عصر السيطرة السلجوقية:
ضمَّت هذه المرحلة من تاريخ الدولة العباسية تسعة خلفاء من بني العباس كان أولهم: القائم بأمر الله..
القائم بأمر الله 422 ـ 467هـ:
هو عبد الله بن أحمد القادر، أبو جعفر، ولد عام 319هـ من أم ولد أرمينية اسمها: بدر الدجى، وقيل: قطر الندى، ولي أمر الخلافة عام 422هـ، فكاه عمره إحدى وثلاثين عامًا، بعهد من أبيه، وأبوه هو الذي لقبه "القائم بأمر الله"..
كان وَرِعًا ديِّنًا زاهدًا عالمًا قوي اليقين بالله تعالى، كثير الصدقة والصبر له عناية بالأدب، ومعرفة حسنة بالكتابة، مؤثرًا العدل والإحسان وقضاء الحوائج, لا يرى المنع من شيء طُلِبَ منه..
فتنة البساسيري:
كان أبو الحارث أرسلان التركي البساسيري أحد موالي بني بويه قد طغا حتى خافه الناس جميعًا، وثبت للخليفة العباسي القائم أن البساسيري سيِّء العقيدة، وأن عنده رغبةً في القبض على الخليفة وإلغاء الخلافة العباسية فما كان من الخليفة إلا أن راسل طغرل بك السلجوقي سلطان الأتراك الغزّ وهو بالري يستنهضه للقدوم إليه، فقدم طغرل بك إلى بغداد، واستأذن الخليفة بدخولها فأذن له فدخلها عام 447هـ، وكانت قد وقعت وحشة بين الخليفة والبساسيري؛ فترك البساسيري بغداد، ولم يدخلها مع الملك الرحيم الذي جاء من واسط وطلب الخليفة منه أن يخضع لطغرل بك، واتجه البساسيري إلى الرحبة، ومُنِعَتْ بدعة "حي على خير العمل" في الأذان، وعقد الخليفة على خديجة بنت داود أخي طغرل بك، وقد تمكن البساسيري من أخذ الموصل..
وراسل البساسيري صاحب مصر المستنصر العبيدي، وطلب منه أن يبايعه ويدعو له، وأن يمده بالجند والأموال، وأن يأتي إليه ليبايعه، ويدخل بغداد باسمه، غير أن المستنصر لم يكن يثق كليًا بالبساسيري؛ لذا فقد اكتفى بمده بالجند من الشام, وبالمال ولكنه لم يأتِ إليه.
وفي الوقت نفسه فقد تمكن البساسيري من الإيقاع بين طغرل بك وبين أخيه لأمه (إبراهيم ينال) إذ أطمع إبراهيم بمنصب أخيه، واشتغل طغرل بك بقتال أخيه؛ فاستغل البساسيري هذا القتال واتجه إلى بغداد، ودخلها عام 450هـ، ومعه الرايات المصرية، وخطب فيها للمستنصر العبيدي باستثناء جامع الخليفة..
قبض البساسيري على الخليفة، وأرسله إلى حديثة عانة (1) ، حيث سجن هناك، وروى أن الخليفة كتب قصته وهو بالسجن وأنفذها إلى مكة؛ فعلقت بالكعبة وفيها: إلى الله العظيم من المسكين عبده، اللهم إنك العالم بالسرائر، المطلع على الضمائر، اللهم إنك غني بعلمك، واطلاعك على خلقك عن إعلامي, هذا عبد قد كفر بنعمك وما شكرها، وألغى العواقب وما ذكرها، أطغاه حلمك حتى تعدَّى علينا بغيًا، وأساء إلينا عتوًا وعدوًا، اللهم قَلَّ الناصر، واعتزَّ الظالم، وأنت المطَّلع العالم، المنصف الحاكم، بك نعتز عليه، وإليك نهرب من بين يديه، فقد تعزز علينا بالمخلوقين، ونحن نعتز بك، وقد حاكمناه إليك، وتوكلنا في إنصافنا منه عليك، ورفعنا ظلامتنا هذه إلى حرمك، ووثقنا في كشفها بكرمك، فاحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين. (2)
وقد أنكر الأستاذ/ محمود شاكر هذه الرواية واستبعدها لأن مكة كانت تحت حكم العبيديين في ذلك الوقت..
كما قتل البساسيري وزير الخليفة وهو ابن مسلمة الذي كان يكره البويهيين لتشيعهم، وصلتهم بالعبيديين في مصر..
وظفر طغرل بك بأخيه إبراهيم فقتله، وتفرغ لأمر البساسيري فعاد إلى بغداد ودخلها عام 451هـ، ولم ينفرد فيها البساسيري بأكثر من سنة، وظفر بالبساسيري فقتله..
ورجع الخليفة إلى داره، ولم ينم بعدها إلا على فراش مصلاه ولزم الصيام والقيام، وعفا عن كل من آذاه، ولم يسترد شيئًا مما نهب من قصره إلا بالثمن، وقال: هذه أشياء احتسبناها عند الله، ولم يضع رأسه بعدها على مخدة..
