازمة الحرية للانسان منذ آدم (ع)، واعتداء قابيل على حرية أخيه هابيل في الحياة والتمتع بما وهبه الله له، ومنذ ذلك التاريخ والانسان يبحث في مفهوم الحرية وحدودها وتطبيقاتها ومصاديقها الموضوعية.
الحرية عند فلاسفة اليونان
وذهب على مذبح الحرية الكثير من الانبياء والعظماء والمفكرين، وفضّل البعض ان يهب حياته ويزهقها على يد اعدائه لئلا يتنازل عن حريته وبما يؤمن، وبما يعتقد بانه حقه في القول والفعل بما يراه حقا، اذ: "ليس هناك شيء اهم من حرية الارادة"(1)، مثلا فضّل سقراط (Socrates)(469-399 ق م) واضع باب التعريف في المنطق القديم، والذي اعطى للناس الثقة بوجدانهم عن فوضى السياسة وتشكيك الجدل(2)، فضل هذا الفيلسوف في بلد رفع اول ما رفع لواء "الديمقراطية المباشرة" الموت على التنازل عن افكاره وحريته، كانت افكاره وايمانه بحرية التعبير هي السبب وراء محاكمته المشهورة "ففي سن السبعين قدم سقراط لمحكمة اثينا بتهمة عقوق مبادئ اله اثينا وافساد عقول الشباب من خلال تساؤلاته المستمرة"(3)، كان يدرك خطورة الموقف وقد: "رأى سقراط انه لن يعامل بتسامح، وحضه اصدقاؤه على الفرار من اثينا فرفض، ولم تكن الا ايام حتى عقد له مجلس مؤلف من 500 قاض لمحاكمته .. قال سقراط: ليس على الارض انسان له الحق في ان يملي على الاخر ما يجب ان يؤمن به أو يحرمه من حق التفكير كما يهوى .. مادام الانسان على وفاق مع ضميره فانه يستطيع ان يستغني عن رضى اصدقائه وان يستغني عن المال وعن العائلة وعن البيت، ولكن بما انه لا يمكن ان يصل الى نتائج صحيحة بدون ان يفحص المسائل، مالها وما عليها، فحصا تاما فانه يجب ان يترك الناس احرارا، لهم الحرية التامة في مناقشة جميع المسائل بدون ان تتدخل الحكومة في مناقشتهم.
ويضيف الكاتب المصري سلامة موسى (1887-1957م) أن حجج سقراط في دفاعه عن نفسه ورد تهمة الكفر التي اتهم بها كانت قوية الى حد ان خاطبه المجلس في الكف عن تعليم تلاميذه بحيث اذا وعد وعدا صادقا بذلك فان المجلس يعفو عنه، فكان جواب سقراط على هذه التسوية: كلا، مادام ضميري، هذا الصوت الهادئ الصغير في قلبي، يأمرني بان اسير واعلم الناس طريق العقل الصحيح فاني سأوالي تعليم الناس اصرح لهم بما في عقلي بدون اعتبار النتائج"(4).
واذا كان سقراط قد وصف الحرية بانها حرية الناس في مناقشة جميع المسائل دون رقابة سلطوية فانّ تلميذه افلاطون ()(Plato427-347ق م) اعتبر الحرية مفصلا هاما في حياة الناس: "وان النفس، بحكمة العلم، أي النظر والتأمل في الحقائق الأبدية، تستطيع ان تنفصل عن الجسم، (وتنحدر) منه، فالنفس تصل الى حريتها عن طريق النظر، والتأمل، والحرية هي الارتقاء بواسطة الجدل العقلي نحو الوجود المطلق".(5)
وافلاطون هنا يعول كثيرا على الحرية، لانه زعم ان الانسان عاش بروحه المثالية قبل ان يعيش ببدنه، في عالم اسماه (عالم المُثُل): "وهناك عرفت روح الانسان روح الحقائق"(6)، فهو يرى ان الحرية ضرورية لان يصل الانسان الى ذلك العالم،عالم المثل، فالحرية عنده هي انطلاقة الانسان نحو كماله من دون عوائق او حواجز مرتبطة بشوائب الارض والجسد، ليس هذا على الارض فحسب، فهو يعتقد: "ان نفوس الفلاسفة الذين يناضلون في حياتهم من اجل ملاحقة الحكمة والسعي وراء نيلها ستتحرر بعد الموت من كل قيود الجسد ولوثاته".(7) وهذه اشارة واضحة من افلاطون الى ان الانسان سيعود كما جاء الى عالم المثل، ولكن شريطة ان يكون حرا في متابعة الحكمة وان لا يقيد نفسه باواصر الارض والجسد، وبالطبع فان هذه مرحلة متطورة في سلوك الانسان قليل من يرتقي اليها، وعند حديثه عن المدينة الفاضلة التي ينشدها او مدينة الحرية والديمقراطية فانه يشير الى حرية: "كل انسان في ان يرتب وينظم حياته بالصورة التي تناسبه تحت قانون ينطبق على الجميع"(8)، ففي المدينة الفاضلة يرى افلاطون: "ان الحرية هي افضل واكمل ما يملكه الناس، ولذلك فهناك مدينة واحدة فقط هي عندما يملك المرء الحرية الطبيعية للعيش بسلام".(9)
