يشير القرآن الكريم في عدد من آياته , إلى الكون وإلى العديد من مكوناته ـ السماوات والأرض , وما بكل منهما من صور الأحياء والجمادات , والظواهر الكونية المختلفة ـ , وتأتي هذه الآيات في مقام الاستدلال على طلاقة القدرة الإلهية التي أبدعت هذا الكون , بجميع ما فيه ومن فيه , وفي مقام الاستدلال كذلك على أن الإله الخالق الذي أبدع هذا الكون قادر على إفنائه , وقادر على إعادة خلقه من جديد , وذلك في معرض محاجة الكافرين والمشركين والمُتشكِّكين , وفي إثبات الألوهية لرب العالمين بغير شريك ولا شبيه ولا منازع .
وكانت دعوى الكافرين منذ الأزل , وإلى يوم الدين , هي محاولة إنكار قضيتي الخلق والبعث بعد الإفناء , وهما من القضايا التي لا تقع تحت الإدراك المُباشِر للعلماء , على الرغم من أن الله ـ تعالى ـ قد أبقى لنا في أديم الأرض , وفي صفحة السماء من الشواهد الحسية الملموسة ما يمكن أن يعين المُتفكِّرين المُتدبِّرين من بني الإنسان على إدراك حقيقة الخلق , وحتمية الإفناء والبعث , ويبقى فهم تفاصيل ذلك في غيبة من الهداية الربانية شيئاً من الضرب في الظلام , وفي ذلك يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ رداً على الظالمين من الكافرين والمشركين والمُتشكِّكين من الجن والإنس : " مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدا "ً (الكهف:51)، وفي تشجيع الإنسان على التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ في مُحكَم كتابه : " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " (آل عمران:190-191) .
وكان لنزول هاتين الآيتين الكريمتين وما تلاهما من آيات في السورة نفسها , وقع شديد على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ , الذي يروى عنه أنه قال عقب الوحي بها : " ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها " .
وواضح الأمر في ذلك أن التفكر في خلق السماوات والأرض فريضة إسلامية لابد من قيام نفر من المسلمين بها , لأنها عبادة من أجلِّ وأعظم العبادات لله الخالق , ووسيلة من أعظم الوسائل للتعرف على كل من حقيقة الخلق , وحتمية الافناء وضرورة البعث , وللتأكيد على عظمة الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ , وعلى تفرده بالألوهية , والربوبية , والوحدانية , فالكون الذي نحيا فيه شاسع الاتساع , دقيق البناء , مُحكَم الحركة , مُنضبِط في كل أمر من أموره , مبني على وتيرة واحدة من أدق دقائقه إلى أكبر وحداته , وكون هذا شأنه لا يمكن لعاقل أن يتصور أنه قد وُجد بمحض المصادفة , أو أن يكون قد أوجد نفسه بنفسه , بل لابد له من مُوجِد عظيم , له من طلاقة القدرة , وكمال الحكمة , وشمول العلم ما أبدع به هذا الكون بكل ما فيه ومن فيه , وهذا الخالق العظيم لا ينازعه أحد في ملكه , ولا يشاركه أحد في سلطانه؛ لأنه رب هذا الكون ومليكه , ولا يشبهه أحد من خلقه ؛ لأنه ـ تعالى ـ خالق كل شيء , وهو بالقطع فوق كل خلقه , لا يحده المكان , ولا الزمان؛ لأنه ـ سبحانه ـ خالقهما , ولا يشكله أي من المادة أو الطاقة؛ لأنه ـ تعالى ـ مُبدِعهما , ولا نعرف عن ذاته العلية إلا ما عرَّف به نفسه بقوله ـ عز من قائل ـ : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ " (الشورى:11) ، وقوله ـ سبحانه ـ مُخاطِباً خاتم أنبيائه ورسله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ .لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ .وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ " (الإخلاص:1-4) .
من هنا كان التفكر في خلق السماوات والأرض مدخلاً عظيماً من مداخل الإيمان بالله , ولذا حضَّ عليه القرآن الكريم , كما حضَّت عليه السنة النبوية المُطهَّرة حضاً كثيراًً .
