ثمار الأوراق



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ثمار الأوراق

ثمار الأوراق

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ثمار الأوراق

منتدى تعليمي يهتم باللغة العربية علومها وآدابها.


    الدِّين والعَلْمانية في الفكر الغربي... من هيغل إلى هابر ماس

    تاج العروبة (الفوهرر)
    تاج العروبة (الفوهرر)
    فيلسوف ثمار الأوراق
    فيلسوف ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 598
    العمر : 40
    الموقع : العراق
    العمل/الترفيه : خريج كليه الاداب - قسم الفلسفة
    المزاج : الارادة مفتاح النصر
    نقاط : 104
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    الدِّين والعَلْمانية في الفكر الغربي... من هيغل إلى هابر ماس Empty الدِّين والعَلْمانية في الفكر الغربي... من هيغل إلى هابر ماس

    مُساهمة من طرف تاج العروبة (الفوهرر) الجمعة سبتمبر 26, 2008 8:41 pm

    الدِّين والعَلْمانية في الفكر الغربي... من هيغل إلى هابر ماس
    من بين القناعات التي لم يكن يرقى إليها كثيرٌ من الشك لدى مفكري القرن التاسع عشر أن المكانة المركزية التي يحتلها الدين في الثقافة والمجتمع قد غدت شيئًا من الماضي. فقد اعتبر هيغل، مثل مفكِّري عصر الأنوار من قبله، أن العقل، بدقته المفهومية المتفوقة، قد تخطَّى الدين. وصوَّر فويرباخ، في كتابه جوهر المسيحية (1841)، علاقةَ الإنسان بالإلوهية على أنها لعبةُ قوى محصِّلتها الصفر، ورأى أن الإلحاح على الإيمان والتقوى ينتقص من رفعة الغايات الإنسانية. فيما رأى ماركس أن الإنسان، بوصفه عالم الإنسان والدولة والمجتمع، هو الذي يخلق الدين بوصفه الوعي المقلوب لعالم مقلوب، وليس الدين هو الذي يخلق الإنسان؛ ذلك أن الدين، في نظره، هو "زفرة المخلوق المضطهَد، قلبُ عالم بلا قلب، وروح عالم بلا روح – الدين أفيون الشعوب". وهذا ما يقتضي، في عرف ماركس، إلغاء الدين كسعادة وهمية من أجل سعادة البشر الواقعية، لا بنقد السماء والدين واللاهوت، بل بنقد الأرض والحق والسياسة التي تخلق السماء والدين واللاهوت. أما نيتشه، فقد أعلن، على لسان زرادشت، أن "الله قد مات"، ووصف المسيحية بأنها "أخلاقية العبيد"، أو منظومة اعتقادية عامية مبتذلة تلائم الخانعين الجبناء، ولم يقرِّظ من بين ممثلي المسيحية سوى أولئك الذين وجدوا متعةً بالغة في وقوفهم أمام محاكم التفتيش التي كانت تأمر بإحراقهم، مثل إغناطيوس دي لويولا.
    فريدرِش هيغل (1770-1831)
    لم تكن أوائل القرن العشرين بأقل سخاءً في وصفها الظاهرة الدينية. ويكفي أن نتذكر عنوان كتاب فرويد الصادر في العام 1927: مستقبل وهم. غير أننا نجد اليوم أن ما نَبَذَه فرويد بوصفه "وهمًا" قد عاد تلك العودة التي لا تبدي سوى أقل العلائم على أنها ستتوقف أو تخف في وقت قريب. والسؤال المطروح الآن هو: هل كان مفكرو الغرب مهيَّئين لتفسير هذه التطورات اللافتة؟ ومَن هو المفكر الذي يمكن أن نلجأ إليه لنرصد عنده قدرة الفكر الغربي على تناوُل هذه الظاهرة؟