وفي عام 454 هـ زوَّج الخليفة ابنته لطغرل بك، على كره منه, وهذا أمر لم ينله أحد من ملوك بني بويه مع قهرهم الخلفاء وتحكمهم فيهم..
وفي سنة 455هـ دخل طغرل بك بابنة الخليفة ثم رجع إلى الرَّي فمات بها، وأقيم في السلطنة بعده ابن أخيه عَضُد الدولة ألب أرسلان وبقى بها حتى قتل عام 465هـ، وخَلَفه ابنه ملكشاه..
وقال الذهبي عن ألب أرسلان: وهو أول من ذكر بالسلطان على منابر بغداد، وبلغ ما لم يبلغه أحد من الملوك، وافتتح بلادًا كثيرة من بلاد النصارى، واستوزر "نظام الملك"، فأبطل ما كان عليه الوزير قبله "عميد الملك" من سَبِّ الأشعرية، وانتصر للشافعية وأكرم إمام الحرمين، وأبا القاسم القشيري، وبَنَى النظامية قيل: وهي أول مدرسة بنيت للفقهاء..
وفي عهد الخليفة القائم بأمر الله عام 462هـ، أقبل ملك الروم "أرمانوس" بجموع لا حصر لها وعلى رأسهم البطارقة, وهو ينوي بهذه الحشود الكبيرة أن يقضي على الإسلام وأهله حتى أنه لفرط أمله قد أقطع البطارقة مناطق العراق، وتلقاه "ألب أرسلان" عام 463هـ في عشرين ألف مقاتل فقط؛ ودارت معركة كبيرة بين الطرفين انتصر فيها ألب أرسلان رغم قلة جنده، وأُسِرَ ملكُ الروم "أرمانوس" وعرفت هذه المعركة باسم معركة "ملاذكرد" ثم عفا "ألب أرسلان" عن "أرمانوس" وأطلق سراحه، وعندما عاد إلى بلاده وجد أن الروم قد ملكوا عليهم غيره..
وكانت وفاة الخليفة القائم بأمر الله عام 467هـ، وخَلَفَه حفيده المقتدي بأمر الله. (3)
وفي عهد الخليفة القائم بأمر الله عام 462 هـ أقبل ملك الروم "أرمانوس" بجموع لا حصر لها وعلى رأسهم البطارقة ونوي بهذه الحشود الكبيرة أن يقضي على الإسلام وأهله حتى أنه لفرط أمله قد أقطع البطارقة مناطق العراق، وتلقاه "ألب أرسلان" عام 463 هـ في عشرين ألف مقاتل فقط، ودارت معركة كبيرة بين الطرفين انتصر فيها "ألب أرسلان" رغم قلة جنده وأُسر ملك الروم "أرمانوس" وعرفت هذه المعركة باسم "معركة ملاذكرت" وقد عفا "ألب أرسلان" عن "أرمانوس" وأطلق سراحه، وعندما عاد إلى بلاده وجد أن الروم قد ملكوا عليهم غيره.(4)
العصر العباسي الرابع 447 ـ 590هـ:
كان خلفاء هذه المرحلة على درجة من العدل والتقوى والإحسان والعطف على الناس، وقد أحبتهم الرعية حبًا كبيرًا حتى ليعم الحزن البلاد عندما يتوفى أحد الخلفاء، فعندما قُتِلَ المسترشِد (512 ـ 529هـ) ظهر التأثر واضحًا على الرعية، وكذا الحال عندما قُتِل ابنه الراشد (529 ـ 530هـ) ولم يقتل من هؤلاء جميعهم سوى المسترشد وابنه الراشد..
ولم يكن السلاجقة ـ وهم القوة المسيطرة على الخلافة ـ يتصرفون مع الخليفة ذلك التصرف السيِّء الذي كان يقوم به من سبقهم سواء من القادة الأتراك أم من البويهيين, فالقادة الأتراك كانوا عسكريين جهلة ومختلفين فيما بينهم؛ فإذا ظن أحدهم أن الخليفة مال لآخر سعى إلى قتله بصورة من الصور أو إلى سمل عينيه وإهانته، وكان البويهيون من الشيعة الحاقدين على الخلفاء أولاً، وعلى الفكر الإسلامي الصافي ثانيًاـ إذ أن التشيع بدأت توضع له في تلك المرحلة أسسه ومبادئه التي فيها بُعْدٌ عن الإسلام، والتي حرص واضعوها على نسجها على الأوقات السابقة؛ فنسبوا لبعض آل البيت ما لم يقولوه، ولم يسمعوا به بل لم يفكروا فيه، وليس التشيع هو محبة آل البيت عامة، وعليٍّ وأبنائه رضي الله عنهم خاصة كما يتصور بعض العامة من المسلمين أو عامة الشيعة حسبما وصل إليهم، وإنما أصبح للتشيع فكر خاص له منهجه وسلوكه, بل عقيدة خاصة تختلف عن صفاء الإسلام بادعاء العصمة للأئمة ومعرفتهم ما لم يعرف غيرهم ؛ لذا فإن تصرف البويهيين مع الخلفاء لم يكن تصرف التابع، أو تصرف المبايِع للخليفة الحريص على هيبة الحكم والنظام, وما يقضي به الشرع بالنسبة إلى معاملة الخليفة الشرعي، وإن سلوك السلاجقة الطيب نسبيًا قد أعاد للخليفة هيبته أو مكانته, وإن كان بصورة نسبية أيضًا. (5)
وقد ظهر في تلك المرحلة دول قوية في المنطقة كان لها دور في صراع النصارى مع الإسلام سواء في الأندلس مثل: دولة المرابطين ودولة الموحدين، أم في المشرق مثل: إمارة آل زنكي ودولة الأيوبيين اللتين انصرفتا إلى قتال الصليبيين بل وحتى العبيديين, وإن كان بعضها تتبع الخلافة العباسية وتدين لها بالولاء مثل: المرابطين وآل زنكي والأيوبيين، فإن بعضها الآخر لا يعترف بسلطة العباسيين عليها, بل تَعُدُّ نفسها دولة قائمة بذاتها مثل: الموحدين حيث يُدعى سلطانهم أمير المؤمنين، أو تعد نفسها خلافة خاصة مثل: الدولة العبيديية في مصر، وجميعهم كان لهم دور في مقارعة الصليبيين..