تأكيد القرآن الكريم على ما في السماوات والأرض من أدلة الخلق والإفناء والبعث :
يؤكد القرآن الكريم على ما في السماوات والأرض من الأدلة , التي تنطق بطلاقة القدرة الإلهية في خلقهما وإبداعهما , كما تنطق بحتمية إفنائهما , وإعادة خلقهما من جديد في هيئة غير التي نراهما فيها اليوم , وذلك في عدد غير قليل من الآيات التي منها قوله ـ تعالى ـ : " وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ " (الأنعام:73) . ، وقوله ـ سبحانه ـ : " خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ " (العنكبوت:44) ، وقوله ـ عز من قائل ـ : " أولم يتفكروا فى أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ " (الروم:8) ، وقوله ـ تعالى ـ : " وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ " (الروم:22) .
وقوله ـ سبحانه ـ : " وَهُوَ الَّـذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ " (الروم:27) .
وقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : " خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإليهِ المَصِيرُ " (التغابن:3) ، وقوله ـ عز من قائل ـ : " خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلاَ هُوَ العَزِيزُ الغَفَّارُ " (الزمر:5) ،
وقوله ـ سبحانه ـ : " لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ " (غافر:57)، وقوله ـ تعالى ـ : " وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ " (الشورى:29) ، وقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : " وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ . مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ " (الدخان:38 ,39) .
تأكيد القرآن الكريم على أن الله ـ تعالى ـ هو خالق السماوات والأرض وخالق كل شيء :
جاءت مادة (خَلَقَ) بمشتقاتها في القرآن الكريم مائتين وإحدى وستين (261) مرة , لتأكيد أن عملية الخلق هي عملية خاصة بالله ـ تعالى ـ وحده , لا يشاركه فيها أحد , ولا ينازعه عليها أحد , ولا يَقدر عليها أحد غيره ـ سبحانه وتعالى ـ إلا بإذنه , كذلك وردت لفظة السماء في القرآن الكريم بالإفراد والجمع في ثلاثمائة وعشر (310) موضعاً , منها مائة وعشرون (120) مرة بصيغة الإفراد (السماء) , ومائة وتسعون (190) مرة بصيغة الجمع (السماوات) مُعرَّفة وغير مُعرَّفة , كما وردت لفظة الأرض بمشتقاتها في أربعمائة وواحد وستين (461) موضعاً , وذلك في مقامات كثيرة تؤكد أن الله ـ تعالى ـ هو خالق السماوات والأرض , وخالق كل شيء , مثل قوله ـ عز من قائل ـ : " ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ " (الأنعام:102) ، وقوله ـ سبحانه ـ : " أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ " (الأعراف:54) ، وقوله ـ تعالى ـ : " إِنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ " (يونس:4) ، وقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : " قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ " (الرعد:16) ، وقوله ـ تبارك وتعالى ـ : " وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً " (الفرقان:2) ، وقوله ـ عز من قائل ـ : " اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ " (الزمر:62) ، وقوله ـ سبحانه ـ : " ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ " (غافر:62) ، وقوله ـ تعالى ـ : " إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ " (القمر:49) ، وقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : " هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ " (الحشر:24) .
هذا , وقد أفاض القرآن الكريم في حسم قضيتي الخلق والبعث بنسبتهما إلى الله ـ تعالى ـ وحده؛ وذلك لأن هاتين القضيتين كانتا من أصعب القضايا التي خاض فيها الجاحدون والمتشككون بغير علم ولا هدي عبر التاريخ , ولا يزالون يستخدمون هذا الجحود والإنكار في معارضة قضية الإيمان بالله الخالق البارئ المصور , ويرد عليهم القرآن الكريم بقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ : " أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ " (النحل:17) ، وقوله ـ تعالى ـ في السورة نفسها : " وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ " (النحل:20) ، وقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : " وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ " (الفرقان:3) ، وقوله ـ تبارك وتعالى ـ : " أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ .أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ " (الطور:35 ,36)، وقوله ـ عز من قائل ـ : قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ " (يونس:34)، وقوله ـ تعالى ـ : أَو لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (العنكبوت:19-20) .