    لعلَّ يورغن هابر ماس، خاصة بعد وفاة جاك دِرِّيدا، أن يكون أبرز فلاسفة العالم الأحياء. وثمة الكثير مما يرشِّحه لأن نتتبَّع لديه هذين السؤالين اللذين نطرحهما. ومع أن هابرماس كان معروفًا، حتى فترة قريبة، كمفكر عَلماني صارم، لم تمس كتاباتُه الموضوعاتِ الدينيةَ إلا في مناسبات عابرة واستثنائية، إلا أن السنوات القليلة الأخيرة راحت تشهد شيئًا من التغيير على هذا الصعيد. ففي خريف العام 2001، وبمناسبة تسلُّمه جائزة السلام التي تمنحها رابطة الناشرين، ألقى هابرماس خطبةً عنوانها "الإيمان والمعرفة". وبعد هجمات 11/09، شدَّد في تعليقاته على أهمية التسامح بين الفهم العَلماني والفهم الديني. وفي العام 2004، شارك في حوار مع الكاردينال يوزِف راتسنِغِر (الذي صار البابا في 19 نيسان 2005) بناءً على طلب هذا الأخير، الذي كان يُعَدُّ واحدًا من أشد المحافظين بين مطارنة أوروبا. ففي العام 2002، كان هابرماس قد نشر كتابه دفاعًا عن الإنسانية؛ وفيه نقدٌ مرير لمخاطر الهندسة الوراثية واستنساخ الإنسان ودفاع بليغ عن الحق في هوية إنسانية فريدة يعرِّضها الاستنساخُ لخطر واضح. ويبدو أن هذا الدفاع عن الهوية الفريدة هو ما أثار فضول الكاردينال واهتمامَه.
    يورغن هابرماس (1929 )
    ولكي نضع هذه التغييرات الهابر ماسية في سياقها ونتعمق فيها، ربما كان من الضروري أن نتلمس جذورها في مؤلَّفاته الأقدم، خاصةً الأساسية منها، ولا نكتفي بالأحداث التي دفعت إليها. ففي عمله الفلسفي الأساسي الثاني نظرية الفعل التواصلي (1981، في جزأين)، نجد أن واحدة من أفكار هابرماس الأساسية هي "إضفاء الطابع اللغوي على المقدس"؛ حيث يؤكِّد هابرماس، من خلال هذا "المصطلح الثقيل"، كما يقول هو نفسه، أن أفكار المساواة والعدل الحديثة هي استنباطات عَلمانية من التعاليم والوصايا الدينية: ذلك أن "نظرية العقد" في السياسة، تلك النظرية التي هي أساس التصور الحديث لـ"الحكم برضا المحكومين"، ما كانت لتقوم لولا عهود العهد القديم ومواثيقه؛ وكذلك الأمر بخصوص فكرة "الجدارة الداخلية" التي ينطوي عليها كل شخص، والتي تشكِّل أساس حقوق الإنسان: فهي تنبع مباشرةً من المثال المسيحي الذي يقول بتساوي البشر جميعًا في نظر الإله ألآب. ويرى هابرماس أنه لو ضمر هذا المصدر الديني من بين مصادر الأخلاق والعدالة ضمورًا كاملاً لكان من المشكوك فيه أن تتمكن المجتمعات الحديثة من تعزيز هذه المُثُل وتثبيتها كمُثُل خاصة بها.
    ولقد لخَّص هابرماس في مقابلةٍ أُجريت معه مؤخَّرًا آراءه هذه، فرأى أن الدين قد عمل كأكثر من مجرد سلف أو محفِّز للحداثة: "إن نزعة المساواة الكونية، التي بزغت منها مُثُل الحرية والحياة الجماعية المتضامنة والانعتاق والديمقراطية، هي إرث مباشر من الأخلاق اليهودية الخاصة بالعدل والأخلاق المسيحية الخاصة بالمحبة."
