الفلاسفة والتوتر الأقصى والفكر
هناك ظاهرة تستحق الانتباه والاهتمام هي: العلاقة بين التفكير والمشي. أو كما يقول بعضهم بين الجسد والكتابة. فالمفكر يفكر بعقله ووجدانه بدون شك. ولكنه يفكر أيضاً بجسده وكل كيانه. وقد توقف بعض النقاد الفرنسيين عند ظاهرة الجسد والكتابة، أو العلاقة بينهما. والواقع أنه إذا ما استعرضنا تاريخ الفلاسفة وجدنا أشياء مدهشة ومثيرة. فمعظمهم كان يحب عادة المشي أو النزهة للترويح عن النفس وتخفيف التوتر وزيادة التأمل والتفكير بحرية. وسوف أضرب على ذلك ثلاثة أمثلة شهيرة في تاريخ الفكر والكتابة.
الأول يتعلق بمؤسس العقل الأوروبي وربما العالمي الحديث كله: ايمانويل كانط. فقد كان رجلاً غريب الأطوار، كرس حياته المديدة كلها للفكر والفلسفة فلم يتزوج ولم ينجب الأطفال لكيلا يشغله ذلك عن كشوفاته المعرفية. وأكثر ما كان يزعجه هو أن يسأله أحدهم: لماذا لم تتزوج يا أستاذنا الكبير؟ وفي معظم الأحيان كان يتجاهل السؤال ويحرف المحادثة في اتجاه آخر لكي يصرف الأنظار عن هذه النقطة التي تحرجه ويروي أشياء أخرى. ولكنه أجابهم مرة قائلا: عندما كنت شابا وراغبا في النساء كنت فقيرا لا استطيع أن أتحمل مسؤولية عائلة. وعندما أصبحت قادرا على ذلك كنت قد كبرت في السن وما عدت راغبا في النساء..
ولكن الشيء الذي اشتهر به أكثر من غيره هو نزهته اليومية بعد الظهر. وبالتحديد في الخامسة من مساء كل يوم. كان يضع قبعته على رأسه ويمسك بعصاه ثم يخرج من منزله في هذه الساعة بالتمام والكمال. وكان الناس يعيّرون ساعتهم على لحظة خروجه لمعرفتهم بأنه لا يمكن أن يتأخر دقيقة أو يتقدم دقيقة. ولم يخلّ كانط بنزهته الشهيرة هذه إلا مرة واحدة أو مرتين طوال عمره المديد: المرة الأولى عندما سمع بصدور كتاب جان جاك روسو عن التربية. وكان يحترمه إلى أقصى حد ممكن بل ويضع صورته على مكتبه لكي يستأنس بحضوره ويستطيع أن يفكر ويشتغل. والمرة الثانية بعد ربع قرن من ذلك التاريخ عندما اندلعت الثورة الفرنسية. كان ينبغي أن يحدث زلزال سياسي في حجم هذه الثورة التي غيرت مجرى التاريخ لكي يغير السيد كانط من عاداته الروتينية! في الحالة الاولى غاص في كتاب روسو حتى نسي نفسه. وفي الحالة الثانية اضطر للذهاب إلى بيت الجرائد للاطلاع على آخر الأخبار الآتية من جهة فرنسا. هل يعني ذلك ان صدور كتاب روسو لا يقل أهمية عن الثورة الفرنسية؟ بالطبع لا، ولكني أبالغ بالكاد.. وعلى أي حال فهذا أدى إلى تلك. وقد أصبحت هذه الحادثة نكتة يرويها الناس وتسجلها كتب الأدب والسير.