وكان خلفاء هذه المرحلة على صورة واحدة تقريبًا من حيث الاتجاه الإسلامي العام، ولم يكن بينهم سوى الخليفة الناصر (575 ـ 622هـ) الذي مال إلى التشيع، وكان يفضل عليًا على أبي بكر رضي الله عنهما،وهذا ضلال عند أهل السُّنَّة، فالمسلمون جميعًا يرون فضل أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليٍّ، على التوالي رضي الله عنهم، وهناك اختلاف يسير في تفضيل علي على عثمان رضي الله عنهما،ولكن الجمهور على تفضيل عثمان. وقد سُئِل ابن الجوزي أمام الخليفة الناصر: من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: أفضلهم من كانت ابنته تحته، ولم يستطع أن يصرح بتفضيل أبي بكر رضي الله عنه وإن كان في هذا الجواب معنيان؛ إذ يمكن أن يُفهَم تفضيلُ أبي بكر رضي الله عنه الذي كانت ابنته عائشة رضي الله عنها تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما يُفهَم منه تفضيلُ عليٍّ رضي الله عنه إذ كانت تحته فاطمة رضي الله عنه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحته.. (6) وهذا يدل على تعصب الناصر لمذهبه الباطل.
وفي هذه المرحلة قَلَّتِ الخلافاتُ بين السنة والشيعة بعد أن زالت دولهم المتعددة، فقد زال البويهيون عام 447هـ وبزوال البويهيين ضعف أمر القرامطة، ثم قضى عليهم عام 470هـ، إذ خرجت جزيرة أوال (البحرين) عن طاعة القرامطة عام 458هـ، وخضعت للعباسيين، وكان أول الأمر أن بني المسلمون مسجدًا لجذب التجار إلى جزيرتهم، وخطبوا فيه للخليفة العباسي دون الخليفة العبيدي فعزل القرامطة واليهم على الجزيرة، وفرضوا على أهلها ضرائب جديدة الأمر الذي أثار السكان فهبوا ضد القرامطة، واستطاعوا الانتصار عليهم، وقد هيأ هذا الانتصار أن يتصل المسلمون في البحرين بالخليفة العباسي، ويطلبوا منه الدعم إذ اتصل عبد الله بن علي العيوني زعيم قبيلة عبد القيس بالخليفة العباسي "القائم بأمر الله" وبالسلطان السلجوقي "ملكشاه" عام 462هـ، ووجد عندهما تجاوبًا؛ فأرسلا له جيوشًا دعمته ضد القرامطة فاستطاع أن يهزم القرامطة عام 467هـ، وتجمع المسلمون من كل ناحية في تلك الجهات، وهزموا القرامطة في معركة الخندق عام 470هـ في شمال الأحساء وقضوا عليهم..
أما العبيدييون فقد كان أمرهم يضعف , كما أن أصولهم وانتماءهم وسلوكهم يدل على ضلالتهم العقيدية والفكرية، ويلقي ضوءًا على أهدافهم السياسية البعيدة، وهذا ما أصبح يتضح للرعية عندما بقوا وحدهم في الميدان, وزال الشيعة والمتشيعون الآخرون الذين كانوا يغطون الساحة فيختفي فيها العبيديون, وعندما انكشفوا أصبح الناس يكرهونهم فبدأ أمرهم يضعف حتى قضى عليهم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله عام 567هـ..