موقف الحضارة الإسلامية من قضية الخلق :
بعد بعثة المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ انطلق المسلمون من الإيمان بحقيقة الخلق , وحتمية البعث , ليقيموا ـ على أساس من تلك العقيدة الربانية الخالصة ـ أعظم حضارة في التاريخ , لأنها كانت الحضارة الوحيدة التي جمعت بين الدنيا والآخرة في معادلة واحدة , واستمرت لأكثر من عشرة قرون كاملة , تدعو إلى عبادة الله ـ تعالى ـ بما أمر (على التوحيد الخالص لذاته العلية , والتنزيه الكامل لأسمائه وصفاته عن الشبيه والشريك والمنازع) , وإلى حسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض , وإقامة عدل الله فيها , على أساس من شرعه المنزل على خاتم أنبيائه ورسله , والذي تعهد ـ سبحانه وتعالى ـ بحفظه بنفس اللغة التي أُنزل بها ـ كلمة كلمة وحرفاً حرفاً ـ فحُفظ حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد نزول هذا الوحي الخاتم , وتعهد الله ـ تعالى ـ بحفظه من الضياع أو التحريف .
وبهذا الجمع المُتزِن بين وحي السماء والاجتهاد في كسب المعارف النافعة , حملت حضارة الإسلام مشاعل المعرفة في كل مناشط الحياة الدينية والعمرانية , وأقامت قاعدة صلبة للدين والعلم والتقنية , وآمنت بوحدة المعرفة , وبأن الحكمة هي ضالة المؤمن , أنى وجدها فهو أولى الناس بها , فجمعت المعارف من مختلف مصادرها مهما تباعدت أماكنها , واختلفت الحضارات التي انبثقت عنها , ومعتقدات أصحابها , ولكنها لم تقبل تلك المعارف قبول التسليم , فقامت بغربلة تراث الإنسانية المتاح لها بمعيار الإسلام العظيم القائم على أساس من التوحيد الخالص لله؛ وذلك لتطهير هذا التراث من أدران الشرك والكفر والجحود بالله , وأضافت إليه إضافات أصيلة عديدة في كل المجالات , مما مثل القاعدة التي انطلقت منها النهضة العلمية والتقنية المعاصرة , كما يعترف بذلك عدد غير قليل من العلماء المعاصرين غربيين وشرقيين .
ولم يَحِل الإيمان بالغيب دون التقدم العلمي والتقني في الحضارة الإسلامية , بل حضَّ عليه الإسلام حضاًً , واعتبره نمطاً من أنماط عبادة الله ـ تعالى ـ , والتفكر في خلقه , ووسيلة منهجية لاستقراء سنن الله في الكون , وتوظيفها في عمارة الأرض , وهي من واجبات الاستخلاف في الأرض , والوجه الثاني للعبادة التي يمثل وجهها الأول عبادة الله ـ تعالى ـ بما أمر , واتباع سنة خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
موقف الحضارة المادية المعاصرة من قضية الخلق :
انطلقت الحضارة المادية المُعاصِرة في الأصل من بوتقة الحضارة الإسلامية , ولكن على مغايرة من حضارة المسلمين , فإن الغرب بني حضارته على أساس من المادية البحتة , فنبذ الدين , ووقف موقف المُنكِر لقضية الإيمان بالله , وملائكته , وكتبه , ورسله , واليوم الآخر , الرافض لكل أمر غيبي , في عداء صريح , واستهجان أوضح , فتنكَّب الطريق , وضل ضلالاً بعيداً على الرغم من القدر الهائل من الكشوف العلمية , والانجازات التقنية المُذهِلة التي حققها , والتي يمكن أن تكون سبباً في دماره في غيبة الالتزام الديني والروحي والأخلاقي , وصدق الله العظيم الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة قوله الحق : " فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عليهمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ " (الأنعام:44-45) .
وبنبذ الإيمان بالله , وصلت المجتمعات الغربية إلى مستوى مُتدنٍ من التحلل الأخلاقي , والانهيار الاجتماعي , ومجافاة الفطرة التي فطر الله الخلق عليها , في وقت ملكت فيه من أسباب الغلبة المادية ما يمكن أن يعينها على الاستعلاء في الأرض , والتجبر على الخلق , ونشر المظالم بغير مراعاة لرب ، أو مخافة من حساب , مما يمكن أن يهدد البشرية بالفناء .
ولا تزال المعارف الإنسانية بصفة عامة , والعلمية منها بصفة خاصة , تُكتب إلى يومنا هذا , من منطلقات مادية صرفة , لا تؤمن إلا بالمُدرَك المحسوس , وتتنكر لكل ما هو فوق ذلك , فدارت بالمجتمعات الإنسانية في متاهات من الضياع , ضلت وأضلت , على الرغم من الكم الهائل من المعلومات التي تحتويها , وروعة التقنيات التي أنجزتها .