ان التأكيد على تجرد الروح في حياة الانسان وحريته نجدها في فلسفة خريج الاكاديمية الافلاطونية في اثينا, الفيلسوف ارسطو (Aristotle) (384-322ق م)، فهو قد وجد ان النفس هي مدار حياة الانسان ونشدانه للحرية والعيش بسلام وطمأنينة.(10)
الحرية المشروطة
وكما صعب على المفكرين المسلمين، ان يهتدوا الى تعريف جامع مانع، لم يهتد اليه المفكرون الغربيون، يقول الباحث العراقي الشيخ آل نجف: "واذا ما طالعنا التراث الغربي في تعريف الحرية وتحديد معناها ومفهومها رأينا فيه تأكيدا متواصلا على وجود تعاريف ومعان مختلفة كثيرة للحرية حتى قال مونتسكيو انه: ليست هناك كلمة اعطيت معاني مختلفة كالحرية، ثم عرفها بقوله: ان يقدر المرء على ان يعمل ما ينبغي عليه ان يريد، وألاّ يُكره على عمل ما لا ينبغي ان يريد، هي الحق في ان يعمل المرء ما تجيزه القوانين العادلة، واذا كان المواطن ان يعمل ما ينهى عنه كان لغيره نفس هذا الحق فتلاشت الحرية".(11)
ونلاحظ في هذا التعريف انسجاما في رؤية القانوني الفرنسي مونتسكيو (Montesquieu Charles Louis De) (1689-1755م) للحرية وتأطيرها بالقانون، وهو انسجام نابع من خلفيته القانونية وهو مؤلف كتاب (روح الشرائع) الذي كان له تأثير غير قليل في تطور دستور فرنسا في عهد الثورة التي اندلعت بعد 34 سنة من وفاته، وقد اشتهر عنه قوله ان المملكة التي توجدها الحرب تحتاج الى حرب لتحافظ على كيانها(*) ويقدم "كتاب روح الشرائع الى جانب كتابين اخرين دروسا حول الطغيان والحرية"(12)
لكننا نجد الفيلسوف توماس هوبز (Thomas Hobbes)(1588-1679م) البريطاني الذي يعد أحد أضلاع المثلث الفكري السياسي الى جانب ميكافيللي وسبينوزا، الذين ساهموا في وضع النظريات السياسية للدولة الحديثة في بريطانيا وفي اوروبا، لا يعول كثيرا على القانون، فهو يعتقد ان كينونة الحرية في الانسان دافع اساسي لإعمال حريته وليس القانون، يقول البروفيسور ريتشارد توك(Richard Tuck)استاذ القانون الدولي في جامعة هارفارد الاميركية: "لقد اخذ هوبز في عمله السياسي عهدا، بانه اذا لم يكن الانسان حرا بحق وحقيقة، فليس هناك موضع للادعاء بان هذا الانسان يكون متمتعا بالحرية فقط عندما يكون تحت نظام قانوني معين .. اذ تبقى الحرية عند هوبز نصا يمتلك معنى واسعاً، ولكنه مشروط بعدم وجود موانع لاحراز ما يرغب فيه الانسان، فالارادة او الرغبة لوحدها لا تكفي لاطلاق معنى الحرية"(13)، يفهم من كلام هوبز ان الحرية ينبغي ان تكون جزءاً من الانسان لا ان تقوده القوانين اليها، على ان تكون هذه الحرية حقيقية لا وضعية، وهوبز صريح في مدعاه، فامتلاك الارادة والرغبة لا يعنيان الحرية بعينها مادامت هناك موانع تحجز الانسان عن تحقيق رغبته وتمرير ارادته، وهوبز كغيره من رواد الفكر السياسي الغربي، يؤمن ان حرية الانسان تنتهي عند حرية الاخرين، على انه ذهب في تنظيره السياسي كالفيلسوف الايطالي ميكافيللي (Niccolo Machiavelli) (1469-1527م)، الى دعم سلطة الملك وتنازل الناس عن بعض الحقوق الشخصية لصالح سلطة الملك.(14) لكن هوبز رفض وهو يتحدث عن اهمية الحرية وقد وصفها بانها "انعدام المعارضة"(15)، رفض الحرية الزائدة غير المقيدة اذ: "أكد بان هذه الحرية ليست الحرية الحقيقية لانها خارجة عن السيطرة، بالاحرى سيكون الانسان مستعبدا من خلال سيادة حالة من الخوف المطرد المستمر. ان المصالح الشخصية الخاصة وحتى الحياة نفسها ستكون عرضة للرعب والذعر من قبل إعمال الاخرين لحرياتهم. ان الحرية المطلقة تقود الى فقدان مطلق للحرية الحقيقية".(16)