وفي هذه المرحلة حدث هجوم صليبي شرس على بلاد المسلمين ابتدأ في الأندلس، ومنها انتقل إلى الأناضول, فبلاد الشام ومصر وكان يحمل الحقد الأسود على الإسلام؛ ولذا فقد ارتكب جرائم بشعة جدًا, وأهلك الزرع والضرع أثناء سيره، وكان النافخون فيه يتذرعون بأن المسلمين كانوا يسيئون إلى الحجاج النصارى الذين يقصدون بيت المقدس، وقد حدث هذا الهجوم بعد الهزائم المنكرة التي مني بها النصارى سواء في المشرق في معركة (ملاذكرد) عام 463هـ على يد ألب أرسلان السلجوقي رغم التفاوت الكبير في قوات الطرفين إذ لم تزد قوات ألب أرسلان على عُشْرِ قوات الروم البيزنطيين، أو في المغرب في بلاد الأندلس في معركة الزلاقة عام 479هـ على يد أمير المرابطين يوسف بن تاشفين، وقد وحدت هاتان الهزيمتان بين الكنيستين النصرانيتين: الشرقية والغربية مؤقتًا, وحمست النصارى على الانسياح البربري الوحشي في ديار المسلمين, الذي روَّع الآمنين, وأخاف الناس جميعًا، ولقد حصل هذا الهجوم على بعض النصر من جهة ثانية أثر آخر إذ أيقظ المسلمين وحرّك في بعضهم الإيمان وهيَّج فيهم روح الجهاد، والدعوة إلى الوحدة؛ فقاموا يقاتلون الصليبيين حتى دمروهم في النهاية وأخرجوهم صاغرين. (7)
وفي هذه المرحلة ظهرت دول كان لها الأثر الكبير في محاربة الصليبيين؛ لذلك علا شأنها وارتفع ذكرها حتى طغى اسمها على الخلافة العباسية بالذات فحجبها، ولم يعد يذكرها الناس على حين كان يذكر دائمًا تلك الدولة الثانية التي تتبع الدولة العباسية، أو لا تتبعها مباشرة، فكان في المغرب دولة المرابطين الذين اجتازوا بحر الزقاق وانتقلوا إلى العدوة الأندلسية، وقاتلوا النصارى الأسبان هناك, وانتصروا عليهم في معركة الزلاقة عام 479هـ، وهناك أيضًا الموحدون الذين خلفوا المرابطين وانتقلوا أيضًا إلى الأندلس دعمًا للمسلمين، وانتصروا على النصارى الأسبان في معركة الأرك عام 585هـ، وظهرت في الوقت نفسه دولة آل زنكي في المشرق وقد عملت على تقوية صف المسلمين ومنازلة الصليبيين، ثم قامت بعدها دولة الأيوبيين، وقد تمكن صلاح الدين الأيوبي من أن ينتصر على الصليبيين وأن يدخل بين المقدس عام 583هـ، وإضافة إلى هذه الدولة التي علا اسمها كانت دولة خوارزم في الشمال الشرقي من العالم الإسلامي، وبقيت قائمة حتى قضى عليها المغول عام 629هـ، كما قامت دولة الغوريين في الجنوب الشرقي من العالم الإسلامي، وقد عملت على نشر الإسلام في بلاد الهند، إذ تمكنت من فتح دلهي وبيهار، والبنغال حوالي عام 597هـ؛ وبذا ضمت أجزاء واسعة من الهند إلى بلاد المسلمين..
وفي الوقت الذي بدأت الدولة العبيدية تضعف فيه في مصر بدأ أنصارها في اليمن بالظهور؛ فقامت الدولة الصليحية عام 455هـ وعندما توفى الخليفة المستنصر العبيدي عام 487هـ انقسمت الدعوة إلى فرعين: فرع يؤيد المستعلي وينتشر في اليمن، والآخر يؤيد نزار وينتشر في فارس والشام، والفرع الأخير هو الذي حمل اسم الباطنية أكثر من غيره رغم أن الحركات الباطنية كثيرة، كما أُطْلِقَ على أصحابه اسم "الحشاشين"، وقد لعب هذا الفرع دورًا كبيرًا في قتل الشخصيات البارزة, وكان أولها الوزير نظام المُلك الذي قُتِل عام 485هـ، وقد حرصوا على قتل صلاح الدين الأيوبي ولكن الله أنقذه منهم، وكانوا يقيمون في قلاع جبلية حصينة، وكما انتشرت هذه الجماعة التي أطلق عليها اسم "الإسماعيلية" أيضًا فقد ظهرت بقية الفرق الباطنية من نُصَيرِيَّة ودروز، وإن كانت قد اختلفت بعضها مع بعض، وكَفَّر كلُّ فريق الفريق الآخر، إلا أنها جميعها كانت معادية للإسلام وأبنائه، وتدعي-عندما تعيش في وسط مجتمع إسلامي- أنها تنتمي إلى الإسلام..
وانتشرت في هذه المرحلة الألفاظ الأعجمية فنلاحظ "الأتابك" ومعناها "الوالد الأمير" "وشحنكية" ومعناها المقاطعة وغيرها من الألفاظ التي غدت متداولة في كل الدولة وخاصة في جناح المشرق. (8)
وكانت السيطرة الحقيقية للسلاجقة الذين يعودون في أصولهم إلى الغزِّ من الترك، ويدينون بالإسلام، ويأخذون برأي أهل السنة والجماعة..
واستمر سلطان السلاجقة حتى سيطر على مناطق نفوذهم الخوارزميون عام 590هـ، واستمر ذلك حتى جاء المغول (9) ثم دخل هولاكو بغداد عام 656هـ فزال سلطان الدولة العباسية .