وكان ضلال الحضارة المادية المُعاصِرة أبلغ ما يكون في القضايا التي لا يمكن إخضاعها لإدراك الإنسان المُباشِر , من مثل قضايا الخلق والإفناء والبعث (خلق الكون , خلق الحياة , خلق الإنسان , ثم إفناء كل ذلك وإعادة خلقه من جديد) , وهي من القضايا التي إذا خاض فيها الإنسان بغير هداية ربانية فإنه يضل ضلالاً بعيداًً , وصدق الله العظيم إذ يقول في الرد على هؤلاء الظالمين من الكافرين والمشركين والمتشككين من الجن والإنس : " مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً "( الكهف:51) .
وعلى الرغم من تأكيد القرآن الكريم أن أحداً من الجن والإنس , لم يشهد خلق السماوات والأرض , ولا خلق نفسه , فإنه يؤكد ضرورة التفكر في خلق السماوات والأرض , وخلق الحياة لأن ذلك من أعظم الدلائل على طلاقة القدرة الإلهية , وكمال الصنعة الربانية , وعلى كلٍِ من حتمية الآخرة وضرورة البعث والحساب والجنة والنار , وذلك لأن الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ قد ترك لنا في صخور الأرض وفي صفحة السماء ما يمكن أن يعين الإنسان على فهم قضيتي الخلق والبعث , بالرغم من محدودية قدراته الذهنية والحسية , واتساع الكون وضخامة أبعاده وتعقيد بنائه , وكذلك تعقيد بناء الجسد الإنساني وبناء خلاياه , وهي صورة رائعة لتسخير الكون للإنسان , وجعله في متناول إدراكه وحسه .
قرناًً , وهذا وحده مما يشهد للقرآن بأنه لا يمكن إلا أن يكون كلام الله الخالق , كما يشهد لخاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين ـ , بأنه كان موصولاً بالوحي , مُعلَّماً من قبل خالق السماوات والأرض , حيث إنه لم يكن لأحد علم بهذه الحقائق الكونية في زمن الوحي , ولا لقرون مُتطاوِلة من بعد نزوله , وتشهد هذه الآيات الخمس بدقة الإشارات الكونية الواردة في كتاب الله , وشمولها , وكمالها , وصياغتها صياغة معجزة يفهم منها أهل كل عصر معنى من المعاني يتناسب مع المستوى العلمي للعصر , وتظل هذه المعاني تتسع باستمرار مع توسع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد , وهو من أبلغ صور الإعجاز العلمي في كتاب الله
وكانت دعوى الكافرين منذ الأزل , وإلى يوم الدين , هي محاولة إنكار قضيتي الخلق والبعث بعد الإفناء , وهما من القضايا التي لا تقع تحت الإدراك المُباشِر للعلماء , على الرغم من أن الله ـ تعالى ـ قد أبقى لنا في أديم الأرض , وفي صفحة السماء من الشواهد الحسية الملموسة ما يمكن أن يعين المُتفكِّرين المُتدبِّرين من بني الإنسان على إدراك حقيقة الخلق , وحتمية الإفناء والبعث , ويبقى فهم تفاصيل ذلك في غيبة من الهداية الربانية شيئاً من الضرب في الظلام , وفي ذلك يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ رداً على الظالمين من الكافرين والمشركين والمُتشكِّكين من الجن والإنس : " مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدا "ً (الكهف:51)، وفي تشجيع الإنسان على التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ في مُحكَم كتابه : " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " (آل عمران:190-191) .
وكان لنزول هاتين الآيتين الكريمتين وما تلاهما من آيات في السورة نفسها , وقع شديد على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ , الذي يروى عنه أنه قال عقب الوحي بها : " ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها " .
وواضح الأمر في ذلك أن التفكر في خلق السماوات والأرض فريضة إسلامية لابد من قيام نفر من المسلمين بها , لأنها عبادة من أجلِّ وأعظم العبادات لله الخالق , ووسيلة من أعظم الوسائل للتعرف على كل من حقيقة الخلق , وحتمية الافناء وضرورة البعث , وللتأكيد على عظمة الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ , وعلى تفرده بالألوهية , والربوبية , والوحدانية , فالكون الذي نحيا فيه شاسع الاتساع , دقيق البناء , مُحكَم الحركة , مُنضبِط في كل أمر من أموره , مبني على وتيرة واحدة من أدق دقائقه إلى أكبر وحداته , وكون هذا شأنه لا يمكن لعاقل أن يتصور أنه قد وُجد بمحض المصادفة , أو أن يكون قد أوجد نفسه بنفسه , بل لابد له من مُوجِد عظيم , له من طلاقة القدرة , وكمال الحكمة , وشمول العلم ما أبدع به هذا الكون بكل ما فيه ومن فيه , وهذا الخالق العظيم لا ينازعه أحد في ملكه , ولا يشاركه أحد في سلطانه؛ لأنه رب هذا الكون ومليكه , ولا يشبهه أحد من خلقه ؛ لأنه ـ تعالى ـ خالق كل شيء , وهو بالقطع فوق كل خلقه , لا يحده المكان , ولا الزمان؛ لأنه ـ سبحانه ـ خالقهما , ولا يشكله أي من المادة أو الطاقة؛ لأنه ـ تعالى ـ مُبدِعهما , ولا نعرف عن ذاته العلية إلا ما عرَّف به نفسه بقوله ـ عز من قائل ـ : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ " (الشورى:11) ، وقوله ـ سبحانه ـ مُخاطِباً خاتم أنبيائه ورسله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ .لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ .وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ " (الإخلاص:1-4) .
من هنا كان التفكر في خلق السماوات والأرض مدخلاً عظيماً من مداخل الإيمان بالله , ولذا حضَّ عليه القرآن الكريم , كما حضَّت عليه السنة النبوية المُطهَّرة حضاً كثيراًً .
تأكيد القرآن الكريم على ما في السماوات والأرض من أدلة الخلق والإفناء والبعث :
يؤكد القرآن الكريم على ما في السماوات والأرض من الأدلة , التي تنطق بطلاقة القدرة الإلهية في خلقهما وإبداعهما , كما تنطق بحتمية إفنائهما , وإعادة خلقهما من جديد في هيئة غير التي نراهما فيها اليوم , وذلك في عدد غير قليل من الآيات التي منها قوله ـ تعالى ـ : " وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ " (الأنعام:73) . ، وقوله ـ سبحانه ـ : " خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ " (العنكبوت:44) ، وقوله ـ عز من قائل ـ : " أولم يتفكروا فى أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ " (الروم:8) ، وقوله ـ تعالى ـ : " وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ " (الروم:22) .
وقوله ـ سبحانه ـ : " وَهُوَ الَّـذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ " (الروم:27) .
وقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : " خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإليهِ المَصِيرُ " (التغابن:3) ، وقوله ـ عز من قائل ـ : " خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلاَ هُوَ العَزِيزُ الغَفَّارُ " (الزمر:5) ،
وقوله ـ سبحانه ـ : " لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ " (غافر:57)، وقوله ـ تعالى ـ : " وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ " (الشورى:29) ، وقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : " وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ . مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ " (الدخان:38 ,39) .
تأكيد القرآن الكريم على أن الله ـ تعالى ـ هو خالق السماوات والأرض وخالق كل شيء :
جاءت مادة (خَلَقَ) بمشتقاتها في القرآن الكريم مائتين وإحدى وستين (261) مرة , لتأكيد أن عملية الخلق هي عملية خاصة بالله ـ تعالى ـ وحده , لا يشاركه فيها أحد , ولا ينازعه عليها أحد , ولا يَقدر عليها أحد غيره ـ سبحانه وتعالى ـ إلا بإذنه , كذلك وردت لفظة السماء في القرآن الكريم بالإفراد والجمع في ثلاثمائة وعشر (310) موضعاً , منها مائة وعشرون (120) مرة بصيغة الإفراد (السماء) , ومائة وتسعون (190) مرة بصيغة الجمع (السماوات) مُعرَّفة وغير مُعرَّفة , كما وردت لفظة الأرض بمشتقاتها في أربعمائة وواحد وستين (461) موضعاً , وذلك في مقامات كثيرة تؤكد أن الله ـ تعالى ـ هو خالق السماوات والأرض , وخالق كل شيء , مثل قوله ـ عز من قائل ـ : " ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ " (الأنعام:102) ، وقوله ـ سبحانه ـ : " أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ " (الأعراف:54) ، وقوله ـ تعالى ـ : " إِنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ " (يونس:4) ، وقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : " قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ " (الرعد:16) ، وقوله ـ تبارك وتعالى ـ : " وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً " (الفرقان:2) ، وقوله ـ عز من قائل ـ : " اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ " (الزمر:62) ، وقوله ـ سبحانه ـ : " ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ " (غافر:62) ، وقوله ـ تعالى ـ : " إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ " (القمر:49) ، وقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : " هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ " (الحشر:24) .