ومن المعروف أن كانط، مثل فيخته وهيغل وشيلنغ وهولدرلين فيما بعد، كان معجباً جداً بالثورة الفرنسية ويعلّق عليها أكبر الآمال، على الأقل في البداية وقبل أن تنحرف في اتجاه مرحلة الرعب الثوري المعروف..كان يعتبر الثورة الفرنسية بمثابة العلامة الفارقة على أن عصرا بأكمله قد انتهى وأن عصرا آخر جديدا قد ابتدأ في تاريخ البشرية. وقد أمضى حياته كلها في التنظير والتحضير لهذا العصر الجديد: عصر الحريات الحديثة والانعتاق من أسر العصر الإقطاعي والأصولي والاستبدادي القديم. لذلك يعتبر بعضهم أن الثورة الفكرية التي دشنها كانط لا تقل أهمية عن الثورة السياسية التي دشنها الفرنسيون. وهما مرتبطتان على أي حال ومتزامنتان. وهنا يكمن الفرق الأساسي بين الثورة الفرنسية والثورة الإيرانية التي لم يسبقها أي فكر تنويري جديد فكانت عودة إلى الوراء بدلا من ان تكون قفزة إلى الأمام. وكان أن انتهت إلى ما انتهت إليه من حكم الملالي التقليدي الرجعي المتزمت المحافظ. ثم يستغرب الناس ذلك في حين أنه لا داعي للاستغراب على الإطلاق. فأين هي الثورة الفكرية التي حصلت داخل الإسلام الشيعي لكي تكون الأمور مختلفة؟ أين هو التنوير الديني الذي سبق الثورة واحتضنها أو مهد لها الطريق؟ أين هم أمثال ديكارت وسبينوزا وفولتير وروسو وديدرو وكانط وسواهم في جهة المثقفين الايرانيين؟ لا شيء تقريبا..الثورة السياسية بدون ثورة فكرية عمياء، أو قل تخبط خبط عشواء. لهذا السبب قلت بان الثورة الإيرانية عملاقة سياسيا وقزمة فكريا..وما كان بالإمكان أن تعطي أكثر مما أعطته أو غير الذي أعطته..
أما المفكر الثاني الذي اشتهر بعادة المشي وحب النزهات والجولات فهو جان جاك روسو بالذات. لكن روسو كان يمشي أكثر بكثير من كانط، وكان حبه للطبيعة يفوق الوصف. فأجمل لحظات حياته قضاها وهو يمشي بدون سبب وبدون هدف في أحضان الطبيعة: أمنا الرؤوم.. وكثيراً ما كان يتوقف أمام منظر طبيعي خارق ويتأمل ببديع صنع الخالق بنوع من النشوة الصوفية التي تكاد تذهله عن نفسه.. وأحيانا كان ينام في البرية متوسدا الأرض وملتحفا قبة السماء المرصعة بالنجوم. فقد عاش شريداً ومات شريداً... ويحكى أنه عندما تهيأ لكتابة رد على سؤال الأكاديمية عن سبب اللامساواة بين البشر أخذ زوجته وأمها معه إلى منطقة الغابات خارج باريس في منطقة الـ"سان جرمان أن لي" من أجل التأمل والتفكير بعيداً عن ضجيج العاصمة وصخب الناس. ولم ينس أن يضع في جيبه قلم رصاص وورقة بيضاء لكي يسجل انطباعاته وأفكاره مباشرة قبل أن تفلت منه وتتبخر في الهواء. وعندما وصل الى الغابة ترك المرأتين تمشيان بهدوء وراح هو يصعد ويهبط في جنباتها بنوع من العصبية الزائدة عن الحد. راح جسده يختلج يميناً وشمالاً، وفي كل الاتجاهات لكي يساير توتر فكره وروحه، ولكي يتطابق توتر الجسد مع توتر الذهن فينصهران في حركة إبداعية واحدة. وكان الفكر يغلي في رأسه غلياناً فلا يتركه يهدأ أو يستقر على حال. وبالتالي فقد كان المشي السريع والبطيء،الصاعد والهابط، هو الوسيلة الوحيدة لتخفيف التوتر وإنجاب الفكر.
ويبدو أنه قد دخل عندئذ في مرحلة الحسم الفكري لقضايا مهمة كانت تعتمل في ذهنه منذ زمن طويل دون أن يتجرأ على خوضها. وهكذا قرَّر للمرة الأولى أن يدخل في صدام مباشر ومكشوف مع قوى المجتمع الفرنسي القديم وأسياده. كان روسو قد ابتدأ عندئذ يحضر نفسه للمعركة الكبرى. وكان أن نتج عن ذلك "خطابه الشهير عن أصل الظلم واللامساواة بين البشر". وهو أحد الخطابات التي أدت بعد أقل من ثلاثين سنة إلى اندلاع الثورة الفرنسية! وقد دفّعوه ثمنه غالياً أثناء حياته. فقد احمرت عليه الأعين من عدة جهات ولاحقوه في كل مكان ونغصوا عيشه حتى مات.. ولكن ما همَّ! فهو قد زرع لكي يحصد الآخرون... وقد حصدوا.