ضمَّت هذه المرحلة من تاريخ الدولة العباسية تسعة خلفاء من بني العباس كان أولهم: القائم بأمر الله..
القائم بأمر الله 422 ـ 467هـ:
هو عبد الله بن أحمد القادر، أبو جعفر، ولد عام 319هـ من أم ولد أرمينية اسمها: بدر الدجى، وقيل: قطر الندى، ولي أمر الخلافة عام 422هـ، فكاه عمره إحدى وثلاثين عامًا، بعهد من أبيه، وأبوه هو الذي لقبه "القائم بأمر الله"..
كان وَرِعًا ديِّنًا زاهدًا عالمًا قوي اليقين بالله تعالى، كثير الصدقة والصبر له عناية بالأدب، ومعرفة حسنة بالكتابة، مؤثرًا العدل والإحسان وقضاء الحوائج, لا يرى المنع من شيء طُلِبَ منه..
فتنة البساسيري:
كان أبو الحارث أرسلان التركي البساسيري أحد موالي بني بويه قد طغا حتى خافه الناس جميعًا، وثبت للخليفة العباسي القائم أن البساسيري سيِّء العقيدة، وأن عنده رغبةً في القبض على الخليفة وإلغاء الخلافة العباسية فما كان من الخليفة إلا أن راسل طغرل بك السلجوقي سلطان الأتراك الغزّ وهو بالري يستنهضه للقدوم إليه، فقدم طغرل بك إلى بغداد، واستأذن الخليفة بدخولها فأذن له فدخلها عام 447هـ، وكانت قد وقعت وحشة بين الخليفة والبساسيري؛ فترك البساسيري بغداد، ولم يدخلها مع الملك الرحيم الذي جاء من واسط وطلب الخليفة منه أن يخضع لطغرل بك، واتجه البساسيري إلى الرحبة، ومُنِعَتْ بدعة "حي على خير العمل" في الأذان، وعقد الخليفة على خديجة بنت داود أخي طغرل بك، وقد تمكن البساسيري من أخذ الموصل..
وراسل البساسيري صاحب مصر المستنصر العبيدي، وطلب منه أن يبايعه ويدعو له، وأن يمده بالجند والأموال، وأن يأتي إليه ليبايعه، ويدخل بغداد باسمه، غير أن المستنصر لم يكن يثق كليًا بالبساسيري؛ لذا فقد اكتفى بمده بالجند من الشام, وبالمال ولكنه لم يأتِ إليه.
وفي الوقت نفسه فقد تمكن البساسيري من الإيقاع بين طغرل بك وبين أخيه لأمه (إبراهيم ينال) إذ أطمع إبراهيم بمنصب أخيه، واشتغل طغرل بك بقتال أخيه؛ فاستغل البساسيري هذا القتال واتجه إلى بغداد، ودخلها عام 450هـ، ومعه الرايات المصرية، وخطب فيها للمستنصر العبيدي باستثناء جامع الخليفة..
قبض البساسيري على الخليفة، وأرسله إلى حديثة عانة (1) ، حيث سجن هناك، وروى أن الخليفة كتب قصته وهو بالسجن وأنفذها إلى مكة؛ فعلقت بالكعبة وفيها: إلى الله العظيم من المسكين عبده، اللهم إنك العالم بالسرائر، المطلع على الضمائر، اللهم إنك غني بعلمك، واطلاعك على خلقك عن إعلامي, هذا عبد قد كفر بنعمك وما شكرها، وألغى العواقب وما ذكرها، أطغاه حلمك حتى تعدَّى علينا بغيًا، وأساء إلينا عتوًا وعدوًا، اللهم قَلَّ الناصر، واعتزَّ الظالم، وأنت المطَّلع العالم، المنصف الحاكم، بك نعتز عليه، وإليك نهرب من بين يديه، فقد تعزز علينا بالمخلوقين، ونحن نعتز بك، وقد حاكمناه إليك، وتوكلنا في إنصافنا منه عليك، ورفعنا ظلامتنا هذه إلى حرمك، ووثقنا في كشفها بكرمك، فاحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين. (2)
وقد أنكر الأستاذ/ محمود شاكر هذه الرواية واستبعدها لأن مكة كانت تحت حكم العبيديين في ذلك الوقت..
كما قتل البساسيري وزير الخليفة وهو ابن مسلمة الذي كان يكره البويهيين لتشيعهم، وصلتهم بالعبيديين في مصر..
وظفر طغرل بك بأخيه إبراهيم فقتله، وتفرغ لأمر البساسيري فعاد إلى بغداد ودخلها عام 451هـ، ولم ينفرد فيها البساسيري بأكثر من سنة، وظفر بالبساسيري فقتله..
ورجع الخليفة إلى داره، ولم ينم بعدها إلا على فراش مصلاه ولزم الصيام والقيام، وعفا عن كل من آذاه، ولم يسترد شيئًا مما نهب من قصره إلا بالثمن، وقال: هذه أشياء احتسبناها عند الله، ولم يضع رأسه بعدها على مخدة..