وكما ان الحرية لدى هوبز مشروطة بعدم الاعتداء على حرية الاخرين فانها مشروطة ايضا بعدم ايذاء النفس، يقول ريتشارد توك: "اعتقد ان السيد هوبز لا يقول بان الحق الطبيعي للانسان في الحرية تسمح له بان يدمر حياته الشخصية"(17)، فنحن هنا امام بعد اخلاقي على علاقة بالحرية، فالانتحار من الحرية الذاتية لكنه ايذاء للنفس وازهاق لها، وقطع عضو من اعضاء الجسد حرية ذاتية، ولكن العملية ألحقت الأذى بحياة الانسان نفسه، نعم يصبح قطع العضو في ظروف اخرى عملية انسانية مطلوبة ومن الحريات المحمودة المباحة، مثل ان يتبرع الانسان بإحدى كليته لانسان اخر محتاج لها، او ان يتبرع باعضاء جسده كقطع غيار بعد مماته.(18)
وعدم الاضرار بالنفس هو رأي ذهب اليه الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (Jacques Rousseau) (1712-1778م)(*) يقول روسو: "لا تعتمد الحرية على ان يفعل الفرد ما يريد بارادته الخاصة، بقدر ما تعتمد على الا يخضع لارادة شخص اخر، وهي تعتمد اكثر على عدم خضوع الاخرين لارادتي الخاصة، ففي الحرية العامة ليس لاحد الحق في ان يفعل ما تحرمه عليه حرية الاخرين، ان الحرية الحقة لا تدمر نفسها قط"(19)، ويجادل روسو الفلاسفة الاخرين مؤكدا: "ان الناس بطبيعتهم يكرهون أن يكونوا مقيدين بالقوانين, ولكنهم يجدون انفسهم في مأزق بدون قوانين، فالناس لا يكونون جيدين وصالحين في حالة الفوضى، فهم سيقتنعون بان غياب القوانين يخلق قيودا اكثر من وجود القوانين نفسها".(20)
لاشك ان جان جاك روسو لا يقصد بالاكراه، الجانب المظلم والسلبي منه لان هذا خلاف الحرية وخلاف رسالة الانبياء والمفكرين والفلاسفة لتحرير الانسان من رق الحياة وسلبياتها، فالانسان تتنازعه نفسه الامارة بالسوء لانه متكون داخليا من خير وشر، فهو قد يقدم على مزاحمة حرية الاخرين، ولكنه اذا وجد ان القانون يمنعه من ذلك فانه سيخضع للقانون وهو مكره، فالاكراه هنا فيه جنبة قانونية وحقوقية ينبغي للانسان ان يسلّم بها، والا ساخت الحياة المدنية بأهلها.
يعلق الاكاديمي المصري استاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة الدكتور إمام، على كلام جان جاك روسو معرجا على تعريف (هيجل وكانت) للحرية، بقوله: "نحن هنا نلمح بواكير فكرة هيجل الشهيرة في تعريف الحرية بانها (التحديد الذاتي) (Self Determination) وهي الفكرة التي اعتمدت هي نفسها على فكرة كانط في استقلال الارادة (Autonomy) التي تشرّع لنفسها قانونا لتسير عليه، فكأن الحرية هي أن يطيع الانسان نفسه او ارادته الكلية، فهو عندما يطيع القانون الذي اشترك بطريقة مباشرة او غير مباشرة في سنّه فانه في الواقع يطيع نفسه، وعندما يعصي هذا القانون ربما يترتب على هذا العصيان من عقاب، فانه يطلب العقاب لنفسه، وهكذا يصبح سلوك الفرد وحريته صورة مصغرة للديمقراطية، وهي ان يحكم المرء نفسه بنفسه! وتكون الديمقراطية السياسية أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، وعندئذ فقط يكون حرا".(21) وكان عمانوئيل كانت حريصا اشد الحرص على الحرية الذاتية للانسان واستقلاله ولذلك فهو يوصف بانه "فيلسوف استقلال ارادة الذات الانسانية".(22)
الحرية وحقائق الأشياء
في الواقع ان احد استدلالات المفكرين الاسلاميين على نقص القوانين الوضعية، وقصورها على الإلمام بكل احتياجات الانسان، منها حرية الانسان، هو قولهم ان هذه القوانين انما هي من بناة عقل الانسان، ولما كان الانسان تتنازعه رغائب كثيرة وتتنازعه نفسه، وهناك صراع دائم بين العقل والنفس والعواطف، فان عقله مهما تعاظم، ومهما اجتمعت العقول القانونية الفطنة، فانها غير قادرة على الإلمام بكل احتياجات الانسان في مجال التشريع القانوني، ومن هنا فان التشريع ينبغي ان يكون خاضعا لجهة لا تتنازعها مثل هذه الرغائب، بل جهة مبلغ غايتها سعادة الانسان تفيض عليه بالخيرات، وليست هناك جهة في الكون تحمل مثل هذه المواصفات سوى خالق الكون، وهو الله الغني عن خلقه، على ان للفقهاء حرية الحركة التشريعية او التأطيرية ضمن دائرة الفراغ، اذ ان من مهماتهم: "ملء منطقة الفراغ بتشريع قوانين مناسبة"(23) كما يعبر عن ذلك المفكر العراقي الراحل الفقيه السيد محمد باقر الصدر (1935-1980).