    وفي العام 2002، نُشِرَ لهابر ماس بالإنكليزية كتابُه الدين والعقلانية: مقالات في العقل والله والحداثة، وهو عبارة عن مجموعة من كتاباته التي تتناول موضوعات دينية. وقد حرَّر هذا الكتاب وقدَّم له الفيلسوف إدوارد منديتيا، وخَتَمَه بمقابلة هامة مع هابرماس يوضح فيها هذا الأخير آراءه في عدد من المسائل الدينية. ففي صدد عودة الدين، حيث يصل هابرماس إلى حدِّ الكلام على ظهور "مجتمعات ما بعد علمانية" (ربما لأن في ذهنه الوضع الأمريكي)، يرى هابرماس أن هذه العودة تواجه البشرية بتهديدات ومخاطر لا يمكن إنكارها. فالدين، الذي وفَّر للبشر العزاء والسلوان إزاء مظالم القدر القاسية، كثيرًا ما علَّمهم أيضًا أن يرضوا بقِسْمتهم وأن يبقوا سلبيين؛ إذْ يحطُّ من قيمة النجاح الدنيوي ويغري المؤمنين بوعد البركة الأبدية في الآخرة. ويتمثل الخطر هنا في أن ما يشجِّع عليه الدين من سلبية اجتماعية ينتهك حاجةَ الديمقراطية إلى مواطنين فاعلين ومشاركين، خاصةً أن قصة "السقوط" (من جنة عدن) تصوِّر التاريخ الدنيوي ألدهري كقصة انحدار أو تدهور لا يمكن أن ينبثق عنه أيُّ خير جوهري.
    لكن هابرماس يرى، في المقابل، أن مسيرة الرأسمالية العالمية المنتصرة لا تواجه اليوم سوى بضعة اتجاهات معارِضة أصيلة. وهذا ما يُبقي للدين دورًا مهمًّا يلعبه، بما يمتلكه من ذخيرة للتعالي: فهو يحُول بين أفراد المجتمعات العَلمانية الحديثة وبين أن تطغى عليهم متطلباتُ الحياة المهنية والنجاح الدنيوي التي تتَّسم بالشمول. وبذلك يمكن للقيم الدينية (قيم المحبة والتضامن والتقوى) أن تقف قبالة قيم التنافس والكسب والتلاعب الشاملة والمسيطرة، فتشجِّع البشر على التعامل بعضهم مع بعضهم الآخر بوصفهم غايات وليس بوصفهم مجرد وسائل.
    ثمة اهتمام، إذن، لدى هابرماس بمخاطر ما يمكن أن نصفه بـ"العَلمانية الشاملة". وقد ألحَّ في محاضرة ألقاها مؤخرًا على ما للمنقولات الدينية من "قوة الإفصاح عن حدوس أخلاقية فيما يخصُّ الأشكال الجماعية من الحياة الإنسانية الكريمة"، وعلى أن المبادئ الفلسفية العَلمانية، كفكرة حقوق الإنسان، يمكن لها أن تنتفع من تجديد صلتها بأصولها المقدسة من حين لآخر.
    وفي نيسان 2005، ألقى هابرماس في مؤتمر دولي حول "الفلسفة والدين"، في بولونيا، محاضرةً بعنوان "الدين في المجال العام"، رأى فيها أن "التسامح"، الذي يُعْتَبَر أساس الثقافة الديمقراطية الوطيد، هو شارع ذو اتجاهين على الدوام: فالأمر لا يقتصر على ضرورة أن يتسامح "المتدينون" مع عقائد الآخرين، بِمَن فيهم اللادينيون والملحدون، بل من واجب العَلمانيين أيضًا أن يحترموا قناعات المواطنين الذين يحفِّزهم الإيمان الديني. فمن غير الواقعي – بل من التحامُل – أن نتوقع من هؤلاء أن يتخلوا عن قناعاتهم العميقة لدى دخولهم المجال العام. والحل الأفضل هو أن نفكر في شيء شبيه بتلك المثالية الدينية التي بثَّتِ الحياةَ في حركة الحقوق المدنيَّة (مارتن لوثر كنغ) في خمسينيات القرن العشرين وستينياته والتي تشكِّل مثالاً مثيرًا للإعجاب على الطريقة التي يمكن بها أن يؤتى بقيمة دينية، كقيمة العدل، لمعالجة مشكلات اجتماعية معاصرة.