وفي عام 454 هـ زوَّج الخليفة ابنته لطغرل بك، على كره منه, وهذا أمر لم ينله أحد من ملوك بني بويه مع قهرهم الخلفاء وتحكمهم فيهم..
وفي سنة 455هـ دخل طغرل بك بابنة الخليفة ثم رجع إلى الرَّي فمات بها، وأقيم في السلطنة بعده ابن أخيه عَضُد الدولة ألب أرسلان وبقى بها حتى قتل عام 465هـ، وخَلَفه ابنه ملكشاه..
وقال الذهبي عن ألب أرسلان: وهو أول من ذكر بالسلطان على منابر بغداد، وبلغ ما لم يبلغه أحد من الملوك، وافتتح بلادًا كثيرة من بلاد النصارى، واستوزر "نظام الملك"، فأبطل ما كان عليه الوزير قبله "عميد الملك" من سَبِّ الأشعرية، وانتصر للشافعية وأكرم إمام الحرمين، وأبا القاسم القشيري، وبَنَى النظامية قيل: وهي أول مدرسة بنيت للفقهاء..
وفي عهد الخليفة القائم بأمر الله عام 462هـ، أقبل ملك الروم "أرمانوس" بجموع لا حصر لها وعلى رأسهم البطارقة, وهو ينوي بهذه الحشود الكبيرة أن يقضي على الإسلام وأهله حتى أنه لفرط أمله قد أقطع البطارقة مناطق العراق، وتلقاه "ألب أرسلان" عام 463هـ في عشرين ألف مقاتل فقط؛ ودارت معركة كبيرة بين الطرفين انتصر فيها ألب أرسلان رغم قلة جنده، وأُسِرَ ملكُ الروم "أرمانوس" وعرفت هذه المعركة باسم معركة "ملاذكرد" ثم عفا "ألب أرسلان" عن "أرمانوس" وأطلق سراحه، وعندما عاد إلى بلاده وجد أن الروم قد ملكوا عليهم غيره..
وكانت وفاة الخليفة القائم بأمر الله عام 467هـ، وخَلَفَه حفيده المقتدي بأمر الله. (3)
وفي عهد الخليفة القائم بأمر الله عام 462 هـ أقبل ملك الروم "أرمانوس" بجموع لا حصر لها وعلى رأسهم البطارقة ونوي بهذه الحشود الكبيرة أن يقضي على الإسلام وأهله حتى أنه لفرط أمله قد أقطع البطارقة مناطق العراق، وتلقاه "ألب أرسلان" عام 463 هـ في عشرين ألف مقاتل فقط، ودارت معركة كبيرة بين الطرفين انتصر فيها "ألب أرسلان" رغم قلة جنده وأُسر ملك الروم "أرمانوس" وعرفت هذه المعركة باسم "معركة ملاذكرت" وقد عفا "ألب أرسلان" عن "أرمانوس" وأطلق سراحه، وعندما عاد إلى بلاده وجد أن الروم قد ملكوا عليهم غيره.(4)
العصر العباسي الرابع 447 ـ 590هـ:
كان خلفاء هذه المرحلة على درجة من العدل والتقوى والإحسان والعطف على الناس، وقد أحبتهم الرعية حبًا كبيرًا حتى ليعم الحزن البلاد عندما يتوفى أحد الخلفاء، فعندما قُتِلَ المسترشِد (512 ـ 529هـ) ظهر التأثر واضحًا على الرعية، وكذا الحال عندما قُتِل ابنه الراشد (529 ـ 530هـ) ولم يقتل من هؤلاء جميعهم سوى المسترشد وابنه الراشد..
ولم يكن السلاجقة ـ وهم القوة المسيطرة على الخلافة ـ يتصرفون مع الخليفة ذلك التصرف السيِّء الذي كان يقوم به من سبقهم سواء من القادة الأتراك أم من البويهيين, فالقادة الأتراك كانوا عسكريين جهلة ومختلفين فيما بينهم؛ فإذا ظن أحدهم أن الخليفة مال لآخر سعى إلى قتله بصورة من الصور أو إلى سمل عينيه وإهانته، وكان البويهيون من الشيعة الحاقدين على الخلفاء أولاً، وعلى الفكر الإسلامي الصافي ثانيًاـ إذ أن التشيع بدأت توضع له في تلك المرحلة أسسه ومبادئه التي فيها بُعْدٌ عن الإسلام، والتي حرص واضعوها على نسجها على الأوقات السابقة؛ فنسبوا لبعض آل البيت ما لم يقولوه، ولم يسمعوا به بل لم يفكروا فيه، وليس التشيع هو محبة آل البيت عامة، وعليٍّ وأبنائه رضي الله عنهم خاصة كما يتصور بعض العامة من المسلمين أو عامة الشيعة حسبما وصل إليهم، وإنما أصبح للتشيع فكر خاص له منهجه وسلوكه, بل عقيدة خاصة تختلف عن صفاء الإسلام بادعاء العصمة للأئمة ومعرفتهم ما لم يعرف غيرهم ؛ لذا فإن تصرف البويهيين مع الخلفاء لم يكن تصرف التابع، أو تصرف المبايِع للخليفة الحريص على هيبة الحكم والنظام, وما يقضي به الشرع بالنسبة إلى معاملة الخليفة الشرعي، وإن سلوك السلاجقة الطيب نسبيًا قد أعاد للخليفة هيبته أو مكانته, وإن كان بصورة نسبية أيضًا. (5)
وقد ظهر في تلك المرحلة دول قوية في المنطقة كان لها دور في صراع النصارى مع الإسلام سواء في الأندلس مثل: دولة المرابطين ودولة الموحدين، أم في المشرق مثل: إمارة آل زنكي ودولة الأيوبيين اللتين انصرفتا إلى قتال الصليبيين بل وحتى العبيديين, وإن كان بعضها تتبع الخلافة العباسية وتدين لها بالولاء مثل: المرابطين وآل زنكي والأيوبيين، فإن بعضها الآخر لا يعترف بسلطة العباسيين عليها, بل تَعُدُّ نفسها دولة قائمة بذاتها مثل: الموحدين حيث يُدعى سلطانهم أمير المؤمنين، أو تعد نفسها خلافة خاصة مثل: الدولة العبيديية في مصر، وجميعهم كان لهم دور في مقارعة الصليبيين..