هذا , وقد أفاض القرآن الكريم في حسم قضيتي الخلق والبعث بنسبتهما إلى الله ـ تعالى ـ وحده؛ وذلك لأن هاتين القضيتين كانتا من أصعب القضايا التي خاض فيها الجاحدون والمتشككون بغير علم ولا هدي عبر التاريخ , ولا يزالون يستخدمون هذا الجحود والإنكار في معارضة قضية الإيمان بالله الخالق البارئ المصور , ويرد عليهم القرآن الكريم بقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ : " أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ " (النحل:17) ، وقوله ـ تعالى ـ في السورة نفسها : " وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ " (النحل:20) ، وقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : " وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ " (الفرقان:3) ، وقوله ـ تبارك وتعالى ـ : " أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ .أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ " (الطور:35 ,36)، وقوله ـ عز من قائل ـ : قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ " (يونس:34)، وقوله ـ تعالى ـ : أَو لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (العنكبوت:19-20) .
موقف الحضارة الإسلامية من قضية الخلق :
بعد بعثة المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ انطلق المسلمون من الإيمان بحقيقة الخلق , وحتمية البعث , ليقيموا ـ على أساس من تلك العقيدة الربانية الخالصة ـ أعظم حضارة في التاريخ , لأنها كانت الحضارة الوحيدة التي جمعت بين الدنيا والآخرة في معادلة واحدة , واستمرت لأكثر من عشرة قرون كاملة , تدعو إلى عبادة الله ـ تعالى ـ بما أمر (على التوحيد الخالص لذاته العلية , والتنزيه الكامل لأسمائه وصفاته عن الشبيه والشريك والمنازع) , وإلى حسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض , وإقامة عدل الله فيها , على أساس من شرعه المنزل على خاتم أنبيائه ورسله , والذي تعهد ـ سبحانه وتعالى ـ بحفظه بنفس اللغة التي أُنزل بها ـ كلمة كلمة وحرفاً حرفاً ـ فحُفظ حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد نزول هذا الوحي الخاتم , وتعهد الله ـ تعالى ـ بحفظه من الضياع أو التحريف .
وبهذا الجمع المُتزِن بين وحي السماء والاجتهاد في كسب المعارف النافعة , حملت حضارة الإسلام مشاعل المعرفة في كل مناشط الحياة الدينية والعمرانية , وأقامت قاعدة صلبة للدين والعلم والتقنية , وآمنت بوحدة المعرفة , وبأن الحكمة هي ضالة المؤمن , أنى وجدها فهو أولى الناس بها , فجمعت المعارف من مختلف مصادرها مهما تباعدت أماكنها , واختلفت الحضارات التي انبثقت عنها , ومعتقدات أصحابها , ولكنها لم تقبل تلك المعارف قبول التسليم , فقامت بغربلة تراث الإنسانية المتاح لها بمعيار الإسلام العظيم القائم على أساس من التوحيد الخالص لله؛ وذلك لتطهير هذا التراث من أدران الشرك والكفر والجحود بالله , وأضافت إليه إضافات أصيلة عديدة في كل المجالات , مما مثل القاعدة التي انطلقت منها النهضة العلمية والتقنية المعاصرة , كما يعترف بذلك عدد غير قليل من العلماء المعاصرين غربيين وشرقيين .