أما عن نيتشه فحدث ولا حرج! فهو قد أمضى معظم حياته سائراً على الأقدام، يجوب دروب أوروبا طولاً وعرضاً. وكان توتره الذهني من الكثافة والحدة إلى درجة مخيفة حقا. وإذا رقصت شوارب نيتشه اهتز العالم! فلم يكن يستطيع أن يهدأ في مكان واحد أكثر من ساعة على الرغم من مرضه، أو بالأحرى أمراضه العديدة. وكان من عادته ما إن يصل إلى منطقة ما ويخلع عن نفسه وعثاء السفر حتى يخرج فوراً لاستكشاف الدروب والمسالك الصغيرة الضيقة المحيطة بالمنطقة. وكان يجد لذة كبيرة في هذا الاستكشاف لا تعادلها إلا لذة اكتشاف دروب الفكر ومسالكه العويصة نفسها. وما الفرق بينهما في نهاية المطاف؟ أليس الطريق المسدود يشبه بشكل ما خطً فكرياً مسدوداً؟ لكم انسدَّت أمام نيتشه دروب الفكر، ولكم انفتحت أيضاً! وبانفتاحها تجلى كون بأسره. ولكم حاول أن يفتحها عن طريق التجوال والغوص في مجاهل الطبيعة ودهاليز الفكر!
كان المشي يساعده على التفكير، ويروّح عن ذهنه آلام التوتر النفسي الهائج الذي لا يكاد يفارقه لحظة واحدة. وكان وحيداً يسافر مع ظله فقط. من هنا نتج كتابه الصغير المعروف: "المسافر وظله". فظله يلاحقه أو يرافقه أينما ذهب. وربما لو استطاع لتخلص حتى من ظله! فنيتشه كان يحب الوحدة. أو قل فرضت عليه فرضا نتيجة ظروف عديدة لا حيلة له بها، تماما مثل روسو، وإن لأسباب مختلفة. وكان يعتبرها شرطاً أساسياً لممارسة الفكر والتفرغ للفلسفة. أما أولئك الذين لا يستطيعون أن يكونوا وحيدين ثلث نهارهم على الأقل فلا يمكن أن يصبحوا مفكرين! نيتشه كان وحيداً ليلاً/نهارا فقط! وفي صحراء الوحدة الشاسعة والمترامية الأطراف إلى ما لا نهاية كان يحلو له أن يغوص في أعماق الفكر فلا يكاد يرجع. وقد غاص مرة وما عاد.. يضاف الى ذلك أن نيتشه كان يحب الدروب الجبلية الوعرة فيتسلقها على الرغم من مرضه تسلق الهواة حتى يصل إلى أعلى قمة فيها. من هناك كان ينظر إلى البشر تحته كالنمل على مسافة 6000 قدم! وهناك كان يتنفس هواء الأعالي ويرى أجمل مناظر الأرض لكي يستطيع أن يتفلسف.. وهناك أيضا جاءته ، ولأول مرة، فكرة العودة الأبدية للأشياء ذاتها فخر صريعا على الأرض! وهي من أعمق الأفكار التي توصل إليها وربما كانت تشكل لب فلسفته. وقد جاءت على هيئة الهام صاعق..
لم يكن نيتشه قادراً على تحمل وجود البشر حوله أو أمامه أو حتى على مستواه عندما يفكر. فالآخر، حتى لو كان بعيداً، كان يمثل جداراً أو حصاراً يمنعه من التنفس والانطلاق. الجحيم هم الآخرون، يقول جان بول سارتر... لطالما مشى نيتشه وتاه! نيتشه أكبر مشاء في تاريخ الفكر... ويحكى بأن أحد المعجبين زاره مرة في منطقة الجبال بسويسرا لكي يستمتع برؤيته ويسلم عليه فلم يجده في غرفته. فغاب ساعة من الزمن ثم عاد فوجده مطروحاً على الفراش وهو يئن ويتوجع، فسأله عما به؟ فأجاب: لقد "وضعْت"! وكان قد سطَّر آخر صفحة من كتابه الشهير: "هكذا تكلم زرادشت"...منقووووووووول