وكان خلفاء هذه المرحلة على صورة واحدة تقريبًا من حيث الاتجاه الإسلامي العام، ولم يكن بينهم سوى الخليفة الناصر (575 ـ 622هـ) الذي مال إلى التشيع، وكان يفضل عليًا على أبي بكر رضي الله عنهما،وهذا ضلال عند أهل السُّنَّة، فالمسلمون جميعًا يرون فضل أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليٍّ، على التوالي رضي الله عنهم، وهناك اختلاف يسير في تفضيل علي على عثمان رضي الله عنهما،ولكن الجمهور على تفضيل عثمان. وقد سُئِل ابن الجوزي أمام الخليفة الناصر: من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: أفضلهم من كانت ابنته تحته، ولم يستطع أن يصرح بتفضيل أبي بكر رضي الله عنه وإن كان في هذا الجواب معنيان؛ إذ يمكن أن يُفهَم تفضيلُ أبي بكر رضي الله عنه الذي كانت ابنته عائشة رضي الله عنها تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما يُفهَم منه تفضيلُ عليٍّ رضي الله عنه إذ كانت تحته فاطمة رضي الله عنه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحته.. (6) وهذا يدل على تعصب الناصر لمذهبه الباطل.
وفي هذه المرحلة قَلَّتِ الخلافاتُ بين السنة والشيعة بعد أن زالت دولهم المتعددة، فقد زال البويهيون عام 447هـ وبزوال البويهيين ضعف أمر القرامطة، ثم قضى عليهم عام 470هـ، إذ خرجت جزيرة أوال (البحرين) عن طاعة القرامطة عام 458هـ، وخضعت للعباسيين، وكان أول الأمر أن بني المسلمون مسجدًا لجذب التجار إلى جزيرتهم، وخطبوا فيه للخليفة العباسي دون الخليفة العبيدي فعزل القرامطة واليهم على الجزيرة، وفرضوا على أهلها ضرائب جديدة الأمر الذي أثار السكان فهبوا ضد القرامطة، واستطاعوا الانتصار عليهم، وقد هيأ هذا الانتصار أن يتصل المسلمون في البحرين بالخليفة العباسي، ويطلبوا منه الدعم إذ اتصل عبد الله بن علي العيوني زعيم قبيلة عبد القيس بالخليفة العباسي "القائم بأمر الله" وبالسلطان السلجوقي "ملكشاه" عام 462هـ، ووجد عندهما تجاوبًا؛ فأرسلا له جيوشًا دعمته ضد القرامطة فاستطاع أن يهزم القرامطة عام 467هـ، وتجمع المسلمون من كل ناحية في تلك الجهات، وهزموا القرامطة في معركة الخندق عام 470هـ في شمال الأحساء وقضوا عليهم..
أما العبيدييون فقد كان أمرهم يضعف , كما أن أصولهم وانتماءهم وسلوكهم يدل على ضلالتهم العقيدية والفكرية، ويلقي ضوءًا على أهدافهم السياسية البعيدة، وهذا ما أصبح يتضح للرعية عندما بقوا وحدهم في الميدان, وزال الشيعة والمتشيعون الآخرون الذين كانوا يغطون الساحة فيختفي فيها العبيديون, وعندما انكشفوا أصبح الناس يكرهونهم فبدأ أمرهم يضعف حتى قضى عليهم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله عام 567هـ..