اننا نجد فيما ذكره الدكتور إمام توافقا وانسجاما بين الفيلسوف الالماني جيورج هيجل (Wilhelm Friedrich Hegel George) (1770-1831م) صاحب الديالكتيكية الجدلية، والقائل بالمثالية المطلقة, ونظيره الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانت أو كانط (Immanuel Kant) (1724-1804) القائل بان العقل البشري عاجز عن ادراك حقائق الاشياء بذاتها، يساوق هذا التوافق تساوقا في مجال آخر، يقول الدكتور شدود عميد المعهد العالي للعلوم السياسية في سوريا: "لقد انتقلت فكرة نهاية التاريخ الى الفيلسوف (هيغل) واتفق (هيغل) مع (كانط) ان هناك نقطة نهاية لمسار التاريخ، وهي تحقيق الحرية على الارض، وكما قال: (ان تاريخ العالم يتحقق من خلال الوعي بالحرية)، وتتجسد الحرية عند (هيغل) في قيام الدولة الدستورية، او اما اطلق عليها (فوكوياما صاحب كتاب نهاية التاريخ والرجل الأخير، المنشور في اميركا العام 1992) ايضا الديمقراطية الليبرالية، ورأى (هيغل) ان قمة المسار التاريخي كله هي تحقيق التاريخ البشري مؤسسات سياسية اجتماعية ملموسة"(24)، ان الحرية الشخصية بنظر هيجل تعني: "متابعة مصالحنا الخاصة وهي في الواقع تستعبدنا. نحن في الواقع لسنا احرارا حقا تحت أي ظرف بسبب اننا نُجبر لنقاتل ضد العالم الذي نراه منفصلا عنا، بكلمة اخرى نحن نُنَفر من اجل راحة العالم والمجتمع، حتى ولو ان ذلك المجتمع وضع قليلا من القيود على أفعالنا. الحرية الحقيقية تزدهر فقط اذا كان كل واحد يمارس حريته الشخصية جنبا الى جنب مع راحة وسلامة المجتمع، وهذا يعني فيما يعني ان كل فرد يفقد خصوصيته في ذلك المجتمع ككل. وفي هذا الطريق ليس هناك من تناقض بين اهداف المجتمع واهداف كل فرد، فكل واحد فرد، الان هو حر ذلك لانه ليس من تناقض البتة بين الافعال الشخصية وافعال الكل".(25)
ان هيجل بما جاء به انما يدعو الى ذوبان حرية الفرد في حرية الاخرين، أي نوع من أنواع الدعوة الى تذويب الملكيات الخاصة لكل انسان، وهي نظرية عمل الفكر الماركسي على تأكيدها والتبشير بها. ولا اعتقد انه من السليم تذويب الفرد في ذات المجتمع ككل، لان في ذلك تهديداً لذاتية وخصوصيات كل فرد، وهو امر فطري ان يكون لكل انسان شخصيته وهويته، على انه من الطبيعي ان لا يكون مذهب تأكيد الهوية بداية لثلم حرية الاخرين، فالفرد بقدر ما يكون حريصا على تأكيد شخصيته في اطار الحرية التي يتمتع بها، فانه في الوقت نفسه، ينبغي ان يكون حريصا على حريات الاخرين، فبالتالي يمكن ان تلتقي اهداف الفرد كشخص مع اهداف المجتمع ككل في بعض المفاصل وليس كلها.