ولم يَحِل الإيمان بالغيب دون التقدم العلمي والتقني في الحضارة الإسلامية , بل حضَّ عليه الإسلام حضاًً , واعتبره نمطاً من أنماط عبادة الله ـ تعالى ـ , والتفكر في خلقه , ووسيلة منهجية لاستقراء سنن الله في الكون , وتوظيفها في عمارة الأرض , وهي من واجبات الاستخلاف في الأرض , والوجه الثاني للعبادة التي يمثل وجهها الأول عبادة الله ـ تعالى ـ بما أمر , واتباع سنة خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
موقف الحضارة المادية المعاصرة من قضية الخلق :
انطلقت الحضارة المادية المُعاصِرة في الأصل من بوتقة الحضارة الإسلامية , ولكن على مغايرة من حضارة المسلمين , فإن الغرب بني حضارته على أساس من المادية البحتة , فنبذ الدين , ووقف موقف المُنكِر لقضية الإيمان بالله , وملائكته , وكتبه , ورسله , واليوم الآخر , الرافض لكل أمر غيبي , في عداء صريح , واستهجان أوضح , فتنكَّب الطريق , وضل ضلالاً بعيداً على الرغم من القدر الهائل من الكشوف العلمية , والانجازات التقنية المُذهِلة التي حققها , والتي يمكن أن تكون سبباً في دماره في غيبة الالتزام الديني والروحي والأخلاقي , وصدق الله العظيم الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة قوله الحق : " فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عليهمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ " (الأنعام:44-45) .
وبنبذ الإيمان بالله , وصلت المجتمعات الغربية إلى مستوى مُتدنٍ من التحلل الأخلاقي , والانهيار الاجتماعي , ومجافاة الفطرة التي فطر الله الخلق عليها , في وقت ملكت فيه من أسباب الغلبة المادية ما يمكن أن يعينها على الاستعلاء في الأرض , والتجبر على الخلق , ونشر المظالم بغير مراعاة لرب ، أو مخافة من حساب , مما يمكن أن يهدد البشرية بالفناء .
ولا تزال المعارف الإنسانية بصفة عامة , والعلمية منها بصفة خاصة , تُكتب إلى يومنا هذا , من منطلقات مادية صرفة , لا تؤمن إلا بالمُدرَك المحسوس , وتتنكر لكل ما هو فوق ذلك , فدارت بالمجتمعات الإنسانية في متاهات من الضياع , ضلت وأضلت , على الرغم من الكم الهائل من المعلومات التي تحتويها , وروعة التقنيات التي أنجزتها .
وكان ضلال الحضارة المادية المُعاصِرة أبلغ ما يكون في القضايا التي لا يمكن إخضاعها لإدراك الإنسان المُباشِر , من مثل قضايا الخلق والإفناء والبعث (خلق الكون , خلق الحياة , خلق الإنسان , ثم إفناء كل ذلك وإعادة خلقه من جديد) , وهي من القضايا التي إذا خاض فيها الإنسان بغير هداية ربانية فإنه يضل ضلالاً بعيداًً , وصدق الله العظيم إذ يقول في الرد على هؤلاء الظالمين من الكافرين والمشركين والمتشككين من الجن والإنس : " مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً "( الكهف:51) .
وعلى الرغم من تأكيد القرآن الكريم أن أحداً من الجن والإنس , لم يشهد خلق السماوات والأرض , ولا خلق نفسه , فإنه يؤكد ضرورة التفكر في خلق السماوات والأرض , وخلق الحياة لأن ذلك من أعظم الدلائل على طلاقة القدرة الإلهية , وكمال الصنعة الربانية , وعلى كلٍِ من حتمية الآخرة وضرورة البعث والحساب والجنة والنار , وذلك لأن الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ قد ترك لنا في صخور الأرض وفي صفحة السماء ما يمكن أن يعين الإنسان على فهم قضيتي الخلق والبعث , بالرغم من محدودية قدراته الذهنية والحسية , واتساع الكون وضخامة أبعاده وتعقيد بنائه , وكذلك تعقيد بناء الجسد الإنساني وبناء خلاياه , وهي صورة رائعة لتسخير الكون للإنسان , وجعله في متناول إدراكه وحسه .
قرناًً , وهذا وحده مما يشهد للقرآن بأنه لا يمكن إلا أن يكون كلام الله الخالق , كما يشهد لخاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين ـ , بأنه كان موصولاً بالوحي , مُعلَّماً من قبل خالق السماوات والأرض , حيث إنه لم يكن لأحد علم بهذه الحقائق الكونية في زمن الوحي , ولا لقرون مُتطاوِلة من بعد نزوله , وتشهد هذه الآيات الخمس بدقة الإشارات الكونية الواردة في كتاب الله , وشمولها , وكمالها , وصياغتها صياغة معجزة يفهم منها أهل كل عصر معنى من المعاني يتناسب مع المستوى العلمي للعصر , وتظل هذه المعاني تتسع باستمرار مع توسع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد , وهو من أبلغ صور الإعجاز العلمي في كتاب الله