وفي هذه المرحلة حدث هجوم صليبي شرس على بلاد المسلمين ابتدأ في الأندلس، ومنها انتقل إلى الأناضول, فبلاد الشام ومصر وكان يحمل الحقد الأسود على الإسلام؛ ولذا فقد ارتكب جرائم بشعة جدًا, وأهلك الزرع والضرع أثناء سيره، وكان النافخون فيه يتذرعون بأن المسلمين كانوا يسيئون إلى الحجاج النصارى الذين يقصدون بيت المقدس، وقد حدث هذا الهجوم بعد الهزائم المنكرة التي مني بها النصارى سواء في المشرق في معركة (ملاذكرد) عام 463هـ على يد ألب أرسلان السلجوقي رغم التفاوت الكبير في قوات الطرفين إذ لم تزد قوات ألب أرسلان على عُشْرِ قوات الروم البيزنطيين، أو في المغرب في بلاد الأندلس في معركة الزلاقة عام 479هـ على يد أمير المرابطين يوسف بن تاشفين، وقد وحدت هاتان الهزيمتان بين الكنيستين النصرانيتين: الشرقية والغربية مؤقتًا, وحمست النصارى على الانسياح البربري الوحشي في ديار المسلمين, الذي روَّع الآمنين, وأخاف الناس جميعًا، ولقد حصل هذا الهجوم على بعض النصر من جهة ثانية أثر آخر إذ أيقظ المسلمين وحرّك في بعضهم الإيمان وهيَّج فيهم روح الجهاد، والدعوة إلى الوحدة؛ فقاموا يقاتلون الصليبيين حتى دمروهم في النهاية وأخرجوهم صاغرين. (7)
وفي هذه المرحلة ظهرت دول كان لها الأثر الكبير في محاربة الصليبيين؛ لذلك علا شأنها وارتفع ذكرها حتى طغى اسمها على الخلافة العباسية بالذات فحجبها، ولم يعد يذكرها الناس على حين كان يذكر دائمًا تلك الدولة الثانية التي تتبع الدولة العباسية، أو لا تتبعها مباشرة، فكان في المغرب دولة المرابطين الذين اجتازوا بحر الزقاق وانتقلوا إلى العدوة الأندلسية، وقاتلوا النصارى الأسبان هناك, وانتصروا عليهم في معركة الزلاقة عام 479هـ، وهناك أيضًا الموحدون الذين خلفوا المرابطين وانتقلوا أيضًا إلى الأندلس دعمًا للمسلمين، وانتصروا على النصارى الأسبان في معركة الأرك عام 585هـ، وظهرت في الوقت نفسه دولة آل زنكي في المشرق وقد عملت على تقوية صف المسلمين ومنازلة الصليبيين، ثم قامت بعدها دولة الأيوبيين، وقد تمكن صلاح الدين الأيوبي من أن ينتصر على الصليبيين وأن يدخل بين المقدس عام 583هـ، وإضافة إلى هذه الدولة التي علا اسمها كانت دولة خوارزم في الشمال الشرقي من العالم الإسلامي، وبقيت قائمة حتى قضى عليها المغول عام 629هـ، كما قامت دولة الغوريين في الجنوب الشرقي من العالم الإسلامي، وقد عملت على نشر الإسلام في بلاد الهند، إذ تمكنت من فتح دلهي وبيهار، والبنغال حوالي عام 597هـ؛ وبذا ضمت أجزاء واسعة من الهند إلى بلاد المسلمين..
وفي الوقت الذي بدأت الدولة العبيدية تضعف فيه في مصر بدأ أنصارها في اليمن بالظهور؛ فقامت الدولة الصليحية عام 455هـ وعندما توفى الخليفة المستنصر العبيدي عام 487هـ انقسمت الدعوة إلى فرعين: فرع يؤيد المستعلي وينتشر في اليمن، والآخر يؤيد نزار وينتشر في فارس والشام، والفرع الأخير هو الذي حمل اسم الباطنية أكثر من غيره رغم أن الحركات الباطنية كثيرة، كما أُطْلِقَ على أصحابه اسم "الحشاشين"، وقد لعب هذا الفرع دورًا كبيرًا في قتل الشخصيات البارزة, وكان أولها الوزير نظام المُلك الذي قُتِل عام 485هـ، وقد حرصوا على قتل صلاح الدين الأيوبي ولكن الله أنقذه منهم، وكانوا يقيمون في قلاع جبلية حصينة، وكما انتشرت هذه الجماعة التي أطلق عليها اسم "الإسماعيلية" أيضًا فقد ظهرت بقية الفرق الباطنية من نُصَيرِيَّة ودروز، وإن كانت قد اختلفت بعضها مع بعض، وكَفَّر كلُّ فريق الفريق الآخر، إلا أنها جميعها كانت معادية للإسلام وأبنائه، وتدعي-عندما تعيش في وسط مجتمع إسلامي- أنها تنتمي إلى الإسلام..
وانتشرت في هذه المرحلة الألفاظ الأعجمية فنلاحظ "الأتابك" ومعناها "الوالد الأمير" "وشحنكية" ومعناها المقاطعة وغيرها من الألفاظ التي غدت متداولة في كل الدولة وخاصة في جناح المشرق. (8)
وكانت السيطرة الحقيقية للسلاجقة الذين يعودون في أصولهم إلى الغزِّ من الترك، ويدينون بالإسلام، ويأخذون برأي أهل السنة والجماعة..
واستمر سلطان السلاجقة حتى سيطر على مناطق نفوذهم الخوارزميون عام 590هـ، واستمر ذلك حتى جاء المغول (9) ثم دخل هولاكو بغداد عام 656هـ فزال سلطان الدولة العباسية .