    ويشير هابرماس في محاضرته هذه إلى الفيلسوف جون راولز، الذي سبق له أن تناول مثل هذه الموضوعات تناوُلاً مباشرًا في السنوات الأخيرة. ولعل من أهم آراء راولز في خصوص دور الدين في السياسة المعاصرة ذلك "التحذير" أو "الاشتراط" الذي يرى أن على العقليات الدينية، إذا ما أرادت أن تحظى بالقبول، أن تكون قابلةً للترجمة إلى أشكال عَلمانية من المحاججة. بل إن راولز يرفع الحاجز العَلماني إلى أعلى من ذلك في حالة الموظفين العامين، مثل السياسيين والقضاة الخ؛ إذْ يعتقد أن لغتهم ينبغي ألا تترك حيزًا واسعًا للعقليات غير العَلمانية، التي من شأنها أن تثير قطعًا الشقاق والخلاف مادامت العقائد الدينية متعددة وكثيرة. ويؤكد هابرماس على هذا المطلب الملح، شريطة أن يوضع على باب السياسيين وحدهم، لأنهم "يخضعون، ضمن مؤسسات الدولة، لضرورة أن يبقوا حياديين حيال رؤى العالم المتنافسة". غير أن هابرماس، إذ يضع هذا المطلب على باب السياسيين وحدهم، يرى أن "على كلِّ مواطن أن يعلم أن العقلية العَلمانية هي التي تصلح لاجتياز العتبة المؤسساتية التي تفصل المجال العام غير الرسمي عن البرلمانات والمحاكم والوزارات والإدارات".
    وإذًا، فإن هابرماس، على الرغم من إقراره واسع الأفق بما للدين من مكانة في طيف الجدال السياسي العام، يقوم بخطوة واسعة لا غنى عنها باتجاه تحديد أخلاقيات التسامح في المجتمعات متعددة الثقافات والأديان. ذلك أن آفاق الديمقراطية القائمة على المساواة سوف تبدو ضيقة وكالحة إلى أبعد الحدود من دون مثل هذا التحديد. وبذلك يكون المعيار في تحديد قدرة المنظومات الدينية على أن تجعل وصاياها الأخلاقية محسوسةً ومعترَفًا بها هو قدرتها على اتخاذ موقف الآخر. فوحدها تلك الديانات القادرة على أن تضع بين قوسين، أو جانبًا، إغواءاتها النرجسية اللاهوتية، أي قناعة كلِّ دين بأنه وحده الذي يقدِّم طريق الخلاص، هي التي يمكن لها أن تكون من اللاعبين المناسبين في عالمنا السياسي والأخلاقي ما بعد العَلماني وسريع التغير.
    وإذْ نتذكر أن مقاربة هابرماس لفلسفة الأخلاق هي مقاربة كانطية، من حيث اعتباره، مثل كانط، أن على الأفعال أن تجتاز اختبار العالمية، فإن السؤال الذي يمكن أن يُطْرَح هو: ما مدى ملائمة تصورات هابرماس للمجتمعات غير الغربية؟ ما مدى النقد و/أو إعادة الإنتاج التي يمكن إخضاعها لهما؟ هل ينبغي زيادة حدَّتها أم التخفيف منها؟ أسئلة برسم الكثيرين، خاصةً أولئك الذين لا يجدون سبيلاً إلى احترام الاتجاهات الدينية إلا بخلع جلودهم وصيرورتهم رأس حربتها، والذين تسعدهم كثيرًا تلك "السوسيولوجيا" البائسة، بل الأبأس، التي ترى إلى مجتمعاتنا على أنها، أساسًا، نِحَل دينية وطوائف.

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 14, 2024 9:36 pm